الفصل الـخامس: معجزات يسوع في الأناجيل الازائيّة

الفصل الـخامس

معجزات يسوع في الأناجيل الازائيّة

منذ بدايات الكنيسة، أخذت معجزات يسوع حيّزًا كبيرًا في الكرازة المسيحيّة. في تعبيرين (من أصل أربعة احتفظ بها أع)، أورد التقليد الرسولي الأول الآيات التي أجراها المعلّم: في العنصرة تحدّث بطرس عن يسوع هذا ((الانسان الذي أيّده الله لديكم بالعجائب والمعجزات والآيات التي أجراها على يديه فيما بينكم)) (أع 2: 22). وأمام الضابط كورنيليوس تكلّم بطرس أيضًا عن يسوع ((الذي مسحه الله بالروح القدس والقدرة. فسار يصنع الخير ويشفي جميع الذين خضعوا لقوّة الشيطان)) (أع 10: 38). هذان القولان هما خلاصة أخبار العجائب التي أوردتها الأناجيل.

1 - مجموعة المعجزات
إن معطيات الأناجيل الازائيّة حول معجزات يسوع تنتمي إلى فنون أدبيّة مختلفة. فهناك عدد من المقاطع تورد بشكل إجمالي كميّة من المعجزات. نقرأ في مر 1: 32-34: ((شفى يسوع كثيرًا من المرضى المصابين بمختلف العاهات، وطرد كثيرًا من الشياطين)). وفي 1: 39: ((وسار في كل الجليل يطرد الشياطين)). وفي 3: 10-12: ((وشفى كثيرًا من الناس)). وفي 6: 55-56: ((وطفقوا يحملون المرضى على فرش إلى حيث يسمعون أنه هناك. وحيث كان يتوجّه إلى مدن أو قرى أو ضياع، كانوا يضعون المرضى في الساحات، ويلتمسون منه أن يلمسوا ولو هدب ردائه. وكل من لمسه كان يبرأ)).
ونقرأ الشيء عينه في انجيل متّى. ((كان يشفي كل مرض وكل علّة)) (9: 35). وفي 15: 30-31: ((فأقبل عليه جموع غفيرة معهم عرج وشلّ وعمي وخرس وآخرون كثيرون. وألقوا بهم عند قدميه، فشفاهم. فانذهل الجميع اذ رأوا الخرس يتكلّمون، والشلّ أصّحاء، والعرج يمشون، والعمي يبصرون. ومجّدوا إله اسرائىل)). وفي 19: 2: ((فتبعته جموع كثيرة ليسمعوه، ويُشفوا من أمراضهم... وكانت قدرة الرب تُجري على يده الأشفية)). وفي 7: 21: ((وفي تلك الساعة، شفى كثيرين من أمراض وأسقام وأرواح شريرة، ووهب البصر لعمي كثيرين)).
هذه اللوحات الاجماليّة هي تعميمات. ويكفي أن نقابل مت 15: 31؛ 19: 2 مع لو 5: 15؛ 7: 21. غير أننا نجد أيضًا نظرات عامّة في بعض أقوال يسوع: ((العميان يبصرون، العرج يمشون، البرص يطهّرون، الصمّ يسمعون، الموتى يقومون)) (11: 5؛ ق 11: 21-24؛ 12: 27-29).
وبجانب هذه الاعلانات الاجماليّة، قد احتفظ لنا التقليد الازائي بعدد من الأخبار الموسّعة حول معجزات محدّدة. هناك معجزات تتعلّق بالانسان، وأخرى تتعلّق بالكائنات الجامدة. الأولى هي الأكثر عددًا، وقد نميّز فيها طرد الشياطين والأشفية. فهناك أخبار تروي طرد الشياطين: مجنون كفرناحوم (مر 1: 21-28) والجراسيين (مر 5: 1-20 وز) وابنة السورية الفينيقيّة (مر 7: 24-30). أما فيما يتعلّق بالأشفية: الحمّى من حماة بطرس (مر 1: 29-31 وز)، أبرص كفرناحوم (مر 1: 40-45 وز)، البرص العشرة (لو 17: 11-19)، مخلّع كفرناحوم (8: 5-13؛ مر 2: 1-12)، الرجل صاحب اليد اليابسة (مر 3: 1-6 وز)، نازفة الدم (مر 5: 25-34)، الأصّم الأخرس في دكابوليس (مر 7: 31-37)، أعمى بيت صيدا (مر 8: 22-26)، أعمى أريحا (مر 10: 46-52 وز)، الأعميان اللذان تبعا يسوع (9: 27-31)، المستسقي (لو 14: 1-6)، أذن عبد رئيس الكهنة التي قُطعت (لو 22: 50-51). وهناك إقامة ابنة يائيرس (مر 5: 21-43 وز) وابن أرملة نائين (لو 7: 11-17). غير أن هناك عددًا من الأخبار تتحدّث عن عمل الشيطان في المرضى: نجا الابن المصروع من ((شيطان أصمّ وأخرس)) (مر 9: 14-29 وز). وتحدّث متى عن روح ((أخرس)) (9: 32-34)، روح ((أعمى وأخرس)) (12: 22). وقال لو 13: 11: ((وكان هناك امرأة بها روح سقم منذ ثماني عشرة سنة. وكانت منحنية لا تستطيع البتّة أن تنتصب)). هذه العبارات المرتبطة بلغة العصر، تدلّ على أن الانجيلي يرى طرد شيطان حيث نرى نحن شفاء. لهذا، لن نفصل بين أخبار الشفاء وأخبار طرد الشياطين.
أما أخبار المعجزات في الكائنات الجامدة فليست كثيرة. هناك الصيد العجيب (لو 5: 1-11)، وتهدئة العاصفة (مر 4: 37-41، يبدو يسوع وكأنه يطرد شيطانًا)، والسير على المياه (مر 6: 45-52 وز)، والدرهمان في فم السمكة (17: 24-27)، وتكثير الأرغفة (مر 6: 34-44وز؛ 8: 1-9وز)، والتينة اليابسة.
وهكذا نحصي اثنتين وعشرين معجزة في الأشخاص، وسبعًا في الكائنات الجامدة. وإذا أخذنا التكرارات بعين الاعتبار، نكون أمام عشرين معجزة. رأى الشرّاح معجزة واحدة في شفاء الاعميين الذي يرويه متّى مرّتين (9: 32-34؛ 12: 22-24). وكذا نقول عن تكثير الأرغفة في مر 6: 34-44 وز؛ 8: 1-9 وز. وهناك ثلاثة أشفية في يوم السبت (مر 3: 1-6؛ لو 13: 10-17؛ 14: 1-16)، وقد نكون أمام معجزة واحدة.

2 - دراسة المعجزات دراسة أدبيّة
إن دراسة المعجزات دراسة أدبيّة في الأناجيل الإزائيّة، تنقسم قسمين. هي تحدّد أولاً مختلف الفنون الأدبيّة في هذه الدراسات. ثم تقابل النصوص الموازية لتدرس الأخبار في التقليد الانجيلي.
وصلت إلينا معجزات يسوع في فنون أدبيّة مختلفة: هناك الاجمالات التي ذكرناها، والحواشي السريعة كما في 9: 32-34؛ 12: 22، والتلميحات داخل خبر آخر (مر 6: 5؛ لو 22: 50-51). وهناك الأخبار المفصّلة.
حين يروي الانجيل خبر معجزة فهو يهتمّ بالحدث، بقدرة الله التي تظهر في يسوع: لا يقال شيء عن الذي نعم بالمعجزة، عن ارتداده أو حياته السابقة. كما لا يقال شيء عن عواطفه ولا عن فكر يسوع. فالراوي لا يهتمّ بسيرة يسوع، ولا يطلب التعليم بشكل مباشر. إنه يُظهر الواقع، يُظهر عمل الله. وكل سمات خبره تتوخّى هذا الهدف، فتظهر كما يلي: أولاً، تقدّم المعجزةُ التي نرجو الحصول عليها مع كل الصعوبات. حالة المريض التي تدعو إلى الشفقة. ضعف البشر وعجزهم، مدة المرض، الضيق الذي لا مخرج منه، واقع الموت. ثانيًا، يُذكر ايمان الطالب أو الطالبين كما عبّروا عنه أو كما لاحظه يسوع عبر كلمة أو فعلة. عند ذاك يتدخّل المعلّم بسلطة سامية، فتفعل كلمته حالاً (ما عدا في بعض الحالات مثل ممسوس الجراسيين، مر 5: 7-12؛ أعمى بيت صيدا، مر 8: 23-25؛ التينة الملعونة، مر 11: 20؛ البرص العشرة، لو 17: 14). ولا يستطيع أحد أن يرفض المعجزة بعد أن جاء شيء حسيّ يشير إليها. شُفيت حماة بطرس، فقامت تخدمهم وكأنها لم تكن مريضة (مر 1: 31). قال يسوع للأبرص: ((شئتُ، فكن طاهرًا)). وفي الحال ذهب عنه البرص وطهُر (مر 1: 41). قال يسوع للمخلع: ((قم واحمل فراشك وامض إلى بيتك)). ((فقام من ساعته وحمل فراشه وخرج أمام الجميع)) (مر 2: 12). قال يسوع لابن أرملة نائين الميت: ((أيها الشاب، لك أقول: انهض)). فاستوى الميت وشرع يتكلّم (لو 7: 14-15). وفي النهاية، تأتي ردّة فعل الجموع شاكرة لله على تدخّله: الاضطراب، الخوف، الحماس، تمجيد الرب...
ومرمى هذه الأخبار يظهر بوضوح: هي تريد فقط أن تُبرز سلطان يسوع المتعالي. غير أننا نجد شكلها الأدبيّ قريبًا من شكل المعجزات في العالم الوثني. هنا نتذكّر معجزات العهد القديم، في سفر الخروج وفي سفر يشوع. في دورة إيليا وأليشاع، تبدو الأشفية قليلة (إيليا، أليشاع، أشعيا). ولكن معجزات العهد القديم هي بالحري خلاص أعطي للشعب كله، هذا مع العلم أن كل خلاص ينعم به فرد من الأفراد يُعتبر ((معجزة)) نشكر الله عليها. ونتذكّر أيضًا أن معجزات العهد القديم لا تحاول أن تقدّم البرهان، بل هي تروي تدخّلات الله في تاريخ الشعب على أنها أمور معروفة، على أنها نتيجة عادية من نتائج العهد. أما الانجيليّ، فيريد أن يقنع قرّاءه بسلطة المعلّم. فلا نحكم على القيمة اللاهوتيّة والتاريخيّة لهذه الأخبار انطلاقًا من شكلها الأدبيّ، بل من معناها ودقّة الشهادة التي تقدّم.
أما مقابلة الأخبار الموازية للمعجزة الواحدة، فهي تدعونا لأن نقدّم بعض الملاحظات. هناك معطيات توسّعت مع الزمن توّسعًا جديدًا. قال مر 1: 34: ((فشفى منهم كثيرين)) (رج 3: 10). أما لو 4: 40 (رج 6: 18-19) فقال: ((شفاهم جميعًا)). قال مر 1: 39: ((فمضى يكرز في المجامع، في الجليل، ويطرد الشياطين)). أما مت 4: 23-24 فتوسّع في هذه الآية قائلاً: ((وكان يطوف في الجليل كله، يعلّم في مجامعهم ويبشّر بانجيل الملكوت، ويشفي كل مرض وكل سقم في الشعب. وذاع خبره في سورية كلها. فأتوا إليه بكل من كان به سوء، المعذّبين بشتّى الأمراض والأوجاع، والمجانين، والمصروعين، والمخلّعين، فشفاهم)) (ق مت 8: 16 ومر 1: 32-34؛ مت 10: 1 ومر 3: 13؛ مت 12: 15 ومر 3: 10؛ مت 14: 35-36؛ ومر 6: 56؛ مت 15: 30-31 ومر 7: 32-37).
وهناك تقاليد ولّدت أكثر من نصّ. سبق وذكرنا تكثير الأرغفة، شفاء الأعمى... كما اتخذت بعض الأخبار ولا سيّما عند متّى وجهة عجيبة ومدهشة. في 9: 18 طلب يائيرس من يسوع أن يقيم له ابنته. ولكن لا نجد هذا في مر 5: 22-23، 25-26. في 9: 20-22، منح يسوع الشفاء للنازفة وهو واع لما يفعل (التفت يسوع ورآها فقال: لتطب نفسك). أما في مر 5: 25-34، فالتفت إلى الجميع وقال: من لمس ثيابي... وجعل ينظر في ما حوله ليرى تلك التي فعلت ذلك. في 13: 58، نعرف أن يسوع أجرى عجائب قليلة في الناصرة، وذلك بقرار حرّ من قبله ((لعدم إيمانهم)). أما مر 6: 5-6 فقال: لم يقدر يسوع أن يصنع هناك عجيبة واحدة. في 21: 14 نقرأ: ((وتقدّم إليه في الهيكل عمي وعرج فشفاهم)). غير أن مر 11: 11 يجهل هذا الأمر. في 21: 19، يبست التينة حالاً. أما في مر 11: 12-21 فقد رأى التلاميذُ التينة يابسة في الغداة.
وأضاف لوقا معجزات، لا نجدها عند متّى ومرقس. في 4: 30 نجا يسوع بمعجزة من غضبة أهل الناصرة (هذا ما لا نجده في مر 6: 1-6). في 7: 21، نرى الاشفية أمام الوفد الذي أرسله يوحنا المعمدان (لا يرد هذا الأمر في مت 11: 3). في 22: ،54 تفرّد لوقا فتحدّث عن شفاء عبد عظيم الكهنة الذي جرحه أحد التلاميذ بسيفه... كما أننا لا نجد في مت ولو البطء في بعض معجزات يسوع، كما في مر. ولا الأساليب المستعملة لدى الأطباء، وطاردي الأرواح النجسة في القرن الأول المسيحيّ. مثلاً، استعمال البصاق بالنسبة إلى الاصم الأخرس، والأعمى (مر 7: 33؛ 8: 23). أراد مت ولو أن يدلاّ بوضوح عمّا به يختلف يسوع عن السحرة والمقسّمين في أيامه، فتوقّفا عند قدرة يسوع الفريدة. أما مر فأراد يسوع متجسّدًا في قلب عصره.
لا نستبعد أن تكون بعض المعطيات الخاصة بمتّى أو بلوقا تعود إلى معلومات قديمة لها قيمتها. ولكن يجب أن نقرّ بأن التقليد اتجّه إلى التوسّع في أخبار المعجزات حتى الثابتة منها، وذلك من أجل الكرازة، وقد وجد الانجيليون في العهد القديم أمثلة عن ذلك في معجزات سفر الخروج ويشوع بن نون. إن التوسّع المتزايد في ما هو عجيب داخل تقليد المعجزات أمر معروف يجب أن نأخذه بعين الاعتبار. لهذا، لن نبحث عن الدقّة الحرفيّة لما حصل حقًا في هذه المعجزة أو تلك.

3 - القيمة التاريخيّة للمعجزات
إن التضخيم في أخبار معجزات يسوع في التقليد الإزائي يطرح أكثر من مسألة حول القيمة التاريخيّة لهذه الأخبار: توسّع فيها الكاتب، بل استنبطها قبل أن يجعلها في الانجيل. وهناك صعوبة أخرى: نقص روحُ النقد عند سامعي يسوع. لم ينجح يسوع كثيرًا لدى شعبه... وفي النهاية، ما هي العلامات المتينة التي تدلّ على أن يسوع أجرى المعجزات؟
العلامة الأولى المؤاتية لتقليد المعجزات هو قدمها. لقد ذكرتها الكرازة الرسولية مع أع 2: 22؛ 10: 38. أما الأخبار المفصّلة فهي قريبة من الأحداث: كتب مرقس حوالي سنة ،70 اذن أقلّ من أربعين سنة بعد موت يسوع. واستعمل مواد عبّر عنها التقليد قبله. اذن، تكوَّنت أخبار المعجزات ساعة كان تلاميذ يسوع بعدُ أحياء. اذن، راقب التلاميذ ما قيل. كما راقبه خصوم يسوع الذين إليهم توجّه الوعّاظ الأولون. إذن، قدَم هذه الأخبار وتثبيتها السريع في الكرازة الأولى يكفلان قيمتها التاريخيّة. وهذه الأخبار تختلف عن أخبار معجزات الخروج التي كُتبت قرونًا عديدة بعد موت موسى، ومعجزات العالم الهلنستي البعيدة جدًا عن الوقائع.
والشهادات عن معجزات يسوع عديدة. سبق وأوردنا عشرين خبرًا تمثّل للمؤرّخ برهانًا هامًا بدقّتها. لا نتوقّف عند التأكيدات الاجماليّة لأنها معمّمة. وما نجده في أقوال يسوع (11: 5، 21-24؛ 12: 27-29) ينعم بالقيمة التي تنعم به هذه الأقوال. وردُّ خصوم يسوع يقدّم أيضًا شهادة هامة. لقد اتّهموا يسوع في مقاطع هامة من الانجيل، بأنه يطرد الشياطين بقدرة بعل زبول (9: 34؛ 10: 25؛ 3: 22-26). هذا يعني أنهم أقرّوا بهذه الوقائع وما أنكروها. وتجديفهم على المصلوب يشهد على شهرته كصانع معجزات (مر 15: 31).
وما يلفت النظر أيضًا وضاعة معجزات يسوع، التي تحتلّ في رسالته حيّزًا ضيّقًا جدًا. عددها قليل. ولا نجد فيها أيّ عجيب ساطع. أما أهمها فقيامة ابنة يائيرس وابن أرملة نائين. نحن هنا بعيدون جدًا عن معجزات سفر الخروج، وهذا ما يفسّر ردّة الفعل لدى حضور يسوع. فطردُ الأرواح ومعجزات نبيّ الناصرة بدت لهم غير لائقة بإله سيناء مع البروق والرعود وعبور البحر الأحمر. لهذا طلبوا ((آيات في السماء))، كالمن والصاعقة وشمس جبعون وانقلابات الكواكب التي نجدها في أسفار الرؤيا (رج 12: 38؛ مر 8: 11؛ يو 6: 30-31). فلو استُنبطت أخبار المعجزات تلبية لحاجة دفاعيّة، لكانت تجاوبت مع هذه الرغبات. ولكن ذلك لم يكن هدفها. فهي تدلّ على تحفّظ تميّز به يسوع تجاه كل ما يدهش، يبهر النظر (رج تجارب يسوع). عارض التقليدُ ذكر العدد الكبير من المعجزات، فحفظ الأناجيلَ من عمل المخيّلة، وأمّن لهذه الأخبار قيمة لا معارضة فيها. لهذا كانت هذه الأخبار بوضاعتها وجدّيتها كافلة نفسها. ونحن نرى فرادتها إن نحن قابلناها بأخبار المعجزات في العالم اليهودي أو العالم الهلنستي.
هذه العلامات تُثبت متانة التقليد حول المعجزة بشكل عام. ولكنها لا تؤكّد أي خبر بشكل خاص. قد نُعارض هذا الحدث أو ذاك، هذا التفصيل أو ذاك. يبقى أن تكون معارضتنا لأسباب وجيهة. ولكن يبقى شيء أكيد، هو أننا لا نستطيع أن نرذل كل أخبار معجزات يسوع جملة وتفصيلاً. فلو فعلنا وجب علينا أن نشرح بداية الايمان بيسوع. فلولا المعجزات لصار الايمان معجزة لا يمكن شرحها. هذا ما فهمه المؤرِّخون الحاليون فعاكسوا سابقيهم في القرن التاسع عشر الذين أنكروا معجزات الانجيل واحدة واحدة. أما اليوم فالنقّاد يقرّون إجمالاً بأن يسوع أجرى الأشفية. تحدّث بعضهم عن دواء ((نفسانيّ)). ولكن الواقع يقاوم مثل هذا التفسير.
وفي النهاية، تطرح أخبارُ المعجزات ذات السؤال الذي تطرحه الأناجيل ككلّ. فعبر أحداث مفصّلة، هي تجبر القرّاء أن يتّخذوا موقفًا تجاه يسوع. أن يقبلوا سلطته العلويّة أو يرفضوها. أن يؤمنوا به أو لا يؤمنوا. فقيمة أخبار المعجزات هي قيمة الأناجيل، لأن لها ذات المدلول الذي للأناجيل.

4 - مدلول أخبار المعجزات
تحدّث يسوع مرارًا عن مدلول المعجزات، فجاء موقفه متشّعبًا: بدا متحفّظًا جدًا تجاه المعجزات. ولكنه ارتضى بأن يجري أشفية فأعطاها دورًا هامًا في رسالته.
كان تحفّظ يسوع واضحًا في أعماله وفي أقواله. فقد رفض دومًا أن يُجري معجزات بحسب الطلب، أو ليرضي فضول سامعيه وما يطلبون. طلب الكتبة آية في السماء، كما في سفر الخروج، فما منحهم (12: 28-30؛ 16: 1-4). وأهل الناصرة انحسدوا من أهل كفرناحوم: ((كل ما سمعنا أنك فعلت في كفرناحوم، إفعله ههنا أيضًا في وطنك)) (لو 4: 23). ولكن يسوع رفض، بل قال كلامًا قاسيًا للذين في المجمع ((فامتلأوا كلهم حنقًا)) (آ 28). وفرح هيرودس حين رأى يسوع، وأمل أن يعاين منه آية يصنعها (لو 23: 8). سأل يسوع، أما يسوع ((فلم يجبه بشيء)) (آ 9). لم يقدّم له معجزة ترضي فضوله.
اعتبر يسوع كل هذه الطلبات تجاربَ تشبه تجارب إبليس. فالمعجزة عطيّة من الله يهبها في سلطته السامية. والانسان لا يستطيع أن يفرضها عليه، على ما قال يسوع: ((لا تجرّب الرب إلهك)) (4: 5-7). من أجل هذا، رفض يسوع أن يستعمل لنفسه سلطاته العجيبة: فما حوّل الحجر إلى خبز لكي يهدئ جوعه (4: 2-4). ولا نزل عن قمّة الهيكل ليراه الناس ((ويصفّقون له)). بل هو لم يصنع شيئًا لكي ينزل عن الصليب ((فيؤمن الناس به)) (26: 53؛ مر 15: 31-32). إنما انتظر المعجزة ساعة القيامة بحسب قصد الله الآب.
ما أراد يسوع أن يُبرز سلطاته العجيبة. بل هو حصر بإرادته بُعد معجزاته. استبق الأمور فقلّل من عظمة إقامة ابنة يائيرس: هي نائمة. وأبعد الناس الذين يتزاحمون حول البيت (مر 5: 38-40). وابتعد عن الجمع حين شفى الاصم الأخرس في الدكابوليس، وأعمى بيت صيدا، والولد المصاب بداء الصرع (مر 7: 33؛ 8: 2؛ 9: 25). شفى الأبرص في كفرناحوم ففرض عليه الصمت. ((إياك أن تقول لأحد شيئًا)) (8: 4). وأقام ابنة يائيرس. ((فأوصاهم بإلحاح أن لا يعلم أحد بذلك)) (مر 5: 43). شفى الأصم الأبكم ((وأوصاهم أن لا يقولوا لأحد)) (مر 7: 36). وشفى الاعمى ومنعه من الدخول إلى القرية (8: 26) لئلاّ يذيع الخبر. هذا الرفض لكل ما يشتمّ منه روح الدعاية، يجعل يسوع بعيدًا كل البعد عن ((مجري المعجزات)) في العالم الهلنستي.
ويدلّ على تواضعه بحيث لا يلفت الانتباه إلى نفسه. لماذا؟ لأنه أراد أن يربّي شعبه الذين اكتفوا بأن يروا في عمله الوجهة الماديّة، واعتبروه مسيحًا سياسيًا فأرادوا أن يقيموه ملكًا.
وقد كان حكمُ يسوع قاسيًا في هذا المجال. لاحظ أن المعجزة الماديّة لا تكفي لتجعل الانسان يرتدّ ويعود إلى الله. فقال: ((الويل لك، يا كورزين، الويل لك، يا بيت صيدا. لأنه لو صُنع في صور وصيدا ما صُـنع فيكما من العجائب، لتابتا من قديم في المسوح والرماد... وأنت يا كفرناحوم...)) (11: 21-24). وقف السامعون أمام معجزاته، ولكنهم اصطدموا بالواقع وتشكّكوا (11: 5-6). ليست المعجزة علامة تكفي نفسها بنفسها. فسفر التثنية قد ندّد بمعجزات الأنبياء الكذبة، ودعا بني اسرائىل لكي يحكموا عليهم بحسب تعليمهم (13: 2-6). هذا النصّ طبّقه الكتبة على يسوع: ((إن به بعل زبول! إنه برئيس الشياطين يخرج الشياطين)) (مر 3: 22).
وتحدّث يسوع أيضًا عن أنبياء كذبة يُجرون معجزات. يجب أن نحكم عليهم حسب أمانتهم للوحي. ((كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب، يا ربّ، ألم يكن باسمك قد تنبّأنا؟ وباسمك قد أخرجنا الشياطين؟ وباسمك صنعنا عجائب كثيرة؟ فحينئذ أعلن لهم: ما عرفتكم قط. أبعدوا عني يا فاعلي الاثم)) (7: 22). وقال يسوع في خطبة النهاية: ((سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، ويُجرون آيات عظيمة وخوارق حتى يضلّوا المختارين أنفسهم، إن أمكن. ها أنا قد سبقت فأخبرتكم)) (24: 24-25؛ رج مر 13: 22-23). إذن، هناك تراتبيّة في الآيات. فقبل المعجزات على مستوى الجسد، يجعل يسوع التعليم الموحى به مع قيمته الروحيّة التي لا التباس فيها. ((إن لم يسمعوا لموسى وللأنبياء، حتّى إن قام واحد من الموتى لا يصدّقون)) (لو 16: 31).
والقول الخفيّ حول آية يونان التي لا يُعطى غيرُها لهذا الجليل، قد يكون له معنى مشابه (12: 39، 41؛ 16: 4؛ لو 11: 29-32). فهذه الآية تبدو كمفارقة بين معجزات يسوع. ولكن يسوع لم يخَف من المفارقات. فقد جعل فوق جميع المعجزات آية سامية يعتبرها حاسمة، هي آية يونان. ولكن الآية التي أعطاها يونان لأهل نينوى هي إعلان دينونة الله. وتعليم يسوع شبيه بإنذار يونان. هو يشجب الخطيئة ويدعو إلى التوبة والخلاص. والناس يرون في الانجيل كلمة الله تجاه هذه الدينونة، وهذه المتطلبات، والمواعيد الروحيّة.
ومع كل هذه التحفّظات، ارتضى يسوع أن يجري معجزات. وأجراها في العلن. إذا كانت اللوحات الاجماليّة في مر 3: 10-12؛ 6: 55-56 ومت، هي عامّة بحيث لا تستطيع أن تعطي شهادة حاسمة، هناك مشاهد ملموسة تتدخّل فيها الجموع: شفى يسوع ((في المجمع)) رجلاً فيه شيطان في كفرناحوم (مر 1: 23-28)، شفى رجلاً يده يابسة (مر 3: 1-6)، شفى المرأة المنحنية (لو 13: 10-17). لقد اجتمعت كل ((مدينة)) كفرناحوم الصغيرة، أمام البيت في مساء المعجزات الأول (مر 1: 32-34). كما شُفيَ المخلّع (مر 2: 1-12)، شُفيت النازفة وسط الجمع (مر 5: 25-34) والمريض بداء الاستسقاء خلال وليمة (لو14: 1-6). نهض شاب نائين من الموت أمام الحاضرين في الجنازة (لو 7: 11-17). وتكثير الأرغفة تمّ من أجل آلاف الأشخاص (مر 6: 34-44؛ 8: 1-9). ويخرج يسوع بعض المرات عن قاعدة الصمت التي جعلها لنفسه. أرسل الأبرص (مر 1: 44) أو البرص (لو 17: 14) إلى الكهنة ليحافظ على الشريعة (لا 14)، وليوصل البشارة إلى السلطات الدينيّة في الشعب. بما أنه لم يعظ في الأرض الوثنية، فقد أرسل ممسوس الجراسيين إلى الدكابوليس الهلنستية بعد أن شُفي: ((امض إلى بيتك وإلى ذويك، وخبّرهم بما صنع الرب إليك وبرحمته لك)) (مر 5: 19).
إذن، هذه العلامات هي في نظر يسوع جزء من رسالته، وهي لا تفترق عنها. جُعلت في قلب الكرازة التي كانت نشاطَ يسوع الأساسيّ، فكانت عنها صورة ملموسة ولافتة. فالأشفية هي أكثر من براهين تدلّ على تعليم يبقى خارجًا عنها. هي في حدّ ذاتها تعليم. فيها يعلن يسوع غفرانه للخطايا (مر 2: 5-10)، وسلطته على السبت (مر 3: 4-5؛ لو 13: 15-16؛ 14: 3-5)، وقوّة الايمان (8: 10-13؛ 15: 28). وخفرُ هذه الآيات وتجرّدها وقوّتها المحيية تكشف شخص يسوع: هي قبل كل شيء فعلات محبّة. وهي أخيرًا انتصارات على الشرّ: فعبر الأمراض يحارب يسوع الخطيئة، يحارب الشيطان. عمله هو عمل قداسة وبرّ. وحين فسّر أعداؤه تقسيماته (طرده للشياطين) كأعمال شيطانيّة، أجابهم يسوع مقدِّمًا عمله في وحدته: ((إذا كنتُ باصبع الله أطرد الشياطين)) (لو 11: 20). إن حضور الله هذا في مبدأ عمله هو الذي يدلّ على تعليمه: فأمانته للوحي، وهذا الجواب العميق، وهذه المتطلّبات التي يحملها والتي يقرّ بها أولئك الذين يطلبون الله. تحفّظ يسوع بالنظر إلى ما هو مدهش، وجعل المكانة الأولى للكرازة، فقاد سامعيه أبعد من الوجهة الماديّة في عجائبه. ودعاهم إلى أن يفهموا مدلولها.
ومدلولها واضح في نظره. إن هذه العلامات تدلّ على رسالته. وهذا ما يقوله بصراحة لمرسلي يوحنا: ((اذهبوا وقولوا ليوحنا ما سمعتم وما رأيتم: العمي يبصرون، العرج يمشون، البرص يطهّرون، الصمّ يسمعون، الموتى يقومون، المساكين يبشَّرون)) (11: 4-5).
استعاد يسوع هنا أقوال الأنبياء الذين أعلنوا المجيء المسيحانيّ (أش 29: 18-19؛ 35: 5-6؛ 61: 1). فالمعجزة هي إعلان وعلامة: لقد وُضع حدّ لشرّ البشر، وقُهر الشيطان. وصار ملكوت الله حاضرًا هنا. هذا ما قاله يسوع للكتبة: ((إن كنت بروح الله أطرد الشياطين، فهذا يعني أن ملكوت السماوات قد بلغ إليكم)) (12: 38؛ لو 11: 20). وشفاء مخلّع كفرناحوم يحمل المعنى عينه. ((لكي تعلموا أن ابن الانسان له سلطان أن يغفر الخطايا على الأرض)) (مر 2: 10-11). إن غفران الخطايا هو العطيّة المسيحانيّة العظمى (إر 31: 34؛ حز 36: 25). وشفاء المخلّع هو علامة هذا الغفران وعربونه. أجل، ملكوت الله هو هنا.

خاتمة
احتاج التلاميذ إلى زمن طويل لكي يلجوا فكر يسوع. فأمام معجزات معلّمهم، كانت ردّات الفعل عندهم أولاً تلك التي تصوّرها أخبارُهم: الذهول، الاضطراب، الدهشة، التعجّب، المخافة، وأخيرًا تمجيد الله ومديحه. كان مضمون إيمانهم ضئيلاً وثباتهم ضعيفًا. ولكن هذا الايمان نما حتى ملء الفصح والعنصرة.
عند ذاك، ولج التلاميذ سرّ يسوع. فبدأوا يبشّرون به. وهكذا وُلد الانجيل. وعبّر التقليد عن غناه شيئًا فشيئًا. ونحن نكتشف اليوم في هذه العبارات الاولانيّة كل ملء إيمان الكنيسة. وإذ أرادت الأناجيل الإزائيّة أن تدلّ على معجزات يسوع، تركت شيئًا فشيئًا الألفاظ التقليديّة التي تشدّد على الطابع الخارق في الأعمال (هناك ((تاراتا)) التي نقرأها في السبعينيّة وفي العالم الهليني)، وفضلت ((دينامايس)) التي تشير إلى هذه الأعمال على أنها تجلِّيات قدرة الله. وأسلوب هذه الأخبار له معناه: لا تحسب حسابًا إلا ليسوع مع ندائه إلى الايمان وقدرته الالهية وسلطته.
في هذه المشاهد القصيرة، قدّم لنا التقليد، قدّمت لنا الكنيسة، فهمها لسرّ المسيح. فكانت كل معجزة بالنسبة إليها ظهورًا للرب من خلال انتصاره على الشرّ والخلاص الذي يحمله، ظهورًا لملكوته.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM