الفصل الثامن: السعادة التي وعد بها يسوع

الفصل الثامن

السعادة التي وعد بها يسوع

إن مواعيد السعادة عديدة على شفتَي يسوع. وهي تظهر في فنين ادبيين رئيسيين. لقد استعاد الربّ في تحريضاته طريقة الحكماء والمعلّمين. وأسند متطلبّاته إلى رؤية الجزاء الذي نناله لقاء أمانتنا. ذاك هو الوضع في تطويبات متّى (5: 3-12) والأقوال حول الدخول إلى الملكوت (7: 21: 18: 13؛ 19: 17؛ مر 9: 42-47)، والامثال التي تتحدّث عن المجازاة (20: 1- 16؛ 24: 45-47؛ 25: 1-12، 14-20). هذا من جهة. ومن جهة ثانية، استعمل الرب الاسلوب الجلياني في أيامه، فأعلن الخلاص في تجلّيه المتسامي. فجاءت مواعيده المشرقة من القول القصير (8: 11؛ 19: 28) إلى لوحة الدينونة العامة (25: 31-46) والخطبة الاسكاتولوجيّة (مر 13: 5-27؛ لو 17: 22-37).
في هاتين الحالتين يصوّر يسوع سعادة المختارين في اللغة التقليديّة التي عرفها العالم اليهودّي: هناك صور ملموسة لملكوت الله (5: 3؛ يو 3: 5) وقديسيه (19: 28) وأرض الوعد (5: 4) والوليمة (8: 11؛ 22: 11-13؛ لو 14: 16-24؛ 22: 16-18-30) والعرس (22: 2-10؛ 25: 1-12) والمظال الأبديّة (لو 16: 9) والكنز (6: 19-21؛ 13: 44؛ 19: 21) والأجر (6: 3-6، 18؛ 10: 41-42؛ 25: 14-30). وهناك مواضيع الخلاص (مر 8: 30؛ 10: 26؛ 13: 13، 20) والحياة (7: 14؛ 25: 46؛ مر 9: 43، 45؛ 10: 17، 30؛ لو 10: 25-28؛ يو 3: 15-16) والقيامة (لو 14: 14؛ 20: 35-36؛ يو 5: 28-29؛ 6: 39-40) والغفران (5: 7) والمجد (13: 43؛ مر 10: 37؛ يو 17: 22، 24).
واستعاد كتّاب العهد الجديد مواعيد يسوع في ذات الاسلوب الأدبي فجاء كلامهم امتدادًا لكلامه.هناك التحريض في ختام الكرازة في أع 3: 19-21؛ 10: 43؛ 13: 38، 46-47. وفي الارشادات البولسيّة (1تس 2: 11-12؛ 3: 13؛ 5: 4، 11؛ 1كور 6: 9-10؛ 10: 1-13؛ غل 6: 7-8؛ كو 3: 14؛ أف 4: 11-16؛ 5: 5)، وفي النصوص الجليانية في 1تس 10: 1؛ 2: 19-20؛ 4: 13-18: 1كور 15: 22-28، 51-52؛ روم 8: 28-30؛ 11: 25-27 وفي سفر الرؤيا. الصور المستعملة هي تلك التي استعملها يسوع، وتضاف إليها تمثّلات يهوديّة تقليديّة: الخروج الجديد (1كور: 10: 1-13)، أورشليم الجديدة (غل 4: 25- 26؛ عب 11: 16؛ 12: 22-23؛ 13: 14؛ رؤ 3: 12؛ 21: 1-8؛ 21: 9-22: 5) الفردوس (رؤ 2: 7؛ 22: 2؛ 14: 19).
إذن مواعيد العهد الجديد تقليديّة في فنّها الأدبي وصورها ومواضيعها. ومع ذلك، وفي لغة تتكيّف مع السامعين، قدّم يسوع والرسل تفكيرًا جديدًا هو وحي العهد الجديد. وما يميّز هذا الوحي ثلاث سمات ستكون موضوع دراستنا: رؤية الله ، اللقاء بالمسيح، تجمّع المختارين.

1- رؤية الله

أ- العهد القديم
نجد في العهد القديم صورة عن الأمل برؤية الله في يوم الخلاص. وقد أعلن الأنبياء خلال المنفى، تجلّي مجد الله لمثل هذا اليوم (حز 29: 21؛ 36: 23؛ أش 10: 1-2). وقد أرادوا أن يعبّروا قبل كل شيء بهذه الصورة، عن حدث تاريخي، حدث خلاص اسرائيل حيث تتجلّى قدرة الله (أش 44: 23؛ 52: 10؛ مز 98: 2-9). وفي هذا التجلّي الرائع، يحتفظ الله بسرّه، فيكشفه مجده كما يخفيه (حز 1: 26-28؛ 10: 1-4). إن تساميه يستبعد كل حياة حميمة بينه وبين الانسان الذي هو من لحم ودم.
في القرنين السابقين للمسيح التقى وحيُ الحياة الابديّة بالبحث عن الله كما تواصل لدى الانبياء وفي المزامير. ورسمت كتابات ذاك الزمان لوحة سريعةعن السعادة الآتية (دا 12: 1-3؛ حك 3: 5-9، 14؛ 1أخن 25: 3-6؛ 92: 3-4؛ 92: 16-17؛ 103: 3؛ 104: 2-4؛ يوب 1: 16-18، 27-28؛ مزسل 3: 16؛ 9: 9؛ 14: 2-6؛ 18: 6-7؛ نج 4: 6-8، 31-23؛ 11: 7-9؛ مد 3: 21-23؛ 6: 16-18؛ 7: 15، 24؛ 8: 5-9؛ 11: 10-14؛ 12: 14-24؛ 13: 16-18؛ 15: 15-17؛ 17: 14-15؛ 18: 28-30). هي تصوّر فرح المختارين بصور تقليديّة عن الملكوت والحياة والوليمة والفردوس والمجد والأجر... وهناك نصوص تصوّر السعادة في حياة تجمعنا بالله (حك 3: 9؛ 5: 5؛ يوب 1: 17؛ مزسل 9: 9؛ وص لاوي 5: 2؛ زبولون 9: 8) فتدلّ على عودة الرب إلى هيكله الذي تركه (رج حز 43).
ما يلفت النظر هو أن الإشارة إلى لقاء الله ورؤيته أمر نادر. فالكتّاب يتحفّظون في الحديث عن مثل هذا الموضوع وهذا ما يتعارض مع الرغبة في رؤية الله التي انتشرت انتشارًا واسعًا في ذلك الوقت، في العالم الهليني. نفهم هذا حين نتذكّر جمود المواضيع الاسكاتولوجيّة في التقليد اليهودي، بل تسامي الله الذي هو الاله الذي لا يمكن أن نراه.

ب - الأناجيل
مرّة واحدة في الانجيل وعد يسوع أخصّاءه برؤية الله . وهذه الرؤية هي أجر القلوب النقيّة كما تقول التطويبة السادسة. طوبى لأنقياء القلوب فإنهم يعاينون الله (5: 8). إن الشكل الادبي لهذه التطويبة عزيز على قلب يسوع، وهو بهذه الطريقة يعلن متطلّباته. ما يطلبه هو نقاوة القلب. منذ أقدم العصور في اسرائيل، النقاوة (أو الطهارة) هي شرط ضروريّ للمشاركة في شعائر العبادة. وتأثّر معاصرو يسوع بالفريسيين فتعلّقوا تعلّقًا حارًا بالطهارة بحسب الشريعة، بالامتناع عن بعض الأعمال وبالاغتسال الطقسيّ. غير أن يسوع يبدو أكثر تطلّبًا. فهو لا يطلب فقط من الذي يريد أن يتقرّب من الله، بعضَ الطقوس التي يُتّمها بشكل آليّ. ولا موقفًا سلبيًا فيه الامتناع والتطهير. بل هو يطلب التزام القلب بدون تردّد، والسجود والعبادة والمحبّة والطاعة في الحقّ. يجب أن نعطي ذاتنا بكليتها للربّ ولا نحتفظ بشيء لنفوسنا.
فمن يقوم بهذا العطاء يعده يسوع بأن يرى الله . وهذه الرؤية هي الآن امتياز الملائكة (18: 10). والقلوب النقيّة يصلون إليها في المستقبل الاسكاتولوجيّ. هل نحن هنا أمام صورة قريبة من الخيال كما نجد في عدد من اللوحات اليهوديّة التي تتحدّث عن السعادة؟ غير أن هناك عدّة إشارات تدلّ على أن يسوع يريد منا أن نفهمه في المعنى الحصريّ للكلمة: قدّم هذه التطويبة في شكل احتفاليّ، فجاءت موجزة لا صورة فيها، فتوسّع فيها كتّاب العهد الجديد.
ثم إن هذا الوعد برؤية الله ينتج عن خبرة يسوع العميقة والأصيلة. فعلى مدّ رسالته قدمّ نفسه على أنه ((الابن)) الذي أرسله الآب، الذي يتّصل اتصالاً مستمرًا بالآب. هو يعرف قصده الخلاصيّ ومشيئته. بل هو وحده يعرفه: ((ما من أحد يعرف الآب إلا الإبن ومن أراد الابن أن يكشف له)) (11: 27). وحده الذي رأى الآب يستطيع أن يخبر عنه (يو 1: 18؛ 6: 46)، وحده يستطيع أن يعدنا برؤيته. وإن كان قد احتفظ بهذه الرؤية لأنقياء القلوب، فلأن الله محبّة، ولأن المحبّة لا تظهر إلاّ للمحبّة، ألاّ للقلب النقيّ الذي يعطي ذاته بكلّيتها.
أبرز متّى الجديد الجديد في هذا الوعد. ولائحة التطويبات عنده تبدأ باعلان صور أرضيّة عن الفرح الأدبيّ مثل الملكوت والأرض والوليمة (5: 3، 4، 6). بعد ذاك، نجد إعلانًا عن نهاية كل شرّ: التعزية في الألم وغفران الخطايا (5: 5، 7). وفي النهاية، قبل العودة إلى إعلان الملكوت (5: 10) نجد الأفراح العظيمة: رؤية الله وتبنّينا (5: 8-9، نحن أبناء الله ). لا تنفصل العطيّة عن الأخرى عند التلاميذ كما عند يسوع: وحدهم أبناء الله يرون الله .

ج - سائر العهد الجديد
ويظهر الأمل برؤية الله مرّات عديدة عند سائر كتّاب العهد الجديد. ولكن بما أن هذا الأمل حاضر أيضًا في العالم الهلنستي، يجب أن نميّز ما يستلهم حلمًا وثنيًا وما يعود إلى وعد يسوع.
أولاً: الرسالة الاولى إلى كورنتوس
قابل بولس في نهاية نشيده عن المحبّة (ف 13) بين رؤية الله الزمنيّة في أعماله، ورؤيته الاسكاتولوجيّة التامّة: ((الآن ننظر في مرآة في إبهام. أما حينئذ فوجهًا إلى وجه. الآن أعلم علمًا ناقصًا. أما حينئذ فسأعلم كما عُلمت)) (آ 12).
افتخر الكورنتيون بالكلمة والمعرفة، فوبخهم بولس على افتخارهم هذا، منذ بداية الرسالة (1: 17-3: 20، فيما يخص الحكمة؛ 8: 1، 10، 11؛ 13: 2-28 في ما يخصّ المعرفة). ووضع هنا أيضًا حدود معرفة الله البشرية، فصوّرها في موضوعين عرفتهما الفلسفة الهلنستية: دلّت الرؤية في مرآة، على الطابع اللامباشر لهذه المعرفة، والرؤية في إبهام على الطابع الغامض والرمزي لهذه المعرفة.
وجعل بولس تجاه هذه المعرفة الناقصة معرفة اللقاء في نهاية الأزمنة. لهذا عاد إلى مواضيع خاصّة بالفكر البيبليّ فقال: ليست المعرفة هنا تنظيرًا تقنيًا، بل لقاء شخصيّ وتبادل محبّة (8: 2-3). وتعارضُها مع معرفة هذا الزمن لا يعود إلى التعارض اليونانيّ الذي نجده بين الجسد والروح، بل إلى التعارض البيبليّ بين الزمن الحاضر والزمن الآتي والمتعالي. والمواجهة الأخيرة ستكون اكتشاف وجه الله الذي طلبه العهد القديم مرارًا في شعائر عبادته.
هل استند بولس هنا إلى تطويبة يسوع حول أنقياء القلوب؟ هناك أولاً لفظة ((رأى)). ونحن نعرف كيف تعامل بولس مع أقوال يسوع فلم يوردها في حرفيّتها. والوعد الذي نقرأه في 13: 12 يبدو في إيجازه قريبًا ممّا في تطويبة يسوع مع ذات السياق العباديّ والاسكاتولوجي. والرجاء الذي يُنشده هو جديد في العالم اليهوديّ بحيث لا نستطيع ان نستبعد تلميح الرسول إلى كلام الربّ.
ثانيًا: الرسالة إلي العبرانيين
ونقرأ في عب 12: 14 تحريضًا يلتقي مع تطويبة أنقياء القلوب: ((أطلبوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لا يعاين الربَّ أحد)). إن تأثير العالم الهلنييّ على عب هو واضح على مستوى الألفاظ والعلاقة، فلا نستبعد أيضًا هذا التأثير على الأمل برؤية الله . غير أن ما هو واضح هو أن هذه الرؤية اسكاتولوجيّة (منظور غريب عن الهلينيّة). وتلتقي عب 12: 14 تطويبة يسوع في ثلاث نقاط لها معناها: تقدّم رؤية الله بإيجاز كما في مت 5: 8. هذه الرؤية هي أجر القداسة التي تقابل نقاوة القلب (رج عب 9: 13؛ 10: 22). وتتوازى هذه الطهارة مع طلب السلام كما في مت 5: 8-9.
ثالثًا: رسالة يوحنا الأولى
وتلامس 1 يو ملامسات لافتة التطويبات المتاويّة. ((أيها الأحبّاء، نحن من الآن أولاد الله ، ولم يتبيّن بعد ماذا سنكون. غير أننا نعلم أننا إذا ما ظهر، سنكون أمثاله، لأننا سنعاينه كما هو)) (3: 2). نحن أمام لهجة احتفاليّة، والآية المذكورة هنا مهمّة بعد أن جعلها الكاتب في بداية القسم الثاني من الرسالة، إنها تشدّد على واقع هذه الرؤية. ((نعاينه كما هو)). متى؟ في نهاية الأزمنة على مثال ما في الانجيل. أما البنوّة الالهيّة فنحصل عليها ((منذ الان)). وأخيرًا تربط 1يو هذه الرؤية بتأليه المؤمنين.(( سنكون أمثاله)). ظنّ الشرّاح أنهم وجدوا في هذا القول موضوعًا هلنستيًا هو موضوع التأليه بمشاهدة الله. قد تسمح الألفاظ اليوحناويّة بهذا التفسير. غير أن فكر 1يو يختلف كل الاختلاف عن فكر التصوّف اليوناني. فرؤية الله هنا، كما في التقليد البيبليّ كله، وتماهي هذه الرؤية بالمجد، لا يمكن أن تكونا إلا نعمة مجانيّة. فالرؤية والمجد خاصان بيسوع (يو 1: 14؛ 6: 46؛ 17: 5). وهو وحده يستطيع أن يشرك فيهما أخصّاءه (يو 17: 24).تقرّب 1يو، شأنها شأن مت5: 8-9، بين رؤية الله والبنوّة الالهيّة التي تعتبرها آنيّة حسب نظرة يسوع العاديّة. فبعد وعد يسوع بالرؤية الالهيّة، تدعو إلى الطهارة أولئك الذين يرجونها (1يو 3: 3). وهذا ما يدلّ على أن يوحنا يلمّح هنا إلى تطويبات يسوع.
رابعًا: سفر الرؤيا
ويمثّل سفر الرؤيا في ذات التقليد اليوحناوي، فنًا أدبيًا آخر مع صوره ورموزه ومصطلحاته. وتصوّر فصولُه الأخيرة سعادة المختارين مع مواضيع معروفة لدى الأنبياء وكتب الرؤى (21: 10-22: 5). وآخر لمسة في هذا المقطع تتحدّث عن رؤية الله. ((إن خدام الله ينظرون وجهه، ويكون اسمه على جباههم. ولا يكون ليل من بعد، ولا يحتاجون إلى مصباح ولا إلى نور الشمس لأن الرب الاله يفيض عليهم نوره، ويملكون إلى دهر الدهور)) (22: 4-5).
إن رؤية السعادة هذه تدخل في سلسلة طويلة من لوحات ترسم أورشليم الجديدة (حز 40-48؛ اش 54: 60؛ طو 13: 11-17؛ مزسل 17: 33-35) وتتضمنّ بعض هذه النصوص إعلان مجد الربّ (أش 60: 1-2، 19-20؛ مزسل 17: 35). ويدلّ السياق على ان هذا الظهور يكمن في خلاص الشعب وفيه تنكشف قدرة الله . إذن نستطيع ان نتساءل: أما يكون المعنى مماثلاً في الرؤية الإلهيّة كما في رؤ 22: 4-5؟
تدلّ إشارات عديدة على أن رائي بطمس (أي يوحنا) شدّد هنا على واقعيّة رؤية الله . فجعلها في قلب لوحة أورشليم الجديدة على أنها أسمى سعادة ينعم بها الأبرار. من أجل هذا يعود مرارًا إلى طهارة المدينة (21: 11، 18-21، 27؛ 22: 1)، إلى قداسة الليتورجيا. اختلف الكاتب عن الكتّاب اليهود، فما توقّف على خلاص الشعب بقدر ما توقّف على وحي الله النهائي. صورة موجزة، مناخ اسكاتولوجي وعباديّ. هذا ما يجعلنا قريبين من وعد يسوع.
وهكذا جاء تقليد بولس ويوحنا وتحريضهما والرؤى الاسكاتولوجيّة، منوجّهة نحو التطويبة عينها: في نهاية الأزمنة يلاقي التلاميذ الله في خبرة يستحيل التعبير عنها. وهي ستكون العبادة الكاملة. وهذا الرجاء الجديد يتأسّس على وعد يسوع وفي النهاية على خبرته البنوية.

2- اللقاء بالمسيح

أ - العهد القديم
حين يصّور أنبياء العهد القديم وكتّاب العالم اليهوديّ السابق ليسوع، الخلاصَ الذي ينتظرون،فهم يجعلون في قلب لوحتهم، المسيح الملك وابن داود. هذا لا يعني أنهم كانوا جميعًا في هذا الخطّ. فقد تحدّث الشراح عن مسيحانيّة بدون مسيح في كتاب التعزية (أش 40-55)، وفي مزامير الملك (93؛ 96-99)، وفي أقوال حول أورشليم الجديدة. وحتى في الاعلانات حول المسيح، كانت سعادة الأبرار تنعّمًا بعطايا الله ، أكثر منه بحضور ابن داود (مزسل 17: 1-4، 23-51؛ 18: 1-14؛ رج 1 أخن 62: 13-16؛ 71: 14-16). إن هذه النصوص تركّز على رجاء اسرائيل، وشعبُ الله يدرك شيئًا فشيئًا أن الله وحده هو فرحه. فالمسيح هو انسان وحسب. هو شخص مثاليّ. صورة خلاص، وما التقى به أحد ليرتبط معه بحبّ شخصيّ.
ب - الأناجيل
وركّز رجاء يسوع على الله أكثر مّما فعله رجاء اسرائيل: هو يشير إلى ملكوت الله وإلى ما في قلب هذا الملكوت، أعني اللقاء بالله. غير أن هذا الرجاء يعطي المسيح دورًا لم يعرفه من قبل في سعادة الملكوت.
> حين ظنّ يعقوب ويوحنا أن مجيء الملكوت صار قريبًا جدًا، طلبا من يسوع: ((هب لنا أن نجلس الواحد عن يمينك والآخر عن يسارك، في مجدك)) (مر 10: 37). قد يتضمّن الطلب ((هجومًا)) على أولويّة بطرس الذي هو شخص قريب من يسوع، شأنه شأن يعقوب ويوحنا (مر5: 37؛ 9: 2؛ 14: 33). وفي أي حال، هو سابق لأوانه ويفرض نفسه على يسوع وبالتالي على الله . رفض الرب أن يلبّي طلبهما: فقبل مقاسمة مجده، عليهما أن يقاسماه كأسه، أن يشاركاه في آلامه. أما أمكنة المجد، فالله هو الذي يعطيها (مر10: 38-40). ولكن بجانب رغبة بشريّة (على مستوى اللحم والدم) لدى ابني زبدي اكتشف يسوع رغبة حقيقيّة في أن يكونا معه، في أن يجدا في العالم المقبل هذا الحضور الذي هو نور لهما وقوّة. ما ألغى يسوع هذا الأمل، بل قدّم للاخوين إمكانيّة مقاسمة كأسه بحيث يشاركانه في مجده.
> واستعاد يسوع ذات الصور لكي يتحدّث عن مجازاة للاثني عشر. ((الحق أقول لكم: أنتم الذين تبعتموني، متى جلس ابن البشر، في عهد التجديد، على عرش مجده، تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر كرسيًا، لتدينوا أسباط اسرائيل الاثني عشر)) (مت 19: 28). إن السعادة الموعود بها هنا هي سلطة ملكية يتقاسمها ابن الانسان مع الذين تركوا كل شيء لكي يتبعوه. غير أن هذا التجرّد كان أولاً بالنسبة إليهم تعلّقًا بالمعلّم. والجزاء يكمن في الاتحاد به، أكثر مّما يكمن في الامتيازات التي تنتج عن هذا التعلّق. نشير إلى أن هذا القول المتاويّ قد وُجد في لو 22: 28-30 في شكل مختلف بعد العشاء السريّ فقدّم صورة الوليمة المسيحانيّة (آ 13)، وهي صورة تقليديّة حول المشاركة في الفرح (رج مر 14: 25).
> في مت ومر، أنهى يسوع العشاء الأخير فدعا أخصّاءه للقاء إلى مائدة الوليمة المسيحانيّة. ((الحق قول لكم: لن أشرب بعد من ثمر الكرمة إلى اليوم الذي أشربه فيه جديدًا، في ملكوت الله)) (مر 12: 25؛ مت 26: 29؛ رج لو 22: 18 الذي يجعل هذا القول في بداية العشاء السريّ).
ساعة شرب الاثنا عشر كأس العهد الجديد، أعلن لهم يسوع كأس الوليمة في الملكوت. إن سياق عشاء الوداع يعطي هذه الكلمة ملء معناها: لقد فكّر يسوع باللقاء المقبل مع أخصّاءه. ((معهم)) سوف يشرب هذه الكأس. هذا ما أوضحه متّى فشدّد على السعادة التي أراد يسوع أن يحدّثنا عنها .
> ويظهر هذا الرجاء عينه في لمحة عابرة، في مثلي العذارى العشر والوزنات: إن العذارى الحكيمات ((دخلن مع)) العريس إلى قاعة العرس (25: 10). والعبد ((الصالح والامين)) قد دخل ((إلى فرح سيّده)) (25: ،21 23). مقابل هذا، يبدو البعدُ عن يسوع الشقاء الأعظم (7: 22-23؛ 25: 11-12، 41؛ لو13: 25-27). هناك ((معي)) والسعادة النهائية. وهناك ((أبعدوا عني)) ومنتهى الشقاء.
> ولفظة ((معي)) التي هي لفظة السعادة، قد وجّهها يسوع إلى اللصّ التائب. تفرّد لوقا فأورد هذا الحدث الذي يدلّ على موضوع مفضّل عنده، موضوع التوبة والغفران (لو 23: 40-43).
هزئ رؤساء الشعب من يسوع واعتباراته المسيحانيّة، وسخر الجنود من اللقب الملكيّ المعلّق على الصليب. حينئذ انفتحت عينا اللص وهو في نزاعه. عرف خطأه. قبلَ عقابَه، وأقرّ ببرّ رفيقه في العذاب (يسوع) ومُلكه السريّ. فانتظره كدياّن في اليوم الأخير، وطلب منه نعمة رفض بيلاطس أن يعطيه اياها. فاستجابه يسوع قائلاً: ((الحقّ أقول لك: اليوم تكون معي في الفردوس)) (لو 23: 43).
لقد تجاوزت النعمة صلاة هذا البائس. طلب الخلاص ليوم الدينونة الآتية، فمنحه يسوع (( اليوم)) الدخول إلى ((الفردوس)). استعمل يسوع هنا كما في مثل لعازر والغنيّ (لو 16: 22-26) صورًا عرفتها الأوساط اليهوديّة في عصره فقالت بموضع سلام ينتظر فيه الأبرارُ القيامة. ولكنّه حوّل هذا الرجاء بوعد يرتبط بحضوره: إن الذي آمن به فقاسمه آلامه، سوف يقاسمه سلامه في انتظار مجده.
> كل هذه النصوص تدلّ على المكانة التي يأخذها يسوع في سعادة أخصّائه. ومع ذلك، فيسوع لا يلفت انتباهنا مرارًا إلى شخصه في الأناجيل الازائيّة.بل هو يختفي وراء عمله، وراء قصد أبيه. وسعادة تلاميذه التي هي هدفه الأعزّ، يعبّر عنها بصور تقليديّة مثل ملكوت الله والحياة والخلاص والأجر والمجد .
أما يوحنا فركّز نظرنا بالأحرى على شخص يسوع. فقد أورد في إنجيله أقوالاً يعلن فيها يسوع أنه ينبوع الحياة: في الصور (4: 13-14؛ 6: 27-63؛ 10: 10، 28؛ 15: 1-8)، كما في الاعلانات الواضحة (3: 15-16؛ 5: 24-26؛ 11: 26؛ 12: 50).وهذه الحياة التي هي الخلاص، تظهر مرارًا وكأنها بدأت في الزمن. غير انه في بداية خطب الوداع ونهايتها، سوف يعلن يسوع الخلاص ليوم عودته، فتوضح مواعيدُه مواعيد الاناجيل الازائية. ((وإذا ما انطلقتُ وأعددت لكم مكانًا أرجع وآخذكم إليّ لتكونوا أنتم أيضًا حيث أكون أنا)) (14: 3). ((أيّها الآب، إن الذين أعطيتني، أريد أن يكونوا هم أيضًا حيث أكون أنا)) (17: 24).

ج - سائر العهد الجديد
سمع تلاميذ يسوع هذه المواعيد، فأسّسوا عليها رجاءهم منذ أيام الكنيسة الأولى. وقد حدّدت خطبةُ بطرس في هيكل أورشليم (بعد شفاء المخلع)، وهي أقدم النصوص المسيحيّة، الخلاصَ المسيحيّ على أنه عودة المسيح ((الذي أعدّ لكم)) (أع 3: 20).
أولاً: بولس الرسول
كان بولس بشكل خاص رسول هذا الرجاء. وموضوع الاتحاد بالمسيح موضوع عزيز على قلبه. وهو يرى هذا الاتحاد في الحياة الاسكاتولوجيّة كما في الحياة الحاضرة. أما نحن فنتوقّف عند الحياة المقبلة حيث لا يفكّر الرسول دومًا بسعادة اللقاء بالربّ. ما يعبّر عنه بولس هو حالة الابرار: هم يشابهون المسيح (فل 3: 21؛ روم 8: 29)، يشاركونه في قيامته (2 كور 4: 14؛ روم 6: 5)، في حياته (روم 6: 8؛2 تم 2: 11)، في مجده (روم 8: 17؛ كو 3: 14)، في ملكه (2 تم 2: 12 نشير إلى حرف الجرّ ((مع)) ، سين في اليونانيّة) فيصوّر الحالة الجديدة للانسان المتجلّي، كما يتوقّف عند سرّ جسده المجيد (1 كور 15: 35-53).
وحين ينظر بولس إلى حدث الخلاص، فهو يتأمّل في انتصار المسيح (1كور 15: 24-28)، في اكتمال جسده (أف 4: 12)، قبل أن يتأمّل في سعادة القديسين. نجد أن بولس يرى دومًا هذا الخلاص على أنه لقاء بيسوع، وهو أمر يكرّره في كل مرّة يتحدّث عن مجيء الربّ. فهو يأمل ((بأن يكون مع الربّ)) (1تس 4: 14-17)، أن ((يحيا معه)) (1تس 5: 10). وعن ((جمعنا لديه)) (2 تس 2: 1)، ((والشركة معه)) (1 كور 1: 7-9). ترتبط هذه النصوص بالفنّ الجلياني وهي قريبة من مزسل (17: 18) وانتظارها للمسيح. كما يرتبط بمواعيد يسوع (جمعنا لديه في 2 تس 2: 1 يعود إلى مر 13: 27، لا إلى موضوع عودة المنفيّين كما في الأدب الجلياني اليهوديّ). فبعد خبرة طريق دمشق، صار يسوع بالنسبة إلى بولس، شخصًا حيًا وربًا يحبّه حتّى الجنون. والسعادة التي ينتظرها، ليست أولاً تجليّ كائنه العجيب ولا نجاح عمله، بل لقاؤه به وجهًا لوجه.
انتظر بولس في أقدم رسائله هذا اللقاء بالربّ ليوم القيامة، في التجمّع العظيم لشعب الله . ولكنه مع الرحلة الرسوليّة الثالثة، أخذ رجاؤه شكلاً جديدًا. ففي 2 كور حيث واجه بولس الموت (1: 8 - 10)، قد فكّر في سرّ هذا الموت. فحدّد الحياة الحاضرة: حياة في المنفى، حياة بعيدة عن الربّ. واستخلص: ((ما دمنا مستوطنين في الجسد، فنحن مغتربون عن الرب. إذن، نفضل أن نترك هذا الجسد لنكون لدى الربّ)) (5: 6-8). وفي فل التي تبدو قريبة من 2 كور في الزمن، بولس هو سجين ينتظر محاكمته. تطلّع إلى امكانيّة الموت. بل تمنّاه: ((الحياة لي هي المسيح، والموت لي ربح. أرغب في الانطلاق فأكون مع المسيح، وهذا هو الأفضل بكثير)) (1: 21-23). نجد في هذين النصّين الفكر الهلنستي ومواضيع قريبة من العالم اليهوديّ في القرن الأول المسيحيّ.
فكرُ بولس واضح وأصيل. منذ الآن، ومنذ موته، ينتظر أن يلاقي يسوع. هذا هو أمله كله. ومع ذلك فهو لا يتخلّى عن انتظار القيامة الأخيرة، لأن الخلاص الشخصيّ لا يتمّ حقًا إلا في فرح يشارك فيه شعب الله كله. ولكن في نظر بولس كما في نظر اللص (لو 23: 43)، يستبق لقاء يسوع المباشر هذا الخلاص فيمنحه نعمة جوهريّة.
ثانيا: سفر الرؤيا
أشار سفر الرؤيا أيضًا إلى اللقاء بيسوع، حين أعلن سعادة المختارين. ولكنه أعطاه بعدًا يختلف باختلاف القرائن. دلّت رؤيتا خلاص على تجمّع المختارين حول المسيح: يتبع الأبكار الحمل إلى حيث يذهب (14: 1-4، هم الأمناء، للايمان، عكس الزانية في ف 17). ويملك الشهداء مع المسيح ألف سنة (20: 4-6). هذه الصور المعروفة في العالم الجليانيّ اليهوديّ، تتحدّث عن مجد المختارين، عن نقاوتهم، عن كرامتهم الجديدة. ويرى القارئ المسيحيّ سعادتهم السامية في حياة حميمة مع المسيح. غير أن النص لا يوضح كل هذا، بل يظّل على مستوى العبارات التقليديّة.
والرسائل إلى الكنائس السبع التي تفتتح سفر الرؤيا (ف2-3)، تشكّل وضعًا جديدًا في هذا الفن الجليانيّ. فالحكم على أمانة الكنائس وتحريضهم بما فيه من تهديد أو تشجيع، بدلاّن على اهتمام رعائيّ هو اهتمام المسؤولين في هذه الجماعات. فيسوع يعلن لكل كنيسة إحدى عطايا مجيئه القريب: ثمرة الحياة (2: 7)، إكليل الحياة (2: 11)، المن والاسم الجديد (2: 17)، الملك (2: 26-28). وآخر هذه العطايا وأجملها، ذاك الذي يقدمّه الرب لكنيسة لا تتحلّى كثيرًا بالأمانة، هو أقرب ما يكون من المواعيد الانجيلية. ((ها أناذا واقف على الباب وأقرع. فإن سمح أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه فأتعشّى معه وهو معي. من غلب فإني أوتيه أن يجلس معي على عرشي)) (3: 20-21).

3- تجمّع المختارين
بدا المؤمنون بيسوع في امتداد رجاء اسرائيل. انتظروا السعادة المسيحانيّة، وهذه السعادة هي التي وعد بها يسوع، والتي اتّخذت وجهًا خاصًا. فسعادة المسيحي هي الله الحاضر في مسيحه.

أ - العهد القديم
إذا كان هناك من سعادة عزيزة على قلب بني اسرائيل والعالم اليهوديّ، فهي سعادة (مرتبطة بالرجاء) التجمعّ النهائيّ لشعب الله. فقبل أن يعرف الأنبياء القيامة والخلود الشخصيّ، أعلنوا تتمّة اسرائيل في يوم الربّ. وقد رأى أشعيا وميخا هذه الثقة على أنها مملكة السلام (اش 11: 6-9؛ 9: 5-6؛ مي 5: 2-5). بعد دمار الهيكل والسبي، أعلن خلفاؤهم عودة المنفيّين (حز 36: 16-38؛ اش 40-48) وإعادة بناء أورشليم (إر 31: 38-40) والهيكل (حز 40-48). ترجّوا خلاص الشعب قبل أن يترجّوا خلاص الأفراد. وأخيرًا جاء وحي عن الحياة الشخصيّة بعد الموت (بداية القرن الثاني ق.م). فأغتنى الأمل ببُعد جديد، ولكنه لم ينزع منه طابعه الجماعيّ. هذا ما تدّل عليه كتب الرؤى بلوحتها الواسعة حول الدينونة العامة وما يتبع هذه الدينونة.

ب - الأناجيل
ولقد حافظ يسوع على هذه الرجاء الجماعي واتمّه.
> إذ أراد أن يعلن سعادة المختارين، استعاد الصور التقليديّة: الدخول إلى الملكوت (مرّات عديدة)، البلوغ إلى أرض الموعد (5: 4)، صور ملموسة عن الوليمة (8: 11؛ 22: 11-13؛ مر 14: 25؛ لو 6: 21؛ 14: 16-24؛ 22: 16-30) أو العرس (22: 1-10؛ 25: 1-13) وعن الفرح في العائلة وفي الجماعة. وحين قرّر المجلس موته على أن يتبع هذا الموت ظهوره في أورشليم، عزم على انتظار الفصح (يو 11: 47-57). وهكذا تجاوز قصد أعدائه (مر 14: 2). فقد رأى في هذا العيد الاحتفال بخلاص شعبه الأول كصورة عن خلاصه النهائيّ (لو 22: 14-16).
> حين تخلّى يسوع عن الصور لكي يتحدّث حديثًا صريحًا، صوّر هذا الخلاص كتحقيق لشعب الله : إعادة بناء الأسباط الاثني عشر (19: 28؛ لو 22: 20). تجميع المختارين (13: 41: 25: 31-46). وإعلانه اللافت في هذا المجال هو نهاية الخطبة الاسكاتولوجيّة: ((وعندئذ تظهر علامة ابن الانسان في السماء... ويشاهدون ابن الانسان آتيًا على سحاب السماء في كثير من القدرة والمجد... ويرسل ملائكته بالبوق العظيم فيجمعون مختاريه من مهاب الرياح الأربع من أقصى السماوات إلى أقصاها)) (24: 30-31؛ مر 13: 26-27).
ندهش حين لا نجد في هذا المقطع تلميحًا إلى القيامة والدينونة ومصير المختارين والهالكين، وهي مواضيع متواتره في الأناجيل. هذا الصمت له معناه: فما يلفت انتباه يسوع في هذه النظرة إلى نهاية الأزمنة، مهمّته الاساسيّة التي هي جمع المختارين وتكوين الجماعة الاسكاتولوجيّة.
> حين أعلن يسوع التجمّع الأخير لشعبه، لم يتوقّف عند التفاصيل. بل اكتفى ببعض سمات أخذها من تمثّلات العالم اليهوديّ، وذلك بمناسبة بعض عظاته. حين أراد أن يحثّ الأغنياء على السخاء تجاه الفقراء، لـمّح إلى لقائهم بهم في الآخرة: ((إصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم، حتّى إذا نفد يقبلونكم في المظال الأبديّة)) (لو 16: 9).
هي فكرة قريبة من فكرة الكنز في السماء (6: 19-20؛ مر 10: 21؛ لو 12: 21)، أو الحساب حول أعمال المحبّة (25: 35-40؛ لو 14: 13-14). غير أن يسوع يتوقّف هنا عند لقاء البشر في يوم الخلاص: إن الفقراء يفتحون باب السعادة للذين رحموهم.
وهناك قول حول لاإيمان بيسوع، يقدّم لنا لوحة مفضَّلة: ((كثيرون يأتون من المشرق والمغرب، ويتّكئون مع إبراهيم واسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات. أما ابناء الملكوت فيُلقون في الظلمة الخارجيّة)) (8: 11-12؛ رج 13: 28-29 مع ترتيب ((تاريخي)) يجعل رذل اسرائيل يستبق قبول الأمم). هذا القول الأصيل الذي يتوافق مع طريقة يسوع وفكره، يقدّم سمتين هامتين. الاولى، إن الشعب الذي يشارك في الوليمة المسيحانيّة يتكوّن من اليهود ومن الأمم (نحن في خطّ الشموليّة الذي بدأ في أشعيا الثاني). الثانية، يجتمع هذا الشعب حول الآباء الذين قطعوا عهدًا مع الرب.
ويظهر ابراهيم في وضع يختلف بعض الاختلاف في مثل الغني ولعازر الفقير (لو 16: 22-26). اتكأ المسكين منذ موته بجانب (في حضن) ابراهيم، إلى مائدة وليمة الفرح. لقد بدأ لقاء المختارين قبل الدينونة، في فردوس الابرار الذي استشفّته بعضُ الأوساط اليهوديّة. وهكذا يستعيد يسوع مواضيع العالم اليهوديّ ليتحدّث عن فرح لقاء المختارين بشكل موجز، ويجدّد هذه المواضيع انطلاقًا من رسالته. فشعب المختارين هذا هو صنعته. هو رئيسه وصانعه وحياته وفرحه.

ج - سائر العهد الجديد
وسار كتّاب العهد الجديد في خطى يسوع، فاستشفّوا فرح الخلاص في تجمّع القديسين.
> حين أرادوا أن يصوّروا هذا الفرح، استعملوا ذات الصور الجماعيّة التي استعملها: الملكوت (أع 14: 22؛ 1تس 2: 12؛ 2 تس 1: 5؛ 1كور 6: 9-10؛ 15: 30؛ غل 5: 21؛ أف 5: 5؛ يع 2: 5؛ 2بط 1: 11)، الوليمة (رؤ 19: 17)، العرس (رؤ 19: 7، 9؛ 21: 2، 9؛ 22: 17). وأضافوا بعض الصور: صورة يسوع، موسى الجديد (أع 3: 15، 22؛5: 31؛ رج مت 2: عب 3: 1-6؛ رؤ 15: 3) الذي يسير في خروج جديد (1كور 10: 1-13؛ لو 9: 31). تتحدّث هذه الصورة عن يسوع مؤسّس شعب العهد الجديد ووسيط الشريعة الجديدة والخلاص الفصحّي. وصورة أورشليم الجديدة التي ترمز إلى تجمّع المختارين في فرح العبادة، نجدها بشكل خاص عند بولس الرسول (غل 4: 25-26)، في عب 11: 16؛ 12: 22- 23؛ 13: 14، وفي سفر الرؤيا الذي يكرّس لها لوحتين متعاقبتين (21: 1-8؛ 21: 9-22: 5). إن صور المدينة الجميلة والعرس والفردوس والليتورجيا السماويّة، تنشر كلها فرح الشعب في العبادة والمحبّة. وهذا الفرح يجد ينبوعه في رؤية الله والحمل (21: 22-23؛ 22: 3-5) وفي تجمّع المختارين الأخويّ.
> كيف يتمّ هذا التجمّع العجيب؟ يربط كتاّب العهد الجديد هذا التجمّع بالقيامة (1 كور 15؛ 2 كور4: 4؛ روم 6: 5؛ 8: 11؛ عب 6: 2؛ 11: 35؛ رؤ 20: 12-13). وتفرّد بولس فتوقّف عند هذا التجمّع ليردّ على اسئلة التسالونيكيّين الذين انشغلوا بمصير الراقدين. تأثّروا ببعض الأفكار اليهودية، فخافوا أن يُحرم موتاهم من بعض أفراح المجيء المسيحانيّ. فهدّأ بولس روعهم: ((إنّا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب، لن نسبق الأموات الراقدين... ينهض الراقدون في المسيح أولاً ثم نحن الأحياء الباقين نُختطف معهم جميعًا في السحب لنلاقي الربّ في الفضاء. وهكذا نكون مع الربّ على الدوام)) (1تس 4: 15-17). إن مجيء المسيح يتيح لكل أخصّائه أن يجتمعوا حوله. وهذا اللقاء يتوق إليه بولس بحرارة وهو ينتظر أن يجد فيه مؤمني كنيسته (1تس 2: 19-20؛ 2كور 1: 7؛ 4: 14)، فيكوّنوا معًا الهيكل المقدّس (أف 2: 21-22) والجسد الكامل في قامته النهائيّة (أف 4: 13-16)

خاتمة
حبن تكلّم يسوع وكتّاب العهد الجديد عن سعادة المختارين، أخذوا صورهم ومواضيعهم لدى الانبياء وفي عالم الجليان اليهوديّ. غير أن يسوع جدّد تجديدًا كليًا هذه اللغة التقليدية. ركّز السعادة الاسكاتولوجيّة على رؤية الله ، على تجمّع شعب الله حول مسيحه. ووجد هذا الجديدُ ينبوعه في المعنى الذي أعطاه المسيح لدوره الشخصيّ: إنه الابن الوحيد المتّحد اتحادًا حميمًا بالآب. إنه ابن الانسان الذي يحمل البشرية كلها ويفتح لها باب الخلاص. كل فرح يكمن فيه لأنه وحده يجمع إخوته ويقربّهم إلى الاب. ((فلا أحد يعرف الآب إلاّ الابن، ومن يريد الابن أن يكشف له)) (11: 27).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM