الحياة الأخلاقية

الحياة الأخلاقية
9: 33- 10: 31

من أراد أن يتبعني... من أراد أن يكون الأول...
الحياة الأخلاقيّة في إنجيل مرقس، موضوع لم نتعوّد عليه. ولكنّه حاضر في 9: 33- 10: 31، وهو يتلخّص في عبارة واحدة: إتباع يسوع على طريق الآلام. نتعرّف أولاً إلى طريق يسوع، ثمّ إلى تعاليمه التي لم تأتِ بطريقة منهجية، بل حسب الظروف والأوقات. يسوع معلّم، ولكنه لا ينطلق من النظريات المجرّدة، بل من الواقع اليومي ليحدّثنا عن الملكوت وعن السلوك الواجب اتباعه لكي نكون في هذا الملكوت.

أ- طريق يسوع
إعتاد الشراح أن يسمّوا 9: 33- 10: 31 القسم الأخلاقي في انجيل مرقس. هذا لا يعني أن الإنجيل الثاني يعرض أمامنا التصرّف النموذجي للمسيحي كما يفعل متّى في خطبة الجبل (ف 5-7) أو في الخطبة الكنسيّة (ف 18). وهو لا يتوسّع في طريقة التزام التلميذ مع يسوع في تحرير البشر كما يفعل لوقا (4: 17- 21) في خطبة كانت برنامج يسوع. ولكن مرقس يستخرج النتائج العملية من فعل إيمان بطرس (تكلّم باسم الرسل) كما ورد في انجيله (8: 27- 30). عرفوا أن يسوع هو المسيح، وسيقول لهم يسوع أي مسيح يريد أن يكون.

1- نظرة عامّة
لهذا نرى يسوع يُحِلُ فوراً لقب ابن الإنسان محلَّ لقب المسيح. ابن الإنسان أي ابن الله الذي شارك البشر في وضعهم حتى الألم والموت. والمسيحِ هو الذي أعلنه التلاميذ، ولكن مدلول هذه اللفظة بقي غامضاً حتى الآن بالنسبة إليهم.
ما نلاحظه هو أن مرقس ربط كل تعليمه الاخلاقي بآلام المسيح. فبدل أن يقدّم نصائح أخلاقيّة أو يحيلنا إلى هذه الفريضة الكتابيّة أو تلك، يعلن لنا أنّه لا يعرف أساساً للأخلاق المسيحيّة إلاّ الاقتداء بالمسيح. هذا هو موضوع هذه المتتالية (9: 33- 10: 31).
حتى الآن، قدّم لنا الإنجيلي يسوع في لقائه بالبشر مع آلامهم ومحنهم، وحيث يقيمون. ثم دعا التلاميذ ليأتوا إليه فيسمعوا كلامه ويشاهدوا أعمال قدرته. وأخيراً، أدخلهم في "مدرسته"، وجنّدهم في خدمة إخوته. وساعة تعلّقوا به، أخذ يدلّهم على طريقه، ووضعهم معه في هذا الطريق.
كشف يسوع عن مصيره بما فيه من ألم، وعرض على تلاميذه أن يحملوا صليبهم ويتبعوه (8: 31- 9: 1). فمصير الإنسان هو مصير المسيح، بعد أن أخذ يسوع الوضع البشري. وهكذا يستطيع الإنسان أن يكتشف في شخص يسوع معنى وجوده: إنتقل من الموت إلى الحياة، كما يدلّ على ذلك حدث التجلّي على الجبل (9: 2- 13)، وشفاء الولد المصروع في السهل (صار الصبي كالميت، فأنهضه يسوع) (9: 14- 32). يبقى علينا بعد هذا أن نعرف: كيف ندخل إلى الملكوت على خطى الابن؟ الجواب: نكون مثل الاطفال، مثل هذا الطفل الذي شفاه يسوع وردّه إلى والده (9: 33- 10: 31).
نلاحظ أن هذا القسم الرابع (8: 31- 10: 31) تحيط به عبارة واحدة ردّدها يسوع في 8: 35 و10: 29: "من أجلي ومن أجل الإنجيل". ما معنى هذا الكلام؟ إن العمل الذي يوصّي به يسوع هو عمله كما نجده في الإنجيل، وهو بشرى سعيدة. وبكلام آخر: يكون العمل المسيحي إنجيليّاً حين يكون عمل يسوع. وجماعة ابن الإنسان مكوّنة من الذين يحاولون أن يعيشوا مثل يسوع.

2- السلطة، الرغبة، الامتلاك
كيف يتوزّع هذا العيش المسيحي؟
في 9: 30- 48، يتوسّع الإنجيلي في المجال الأول، مجال السياسة، مع التخلّي عن العظمة والسلطة.
وفي 10: 2- 16، يتوقّف الإنجيلي عند الواقع العائلي ويشدّد على وحدة الزواج وعلى تقبّل البنين.
وفي 10: 17- 30، يجعلنا مرقس على المستوى الاقتصادي، فيدلّنا على الغنى والخيرات التي نتركها لنتبع يسوع.
إذن، ننطلق من هذه المجالات الثلاثة الملموسة التي فيها يمارس الإنسان نشاطه لنكون أمام علم أخلاق. ففي 9: 33، نجد نفوسنا مع يسوع في "بيت" كفرناحوم الذي يدلّ منذ بداية الإنجيل (1: 29؛ 2: 1) على المكان الذي فيه تلتئم الجماعة الكنسية. وفي الواقع، سيعطي يسوع "في البيت" تعليمات من أجل حياة جماعيّة إنجيليّة.
السلطة، الرغبة، الامتلاك. تلك هي المحاور الكبرى في حياة الإنسان. وقد تطلّع إليها يسوع على التوالي، لا بطريقة نظريّة، بل حسب لقاء الناس به واسئلتهم. وهكذا يتطرّق تعليم يسوع إلى النشاط البشري، إلى نشاط كل إنسان، وإن توجّه أولاً إلى تلاميذه. إن تعليم يسوع الاخلاقي يُعطى عبر أحداث تتوإلى وترتبط بصورة طبيعيّة.
يبدأ النصّ فيجعلنا "في البيت" (9: 33)، ثم يعود بنا إلى البيت (10: 10). فالبيت هو المكان الذي فيه تلتئم الجماعة لتسأل يسوع وتعمّق تعليمه. أمّا الطريق فيرمز إلى مسيرة الحياة اليوميّة مع أحداثها (9: 34) وتحدّياتها (8: 27؛ 9: 33) ولقاءاتها (10: 17). ولا ننسى أخيراً ان الطريق تدلّ على السلوك البشري في التقليد الكتابي.

ب- أمور عمليّة
كيف تبدو هذه الامور العمليّة في إنجيل مرقس. نذكر أربعة مواضيع: صاحب السلطة. الغريب والصغير. وحدة الزواج. في مدرسة الأطفال.

1- من هو صاحب السلطة
إجتاز يسوع الجليل مع تلاميذه وأعلن لهم هدف سفرته: الآلام والقيامة في أورشليم. هذه هي المرة الثانية التي فيها يحدّثهم عن الموضوع. فبعد اعتراف إيمان بطرس، طلب يسوع منه أن لا يخطئ في نظرته إلى المسيح (8: 31- 33). ويلاحظ مرقس أن التلاميذ لم يفهموا (9: 32).
ولما وكل يسوع إلى كفرناحوم، سبّق على التلاميذ ودعاهم إلى فحص ضمير: ما الذي حصل في الطريق؟ تجادلوا فيما بينهم: "من هو الأعظم"؟ نستطيع أن نقول اليوم: "من هو الرئيس فيفرض رأيه"؟ من هو صاحب السلطة؟
واتخّذ جواب يسوع شكلاً احتفالياً. بدأ فجلس. هذا ما يفعل المعلّم أو القاضي. وسيكون يسوع المعلّم والقاضي. ثم دعا "الإثني عشر". هي جماعة شاهدة ومسؤولة عن مثال تقدّمه للمؤمنين خاصة وللعالم عامة. وقدّم لهم يسوع مبدأ أساسيّاً: "من أراد أن يكون الأول يكون آخر الجميع وخادم الجميع" (9: 35)، سنجد التعبير عينه بشكل مختلف في 10: 31: "كثير من الأولين يصيرون آخرين، ومن الآخرين يصيرون أولين". إنّه مبدأ أساسي نقرأه في بداية المقطع وفي نهايته. ولكنه يبدو في اليداية كموضوع قرار نتخذه ("من أراد ...") وكتعبير جذري ("آخر الجميع، خادم الجميع". لا مساومة. لن يبقى أحد). أمّا في النهاية فهو يسقط علينا كحكم يُعلن تطبيقاً لشريعة. وستعمل كل الأحاديث الواقعة بين هذين التأكيدين، فتبيّن لنا انقلاباً في أخلاقيّة الاقتداء بالمسيح: هو الأكبر صار الأصغر. هو الأول أخذ المرتبة الأخيرة.
ولم يفعل يسوع كما يفعل معلّم الحكمة. بل قال وعمل. أدخل طفلاً في حلقة الإثني عشر، وطلب منهم أن يقدّروا نفوسهم بالنسبة إلى هذا الطفل. فالطفل لا قيمة له. وجوده موقّت وحياته مهدّدة. إنّه نموذج الارتباط بالكبار، نموذج الشخص السريع العطب. من تقبّل طفلاً دلّ على اهتمامه بمن يهمله المجتمع. ومن جعل نفسه في خدمة الآخرين، كما في خدمة الطفل، إعتبر الآخرين أعظم منه. وهذا ما فعله يسوع. بل سيذهب أبعد من ذلك. قال: من قبل هذا الطفل قبله، ومن قبله قبل الآب الذي أرسله. إن كان الآب قد أرسل ابنه إلى المرتبة الأخيرة، فلأنه جعل نفسه في خدمة البشر، في خدمتهم جميعاً.
ومع لفظة "تقبّل" زاد يسوع كلمة جوهرية "باسمي". فمن تقبّل أمراً باسم يسوع، إكتشف أنه يعتبر الشخص الضعيف وكأنّه عظيم. هذا يعني انقلاباً كاملاً في القيَم والمواقف. إذن، يمنح حضور يسوع قيمة لا محدودة للصغير والمحتقر وأحقر المحتقرين. فمن خدم شخصاً يكون قد تقبّل "الطفل" الذي يماثل الله بينه وبين نفسه. مثل هذا التقبّل يقلب الأفكار المتعارَف عليها. ومع ذلك، هذا هو أساس اخلاقيّة الاقتداء بالمسيح.

2- الغريب والصغير
وتدخّل يوحنّا، أحد الإثني عثر، فانطلقت المحادثة من جديد. فهمَ ما يعني تقبّل الصغير والمتروك والذي لا صوت له. ولكنه اعتبر أن مجموعة التلاميذ وحدها تدخل في هذه الفئة. والآخرون، والذين هم من الخارج، ما هو وضعهم؟ ولكن يوحنّا أجاب نفسه بنفسه وهو ينتظر تأكيداً من المعلّم عمّا فعله: "رأينا رجلاً يطرد الشياطين باسمك فمنعناه، لأنّه لا يتبعنا (لا ينتمي إلينا)" (آ 28).
لم يوافقه يسوع الرأي: يجب ان لا نمنع مقسّماً غريباً من استعمال اسم يسوع، لأنّ اسم يسوع لا ينحصر في إطار التلاميذ "الرسميّين". هذا شرط أن لا يكون تعارض بين كلمة المقسم والتحرير الذي يمنح. ما يشجبه يسوع هو" تشيّع" ابن الرعد (3: 17). ليست الكنيسة شيعة. والتلميذ لا يضع يده على عمل الابن وكأنّه ملكه، بل يخضع لعمل الابن.
ليست ردّة نعل يوحنّا ردّة فعل خادم، بل ردّة فعل متسلّط. أعاده يسوع إلى مكانه. وأفهم التلاميذ: "من ليس ضدّنا هو معنا". وبكلمة أخرى: نستطيع أن نخضع لعمل يسوع دون أن ننتمي إلى مجموعة التلاميذ. إذن المبدأ واضح: اذا كانت الجماعة المسيحيّة تعرف موقفاً انجيليّاً، فهذا الموقف ليس محصوراً فيها.
لا نمزج كلمة يسوع هذه مع كلمة أخرى تبدو وكأنها تعارضها: ومن ليس معي هو ضدّي، ومن لا يجمع معي يفرّق" (مت 13: 20؛ لو 11: 23). السياق مختلف، لأننا أمام مقاومة مميّزة لعمل المسيح. أمّا في هذا النص، فيسوع يحارب عقلّية الشيع التي تعتبر الخلاص بيدها وحدها دون سواها. ودلّنا على روح التسامح: قبول تلميذ من التلاميذ يعني انفتاحاً على الله.
وتابع يسوع حواره معالجاً مسألة الشكوك. الشك هو في نظرنا مثلٌ سيّء، عمل غير مقبول. أما في نظر الكتاب المقدّس، فهو حاجز أمام الإيمان بالله: كل ما يجرّ شخصاً إلى السقوط ويجعله يرتاب بحضور الله وعمله. الصغار الذين يؤمنون بيسوع والذين لا نشكّكهم هم مسيحيّون ضعفاء، قليلو العلم أو ضعيفو الإرادة. هؤلاء يجب أن ننتبه إليهم. بدل أن نشكّكهم بحرية لا يفهمونها، لماذا لا نستعمل هذه الحرية عينها لنحترم مسيرتهم ولا نفرض نفوسنا عليهم؟
واتخذ يسوع هنا لغّة قاطعة. هو لا ينصحنا بأن نشوِّه ذواتنا، بل أن نقطع من ذاتنا ما يشير إلى الامتلاك وهو اليد، وما يشير إلى السلطة وهو الرجل، وما يشير إلى الرغبة وهو العين. هناك تجرّد حقيقي نقبل به لصالح إخوتنا. ويدعونا يسوع لننفصل عن أموالنا، عن موضوع رغباتنا، عن حقوقنا، إذا كان كلّ هذا يهدّد إيمان أخوتنا السريع العطب. أن نضحّي بهذه "الخيرات" خيرٌ من أن نجعل المؤمن يسقط. حينئذٍ نتحمّل مسؤولّية سقوطه. علينا أن نختار: إمّا أن نخاطر ونُلقى في جهنّم، وإمّا أن ندخل في الحياة أي في ملكوت الله. هل نكون عنصراً يدمّر الجماعة أم عنصراً يبنيها؟
ويتتابع نصّ مرقس في آيتين غريبتين حول النار والملح (9: 49- 50). النار تنقّي، والملح يحفظ الاطعمة ويعطيها نكهة. تدلّ هاتان الصورتان على التجرّد الذي يميّز الاقتداء الحقيقي بالمسيح. فالمحنة التي ترمز النار إليها، تحكم على التزام التلميذ ومدى تجرّده. والأمانة للعهد والخدمة المتجرّدة التي يمثّلها الملح، تجعلنا نقبل التضحيات الضرورية لنتقبّل الصغار حقّاً بدون تصنّع وتفاهة، ونؤمّن للجماعة السلام والتماسك.

3- لا نفصل ما جمعَهُ الله
بعد هذا الكلام، ترك يسوع الجليل وتوجّه إلى اليهوديّة حيث ستكون آلامه. عاد يقدّم تعليمه للجموع التي تزدحم حوله. وسأله الفريسيون عن تفسير تث 24: 1- 4 الذي يشّرع ممارسة الطلاق. وكان السؤال امتحاناً: هل يتبع يسوع الطريق الواسعة مثل هلال، أو الطريق الضيّقة مثل شمعي الذي اهتمّ بحقوق المرأة ضدّ تصرّف الرجل الاعتباطي؟
لم يقع يسوع في فخّهم، بل أحالهم إلى وصية موسى. هم يقرّون أن الطلاق قد سمح به المشترع. أما الفريضة التي تجبر زوج على أن يعطي زوجته كتاب طلاق، فهي تعدّد أخطاء الزوجة وتعلن أسباب طلاقها.
وأعاد يسوع الفريسيين إلى أصل الشريعة، إلى النيّة الخلاّقة عندا الله مبدأ كل تفسير. فنصّ التكوين واضح (تك 1: 27؛ 2: 23- 24): وحدة العائلة جزء من المخطّط الإلهي. إنها تؤسّس وتكفل عدم انحلال الوحدة الزوجية. والسماح بالطلاق هو تنازل من موسى "بسبب قساوة قلوبكم" (10: 5). إذ دشّن يسوع ملكوت الله، أعاد العهد إلى كماله إنطلاقاً من مخطّط الخالق. وكشف للرجل والمرأة امكانية ملموسة بأن يعيشا متّحدين في جسد واحد (رغم ضعفهما): وحده الابن الحبيب يستطيع أن يتغلّب على ضعف الإنسان ليحب كما يحب إله العهد.
لم يعارض يسوع شريعة كيّفها موسى على وضع شعبٍ خان ربّه، بل أعادها إلى خطّها الأول وأكّد متطلّباتها للمؤمن، وأعطاه إمكانيّة تحويل قلبه إلى حبّ حقيقي. إنّ مؤسسة الزواج التي هي سّر وحدة المسيح والكنيسة، تغرز جذورها في الله، في حياة يعيشها الاقانيم الثلاثة.
بعد هذا يصبح الزواج بعد الطلاق شبيهاً بتعدّد الزوجات. وهو يقابل الزنى بعد الطلاق الذي سمحت به شريعة موسى. فإن قبلت الكنيسة الطلاق والزواج بعده، دلّت أنها لا تؤمن بواقع السّر، أو أن المسيحي لم يصل بعد إلى ما في الملكوت من جديد. ويدعو يسوع تلاميذه ليتأمّلوا في قوّة وحدة حبّه الحاضر في الحب الذي يعيشه الرجل والمرأة. الحب المؤسّس على الله هو رجاء لا يفنى.

4- في مدرسة الأطفال
وللمرّة الثانية يهتمّ يسوع بالأطفال. كان قد بيّن في 9: 33- 37 كيف نتقبّل الطفل، أي صغار القوم. والآن ها هو ينبّه التلاميذ الذين يطردون أمّهات يقدّمون أطفالهم إلى يسوع، أن عليهم أن يتقبّلوا ملكوت الله بموقف الأطفال الآتين إليه.
لا نكتفي بأن نتقبّلهم، بل ندخل إلى مدرستهم. ما الذي أعجب يسوع فيهم؟ ضعفهم يتيح لهم ان يكونوا مستعدّين، أن يقبلوا بارتباطهم بالآخرين. من ليس له شيء يستطيع أن يتقبّل كل شيء، والولد يتقبّل كل شيء وهو راضٍ. هو لا يطلب السيطرة على العالم. فلا سلطة له. وهو يختبر حدود رغباته، فيستقبل ما يجنيه من الآخرين.
الطفل يعرف المجانية. وملكوت الله الذي أوحي في يسوع هو مجانية محضة. لا نستطيع ان نتقبّله إلاّ كهديّة. لا نستطيع أن نستولي عليه. بل نستطيع أن نكره ذواتنا، نبذل جهدنا (مت 11: 12) ليكون موقفنا موقف طفل.
وينتهي المشهد بفعلتين ليسوع. الأولى؟ ضمّ الأولاد وحضنهم بمحبة كما فعل من قبل (9: 36). الثانية: وضع يديه عليهم علامة البركة أي عطيّة الملكوت. فتلميذ يسوع هو الذي يلتفت بعطف إلى الصغار، إلى المساكين. إلى المحرومين، ويتعلّم منهم كيف يكون التقبّل الحقيقي.

ج- لقاء وأسئلة
1- هل نترك كل شيء لنحيا
ها نحن من جديد في الطريق: وجّه رجلٌ الكلام إلى يسوع، سمّاه "أيها المعلّم الصالح". هذا يدلّ على أنّه اختبر الصلاح الذي أصله وموزّعه هو الله. وأحاله يسوع كما أحال الفريسيين إلى وصايا موسى. نلاحظ أنه لا يلمّح إلى اللوحة الأولى في الوصايا (متعلّقة بالله). فهو يفترض أن الرجل يعرفها لأنّه اكتشف في المعلّم حضور الله الصالح والواحد. ولكنه يذكر وصايا اللوحة الثانية التي تشير إلى علاقات بالقريب. ويضمّ إليها الوصيّة المتعلّقة بالوالدين اللذين بهما نحصل على أسمى عطايا الله وهي الحياة. وزاد فريضة غير موجودة في الوصايا العشر وهي تلخّص الوصايا: "لا تظلم أحداً".
وأقرّ ذاك الرجل أنه عرفها كلها وحفظها منذ صباه. حينئذٍ نظر إليه يسوع وأحبّه: إذن شريعة موسى هي طريق نحو الملكوت. ولكن ينقصها شيء: شخص يسوع هو الذي يؤمّن الدخول إلى الملكوت. فمن تبعه تاركاً الباقي كلّه، كل ما يملكه إنسان ويتمسّك به، نال الطريق الوحيد الذي يوصل إلى الحياة الأبدية. ولكن الرجل ليس مستعدّاً لقبول هذا التجرّد المطلق. حزن، فكان حزنه علامة أنّه سمع النداء: هي نعمة كشفته لنموه ودلّته على عظمة النداء الذي يتوجّه إليه. لا يقول الإنجيل كيف تصرّف هذا الرجل فيما بعد. ترك لنا ان نطرح على نفوسنا السؤال: هل نستطيع أن نتبع يسوع ونحن متعلّقون بخيرات الأرض؟

2- من يمكنه أن يخلص
وانتقل نظر يسوع إلى تلاميذه (10: 23) ليقول لهم إن ذات النعمة تنتظرهم، وانهم يواجهون الصعوبة عينها: يتخلّون عمّا يتمسّكون به، عمّا يمنعهم من إتباعه حتى في الألم والموت. لا يستطيع الإنسان الوصول إلى هذه الحالة بامكانياته الضعيفة. الله وحده يخلّص باستعداد حرّ من حبّه الذي يتفجّر في شخص يسوع.
ثم نظر يسوع إلى تلاميذه (10: 27) محرّكاً الرجاء في قلوبهم ساعة أثارت متطلّبة ندائه ذهولاً يرافقه اليأس. وإذ أراد أن يعبّر عن هذا الرجاء، إستعمل كلمات الله حين أجاب سارة التي ما استطاعت أن تؤمن بالوعد الذي منح لها بأن تكون أماً في شيخوختها: "ليس بمستحيل على الله" (تك 18: 14). فالله هو الذي يقدر ان يخلّص الإنسان من ضعفه ومن مقاومته للنعمة.

3- مع الاضطهاد
وجاءت ردّة فعل بطرس سريعة على إعلان المعلّم: لقد فهم إلى حدّ ما. قبل الرسل بتضحيات حقيقية ليسيروا على خطى المعلّم. ولا شكّ في أن المعلّم أغدق عليهم عطاياه منذ الآن، لأنّ لا مقابلة بين ما تركوا وما نالوه في مجانية تامة: نالوا مئة ضعف.
وزاد يسوع في مرقس "مع الاضطهاد". هذا يوافق ذلك الذاهب إلى الآلام. هذا يعني أن الاقتداء بالمسيح هو في ذاته دخول معه في الحياة الابدية. لا شك في أننا أمام تلميح لاضطهاد تقاسيه جماعة رومة. فلا بدّ من تشجيعها. حين أنباً يسوع بآلامه للمرة الأولى ثار بطرس (8: 32). ولكنه فهم الآن أن الألم يمكن ان يكون له عربون اتحاد بالمسيح.
نتبع يسوع يعني نقبل في حياتنا انقلاباً في القيم: تجرّد عن الخيرات، عن الرغبات، عن الكرامات. وهكذا يتشبّه التلميذ بمعلّمه. ويشعر في الوقت عينه بفرح طفل يستطيع أن يتقبّل كل شيء، بفرح ذلك الذي يسير قي طريق المستحيل.

خاتمة
الاخلاقيّة المسيحيّة هي اخلاقيّة مسؤولية وحرية تزمن للإنسان سعادة تامة. هذا ما أعلن منذ البدء ولا أحد يُحرَم من هذه السعادة، حتى الصغير والغريب. فعلى الكنيسة أن تتقبّلهم كلهم. ونهاية النصّ تقول: مئة ضعف وتشبّه بيسوع هما وعد بالحياة الأبدية التي نرى باكورتها الآن.
لا يقدّم انجيل مرقس الاخلاقية المسيحيّة وكأنها مجموعة من الشرائع نحفظها. تقوم هذه الاخلاقية بأن نتبع ابن الله الذي صار إنساناً وعاش رسالته كابن الإنسان. نتمثّل به ونستند إلى نعمته فنأخذ على عاتقنا قضيّة الصغار والمساكين في روح الطاعة والاستعداد، في الامانة لحبّه، في التجرّد من خيرات الأرض

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM