الفصل السادس والعشرون: الباب والطريق،

الفصل السادس والعشرون
الباب والطريق، الشجرة والثمار 7: 13- 20

مع هذه الآيات نصل إلى نهاية عظة الجبل التي تتركّز على فعل "صنع، عمل" (بوياين). كان الانجيليّ في بداية الخطبة (5: 19: من خالف وصيّة... عدَّ صغيراً في ملكوت السماوات) قد أورد توبيخ يسوع تجاه الذين "يأخذون راحتهم" مع وصايا الله، فيدلّون بتعليمهم على هذا التساهل (وعلّم الناس أن يعملوا مثله). وها هو الانجيليّ يعود إليهم. فالسامع الذي تلقّى التعليم لا يمكنه أن يبقى حيادياً. عليه أن يلتزم، أن يفعل. وتأتي هنا أربع صور مجموعة في خيارين، في حلّين متعارضين لا يتركان إمكانيّة لطريق وسط.
بابان وطريقان (آ 13- 14). شجرة صالحة وشجرة رديئة (آ 15- 20). قال وفعل (آ 21- 23). البيتان: واحد بُني على الصخر وآخر على الرمل. فكيف تكون نهاية كل منهما (آ 24- 27)؟ ونتوقف في هذا الفصل عند الأولى والثانية، تاركين الثالثة والرابعة إلى فصل لاحق. طريق الأبرار تقود إلى الحياة، وطريق الأشرار تقود إلى الدمار. والمؤمن يختار. وننتقل من الطريقين إلى البابين. فهناك باب ندخل فيه إلى الملكوت، ندخل فيه إلى الحياة. وينتقل النصّ إلى الشجرة الصالحة والشجرة الرديئة ليصل إلى الأنبياء الكذبة الذين يُعرفون من ثمارهم. فلقبهم ومظهرهم الخارجي غير كافيين. تفحصّوا سلوكهم وأعمالهم: هل توافق تعليم المسيح. وقد ينطبق هذا الكلام على كل مؤمن فيزن أعماله بميزان المسيح وتعليمه لا بميزان العالم وما يقوله الناس عنه.

1- طريقان وبابان (7: 13- 14)
القرار الأول الذي يجب أن نتخذه والذي سيكون له نتائج هامّة، هو الرباط مع ما سبق وما يلي. إذا ربطنا هاتين الآيتين بما سبق، أي بمجمل عظة الجبل، تكون هذه المقطوعة جزءاً من الملاحظات التي تختتم عظة الجبل. حينئذ نجد في الباب الضيّق والطريق الحرجة تلميحاً إلى المتطلّبات الأخلاقيّة القاسية التي وردت في هذه الفصول على لسان يسوع، ضد تسهيلات الفتاوى لدى الرابانيين (5: 20: إن لم يزد برّكم). أما إذا ربطنا هاتين الآيتين بما يلي بشكل مباشر (آ 15- 27)، حينئذ نجد في المقطوعة تلميحاً يهاجم فيه الكاتب أولئك الذي يبنون أوهاماً حول حياتهم كتلاميذ المسيح، ولكنهم "لا يدخلون إلى ملكوت السماوات" (آ 21).
في الحالتين يتقبّل موضوعا الباب والطريق تفسيراً خلقياً: فالدخول في الباب الصالح يكون أن "نثمر ثمراً" (آ 15- 20)، أن "نصنع مشيئة الآب" (آ 21- 23)، "أن نضع في موضع العمل أقوال يسوع" (آ 24- 27). هذا التفسير الذي يسنده السياق المباشر، يفرض ذاته بذاته وهو يقابل مجمل التعليم المتّاويّ الذي يشدّد بشكل دائم على أهميّة "الأعمال الصالحة" (5: 16: ليروا أعمالكم الصالحة ويمجّدوا أباكم). بل نحن نعجب أن لا يكون التوسّع في هذا الموضوع أطول.
ولكن لا شيء يربط هاتين الآيتين بالسياق العام في ف 5- 7، لا في الألفاظ ولا في الفكرة. جعل لو 13: 23- 24 قولاً يقابل هذه الأقوال وإن كان لا يشبهها، في سياق مختلف جداً. إذن، لسنا متأكّدين أنه يجب أن نعطيها التفسير الخلقيّ الذي رُسم أعلاه. حينئذ نستطيع أن نقدّم تفسيراً نسكياً: فصورة الباب الضيّق والطريق الحرجة قد تلمّح إلى إنكار الذات والتخليّ عن الرغبات المختلفة. هناك مدارس عديدة تقدّم هذه النظريّة التي لا تجد لها سنداً متيناً في سياق الانجيل المتاوي.
ويبقى التفسير الكرستولوجيّ، التفسير الذي يوجّهنا نحو يسوع المسيح. وهو سيجعل التفسيرين السابقين (الخلقي والنسكيّ) في مكانهما مع ما فيهما من حقّ. حينئذ تكون هاتان الآيتان نداء إلى اتّباع المسيح، وخصوصاً المسيح المتألّم مع كل النتائج الخلقيّة والروحيّة التي تفترضها هذه الطاعة. يرتبط هذا التفسير بمجمل الانجيل وجوهره: نداء إلى التوبة، إلى الإيمان، إلى اتّباع المسيح. هذا ما نقرأه في 3: 2؛ 4: 17؛ 8: 10، 13، 22؛ 10: 38... هذا هو التفسير الذي نفضّله مشدّدين على أنه يتضمّن ويُبرز التفسير الخلقيّ.
وما هو أهمّ من كل هذا هو أن هاتين الآيتين لا تصوّران مسيرة طويلة نحصل على أثرها على الخلاص. إنهما نداء لنتخّذ قراراً بحسب الانجيل، نداء للدخول إلى الحياة (ايسلتاتي)، للدخول إلى ملكوت السماوات (آ 21). قال أحد الشّراح: "من عبر في الباب الضيّق كان وكأنه دخل فيه، بل هو وصل إلى الهدف".
"أدخلوا" (آ 13). يرد فعل "دخل" مراراً في مت، وهو يدلّ على الخطوة الحاسمة، والخيار الذي به يسير الإنسان نحو الخلاص الذي يقدّم له. ليس دخولاً بمعنى أننا نخطو الخطوة الأولى في مكان ما بعد مسيرة طويلة. بل هو عبور من مكان إلى آخر. عبور إلى الملكوت: "لن تدخلوا ملكوت السماوات" (5: 20). "ليس كل من يقول لي: يا ربّ، يا ربّ، يدخل ملكوت السماوات" (7: 21). "إن لم ترجعوا وتصيروا كالأطفال، فلن تدخلوا ملكوت السماوات" (18: 3). "يعسر على الغنيّ أن يدخل ملكوت السماوات" (18: 23). والدخول هو أيضاً عبور إلى الحياة. نقرأ في 18: 8: "خير لك أن تدخل الحياة". وفي 19: 17: "إن شئت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا". وفي 22: 12: "كيف دخلت إلى هنا وليس عليك حلّة العرس". وفي 23: 13: "تغلقون ملكوت السماوات، فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون". وفي 25: 10: "دخلتْ العذارى المستعدات قاعة العرس".
هذا الدخول في انجيل متّى يشبه إلى حدّ بعيد فعل "طلب، بحث" كما في 7: 7: "إسألوا فتعطوا، اطلبوا فتجدوا، إقرعوا فيُفتح لكم". وهو ليس بممكن إلا بظهور المسيح يسوع وتجلّيه. ويتحدّث النصّ عن الباب (بيلي في مت، تيرا في لو)، عن باب مدينة (لو 7: 12؛ أع 9: 24؛ عب 13: 12)، أو باب هيكل (أع 3: 10). فصورة الباب الضيّق، التي تنطبق على مواضيع عديدة، عُرفت في الأوساط اليهوديّة والرومانيّة واليونانيّة. نقرأ في سفر عزرا الرابع (كتاب منحول). "وافترض أيضاً مدينة مبنيّة وواقعة في مكان سهل، ومملوءة بكل الخيرات. ولكن مدخلها ضيّق وهو في مكان وعر: إلى اليمين تجد النار، وإلى الشمال المياه العميقة. بين النار والماء، هناك درب ليست بأعرض من أخمص الرجل البشرية" (7: 6- 8).
الفكرة في الانجيل لا تدلّ على باب صغير أو قليل الارتفاع، بحيث يُجبر الانسان أن ينزل حمله وينحني لكي يعبره، بل على باب يجهله عدد كبير من الناس، كما تقول نهاية آ 14 (قليلون هم الذين يجدون). والفكرة المسيطرة هي أنه إذا أراد المؤمن أن يدخل الحياة، وجب عليه أن يقوم بخيار شخصيّ، أن لا يسير وراء الحشود التي لا هويّة لها، وجب عليه أن "يجد" المسيح ويتبعه.
موضوع الطريق (هودوس) موضوع رئيسي في العالم اليهودي ولا سيّما الأسياني منه، وفي العالم اليوحناوي والديداكيه. بعد أن سمع المؤمن أسفار الشريعة الخمسة، يُطرح عليه السؤال: ماذا يختار؟ "لقد وضعت أمامك الحياة والموت... تختار الحياة فتحيا" (تث 30: 15- 20). ويبدأ سفر المزامير بالحديث عن طريق الأبرار وطريق الأشرار: طوبى لمن لا يسلك سلوك الأشرار، ولا يقف مع الخطأة. طريق الصديقين طريق حياة. أما طريق الأشرار فتقود إلى الهلاك والموت. ويبدأ مز 119: "طوبى للأنقياء في الطريق، للسائرين في شريعة الربّ".
نجد لفظة "الطريق" عند مت في المعنى الحقيقيّ للكلمة (2: 12: المجوس في الطريق إلى المغارة؛ 4: 15: طريق البحر؛ 5: 25: ما دمت معه في الطريق)، وفي المعنى الرمزيّ كما يراه الشعب اليهوديّ. قال يوحنا المعمدان: "أعدّوا طريق الربّ" (3: 3). وقال النبيّ: "فهو يهيّىء لك الطريق قدّامك". (11: 10؛ رج ملا 3: 1). وقال يسوع: "إن يوحنا جاءكم في طريق البرّ، فلم تؤمنوا به" (21: 32). وقال الحضور ليسوع: "علمنا أنك صادق وأنك تعلّم طريق الله بالحق" (22: 16).
أما في هاتين الآيتين فالحديث عن الطريق يوضح فكرة الباب دون أن يكمّلها. لسنا أمام طريق نمشي فيه طويلاً بعد أن نعبر في الباب، بل أمام طريق نمز فيه كما نمرّ في باب. وكما هو الأمر بالنسبة إلى الباب، الفكرة الأساسيّة هي أن الطريق التي تدخلنا إلى الحياة ليست طريق جميع البشر، والمعارضة الجوهريّة التي تشرف على كل المقطوعة تقع بين "كثيرون" (بولوي) و" قليلون" (اوليغويّ).
إذن، ليست هذه الطريق استعداداً روحياً في جوّ ثنائي كما عند الأسيانيّين، ولا تعليماً أخلاقياً كما في الديداكيه. وليست المسيحَ نفسه كما في يوحنا الذي يورد كلمة يسوع: "أنا هو الطريق والحقّ والحياة" (يو 14: 6). في مت، نترك الصورة في معناها الحرفيّ. نحن "نبحث (عن الطريق) ونجد" (آ 7) الحياة، مثل مسافر يسير وحده مبتعداً عن الجموع ليدخل إلى المدينة عبر باب سرّي.
ما أضيق الباب" (آ 14). نشدّد في هذه الآية على فعل "وجد" (اورسكتونتس). قالت آ 7: "أطلبوا فتجدوا". والآن، نسمع تنبيهاً أكثر واقعيّة: قليلون هم الذين يجدون. غير أن آ 7 وآ 14 تشتركان في وجهة ليست ثنائية (أهل قمران، طريق الشر، طريق الخير) ولا خلقية (كما في الديداكيه). كلتاهما نداء لأن ندخل الحياة ونجدها، والحياة هنا ترادف ملكوت السماوات (آ 21).

2- الأنبياء الكذبة (7: 15- 20)
هذه الآيات هي في جوهرها خاصة بمتّى. لا شكّ في أن لو 6: 43- 45 يوردها. ولكن ما يورده يقابل فقط مت 7: 18- 20، ويرتدي مدلولاً آخر. هو لا يتضمّن أي تلميح إلى الأنبياء الكذبة كما في مت. ومرمى كلامه يقع في عبارة "الفم يتكلّم من فيض القلب". والثمار المذكورة في نص لو ليست أعمالاً كما في مت، بل أقوالاً وحسب. وما يوازي آيات لو هذه هو مت 12: 31- 37 حيث تطبّق صورة الشجرة وثمارها على يسوع نفسه: يجب أن يتعرّف خصومه إلى الثمار التي يحمل.
في موضوع الشجر والثمار، نحن أمام تقليد متشعّب يصعب علينا أن نكتشف أعتق عناصره. ولا يُستبعد أن يكون يسوع استعمله في ظروف مختلفة. ثم إننا نطرح السؤال: هل يبدو نصّ مت متماسكاً؟ إن آ 15 لا تقابل آ 16- 20 التي تشير بالأحرى إلى تلاميذ مزيّفين في معنى آ 21- 23، لا إلى أنبياء كذبة.
وموضوع الأنبياء الكذبة الذي يعود إلى التوراة (أمر97: 14: النبيّ الذي يعلّم الكذب؛ 28: 7: الكاهن والنبيّ ترنّما بالمكر؛ إر 6: 13: ومن النبيّ إلى الكاهن يمارسون أعمال الزور؛ 8: 10؛ 23: 11؛ حز 13: 3)، يظهر مراراً في العهد الجديد، وقد شغل بال الكنيسة في أول أيّامها. هذا ما نجد صداه لا خطبة يسوع الاسكاتولوجيّة. قال في 24: 11: "ويقوم جمهرة من الأنبياء الكذبة، ويضلّلون كثيرين". وعاد إلى القول في آ 24: "سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة". ونجد أنبياء كذبة في أع 13: 6؛ 2 بط 2: 1 (كان في الشعب أنبياء كذبة)؛ 1 يو 4: 1 (أنبياء كذبة كثيرون خرجوا من العالم)؛ رؤ 16: 13؛ 19: 20؛ 20: 10.
وتحدث التقليد الراباني أيضاً عن الأنبياء الكذبة. نجد في تفسير تث (84): "أنبياء صادقون تحوّلوا إلى أنبياء كذبة". وفي السنهدرين (المحفل، 1: 5): "لا نحكم على قبيلة ولا على نبيّ كذّاب، ولا على عظيم الكهنة إلا بمحكمة تتألّف من 71 قاضياً". وفي 9: 5 نقرأ: "النبيّ الكذاب هو الذي يتنبأ عمّا لم يسمع، وعمّا لم يُقل له: لينفّذ فيه البشر حكم الإعدام. أما الذي يخفي نبوءته... لنترك السماء تقتله". وقد وُجد في كنيسة متّى وعّاظ أخذوا اسماً رسمياً: أنبياء. غير أن هؤلاء الأنبياء قد يكونون مثالاً في وقفتهم، ولكنهم يعملون كسباً للسلطة أو الربح. لهذا، يجب على المؤمنين أن يحذروهم.
"إحذروا الأنبياء الكذبة" (آ 15). إن فعل "بروساخاين" في الفقاهة المتاويّة يدلّ دوماً على اتخاذ الحيطة من انحرافات أو ضلالة في الحياة الدينيّة. هو يميّز الاهتمامات الكنسيّة في مت. نقرأها 6: 1: "إحترزوا من أن تصنعوا برّكم قدّام الناس لكي ينظروا إليكم". وفي 10: 17: "إحذروا الناس، فإنهم سيسلمونكم إلى المحافل". وفي 16: 6: "إحذروا خمير الفريسيين والصادوقيين".
يستعمل هذا الفعل (حذر) لكي يصحّح أوضاعاً بدأت تتدهور. هذا ما نجده في الرسائل الرعائيّة في حربها ضد الهرطقات (1 تم 1: 4؛ 4: 1؛ تي 1: 14). ونحذر بشكل خاص الأنبياء الكذبة. "بسودوس": كاذب، مزيّف. ونحن نجد عدداً من الكلمات في العهد الجديد مبنيّة مع السابق "بسودو": إخوة كذبة (2 كور 11: 26؛ غل 2: 4). رسل كذبة (2 كور 11: 13). معلّمون كذبة (2 بط 2: 1). شهود كذبة (مت 26: 60؛ 1 كور 15: 15؛ رج كما 19: 18؛ 24: 11، 24). مسحاء كذبة (24: 24). هذا الموضوع الذي نفهمه على شفتَي يسوع بسبب تجذّره التوراتي، يعود بلا شكّ إلى قلاقل ملموسة في قلب الكنائس خلال النصف الثاني من القرن الأول المسيحيّ.
ويُطرح السؤال: هل يلمّح النصّ إلى أنبياء كذبة غريبين عن جماعة التلاميذ، وقد "أتوا" يقدّمون أنفسهم للكنيسة، أم إلى أشخاص ينتمون إلى الكنيسة؟ حين نقرأ حرفيّة النصّ ولا سيّما العبارة "يأتونكم"، نأخذ بالفرضيّة الأولى، ونقول إن هؤلاء الأنبياء الكذبة جاؤوا من خارج الجماعة على مثال أولئك الذين بلبلوا كنيسة فيلبي أو غلاطية. أما إذا توقّفنا عند السياق العام للمقطوعة، وموضوع النبوءة الكاذبة في العهد الجديد وما تقوله الديداكيه، نفضّل الفرضيّة الثانية التي تعتبر أن الأنبياء الكذبة جاؤوا من داخل الجماعة، من داخل الكنيسة. هذا ما يشير إليه يوحنا في رسالته الأولى (2: 19): "لقد خرجوا منا، بيد أنهم لم يكونوا منّا لأنهم لو كانوا منّا لاستمرّوا معنا". في الواقع هم من الجماعة. ولكن تصرّفهم "الكاذب" جعلهم خارج الجماعة، لهذا لم يعودوا منّا.
إن فعل "أتى، جاء" يعني هنا كما في السبعينيّة: "تقدّم، ارتفع، خرج من وسطكم". والتلميح إلى الجماعة المسيحانيّة على أنها قطيع من الغنم، هو صورة تأتينا مباشرة من العهد القديم. نقرأ في مز 100: 3: "هو صنعنا ونحن له، نحن شعبه وغنم مرعاه". وفي حز 34: 23: "وأقيم عليها راعياً واحداً ليرعاها، عبدي داود. فهو يرعاها وهو يكون راعيها". ويرد الفعل مراراً في مت: إيراد النبيّ ميخا (2: 6، يرعى شعبي؛ رج مي 5: ). الشعب كغنم لا راعي له (9: 36)؛ أرسل يسوع رسله إلى الخراف الضالة من بيت اسرائيل (10: 6)، وأرسلهم كغنم بين ذئاب (آ 16). رج مت 15: 24؛ 25: 32 (كما يجمع الراعي)؛ 26: 31 (أضرب الراعي فتتبدّد الخراف).
ونجد أيضاً موضوع الذئاب الخاطفين في أش 11: 6 (يسكن الذئب مع الحمل)؛ 65: 25 (الذئب والحمل يرعيان معاً)؛ إر 5: 6 (يتلفهم ذئب العشاء)؛ حز 22: 27: "رؤساؤها في وسطها كالذئاب المفترسة".
بما أن الذئاب لا تستطيع أن تنتمي إلى الخراف، فهذا ما يجعلنا نقول إن الأنبياء الكذبة هم من خارج الرعيّة. من خارج الجماعة. هم يقدّمون نفوسهم بلباس الخراف يعني أمرين لا يتعارضان: يجعلون الناس يظنّون أنهم أعضاء الكنيسة. أو هم أخوة ودعاء لا يؤذون أحدا. والصفة "ارباغس" (خاطفة، رج لو 18: 11؛ 1 كور 5: 10- 1) (6: 10) تلمّح إلى أن هؤلاء الأنبياء يطلبون أموال المسيحيين ليسلبوها منهم (كما في الديداكيه). أو يحاولون أن ينتزعوا الخراف من سلطة راعي الكنيسة، وهذا ما يجعلنا في إطار يو 10: 12- 29.
إن التمييز بين النبيّ الكاذب والنبيّ الحقيقيّ، سيكون أحد الاهتمامات الرئيسيّة في الديداكيه (11: 7- 12): "كل من يتكلّم بفعل الإلهام ليس بنبيّ، بل من يتصرّف مثل الربّ. إذن، تميّزون النبيّ الصادق من النبيّ الكاذب في طريقة حياته". ولا تُفهم هذه التحذيرات من الأنبياء الكذبة إلا في أساس التعليمات التي تقابلها: "لا تمتحنوا ولا تدينوا أي نبيّ يتكلم بتأثير الإلهام، لأن كل خطيئة تغفر. أما تلك الخطيئة فلن تُغفر. ثم إن كل نبيّ حقيقيّ أراد أن يقيم بينكم يستحقّ طعامه" (ديداكيه 11: 7؛ 13: 2).
"من ثمارهم تعرفونهم" (آ 16). إن آ 16- 20 تجد ما يوازيها موازاة بعيدة في لو 6: 43- 45. ما كانت تنتمي في البداية إلى موضوع آ 15، كما سبق وقلنا. وتدلّ هذه الثمار في السياق المتاويّ على السلوك الاجماليّ الملموس لدى هؤلاء الأنبياء (3: 28؛ 12: 33؛ 21: 43). كان هذا المعنى معروفاً في التقليد الحكميّ ونحن نجده في أم 3: 9؛ 10: 16؛ 11: 30؛ 12: 40؛ 13: 2؛ 18: 20... وهذه الثمرة قد تكون، كما في مت، كلاماً (هكذا في لو) أو مجمل أعمال الإنسان أي حياته الملموسة كلها. وتعطي الانتروبولوجيا المتاوية الأهميّة عينها لهاتين الوجهتين من السلوك البشريّ: فالكلمة خطيرة مثل العمل. وكلاهما حاسمان في حياة الانسان وفيهما يجنّد كل شخصه وقلبه وعقله وعواطفه. أما فعل "عرف" (11: 27؛ 14: 35؛ 17: 2) فلا يدلّ على معرفة وضعيّة. بل نحن أمام تمييز يجب أن يمارسه التلاميذ. وصيغة المضارع التي نجدها هنا (تعرفونهم) تدلّ على الأمر (اعرفوهم من ثمارهم) أو على التحريض (ندعوكم لكي تعرفوهم).
"أيُجنى من الشوك عنب" (آ 16- 19)؛ يجب أن نفسّر هذه الآيات معاً: أمام الله (أي: في الواقع)، الإنسان هو ما يصنعه، لا ما يتوهّم أنه هو. حين يظنّ أنه نبيّ وليس بنبيّ فهو يغشّ نفسه. يجب أن تكون أعماله أعمال نبيّ. فإن حمل ثماراً صالحة كان شجرة صالحة. ولا يتوقّف مت عند فرضيّة تقول إن الشجرة الصالحة لا تقدر أو لا تريد أن تحمل ثماراً صالحة. كما لا يتوقّف عند شجرة رديئة تحمل ثماراً صالحة. فإذا كانت الثمار صالحة، فهذا يعني أن الشجرة صالحة. والتمييز بين حياة داخليّة في حدّ ذاتها وبين ثمار تكون التعبير عن هذه الحياة، لا يدخل في اهتمامات الانتروبولوجيا البيبليّة. إن الله ينظر إلى الواقع الملموس في الإنسان. ينظر إلى "قلبه"، إلى إرادته التي تُترجم أعمالاً محسوسة.
"فمن ثمارهم تعرفونهم". إن هذه الآية تكرّر آ 16 أ وتتيح لنا أن نحدّد أيضاً نقطة هامة: وُضعت هنا في نهاية ف 5- 7، فما لمحت إلى الأعمال الروحيّة. فنحن لا نتعرّف إلى الأنبياء من العجائب التي يصنعون، بل من الأعمال أو الثمار التي تحدَّث عنها ف 5- 7: أعمال البرّ (5: 20). أعمال المحبّة (5: 43- 48). وهكذا تعلن هذه الآية مسبقاً آ 21- 23 التي تقدّم المعنى ذاته. فهي تهاجم الأنبياء الذين يجترحون المعجزات، ومع ذلك "يقترفون الاثم" (آ 25).

خاتمة
توقفنا عند تعليمين ليسوع وردا في عظة الجبل. الموضوع الأول: الطريقان. يجب أن نختار في يوم من الأيام، لأن من لم يكن مع المسيح سيكون ضدّه، ومن لا يجمع معه فسوف يفرّق. والباب الضيّق قد يلمّح إلى المتطلّبات الجذريّة التي نجدها في عظة الجبل، كما يدلّ على النداء الملحّ لكي نتبع يسوع مع ما يتضمّن هذا الاتباع من مخاطر وآلام.
والموضوع الثاني هو موضوع الأنبياء الكذبة والدور الرديء الذي لعبوه في بدايات الكنيسة... وما زالوا يلعبونه اليوم في كنائسنا. أنهم كالذئاب بين الخراف. وضعوا ويضعون البلبلة في الكنائس. يبقى على المسيحيّين أن يتميّزوا النبيّ الصادق من النبيّ الكاذب. الكلام المعسول وحده لا يكفي. حتى اجتراح العجائب لا يكفي. من ثمارهم نعرفهم. من حياتهم اليوميّة، من سلوكهم. أما المقياس فهو الانجيل. إن طابقت أعمالهم كلام الانجيل يكون هذا النبيّ صادقاً وإلاّ كان كاذباً ويستحقّ "الرجم" كما قال تث 13: 6: "إنزعوا الشّر من بينكم". ونعود إلى ما قاله مت في بداية انجيله فنفهم أننا نتعرف إلى "النبيّ" من الثمار التي يحمل. "كل شجرة لا تثمر ثمراً جيّداً تُقطع وتلقى في النار" (3: 10).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM