ما أروع أعماله

ما أروع أعماله
7: 31- 37

جعل الصم يسمعون والخرس ينطقون.
هذا الخبر القصير هو خاص بمرقس، وهو قديم جداً. نرى يسوع الشافي يقوم بالحركات التي يقوم بها أناس تخصّصوا "في الشفاء". وضع أصابعه في الاذن. إستعمل بصاقه، تكلّم اللغة الأرامية. ومع هذا، فالخبر مطبوع بالكرازة المسيحية، شأنه شأن خبر أعمى بيت صيد (8: 22). فالخبران يقعان بعد تكثيرَيْ الأرغفة، وفيهما ما فيهما من لون افخارستي واضح. هذا يعني أن للخبر الذي نقرأه اليوم ولخبر بيت جيدا بُعداً عمادياً أكيداً. "إفاتاً" أي إنفتح. بهذه الكلمات كان المؤمن يدخل في الجماعة. ووضع الأيدي هو فعلة تدخل الإنسان في مجموعة مسيحية.
ونلاحظ بصورة خاصة الوجهة الجماعية للمعجزة. ما يهم ليس فقط إيمان المريض، بل إيمان محيطه. فالناس هم الذين "حملوا" الأصمّ والأخرس إلى يسوع وتوسّلوا إليه لكي يضع يده عليه. هذا الرجل يستطيع أن يمشي وحده. ولكن مرقس يستعمل ثلاث مرات كلمة "حمل" ليدلّ على التضامن الضروري بين "الاصّحاء" و"المرضى".
ويهتمّ مرقس أيضاً اهتماماً كبيراً بالايدي التي ترمز إلى المشاركة والمقاسمة في الكنيسة. تقول لنا رسالة يعقوب إن زيارة المرضى مهمّة، وتقدّم لنا أول تلميح عن سر مسحة المرضى (2: 1- 5). أما هنا في الإنجيل، ففتح الاذنين وحلّ عقدة اللسان يرتبطان بسماع كلمة الله وبالإعلان الإيماني: بالاذن نسمع، بالفم نعلن.
آذان مغلقة، كلمة مقيّدة، جرحان بليغان في مجتمع سيصلحه يسوع. بعد هذا يستطيع المريض والذين حوله أن ينشدوا مدائح المسيح. منعهم يسوع من ذلك، ولكن كلما منعهم كانوا يزدادون إذاعة للخبر. نحن هنا في السّر المسيحاني الذي يبرزه مرقس. هذا السر هو طريقة تساؤل تتيح للإنسان أن لا يتوقّف عن طرح السؤال عن المسيح (من هو المسيح؟).
منذ البداية، أخذ يسوع المريض على حدة، إبتعد به عن الجموع؟ هل نتخيّل شخصاً نعم بمعجزة يسكت، حتى ولو طلب منه الشافي ذلك؟ إن التعارض هو شرط الوحي وكشف لأمر غير منتظر وهو: ليس يسوع شافياً وحسب، ليس هو المسيح فقط، إنه ابن الله.
بعد هذا، فالذين لا يفهمون شيئاً والذين لا يفتحون افواههم، استطاعوا أن يتكلّموا. قالوا عن الذي فتح الاذنين والفم: "ما أروع اعماله كلها". ما أحسن ما عمل! إنجيل مرقس هو إنجيل أعمال يسوع. ما الذي عمله يسوع خلال حياته؟ أجاب مرقس مردّداً كلمة أش 35: 5. لقد جاء الله يعيد إلى الفقير كرامته. تجري الأمور وكأننا أمام خلق جديد. حين يرفع يسوع عينيه ويتنهّد، فكأنه يتحسّر على هذا العالم السجين داخل جدرانه. وفي الوقت عينه، أخرج يسوع هذه النسمة الخلاّقة (كما في بداية الخلق) ليعيد صنع هذا العالم المحطّم والمسجون في صمته والمتطلّع إلى النور.
نوّد أن نعود إلى تفصيلين في هذا الإنجيل الذي نتأمل فيه اليوم. أولاً، اخذ يسوع المريض على حدة، إبتعد به عن الجمع. ثانياً، حين أعاد إليه السمع والنطق، أوصى الشهود بألاّ يقولوا شيئاً لأحد. لماذا أراد يسوع المحافظة على السرّ بعد هذه الآية المذهلة التي تدل على قدرته لدى الله؟
حين نطالع الإنجيل، نشعر وكأن المعجزات مهمّة فقط بعض الأهمية. فيسوع، خلال حياته على الأرض مدة سنتين، زرع الطريق بآيات رافقت كلمته وجعلت الناس يدركون المعنى الحقيقي لرسالته. لقد اجترح عدداً كبيراً من الأشفية. فجعل الصمّ يسمعون، والخرس يتكلّمون، والعميان ينظرون، والعرج يركضون، والمخلعين يقفزون من الفرح.
ولكن الناس لم يفهموا أن المهمّ المهمّ بالنسبة إليه هو الكرازة عن ملكوت الله، اكثر منه معجزات اجترحها شفقةً على الشعب: إن الضيق الذي كان يراه، إنتزع منه أعمال الحنان والمحبة، أعمال القدرة هذه.
وعلى كل حال، لم تكن أية معجزة كافية لذلك. فبعد تكثير الارغفة، قالوا له أيضاً: "أية آية تصنع لنرى ونؤمن بك؟ أي عمل تقدر أن تعمل"؟ أما هو فتعب منهم وأجابهم أن الآية التي يعطيها والعمل الذي يعمله والذي يهمه، ليس بأن يكثر من المعجزات، بل بأن يعمل إرادة أبيه. لا باحث فضولياً، لا حاجة إلى التحدّي، لا شيء يستطيع أن ينتزع منه معجزة لا جدوى منها من أجل الملكوت.
حين يجابه يسوع محاوريه الجائعين إلى المدهشات، تخيّب كلماته انتظارهم: "لن يكون لكم آية إلا آية يونان". أي: إن الآية الوحيدة التي يعتبرها نهائية هي آية آلامه وقيامته. فإذا أردنا أن نقبلها، علينا أن نرتدّ إلى الله ونبدّل قلبنا مثل أهل نينوى الذين حركّتهم كرازة يونان.
وفي عصرنا، لم يتغيرّ شيء حين يعطينا الله آية حقيقية. نتذكر مثلاً نداء لورد: "صلوا، توبوا، إرتدّوا إلى الله". إذن، لا نطلب آية من الله إلا بتواضع وتحفّظ. ولنكن سعداء بأن نجعل ثقتنا بذلك الذي أحبّنا أولاً وجعلنا أغنياء في الإيمان.
أعلن أشعيا: حينئذ تتفتح عيون العميان وآذان الصمّ، ويهتف فم الأخرس من الفرح. ولاحظ شهود شفاء الأصم الاخرس: جعل الصمّ يسمعون والخرس يتكلّمون. لقد أتمّ يسوع ما أنباً به الانبياء. بل هو الذي يهيّئ الإنسان ليسمع كلمة الله... ويعطى الرسلُ الصم والعميان أن يعلنوا بفم بطرس أن يسوع هو المسيح

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM