االفصل السابع :الارتداد والتوبة من أجل الملكوت

 

الفصل السابع

الارتداد والتوبة من أجل الملكوت

إن انتظار ملكوت الله حرّك حماسًا كبيرًا في شعب اسرائيل، هذا الشعب الذي اختاره الله وصار ملكه بعد أن قطع عهدًا معه. وأنشد كتاب التعزية (أش 40-55) بقوّة وعظمة، اقترابَ هذا الملكوت الذي تشوّق الناس إليه، الذي يقوم بفضل عهد أبدي ويفرض على الانسان ارتدادًا عميقًَا وتوبة. ((لذلك سيعرف شعبي اسمي. في ذلك اليوم يعرف أني أنا الذي يقول: هاءنذا. ما أجمل على الجبال أقدام المبشّرين المسمعين بالسلام، المبشّرين بالخير، المسمعين بالخلاص، القائلين لصهيون: قد ملك إلهك)) (أش 52: 6-7). ونقرأ في أش 55: 3، 6-8: ((إني أعاهدكم عهدًا أبديًا على مراحم داود الأمينة... إلتمسوا الربّ ما دام يُوجد، أدعوه ما دام قريبًا. ليترك المنافق طريقه، والأثيم أفكاره، وليتُب إلى الربّ فيرحمه، وإلى إلهنا فإنه يعفو عنه. فإن أفكاري ليست أفكاركم. ولا طرقكم طرقي، يقول الرب)).

1 - يوحنا المعمدان
ما نلاحظه في الأناجيل الازائيّة، هو أن كرازة يوحنا المعمدان التي هي ((بدء بشارة يسوع المسيح)) (مر 1: 1)، تقدَّم وكأنما هي تُحقّق ما أعلنته مقدّمة كتاب التعزية. فحسب هذه الأناجيل، يوحنا هو ((صوت ذاك الذي يهتف في البرية: هيّئوا طريق الرب واجعلوا سبله مستقيمة)) (مر 1: 3؛ رج مت 3: 3؛ لو 3: 4؛ أش 40: 3). حين أورد الانجيل هذه الآية، دعانا إلى أن نقرأ المقطع كله لنفهم كيف نعدّ للربّ طريقه. ((يتجلّى مجدُ الرب، ويعاينه كل بشر)) (أش 40: 5). ((إرفعي صوتك بقوة، يا أورشليم، يا حاملة السعادة. إرفعي صوتك ولا تخافي. قولي لمدن يهوذا: هوذا إلهكم. هوذا السيّد الرب. هو يأتي بقوّة، وذراعه تمنحه السلطان)) (أش 40: 9-10).
إذن، حقّق يوحنا المعمدان نبوءة يرتبط فيها الارتداد وملكوت الله ارتباطًا حميمًا. ولقد تحدّدت رسالته كنداء إلى التوبة والارتداد (ميتانويا). ((كان يوحنا المعمدان يكرز في البريّة بمعموديّة التوبة لمغفرة الخطايا. وكانت كل اليهوديّة وجميع سكّان أورشليم يخرجون إليه ويعتمدون على يده في نهر الأردن معترفين بخطاياهم)) (مر 1: 4-5؛ رج مت 3: 5-6؛ لو 3: 3).
حين كانوا يعتمدون على يد يوحنا، كانوا يقرّون أنهم خطأة، كانوا يعلنون أنهم يريدون أن يتوبوا، كانوا يستعدّون لتقبّل الغفران الذي يستطيع الله وحده أن يعطيه. ومعموديّة الماء ليست علامة الغفران، بل علامة التوبة التي تقود إلى الغفران (3: 11). وإذ دعا يوحنا الناس إلى التوبة، شأنه شأن أنبياء العهد القديم، أعلن في الوقت عينه حضورًا، فدشّن طريق الانجيل، وهذا ما أعطى رسالته طابعًا فريدًا.
وقال يوحنا: ((يأتي بعدي من هو أقوى منّي، وأنا لا أستحقّ أن أحلّ سير حذائه. أنا أعمّدكم بالماء، أما هو فيعمّدكم في الروح القدس)) (مر 1: 7؛ رج مت 3: 11؛ لو 15-16). فعماد ذاك الآتي لا يكون فقط علامة التوبة، بل علامة عطيّة الروح. هنا تُذكر نبوءة هي ذروة سفر حزقيال (36: 23-27): ((أظهر قداسة اسمي العظيم الذي دنّستموه في الأمم، فيعلمون أني أنا هو الرب، حين أظهر قداستي فيكم على عيونهم. وآخذكم من بين الأمم، وأجمعكم من كل البلدان، وأجيء بكم إلى أرضكم. وأرشّ عليكم ماء طاهرًا. فأطهّركم من جميع أصنامكم وما به تنجّستم. وأعطيكم قلبًا جديدًا،وأجعل في أحشائكم روحًا جديدًا، وأنزع من لحمكم قلب الحجر، وأعطيكم قلبًا من لحم. وأجعل روحي في أحشائكم، وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها)). بهذه التنقية التي هي عمل الروح القدس، يُقام ملكوت الله في القلوب المتجدّدة، ملكوت تام وشامل. وذاك الذي يأتي والذي يعلن يوحنا حضوره، لا يدعو فقط إلى التوبة، بل يعطي هذه التوبة (وهذا الارتداد) كمالها. هو يقيم ملكوتًا يفرض مجيئه توبة تامة.
إذن، جعلت رسالة السابق رباطًا بين توبة الانسان وملكوت الله. وأسمعتنا الأناجيل يسوعَ يعلن هذا الرباط: ((توبوا، فملكوت الله حاضر هنا)). في هذا الاعلان، تظهر أبعاد التوبة المسيحيّة. فإذا أردنا أن نكتشفها نقرأ على التوالي أناجيل مرقس ومتّى ولوقا. هناك مُعطى مشترك بين الثلاثة، إلاّ أن كلاّ منهم قدّم هذا المعطى من منظوره الخاص. لهذا نقف في هذا المنظور لنرى موضوع التوبة (والارتداد) المسيحيّة بارزًا فنكتشف طبيعته وثماره وينبوعه.

2 - طبيعة التوبة حسب مرقس
كرز يوحنا بالتوبة، فاجتذبت كرازتُه اضطهاد الأقوياء الذين حكمت عليهم كلماتُه بعد أن رفضوا الارتداد. سُجن (1: 14)، قُطع رأسه (6: 16-29)، وهكذا أتمّ ملء رسالته كالسابق، كإيليا الجديد (9: 11-13). وحين وضع السجنُ حدًا لكرازة يوحنا، أعلن يسوع البشارة في واقع حاضر وفي متطلِّبة تُفرَض على السامعين: ((تمّ الزمان وصار ملكوت الله قريبًا)). هذا هو الواقع. وماذا يطلب هذا الواقع؟ ((توبوا وآمنوا بالبشارة)) (بالانجيل) (1: 15).
تتضمّن هذه الآية بذرة الدراما التي ستسير مسيرتها عبر انجيل مرقس كله، وهي دراما لقاء يسوع بالبشر، وخيار البشر تجاه يسوع. إن مسيرة هذه الدراما سوف تجعلنا نعي بشكل تدريجيّ طبيعة التوبة التي يفرضها حضور ملكوت الله.

أ - ارتداد الايمان
لا يعني الارتداد (ميتانويو) فقط التوبة عن الخطايا، بل تحوّلاً داخليًا يتفتّح على تبدّل في السلوك وعلى اتجاه جديد في الحياة. الارتداد هو انقلاب روحيّ وخُلقيّ.
الخاطئ انسان مال عن الله. خدعته الشهوةُ فخنقت صوت الله (4: 19). لم يعد له أذن يسمع بها. فكيف يعي أنه في الاتّجاه السيِّئ؟ كيف يستطيع أن يتوب بعد أن ابتعد عن الله، وما زال يبتعد؟ ملكوت الله هو له سرّ لا يستطيع أن يفهمه لأنه خارج هذا الملكوت، كما قال يسوع في 4: 11-12: ((لكم أعطي سرُّ ملكوت الله. أما الذين هم في الخارج، فكل شيء يصل إليهم بأمثال، لكي ينظروا نظرًا ولا يبصروا، ويسمعوا سماعًا ولا يفهموا، لئلاّ يتوبوا فيُغفر لهم)).
إن تدخّل الله ضروري لكي ((يعود)) (يرجع) الانسان، لكي يتوب. وهذا التدخّل يعطي الخاطئ وسيلة جديدة من أجل اللقاء، مع ذلك الذي مال عنه، والانجذاب بعظمته. وبدون تدخل الله هذا، بدون انجذاب يكون ثمرة هذا التدخّل ويحدّد اتجاهًا جديدًا لدى الخاطئ، لا يني هذا الخاطئ يتبع شهوته، ويرفض التوبة عن خطاياه. إذن، العنصر الأول في الارتداد ليس اصلاحًا خلقيًا، ولا هربًا من الشرّ. إنه لقاء مع مرسل الله وتقبّل لكلمته.
هذه الملاحظة تبرز معنى نداء يسوع الذي يدعو إلى التوبة ويدلّ على الفعل الأساسيّ الذي يحرّك سائر الافعال، عنيتُ به فعل الايمان. الارتداد هو قبل كل شيء إيمان بالبشارة التي يعلنها يسوع. وهذه البشارة هي حضور ملكوت الله. تلك هي بشارة تجعل ذاك الذي يسمعها يتحوّل، شرط أن يؤمن بالذي يعلنها.
جعلنا انجيل مرقس نستشفّ كيف أن يسوع يحرّك الايمان بشخصه، وكيف يكشف شيئًا فشيئًا حضور هذا الملكوت. فاقتراب الملكوت هو مجيء يسوع. واقتبال الملكوت هو اقتبال يسوع بالايمان. ولكن الجميع لا يقتبلونه فيقسّون قلوبهم. والسبب هو أن الايمان له شروطه. هناك مواقف نأخذ بها، وأخرى نرذلها. فالايمان بشروطه يشكّل الوجهة الأولى في التوبة، يشكّل مبدأ التوبة والارتداد إلى الله. هذا ما نتوقّف عنده أولاً. ثم نرى التحوّل الذي يفرضه الايمان بيسوع. هذا التحوّل هو الوجهة الثانية في الارتداد، هو كمال الارتداد.
ولكن قبل أن نتحدّث عن مبدأ الارتداد نعود إلى 4: 11-12. استعاد يسوع أقوالاً وجّهها الله إلى النبي أشعيا حين دعاه. نُبِّه أشعيا أن كلماته لن تُحدث لدى سامعيه سوى تقسية القلب. وعرف يسوع أيضًا، شأنه شأن النبيّ، أنه سيصطدم بقساوة القلب. فالعالم الخاطئ سيكون أعمى وأصمّ أمام السرّ الذي يُعلنه ويجعله حاضرًا. فبدون عطيّة مجانيّة من الله، لا يستطيع الانسان أن يخرج من حال الخطيئة. ويجعل يسوع تلاميذه يلاحظون استحالة هذا الخروج. لا يريد يسوع أن يقول إنه يستعمل الأمثال لكي يستحيل على سامعيه أن يفهموا. بل يقول فقط إن كل ما يتعلّق بالملكوت هو لغز للذي هو في الخارج، للانسان الخاطئ. وما لا يقوله يسوع، ولكنه يظهر في مسيرة الدراما، هو أن المقاومة التي تتصدّى لكلمته ستخدم تحقيق مقاصد الله: فموت المسيح الذي هو النتيجة الأخيرة في هذه المقاومة، هو بالنسبة إلى الخاطئ، ينبوع نعمة يردّه إلى الله ويفتح له ملكوت الله.
ب - مبدأ الارتداد: الايمان وشروطه
أيقظ صوت يوحنا انتباه اسرائيل: سيأتي شخص بعد يوحنا، وهو يعطي الروح القدس (1: 7-8). وكانت دعوة ليفتحوا آذانهم وقلوبهم. غير أنهم لم يتجاوبوا كلهم مع هذه الدعوة بالشكل عينه. وهذا ما يدلّنا عليه مرقس منذ بداية انجيله. ما إن أطلق النداء الذي يدشّن كرازة يسوع حتى أعطانا مثلاً عن الخضوع التام. دعا يسوع أربعة صيّادين ليتبعوه. ((حالاً ترك سمعان وأخوه اندراوس الشباك وتبعاه... وترك يعقوب ويوحنا أخوه أباهما زبدى في القارب مع العمّال وتبعاه)) (1: 17-20). وسيفعل الشيء عينه ذاك العشّار الذي اسمه لاوي (2: 14، هو متّى في مت).
أما الموقف المعاكس كل المعاكسة لهذا الموقف، فهو موقف بعض الكتبة. جعل يسوع الجموع تدهش بقوّة كلمته، فتثبّتت سلطة تعليمه. بكلمة واحدة خلّص الممسوس من شيطانه، بكلمة واحدة شفى المرضى (1: 27، 31، 34). لهذا، ((راح الناس كلهم يطلبونه))، ((وجاؤوا إليه من كل مكان)) (1: 37، 45). ولكن حين أعلن لمخلّع جاؤوا به إليه: ((يا ابني مغفورة لك خطاياك))، كانت ردة فعل الكتبة انغلاقًا وقساوة قلب: ((إنه يجدّف. من يقدر أن يغفر الخطايا إلا الله وحده)) (2: 7)؟
ولكن هل يبدّلون موقفهم حين يرون يسوع يقرأ في القلوب ويعطيهم بشفائه المخلع البرهان الساطع أن ((ابن الانسان يستطيع أن يغفر الخطايا)) (2: 8، 11)؟ كلا ثم كلا. فهم سوف يراقبون هذا المعلّم الشاب وتلاميذه، وينتقدون (2: 16، 18، 24). وما يلهم تصرّفاتهم هو سوء النيّة. في يوم سبت، دخل يسوع إلى المجمع حيث كان انسانٌ يده يابسة. ((كانوا يراقبونه هل يشفيه يوم السبت لكل يستطيعوا أن يتّهموه)) (2: 2). وقام يسوع بمجهود آخر علّهم يفهمونه. قال: ((هل يحلّ فعل الخير أم فعل الشرّ يوم السبت، خلاص حياة أم هلاكها؟ أما هم فظلّوا صامتين. حينئذ أجال يسوع فيهم نظر غضب مغتمًا لتصلّب قلبوهم، وقال للرجل: مدّ يدك، فمدّها، فعادت يده صحيحة. حينئذ خرج الفريسيون، وفي الحال ائتمروا عليه مع الهيرودسيين ليهلكوه)) (3: 4-6).
متذ الآن، قد انتهى كل شيء. أعلن هؤلاء أن يسوع فيه روح نجس. ونسبوا إلى رئيس الشياطين أعمالاً تدلّ على حضور الروح القدس في يسوع، وهذا تجديف أعلنه يسوع خطيئة لا تغتفر، لأنها ترفض النور، ترفض كل ما يجعل التوبة (والارتداد) ممكنة (3: 22-30). فالمعجزات لا فائدة منها لأناس بمثل هذا الاستعداد. هذا ما أعلنه يسوع وهو باك (8: 11-12)، وحذّر تلاميذه من هذا الموقف العميق الذي سمّاه خمير الفريسيين (8: 15).
وسيقدّمون برهانًا أخيرًا عن هذا الموقف، موقف الرفض تجاه الحقيقة، عند الصليب، فيهزأون من المصلوب. ((وكذلك أيضًا رؤساء الكهنة والكتبة، كانوا يسخرون منه، في ما بينهم ويقولون: خلّص آخرين ولا يقدر أن يخلّص نفسه. هو المسيح، ملك اسرائيل! فلينزل الآن عن الصليب لنرى ونؤمن)) (15: 31-32). لقد كذبوا حين أكّدوا أنهم سيؤمنون إن رأوا. إنهم شهود الآن أنه خلّص آخرين. أشاروا بذلك إلى معجزات أجراها يسوع. ومع ذلك لم يؤمنوا. لماذا؟
السؤال خطير، وقد أجاب عليه يسوع يوم وقف التلاميذ بينه وبين الأطفال. ((رأى يسوع ذلك فاغتاظ وقال لهم: دعوا الأولاد يأتون إليّ، لا تمنعوهم، فإن لمثل هؤلاء ملكوت الله. الحقّ أقول لكم: من لا يقبل ملكوت الله مثل طفل لا يدخله)) (10: 14-15). ذاك هو الاستعداد الأساسيّ الذي بدونه لا ارتداد ممكنًا، ولا دخول إلى ملكوت الله. يجب أن نكون مثل الأطفال، أن نكون منفتحين. وغيظ يسوع في هذه المناسبة يُبرز أهميّة الدرس الذي أراد أن يعطيه لتلاميذه.
وتجاه انفتاح القلب هذا على عطيّة الله، هناك عوائق يندّد بها يسوع. لقد كشف مثلُ الزارع ما يمنع الكلمة من أن تحمل ثمرًا (4: 14-19). الغنى هو أحد هذه العوائق. وجاءت عدّة أحداث انجيليّة تصوّر بشكل ملموس تعليم هذا المثل. تعلّق الجراسيون بخنازيرهم، فما فكّروا بمعنى الحدث العجائبيّ الذي يحرمهم منها، فطلبوا من يسوع أن يبتعد عن تخومهم (5: 15-17). والشاب الغني الذي لا ينفعه شيء سوى أن يكون فقيرًا ليتبع يسوع، مضى حزينًا ورفض أن يتجرّد من أمواله. فأعلن يسوع ملحًا: ((ما أصعب على الغني أن يدخل ملكوت الله)) (10: 21-25).
ولكن إذا كان الغنى عائقًا، فهو كذلك بقدر ما يجعل الانسان راضيًا عن نفسه. وهناك اكتفاء على المستوى الروحي أكثر خطرًا من الاكتفاء بالمال. والانسان الذي يريح ضميره لأنه يظنّ أنه يمتلك الحقيقة والبرّ، لا يمكن أن ينفتح على العطيّة التي يحملها يسوع، على هذه العطيّة المجانيّة التي بدونها نبقى خارج الملكوت وتستحيل علينا التوبة والرجوع إلى الله (4: 11-12).
ذاك هو مفتاح موقف الفريسيين. امتلكوا تقليدًا هو قاعدة حياة لأنه شرح عمليّ ومفصَّل لشريعة موسى. ونسوا أن يتساءلوا إن كان الروح الذي ينعش كلمة الله، هو ذاته الذي ينعش التفسير الذي يساعدنا على فهم الكلمة الفهم الحسن وممارستها ممارسة أفضل. ولكنهم راحوا بفضل تقليدهم يميلون عن شريعة الله، بل يلغونها (7: 6-13). هذا ما لامهم يسوع عليه بشدّة. وندّد بشكل خاص بالرياء الأساسيّ الذي تحدّث عنه أش 29: 13، والذي حصر العبادة في طقوس خارجيّة.
وهذه الممارسة الخارجيّة هي في نظر الفريسيين العلامة التي تدلّ على البرّ. ظنّوا نفوسهم أبرارًا بفضل هذه الممارسة، واهتموا بطقوس التطهير، لا بنقاوة القلوب. وجعلتهم أمانتهم لهذه النصوص يرضون عن نفوسهم، بدلاً من أن يعوا خطيئتهم وحاجتهم إلى التوبة.
وإذ أراد يسوع أن يوقظ هذه الحاجة إلى التوبة، دعا سامعيه إلى انقلاب أول: يجب عليهم أن يغيّروا نظرتهم إلى الطهارة. فالطهارة المطلوبة هي طهارة القلب (7: 18-23). ومن تفحّص قلبه لا يمكن أن يكون راضيًا عن نفسه. هو يعي خطيئته وحاجته إلى الخلاص. ويسوع قد جاء إلى مثل هذا الانسان، إلى جميع الذين يحتاجون إلى الخلاص. جاء يدعو الخطأة إلى التوبة (2: 17).
لقد حمل يسوع إلى هؤلاء الخطأة الخلاص شرط أن يقرّوا بخطيئتهم ويؤمنوا به. وهذا التواضع وهذا الايمان اللذان رفضهما الفريسيون، يشكّلان مبدأ التوبة والارتداد: حيث يجدهما يسوع يمارس مهمّته كالمخلّص. ومثَل الوثنيّة التي نالت شفاء ابنتها بتوسّل واثق وجواب متواضع يفهمنا هذا الأمر (7: 25-29). كأني بها ((أجبرت)) يسوع على أن يمنحها ما طلبت بفضل إيمانها المتواضع. لهذا لا يني يسوع يدعو إلى الايمان أولئك الذين يأتون إليه. حينئذ تستطيع قدرته الخلاصيّة أن تجعل ((كل شيء ممكنًا للذي يؤمن)). هذا ما قاله يسوع لوالد الولد المصروع (9: 23). إذا أردت أن تخلص، يجب أن تؤمن أن كل شيء ممكن لله (10: 27) وأن تصلي بإيمان (11: 22-24).

ج - تكملة الارتداد: شروط الايمان
أن يكون الايمانُ بيسوع الجوابَ الذي ينتظره منّا، وأن يكون هذا الايمان الارتداد الأساسيّ الذي إليه يدعونا، هذا ما يوضحه مرقس حين يجعل من اعتراف بطرس قلب انجيله. لقد كشف عن نفسه لتلاميذه، على مهل، بواسطة كرازته ومعجزاته، وعبر الجدالات والمقاومات. كشف عن نفسه كما أعلنه يوحنا. ليس يسوع هو يوحنا الذي قام من بين الأموات. وليس نبيًا قبل سائر الأنبياء، كما ظنّت الجموع (6: 14-16). إذن، من هو؟ أجاب بطرس: ((أنت المسيح)) (8: 29).
إذا كان هذا الكلام هو قلب انجيل مرقس، إلاّ أنه ليس الذروة في هذا الانجيل بل محطّة تضمّ مرحلتين. فالايمان بالمسيح هو تقبّل الملكوت. وهو مبدأ الارتداد الذي يفتح الباب إلى الملكوت. ولكنه يفرض أيضًا اتّباع المسيح حتى النهاية للدخول إلى ملكوته الابديّ. واتّباع المسيح يعني أن نتركه يكمّل ارتدادنا، أن نترك مثَله يبدّل سلوكنا، أن نترك حبَّه يُحدث فينا انقلابًا تامًا فيجعل منّا شهوده بحيث يؤمن الجميع ويخلصون (16: 15-16).
لهذا، وما إن أعلن بطرس ايمانه، حتّى كشف له يسوع المضمون السريّ لهذا الايمان. فهذا المسيح الذي اعترف به الآن، سيُتمّ رسالته مارًا في الألم والموت والقيامة (8: 31). حينئذ بيّن بطرس أن ارتداده ما زال ناقصًا: فتجرَّا ولام يسوع: ((حاشا لك يا رب)) (8: 32). أما يسوع فأراد أن يبيّن له الانقلاب الروحي الذي يفرضه الايمان: وجّه إليه كلامه وسمّاه ((شيطان))، لأنه يعارض مخطط الله كما يفعل الشيطان: ((ليست أفكارك أفكار الله، بل أفكار الناس)) (8: 33؛ رج أش 55: 8).
فما هي إذن أفكار الله؟ نجد الجواب في تعليم يسوع كما أورده الازائيون الثلاثة فيقرّبونه من خبر اعتراف بطرس. ((من أراد أن يخلّص نفسه يخسرها من أجلي ومن أجل الانجيل)) (8: 35). اتّباع يسوع هو سير في اتجاه يعاكس كل المعاكسة ذاك الذي يتبعه البشر طوعًا. ولكننا عند ذاك نصبح شهود الانجيل، شهود المسيح، شهود الخلاص الذي جاء المسيح يحقّقه. وما هي عمليًا هذه الطريق التي فيها نتبع المسيح ونحتقر الحكمة البشريّة؟ حدّثنا عنها يسوع مستعملاً صورة تدلّ كيف يصنع هو نفسه خلاصنا. ليست بالحريّ صورة بل واقع وهو حمل الصليب الذي عليه سيموت. وما يعني في الحياة اليوميّة تعليم يسوع للجموع: ((من أراد أن يتبعني فليحمل صليبه)) (8: 34)؟ نحن نفهم معنى هذه الصورة التي أعطاها يسوع لتلاميذ في ظرفين دلّوا فيهما على أن أفكارهم ورغباتهم ما زالت أفكار البشر ورغباتهم. كل يريد أن يكون الاكبر، ويتمنّى ذلك. حينئذ أعطاهم يسوع شريعة الملكوت والارتداد المتواصل الذي تفرضه هذه الشريعة: ((من أراد أن يكون الأول، يجعل من نفسه آخر الجميع وخادم الجميع)) (9: 35؛ رج 10: 42-44). وحين يصنع هذا، يقتدي بـ ((ابن الانسان الذي ما جاء ليُخدم، بل ليخدم ويبذل حياته فدية عن الكثيرين)) (10: 45).
إن قاعدة السلوك المعطاة بهذا الشكل، ترتبط بارتداد في النظرة إلى المسيح. ترذل النظرة إلى مسيح زمنيّ. هنا نتذكّر السؤال الماكر الذي طرحه الفريسيون على يسوع في شأن الجزية لقيصر. فعلّم يسوع بوضوح ما بعده وضوح أن إعطاء ما لقيصر لقيصر لا يمنعنا من اتّباع طريق الله فنرد لكل واحد ما يجب علينا (12: 14-17). أي نخضع لشريعة الملكوت في حبّ الله وحبّ القريب (آ 28-33).
وأخيرًا، هناك ارتداد أخير يجب أن نقوم به. لمّح إليه يسوع حين سأل الفريسيين عن المسيح الذي هو ابن داود: إذا كان داود يُسمّي المسيح ربّه، فكيف نستطيع أن نقول إن المسيح هو ابن داود (آ 27)؟ فالجواب الذي لم يستطع أحد أن يعطيه، نقرأه في مثل الكرّامين القتلة: فآخر المرسلين إلى كرم الرب، إلى شعب اسرائيل، هو الابن الحبيب (12: 6). إذن، ابن الانسان هو ابن الله. هذا ما سيقوله يسوع، في الساعة الحاسمة، أمام المجلس الأعلى (14: 62)، فيعتبر هذا المجلس كلامه تجديفًا (14: 64).
فتأكيد يسوع يفرض على اليهودي، كما يفرض على كل انسان يحمل في قلبه حسَّ الله وتساميه، انقلابًا في فكره الديني. هناك هوّة سحيقة لا يمكن اجتيازها، بين الله الذي هو قدّوس اسرائيل وخالق الكون، وبين الانسان الذي هو خليقته الضعيفة وخليقته الخاطئة. وأن يكون انسانٌ ابن الله، فنحن لا نستطيع أن نقوله إلاّ عن طريق الاستعارة. ولكي نعبّر عن اختيار الله لشعب أو لفرد من الأفراد. ولكن أن يقول انسان عن نفسه إنه الله، وأن يدعو الله أباه، فهذا ما لا يمكن أن نتخيّله ولا أن نفكّر فيه. وإن قبلنا بهذا القول، فما يصبح كلامنا حين يسمح ابن الله هذا بأن يُصلَب؟
ومع ذلك، فهذا هو السرّ الذي يجب أن نؤمن به لكي نبلغ إلى الخلاص. هذه هي البشرى التي يجب أن نشهد لها في العالم كله (16: 15-16)، مؤكّدين أن الذي صُلب هو الذي قام (16: 6)، وجلس عن يمين الله (16: 13). ونفهم الآن بشكل أوضح لماذا أعلن يسوع ((توبوا)) قبل أن يقول: ((آمنوا بالبشارة)) (1: 15). فالايمان مستحيل قبل الاستعداد للتخلّي عن فكرنا والانفتاح على فكر الله.
ومن يعطينا قوّة الارتداد والتوبة هذه؟ ذاك الذي يدعونا، ذاك الذي تكشف كلمته سرّ الملكوت، ذاك الذي يفتح موته أمام جميع البشر الدخول إلى هذا الملكوت. ويدلّ مرقس على فاعليّة هذا الموت حين يورد كلمة تلفّظ بها قائد المئة تجاه يسوع الذي أسلم الروح: ((في الحقيقة، كان هذا الرجل ابن الله)) (15: 39).إن الوثنيّ الذي يتكلّم بهذا الشكل (مهما تكن قيمة الألفاظ التي استعملها) تدلّ على انقلاب باطنيّ عميق. ويشهد أن الرجل الذي صُلب الآن، لأنه قال عن نفسه إنه ابن الله، أهل لأن نصدّقه. آمن الضابط الروماني بما قاله يسوع. آمن بأن هذا الرجل هو ابن الله.
كل انسان يعيش دراما يسوع سامعًا شهادة مرقس، يستطيع أن يؤمن إيمان قائد المئة، إن هو لم يُغلق قلبه على مثال الفريسيين. وسيكون إيمانه مبدأ ارتداد تام يفتح أمامه باب الملكوت، باب الحياة (9: 43، 45، 47).

3 - ثمار الارتداد حسب متّى
نجد في مت ذات التعاليم التي وجدناها في مر، ونصوص الانجيلي الأول تتوازى مع نصوص الانجيل الثاني. فيسوع هو في مر الملك الذي فيه صار الملكوت حاضرًا، هو الملك الذي جاء يطلب الانسان الخاطئ ويدعوه إلى خيار يقوم به. والارتداد الأساسي الذي إليه يدعو يسوع هو الايمان. وقد كشف مرقس كل متطلّبات هذا الايمان.
وفي مت، يسوع هو الملك أيضًا. غير أن تعليمه يتوجّه إلى جماعة الذين آمنوا به. إلى الجماعة التي هي ملكوته على هذا الأرض. ونحو هذا الهدف يتوجّه تعليمه، أي يجعل من جماعته جماعة رسالة تشهد فتحرّك شهادتُها ارتداد البشر من كل الأمم (28: 19-20). والسامع الذي يتوجّه إليه متّى ليس انسانًا عائشًا خارج الملكوت، بل في داخل الملكوت. هو ((ابن الملكوت)) (13: 38) وهو يذكّر هذا التلميذ بارتداد يدخل بواسطته إلى الملكوت، ويدعوه إلى أن يحمل الثمار التي يفرضها هذا الارتداد (3: 8. هذا ما قال يوحنا للفريسيين). نشير إلى أن لفظة ((ثمرة)) ترد 18 مرة في مت، و11 مرّة ((أثمر، حمل ثمرًا)) (لا يستعملها مرقس سوى 5 مرات).
إن قطب انجيل متّى هو إعلان البرّ المسيحيّ الذي هو ثمرة الارتداد ومتطلّبة الايمان. وهذا البرّ هو ارتداد متواصل. إن يسوع يحدّد البار كذلك الذي يبحث، ويبحث دومًا (يطلب) عن ملكوت الله وبرّه (6: 33). هذا هو السبب الذي لأجله يشدّد متى بشكل خاص على دينونة برّ الفريسيين الكاذب (5: 20). مثل هذا البرّ يعارض البرّ الحقيقيّ الذي نجد مثاله الوحيد في يسوع. والفريسيون هم مرآة فيها يشاهد المسيحيّ ما يمكن أن يصير إليه إن هو توقّف عن مسيرة الارتداد والتوبة.

أ - البرّ الكاذب يجعل الارتداد عقيمًا
((أثمروا ثمرًا يليق بالتوبة ولا تقولوا في نفوسكم: إن أبانا ابراهيم. فالفأس على أصول الأشجار. فكل شجرة لا تثمر ثمرًا صالحًا تُقطع وتُلقى في النار)) (3: 8-10). هذا ما قاله يوحنا المعمدان للفريسيين الذين استندوا إلى امتيازهم بأنهم أبناء ابراهيم، وهو امتياز يجعلهم أبناء الملكوت. ولكن إن كان إيمانهم عقيمًا فسيُطرحون خارجًا كما قال لهم يوحنا وسيقول لهم يسوع (3: 10).
إن موقف الفريسيين الذي صوّره يسوع هو موقف الانسان الراضي عن نفسه. ذاك هو الابن الذي قال ((نعم)) لأبيه ولكن رفض أن يطيعه ويذهب إلى الكرم (21: 30). ذاك هو المعلّم الذي يكتفي بأن يعلّم الآخرين ويجعل على أكتافهم الأحمال الثقيلة. الذي لا يريد أن يحرك هذه الأحمال بإحدى أصابعه. الذي لا يجعل حياته توافق تعليمه (23: 3-4). ذاك هو المرائي الذي يكتفي بأعمال الفضيلة الخارجيّة التي تلهمها رغبة بأن يراه الناس ويمجّدوه، دون أن يفعل شيئًا ممّا تطلبه نقاوة القلب (23: 5، 23-28). وأفضل الأعمال من صدقة وصلاة وصوم (6: 2، 5، 16) هي فاسدة بسبب الكبرياء التي تلهمها. وظاهر البرّ هذا الذي يُرضي الفريسيين، يجعلهم بعيدين كل البعد عن الارتداد والتوبة.
فنداء يسوع إلى التوبة يجعلهم صمًا لا يسمعون. فقد أشار إليهم يسوع في الدرجة الاولى حين قال: ((أصمّوا آذانهم، وأغلقوا عيونهم لئلاّ يروا بعيونهم، ويسمعوا بآذانهم، ويفهموا بقلوبهم فيرتدّوا فأشفيهم)) (13: 15). قرأ يسوع أش 6: 9-12 فأعطى متّى لكلامه تفسيرًا يختلف بعض الشيء عن تفسير مر 4: 11-12. في مر، شدّد يسوع على أنه لا يمكن للخاطئ أن يرتدّ ويتوب بدون موهبة مجانيّة من عند الله. أما مت فشدّد على مسؤوليّة الخاطئ الذي ينغلق بإرادته على كلمة الله وعلى موهبته المجانيّة. إن هذا الاختلاف يدلّ على غنى كلام المسيح. والكنيسة حين تأمّلت هذه الكلمات لكي تحيا منها، اكتشفت غناها. فالوضع الذي تلفّظ فيه يسوع بهذه الكلمات يحدّد معناها الأول. وحين طبّقتها الكنيسة على وضع آخر، اكتشفت فيها معنى آخر، وهو معنى مهمّ أيضًا.
إن آية يونان هي بدون فائدة لمثل هؤلاء العميان بإرادتهم (12: 38-42). فتجاه آية القيامة عينها، استنبطوا طوعًا الكذب لكي ينكروها (28: 11-15). والمؤمن الذي ارتدّ بعطية مجانيّة من عند الله، يحتاط لئلا تصبح هذه النعمة عقيمة إن هو افتخر بهذه النعمة وكأنها منه. بل عليه أن يشهد لمجانيّة هذه النعمة ليدعو جميع البشر لقبولها. ذاك هو البرّ الحقيقيّ.

ب - البرّ الحقيقي والارتداد المتواصل
نموذج البرّ الحقيقيّ هو يسوع الذي حدّد نفسه في كلامه إلى تلاميذه: ((احملوا نيري عليكم وتعلّموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب)) (11: 29). وأعطى مثالاً ساطعًا عن هذا التواضع حين دشّن كرازته بقبول عماد يوحنا. رفض يوحنا حين رأى الادوار مقلوبة. ولكن يسوع أكدّ أنه تواضع فأخذ وضعنا، تواضع فأخذ على عاتقه خطايانا (26: 28). فبرّرنا. العماد هو رمز الآلام (مر 10: 38؛ لو 12: 5) التي بها يتمّ كل برّ.
فإذا أراد الانسان أن يكون متواضعًا كالرب، وجب عليه ((أن يتحوّل ويصير مثل طفل)) (18: 3) وهذا الارتداد ليس عملاً نقوم به مرّة واحدة. فعندما نصير صغارًا، يجب أن نبقى صغارًا: نصير صغارًا، نصير فقراء بالروح (5: 3)، نصبح جياعًا وعطاشًا إلى البرّ (5: 6). هذا لا يعني موقفًا جامدًا نقيم فيه ولا نتحرّك. بل هو اندفاع متواضع وواثق يتجدّد يومًا بعد يوم، وهو اندفاع ينتج من إحساسنا بدعوتنا وعجزنا، وننفتح على النعمة التي تجعلنا جديرين بأن نتجاوب مع دعوتنا ونبلغ إلى البرّ الحقيقيّ متممين إرادة الآب الذي في السماوات (7: 21). وهذه الارادة هي أن نكون كاملين كما أن الآب السماوي كامل هو (5: 48). أي تحوّل يفرض كل هذا! وهكذا نفهم أن الارتداد عمل لا يتوقّف. غير أن هدف هذا الارتداد ليس كمالنا. فقلب هذا الارتداد هو مجد الله والرغبة في أن يمجّد جميعُ البشر الآب الذي في السماوات (5: 16). هنا يلتقي التواضع والحبّ في موقف بنويّ هو ثمرة ارتداد متواصل وكمال البرّ المسيحيّ.
ويظهر هذا الارتداد المتواصل في علاقاتنا مع القريب. نكون كاملين مثل الآب حين نكون رحومين مثله. وتطويبة الرحماء ترتبط بتطويبة العطاش إلى البرّ (5: 6-7). فالرحماء يعملون من أجل البرّ الذي يعطشون إليه، الذي يقوم بتمجيد الآب وإقامة ملكوته (موضوع صلاتنا، 6: 9-10). إن الرحماء يكشفون وجه أبيهم (5: 45). ولكن سلوكهم يفترض انقلابًا في نظرتهم البشريّة إلى البرّ.
البرارة تقوم بأن نحبّ الذين يحبّوننا! والذين يبغضوننا ويضطهدوننا؟ لا نردّ لهم الشرّ بالشرّ كما تطلب شريعة المثل (5: 38؛ رج خر 21: 24). ونصلّي لأجلهم صلاة تلهمها المحبّة (5: 44). هذا يفرض أن الانسان تجدّد، وصارت أعماله أعمال الله. وتظهر المحبّة بين الإخوة (ولو كانوا أعداء) بغفران يتجدّد سبعين مرة سبع مرات (18: 22). هذا ما قاله يسوع لبطرس، واسند كلامه بمثل الخادم الذي لا يرحم أخاه (18: 23-25). وينهي كلامه قائلاً: ((هكذا يصنع بكم أبي السماوي إن لم يغفر كل واحد منكم لأخيه من أعماق قلبه)) (18: 35). وتأتي الصلاة الربيّة كصدى لهذا المثَل فتحفر الدرس في قلب التلاميذ. نحن نغفر كما غُفر لنا. فمن رفض أن يغفر لا يستطيع أن يدعو الله أباه، ولا يرجو غفرانه (5: 12، 14، 15).
وارتداد القلب هذا يتجذّر في ارتداد النظر والعين. نتطلّع إلى القريب، إلى الجائع والعطشان، إلى المريض والعريان، ونرى في كل واحد أخًا من إخوة يسوع. تلك هي لوحة الدينونة الأخيرة. وهنا ينكشف برّ الله، البرّ الخلاصي الذي لا يرذل من الملكوت إلا الذين رفضوا الاقتداء برحمة الآب. وهنا تتمّ الدينونة التي ترافقنا طوال حياتنا فتحكم على موقفنا تجاه الصغار في هذا العالم. فإذا أردنا أن يكون هذا الموقف ((بارًا))، يدعونا يسوع لكي نرى، نراه هو ملك الملكوت الابدي، ابن الانسان، وابن الله (25: 31، 34) في أصغر إخوته (30: 40، 45). كل ما نعمله (أو لا نعمله) لأحد هؤلاء الصغار، فنحن نعمله (أو لا نعمله) للمسيح.
إذن، الحياة المسيحيّة هي كلها ارتداد. وبدون هذا الارتداد لا نستطيع أن نكون شهود رحمة الآب. قد يتغلّب علينا النعاس مثل عذارى الانجيل اللواتي انطفأ مصباحهن (25: 5؛ رج 5: 15-16)، أو مثل بطرس ورفيقيه خلال النزاع (26: 40). هو نعاس روحيّ يسقط فيه الراضون عن نفوسهم. هو تجربة نسقط فيها إن لم نسمع نصيحة يسوع: ((إسهروا وصلّوا)) (26: 41).

4 - ينبوع الارتداد حسب لوقا
عرفنا كيف نصبح أبناء الملكوت، وكيف نظلّ كذلك. والارتداد يُجمل الشروط المطلوبة. يعبّر عن انقلاب في الحياة المسيحيّة، وهو انقلاب يجعلنا ودعاء ومتواضعين مثل يسوع، يجعلنا أطفالاً نطلب قبل كل شيء مجد الآب الذي في السماوات.
نلاحظ أن لفظة ((ميتانويا)) (ارتداد، توبة) ترد 5 مرات عند لوقا، مرتين عند متى، ومرّة واحدة عند مرقس. أما الفعل فيرد 9 مرات في لو، 5 في مت، 2 في مر. هذا يدلّ على موضوع الارتداد في الانجيل الثالث. مع العلم أن موضوع الارتداد يرد في نصوص قد لا تستعمل اللفظة التي ذكرنا.
فإذا أردنا أن نفهم المنظور الخاص بلوقا، نذكر رباط الانجيل الثالث بسفر الأعمال. وهذا الرباط هو عطيّة الروح القدس. وهذه العطيّة هي هدف عمل يسوع كما حدّثنا عنه الانجيل. وهذه العطيّة التي تمّت يوم العنصرة هي مبدأ تفتّح الكنيسة على ما يروي سفر الأعمال. امتلأ يسوع من الروح (لو 4: 1)، فجاء لينقل إلينا هذا الروح الذي هو عطيّة الآب السامية (11: 13)، وليشعل النار على الأرض (12: 49). حين عبر يسوع في عماد الآلام (12: 50) أنجز مخطّط الله: عمّدنا في الروح القدس والنار (3: 16)، لكي يرى كلُ بشر خلاص الله (3: 6؛ رج أش 40: 51). لقد شدّد لوقا بشكل خاص على شموليّة الخلاص. وفي نهاية انجيله حدّد مهمّة الرسل على أنها ((كرازة لجميع الأمم باسم يسوع لارتداد من أجل مغفرة الخطايا)) (24: 47؛ ق مت 28: 19). هذا يعني أن الخلاص هو مسكونيّ، والارتداد شرطه الضروريّ.
بما أن الخلاص مسكوني (يشمل الكون)، فإنجيل لوقا هو انجيل الفرح. وبما أن الارتداد هو شرط الخلاص، انجيل لوقا هو انجيل التجرّد المطلق. ولكن كيف يتواجد هذان المناخان المختلفان، مناخ الفرح، ومناخ التجرد؟ هنا نعود إلى ينبوعهما المشترك الذي هو رحمة الآب. وهذه الرحمة هي التي تحرّك فينا الارتداد، وتجعلنا نشارك في فرح الله من خلال جميع التجرّدات.

أ - الارتداد شرط فرح الخلاص
أبرز لوقا متطلّبات الايمان بشكل ساطع. فتفوّق على متّى ومرقس. فالارتداد ضروري: ((أقول لكم: إن لم تتوبوا تهلكوا جميعكم)) (13: 3، 5). والارتداد ملحّ. ستُقطع التينة العقيمة إن لم تثمر ثمرًا (13: 6-9). والارتداد يفترض تجرّدًا من كل شيء. ((من لا يتخلّى عن كل ماله، لا يمكنه أن يكون تلميذًا)) (14: 33). والارتداد لا ندامة فيه ولا تراجع: ((كل من وضع يده على المحراث ونظر إلى الوراء ليس جديرًا لملكوت الله)) (9: 62). والتجرّد التام يكون تجردًا يوميًا: ((من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني)) (9: 23).
إن نقطة انطلاق هذا الارتداد المطلق هو الاحساس بالخطيئة الذي جعل العشّار يتلو هذه الصلاة المتواضعة: ((يا إلهي، ارحمني أنا الخاطئ)) (18: 13). إن قساوة هذا الارتداد لا تُحتمل إلا إذا جاء الخلاص يملأ بالفرح قلب المرتّدين الذين يعرفون أن أسماءهم مسجّلة في السماء (10: 20). هذا الفرح الذي جعل يوحنا يرتعش في بطن أمه (1: 44)، ملأ قلب زكا حين استقبل وهو الخاطئ، في بيته، يسوع الذي حرّك فيه التوبة وأعلن له الخلاص (19: 5-9).
ولكن بدون التوبة لا فرح حقيقيًا. لهذا فالغنى الذي يعيق التوبة هو شقاء وتعاسة (6: 24). والمتكبّر الذي يرضى بنفسه ويزيل وعي الخطيئة، يُحرم من الخلاص. فالفريسي يحتاج إلى الغفران شأنه شأن العشّار الذي يحتقر. ولكنه لا يحصل على هذا الغفران الذي حصل عليه العشّار المتواضع بصلاته (18: 10-14). فالذين يرفضون أن يتبعوا طريق التوبة سيبكون على أنفسهم، لأنهم عود يابس لا يحمل ثمرًا (23: 28). وقد بكى يسوع على أورشليم التي ما أرادت أن تفهم نداءه إلى التوبة التي بدونها لا وجود للسلام (19: 41-44).

ب - رحمة الله ينبوع الارتداد والفرح
إذا أردنا أن نتغلّب على قساوة قلب البشر، يجب أن نكشف لهم سرّ حبّ الله، ورحمة قلبه الأبوي. وهذا الوحي هو رسالة لوقا الخاصة: إنه انجيليّ الرحمة. إن حبّ الله يتجلّى في إرسال ابنه الحبيب (3: 22) الذي جاء يدعو الخطأة إلى التوبة (5: 32). ((فابن الانسان جاء يطلب ويخلّص ما قد هلك)) (19: 10). وما هو الثمن؟ نجد الجواب الواضح في الانباءات بالحاش (بالآلام) التي أوردتها الأناجيل الازائىة (9: ،24 44؛ 18: 31-33). وبعد القيامة سوف يشدّد يسوع على أن آلامه كانت جزءًا من الخلاص الذي تحدّثت عنه الكتب المقدسة (24: 25-27، 44-46).
وحين طلب يسوع، وهو على الصليب، من أبيه الغفران لجلاّديه الذين لا يعرفون ماذا يصنعون (23: 34)، فهو يصلّي أيضًا من أجل جميع الخطأة الذين لا يعرفون الحبّ الذي عليه ينغلقون. وإذ أراد يسوع أن يكشف لهم هذا الحبّ جاء وبذل حياته. هذا ما يبيّنه لوقا في صفحات مؤثّرة من انجيله. هناك أولاً الخاطئة التي انقلبت حياتها لأنها آمنت بيسوع، آمنت بالخلاص الذي يعلنه (7: 50). حرّكها الحبّ فأعطت ليسوع شهادة عن حبّ كان أيضًا تعبيرًا عن توبتها المتواضعة. وتجاه الفريسي الذي احتقر هذه المرأة وما تأثّر بتواضعها العميق، أعلن يسوع أن هذه المرأة نقيّة. فالرحمة (التي حرّكت التوبة) التي بها آمنت ومعها تجاوبت بحبّ كبير، غفرت لها كل خطاياها وجدّدتها (7: 37-48).
وهناك ثانيًا حوار يسوع مع اللص التائب والمصلوب معه. جاء نداؤه مليئًا بالايمان والثقة والتواضع: ((أذكرني يا يسوع حين تأتي في ملكوتك)) (23: 43). وكشف الجواب الاحتفالي الحبَّ العظيم الذي عليه ينفتح قلب التائب: ((الحق أقول لك: اليوم تكون معى في الفردوس)) (23: 43). إن سرّ الرحمة اللامتناهية ينكشف في هذا الحوار. فإذا أردنا أن ندرك عمقه، نتأمّل دراما الجلجلة على ضوء ثلاثة أمثال ضمّها لوقا في ف 15.
يتحدّث المثل الأول عن الخروف الذي ضلّ كما يقول مت 18: 12-14 فيجعل نفسه في موقف الخروف الذي أخطأ فابتعد عن القطيع. أما لوقا فجعل نفسه أمام الراعي الذي يتألّم لضياع خروف من خرافه (لو 15: 4). فهذا الراعي يذهب في طلب الخروف الفريد، الذي لا يحلّ محلّه خروف آخر. ((وحين يجده يحمله على كتفه فرحًا. وحين يعود إلى البيت يجمع الاصدقاء والجيران ويقول لهم: افرحوا معي)) (15: 5-6). هذه هي كلمة الوحي: الفرح. حين سمع يسوع كلمات اللص المصلوب وما فيها من توبة، فرح فيه قلبُ الراعي، وفرحت السماء كلها معه. ((إنه يكون في السماء. فرح من أجل خاطئ يعود أكثر من 99 بارًا لا يحتاجون إلى التوبة)) (15: 7). ويرسم المثل الثاني، مثل الدرهم الضائع، ذات الحقيقة وذات السرّ.
كل هذا يفتح القلب المغلق فيجعله ينبع دموعًا. ففرح المخلّص يرتبط بارتداد الخاطئ. وابن الانسان جاء ليطلبه. وقد سفك دمه لكي يجده (22: 20). فحين يترك الخاطئ الراعي يحمله ويعيده إلى القطيع، يكون المخلّص في الفرح. وليس المخلّص وحده، بل الآب أيضًا الذي هو أبو الابن الوحيد. فمثل الابن الضال يرينا فساد القلب البشري ودناءته حيث البرّ الكاذب يبدو شرًا من خطيئة أقررنا بها بصدق. ولكن الأب هو هنا. تحرّكت أحشاؤه فذهب إلى ابنه العائد إليه (15: 20)، الذي يعلن نفسه خاطئًا وغير مستحقّ اسم الابن (15: 21). كشف الأب قوّة غفرانه وفرحه في أن يمنح هذا الغفران. ((لنفرح. فابني هذا كان ميتًا فعاش وضالاً فوُجد)) (15: 23-24). وسيقول لابنه الآخر الذي غار من العائد إلى أبيه: ((يجب أن نفرح ونمرح لأن أخاك هذا كان ميتًا فعاش وضالاً فوُجد)) (15: 32).
يفرح الآب حين يرحم. هذا هو ينبوع ارتدادنا وينبوع خلاصنا. ولسنا أبناء الآب السماوي إلا إذا ردّتنا رحمته، إلاّ إذا تبنا فأفرحنا الآب، إلاّ إذا وضعنا فرحنا في توبة اخوتنا توبة هي شرط الخلاص.
يجب علينا أن نشارك في هذا الخلاص، فنكون رحماء مثل الآب السماوي (6: 36). وشرطُ هذه المشاركة توبة تبدّل نظرنا، توبة يدعونا إليها يسوع في مثل السامري الصالح. في مثل الدينونة الأخيرة، دعينا لأن نرى يسوع في كل أخ من اخوته. وفي هذا المثل اللوقاويّ، يدعونا يسوع لأن ننظر إلى اخوتنا كما ينظر إليهم هو، بهذه المحبّة التي تنحني على الخطأة وترى فيهم أشخاصًا بائسين يحتاجون إلى حضورنا. بهذا الحبّ الرحيم الذي يريد خلاص الخاطئ ويحييه حين يقدّم له العون السخيّ.
إذن، لن نتساءل بعد اليوم: ((من هو قريبي))؟ فهل يحقّ لنا أن نستبعد بعض الناس من حبّنا؟ ولقد قلب يسوع هذا السؤال فعلّمنا أن نسأل: ((كيف أدلّ على أنني قريب هذا الانسان الذي هو هنا، أيًا يكن هذا الانسان)) (10: ،29 36)؟ الجواب واضح وهو يفرض نفسه: ((حين أمارس الرحمة تجاهه)) (10: 37). وأكمل يسوع الجواب بقاعدة عمل تجعلنا نقتدي بالآب ونشاركه في حياته: ((اذهب أنت واصنع كذلك فتحيا)) (10: 28-36).

خاتمة
تلك هي أبعاد الارتداد (والتوبة) المسيحيّة. فالتوبة ليست فقط مجرّد تحسّر على الخطيئة. تحسّر يهوذا ولكنه تحسَّر تحسّر اليأس. هو ما ارتدّ لأنه لم يؤمن برحمة المخلّص (مت 27: 3، 5). أما دموع بطرس المرّة فهي دموع التوبة، لأن ((يسوع صلّى لأجله لئلا يضعف إيمانه)) ((فيثبّت اخوته حين يعود)) (لو 22: 62، 62).
الارتداد نعمة. هو نعمة قيامة الخاطئ (لو 15: 24، 32) الذي يصبح ابن الله. وهذا التحوّل الذي بدأ في الايمان بيسوع يفرض على الانسان أن يتبع المسيح دومًا، في طريق التواضع، أن لا يطلب سوى مجد الآب، أن يمارس الرحمة تجاه اخوته في طريق المحبّة. التائب هو شاهد للنعمة التي ينبوعها رحمة الآب. وشاهد بفرحه الذي هو مشاركة في فرح الآب. فحيث يملك هذا الفرحُ، هناك يكون ملكوت المسيح مخلّصنا. منذ الصعود، ملأ هذا الفرح قلب التلاميذ، وهو فرح يفيض مديحًا بانتظار الساعة التي فيها تجعل قوّة الروح من أناس ارتدوا إلى الله، أشخاصًا يعملون من أجل ارتداد جميع الأمم (لو 24: 47-53).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM