انجيل مرقس

انجيل مرقس
أع 12:12

إنجيل مرقس كتاب ليس كسائر الكتب.
إنجيل مرقَس هو أولاً "إنجيل". إنه تبل كلّ شيء "شهادة إيمان9: خبر سعيد، بشرى خلاص البشريّة في يسوع الناصري الذي هو المسيح وابن الله. هو النبأ السعيد لحياة يسوع وموته نقرأه على ضوء قيامته. الإنجيل ليس مسيرة وقصة حياة. وليس كتاباً حيادياً. إنه يُلزم القارئ أن لا يبقى على قارعة الطريق، بل أن ينطلق في الإيمان على خطى المعلّم. فالله صار قريباً من البشر بشكل حاسم في يسوع المسيح. وفي شخصه يقدّم لنا الله الخلاص من الشّر والموت.
إلى هذا الإنجيل سوف نتعرّف في هذا الكتاب الذي دوّن في رومة سنة 69- 70، فارتبط بشخص بطرس. ولكننا نطرح ثلاثة أسئلة سنجيب عليها في هذا الفصل الأول. من هو مرقس؟ كيف تبدو جماعة مرقس؟ من هو يسوع في إنجيل مرقس؟

1- من هو مرقس
لا يقول لنا إنجيل مرقس شيئاً عن شخص كاتبه، ولكن التقليد القديم يجعل من مرقس "تلميذ بطرس وترجمانه". إنه تقليد متين يتركّز في معطيات العهد الجديد. ففي أعمال الرسل نتعرّف إلى يوحنا الملقب بمرقس. إنه يرتبط ببطرس في أورشليم (أع 12: 12).
غير أن ما يميّز يوحنا مرقس هذا، هو أنه صار أحد تلاميذ بولس، وقد رافقه في رسالته إلى الوثنيّين (أع 13: 5؛ 15: 37). وسنجد مرقس من جديد قرب بولس خلال إقامته في السجن (كو 4: 10). كما يسمّيه بطرس ابنه أي صديقه الحميم في بابل القرن الأول أي في رومة (1 بط 5: 13).
إرتبط مرقس بالرسولين العظيمين بطرس وبولس برباط حميم. ولكنه ظلّ في الكنيسة شخصاً من الدرجة الثانية. أيكون هذا هو السبب الذي لأجله عاش إنجيله في ظل إنجيل متّى ولوقا ويوحنا؟ الأمر ممكن. ومهما يكن من أمر، فمعظم الشرّاح يرون اليوم في إنجيل مرقس أقدم الأناجيل. كان مرقس أول من اخترع هذا الفن الأدبي الذي اسمه الإنجيل، فكان مبتكراً في اختراعه. وعلى خطاه سيسير متى ولوقا ويوحنا.

2- جماعة مرقس
لم يكتب مرقس إنجيله كما يكتب اليوم كاتبٌ كتابه "داخل غرفته". فالإنجيل هو مسؤول عن جماعة مسيحية. وهو يكتب في هذه الجماعة ومن أجلها. إنه يقاسمها حياتها وآلامها وآمالها. وهو في إنجيله يعبرّ عن تأمّلاته معها في حياة يسوع وموته وقيامته.
حين نقرأ إنجيل مرقس نكشتف سمات خاصة تدلت على جماعة مرقس.
* تألفت جماعة مرقس بصورة خاصة من وثنيين ارتدوا إلى المسيحية. حين كتب مرقس لهؤلاء "اللايهود" أُجبر على ترجمة الكلمات الآرامية التي تلفّظ بها يسوع (5: 41). كما فسّر العادات اليهودية (7: 3- 4). وبيّن مسيرة يسوع لينقل الإنجيل من اليهود إلى الوثنيّين. نتذكّر هنا لقاء يسوع مع المرأة السورية الفينيقية (7: 24- 30). ولا ننسى أن أعمق فعل إيمان ورد في الإنجيل قد جعله مرقس في فم وثني ارتد إلى الله عند الصليب. قال: "حقاً كان هذا الرجل ابن الله" (15: 29).
* عاشت جماعة مرقس زمناً متأزماً، هو زمن الاضطهاد. يرتدي إنجيل مرقس في صفحات عديدة وجهة دراماتيكية لا نفهمها إلاّ إذا عرفنا أن الكنيسة التي يتوجّه إليها تمرّ في أحداث مؤلمة. أية أحداث؟ عرفت الامبراطورية الرومانية بين سنة 60 وسنة 70 عشر سنوات من الاضطرابات العميقة. وفي فلسطين، أثار الاحتلال الروماني ثورة مسلّحة هي الحرب اليهودية التي بدأت سنة 66 وانتهت باحتلال أورشليم وتدمير الهيكل سنة 70. وفي رومة، إندلعت حرب داخلية بعد موت نيرون (68 - 69). وسبق هذه الحرب إضطهادٌ ديني مات فيه بطرس وبولس (64- 67). نرى آثار هذه الأحداث المأساوية في إنجيل مرقس. وقد تأثّرت جماعته بهذه الأوقات الصعبة. وهي تكتب تاريخها في بعض صفحات الإنجيل. مثلاً، نداء يسوع لكي يترك المؤمن عائلته وأمواله لكي يتبعه (10: 17- 31). تعليم يسوع يدعو فيه المسيحيين أن يحملوا صليبهم ويسيروا على خطاه (8: 34 ي). تشديد يسوع على السهر، على المحافظة على الإيمان في أصعب المحن، كالاضطهاد مثلاً (13: 9- 20).
* جماعة مرقس هي جماعة رسالة. إنها منفتحة على الوثنيين. أحد هموم يسوع في إنجيل مرقس هو أن يحمل كلمته وعمله أبعد من العالم اليهودي. ففي قلب الإنجيل تُقدّم الوليمة المسيحانية لليهود كما للوثنيين. هذا هو معنى تكثيرَيْ الخبز والتعليم الذي يرافقهما (6: 30- 8: 21). ونحن نرى يسوع يجعل مسافة بينه وبين النُظُم اليهودية، ويتقبّل الوثنيّين على اختلاف أعراقهم ومشاربهم.
* جماعة مرقس هي جماعة تتنظّم. فعبر الجموع وخصوم يسوع (الكتبة، الفريسيون، رؤساء الكهنة)، يركّز الإنجيل على تلاميذ المعلّم. تدلّ هذه الكلمة أولاً على الذين رافقوا يسوع. وتدلّ أيضاً على معاصري الإنجيلي الذين يؤلّفون جماعته. وليس من قبيل الصدف أن يشدّد مرقس على الدور الذي لعبه "الاثنا عشر" (ذكرهم 11 مرة) وقد نظّمهم يسوع في حلقة رسولية ليكونوا بجانبه (3: 13- 19). ثم أرسلهم في مهمة رسولية (6: 7- 13). وأشركهم إشراكاً وثيقاً في سّر موته وقيامته فأوكل إليهم ذكر الافخارستيا (14: 17- 35). كل هذا يكشف لنا كنيسة بدأت تنظّم نفسها داخل تقليد حيّ.

3- يسوع المسيح في إنجيل مرقس
ظنّ البعض أن إنجيل مرقس يقدم لنا عن يسوع صورة بشرية. هذا ما يلفت نظر القارئ المعتاد أن يرى في يسوع أولاً "ابن الله". فيسوع في مرقس لا يعرف يوم نهاية الازمنة (13: 32). وهو يخاف خوفاً شديداً أمام الموت (14: 33- 34). ومات خارجياً كشخص "يائس" (15: 34). ونقرأ هذا الطابع البشري أيضاً في عدد من أحداث حياته: نراه ينام والعاصفة تهبّ (4: 38). لا وقت له ليأكل (6: 31). يتعجّب من قلّة إيمان ابناء بلده (6: 6). يغضب على خصومه (3: 5) وحتى على أصدقائه (10: 14). ولكن عبر هذا العرض "للإنسان" يسوع، يريد مرقس أن يدخّلنا في وحي يحمله، هو وحي الله نفسه.
* في زمن أول (القسم الأول من الإنجيل، 1: 14- 8: 31)، يدلّ يسوع أنه أكبر من رابي وأعظم من نبيّ له شهرته: إنه "المسيح" أي مرسَل خاص من الله ليقيم ملكه في نهاية الأزمنة. ولكن مهمته دقيقة جداً. فالعالم اليهوديّ في أيامه تحرّكه انتظاراتٌ متعدّدة، منها إنتظار مسيح أرضي محض، يرون فيه محرّراً سياسياً واقتصادياً (سيطعمهم). فقد أحسّوا بثقل الاحتلال الروماني وبالضيق المادي. ما أراد يسوع أن يترك العنان لسوء الفهم هذا حول هويّته الحقيقية ورسالته العميقة. هنا يتحدّث الأخصائيون عن "السّر المسيحاني". إن يسوع يحيرّنا. نراه يفرض الصمت القاسي على كل من اكتشف شيئاً من كيانه أو رسالته. هذه "الاكتشافات" هي سابقة لأوانها: فالسر الكامل لشخصية المسيح وعمله لا يُقبل إلاّ في الإيمان وبعد الموت والقيامة. يسوع هو "ابن الله" الذي جاء يخلّص البشرية من الشر والموت بعد أن يمرّ هو بنفسه في "عثار" الصليب. هذا ما يكشفه القسم الثاني من الإنجيل (8: 31- 16: 20).
* قدّم مرقس السّر المسيحاني بشكل منهجي، فأجبر قرّاءه على التفكير والتأمل. نندهش من مفارقة مستمرّة لوحي يُعرض ويُخفى معاً. ليس من السهل علينا أن ندخل في عواطف التعجّب والخوف التي يثيرها عمل يسوع (1: 27؛ 2: 12؛ 4: 14؛ 5: 15) أو تعليمه (1: 22؛ 6: 2؛ 10: 24- 26؛ 11: 18؛ 12: 7) أو إظهار الوهيته بشكل سرّي (4: 41؛ 6: 50؛ 9: 6؛ 16: 5). ولكن يسوع سيرفع الستار تدريجياً عن سرّ هويّته العميقة. نتذكّر إعلانه أمام رئيس الكهنة (14: 61- 62). وهكذا ارتسم طريق أمام إيمان التلاميذ: طريق صعب ولكنه طريق خصب. وكانت حواجز في طريقهم وأصعبها "عثار الصليب" الذي أعلن ثلاث مرات (8: 31؛ 9: 31؛ 10: 32- 34). ولكن هذا لم يؤثّر على رجاء قوي في إنتصار ابن الإنسان الأخير على كل الشرور (31: 24- 27). فالكنيسة تواجه الشرّ وتتعرّض للعواصف (4: 35- 41). ولكنها تستطيع أن تعتمد على مساعدة وتأييد القارئم من الموت، يسوع المسيح ابن الله

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM