الفصل الثالث: يسوع المسيح والمخلّص

الفصل الثالث

يسوع المسيح والمخلّص

منذ البداية عاشت الكنيسة يقينًا بأن يسوع الناصري هو مرسل الآب، وأنه حمل الخلاص الموعود به لاسرائيل، وأنها جاء يغفر الخطايا ويقيم ملكوت السماوات الذي فيه يُستقبل المؤمنون والمتواضعو القلب. ولكن ما هي نظرة يسوع إلى نفسه ورسالته وعمله؟ وهل ظلّت الجماعة المسيحيّة الأولى أمينة لمخطّط مؤسّسها؟

1 - يسوع النبيّ والمعلّم في ملكوت الله
أ - قدّم يسوع نفسه كالنبيّ فارتبط بتقليد متواصل منذ زمن المنفى سنة 587 ق.م. فموقفه، وطريقة إعلان تعليمه للشعب على أنه تعليم الله ، واستعمال الأمثال والفعلات الرمزية والسريّة، كل هذا جعله يتميّز عن الكتبة والمعلّمين الذي مارسوا في الشعب سلطة قويّة جدًا. ومضمون تعليمه جاء قريبًا من تعليم الأنبياء، لا من العالم اليهودي المعاصر له. لهذا قال الناس: ((نبيّ عظيم قام بنا، والله افتقد شعبه)) (21: 11؛ مر 6: 15؛ لو 4: 24؛ 7: 16). ووافق يسوع بشكل خفر على هذا اللقب (مر 6: 4؛ لو 4: 24)، ففهمنا أنه وقف في الخط المسيحاني.
ب - ما هو موضوع كرازة يسوع؟ للوهلة الأولى لا يتميّز تعليمه عن أساليب معروفة. ولكنه في الواقع يبدو أصيلاً جدًا. لا شكّ في أن يسوع لا يتكلّم لغة يجهلها سامعوه، كما أنه يستعيد مواضيع الأنبياء والعالم اليهوديّ، فتسجّل في تقليد اسرائيل، وتلاقى مع كبرى الاهتمامات الدينيّة في عصره. توجّه انتباه اليهود في أيام يسوع نحو الأمانة لفرائض الشريعة والممارسات الطقسيّة، كما توسّع انتظار حار لدينونة أخيرة ونظام جديد يكون عملَ الله ويجازي الجزاء الحسن أبرارًا عرفوا الاضطهاد حتى الآن. تداخل هذان التيّاران، لأن الأمانة لله تتيح للانسان أن يقف بلا خوف أمام الله في يوم الدينونة.
تاريخ اسرائىل القديم هو تاريخ تحرير، تاريخ فداء شعب مستعبَد يريد الله أن يجعله شعبه وأن يكون ملكه. منذ بدايات تاريخ اسرائىل، ارتبط موضوع الخلاص وموضوع ملك الله (رج خر 15). وفي الأوقات المـظلمة التي حلّت بعد سقوط مملكة يهوذا، ظهر الأمل بتدخّل إلهي يقلب نظام هذا العالم ويدلّ بشكل ساطع على سلطان الله. كل هذا وصل بالناس إلى النظريات التي نجدها في سفر دانيال: انتظروا مجيء السماء على الأرض، أن يُدان الاشرارُ ويـُرذلون، أن يُقام ملكوت السماوات. ذاك يكون عمل كائن يأتي من السماء. هو ابن الانسان: به تُعلن الدينونة، وبه تُمنح الخيراتُ المسيحانيّة للقديسين والأبرار (دا 7: 13؛ 1أخن 38-45). هذه النظرات حملت غذاء إلى حلقات المساكين والاتقياء في زمن الملك هيرودس والتسلّط الروماني.
استعاد يسوع طرق الكلام هذه، فتحدّث عن ملكوت السماوات دون أن يحدّده. هو واقع إلهي، لا ينتمي إلى أمور هذا العالم. ونحن لا نستطيع أن نتصوّره كمجموعة خيرات أرضية، كما لا نقدر أن نمتلكه بجهد أيدينا وقوانا البشريّة. الملكوت هو واقع سماوي وعطيّة مجانيّة من الله. والتطويبات التي جعلها متّى في بداية عظة الجبل، تقدّم لنا بعض العبارات الموازية: فالمختارون الذين يمرّون في المحنة والاتّضاع، في الزمن الحاضر، ((يمتلكون الأرض، يُشبعون، يُعزَّون، يُدعون أبناء الله ، يرون الله)). إذن، يتضمّن الملكوت ظروف حياة جديدة، ومعرفة مباشرة للآب وحبًا بنويًا له. هذا الملكوت هو عمل نعمة الله ورحمته، وهو يشمل موهبة تحوّل الخليقة وتكيّفها حسب حالتها الجديدة (6: 33). إن تعليم يسوع عن الملكوت يستعيد تعاليم معروفة في التيّار الاسكاتولوجيّ الجليانيّ، مع تشديد على الوجهات الروحيّة والباطنيّة على حساب علامات ظاهرة وصور مادية.
ج - وما يميّز تعليم يسوع ويعطيه رنّة عجيبة، هو التأكيد بأن كل هذا يتحقّق الآن، ويتحقّق بالنظر إلى يسوع. منذ البداية نسمع قوله: ((توبوا، فقد اقترب ملكوت السماوات)) (4: 17). تشكّل هذه العبارة ملخّص تعليم يسوع. وكان متّى قد جعلها في فم يوحنا المعمدان، بانتظار أن يتسلّمها الرسل (3: 2؛ 10: 7). وسيماهي مرقس هذا الاعلان مع الانجيل (1: 14-15).
ملكوت الله قريب على مستوى الزمان، وعلى مستوى المكان (لو 19: 11؛ مر 11: 1؛ 14: 42-43؛ يو 2: 13؛ 6: 4؛ 7: 2؛ 11: 55؛ مت 26: 18). لهذا، فالملكوت هو أيضًا واقع مقبل، ونحن نستعدّ لقبوله بارتداد حياتنا كلها. ذاك هو معنى كرازة بعض الأنبياء. وخصوصًا يوحنا المعمدان. كان بعضهم قد استند إلى معنى الكلمات المستعملة فشدّد على أن الملكوت هو في المستقبل: يسوع هو كارز بحدث مقبل، وهذا الحدث يبقى مقبلاً، لا حاضرًا. قد يكون أشار إلى ملحاحيّة التوبة، ولكنه يبقى في خطّ كتّاب سبقوه فأشاروا إلى نهاية العالم. ولكن جاءت ردّة الفعل تُبرز الوجهة الحاضرة لملكوت السماوات الذي كرز به يسوع. فالملكوت هو هنا، الآن. وقد أعطي منذ اليوم. إن يسوع يُنجز الرجاء الاسكاتولوجيّ. وبين أخذ وردّ، يبقى أن كرازة المعلّم تدلّ على أننا أمام واقع أعطي لنا، أمام واقع حاضر. ولكنه ينتظر بعدُ تجلّيه وامتداده النهائي. الملكوت هو هنا ولكنه في السرّ. قد تحقّق منذ الآن بالنسبة إلى المؤمنين، ولكنه يبقى موضوع رجاء سوف يظهر لنا ساطعًا في النهاية.
د - فالأمثال التي أوردها يسوع هي سرية. هي تحمل أسرار الملكوت الذي لا يفهمه سوى الصغار والمتواضعين (11: 25؛ لو 10: 21-22). هي تصوّر واقعًا ثمينًا جدًا يقدّم منذ الآن فيفرض علينا قطْع كل رباط بشريّ. وهذه العطية السماوية سوف تعرف تفتّحًا عجيبًا. فالملكوت زرْع يعطي مئة إذا تهيّأت الأرض التي تقتبله. يشبه حبّة الخردل التي هي اليوم أصغر الحبوب، وستصبح غدًا أعظم الأشجار. هو خمير دُفن في العجين وسيخمّره كله. هو كنز مخفى في حقل وسنكرّس كل اهتمامنا له. في كل مرة نحن ننتظر نتيجة في المستقبل، ننتظر نضوجًا وتفتّحًا وظهورًا عظيمًا. ويطلب منا النصّ أن نُخضع كل شيء لهذه القيم الإلهيّة التي ستتجلى غدًا في كل بهائها.
غير أن الأمثال تؤكّد على واقع بدأ يعمل منذ الآن: هو زرع، خمير وقوّة حياة، وقدرة تعمل في الزمن الحاضر. يرتبط النموّ بالله . ويرتبط أيضًا باستعدادات من أنعم عليهم وبأمانتهم. والزرع الطيّب يُلقى في الأرض مع الزؤان. وفي النهاية، في وقت الحصاد، يتمّ الفصل (13: 24-30). الملكوت حاضر في هذا العالم وهو ينمو. ولكن كل هذا يبقى محجوبًا وخفيًا. ويأتي يومٌ لا يتأخّر، فيحمل هذا العمل ثماره. وتأتي الدينونة الأخيرة فتبعد المقتدرين والاشرار، وتقيم ملكوت الله في كل سطوعه بعد أن كان حاضرًا في سرّه.
وهذا ما نكتشفه أيضًا حين نتأمّل صور الملكوت ومتطلّباته في أقوال يوجّهها يسوع إلى تلاميذه. قال يسوع: ((لا تخف أيها القطيع الصغير، فقد سُرَّ أبوكم أن يعطيكم الملكوت)) (لو 12: 32). إن جماعة التلاميذ التي تحيط بيسوع، جماعة المساكين التي لا اسم لها ولا شهرة، تشكّل منذ الآن ورغم جميع الظواهر، ملكوتَ السماوات. هم يعامَلون كأبناء الله ويُطلب منهم أن يتصرّفوا كأبناء. قد نُشِّئوا على أسرار الملكوت، ونالوا العطايا المطلوبة ليلجوا مخطّط الله الذي لا يبلغه أهل هذا العالم. ((أعطيتم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات)). وأضاف يسوع: إن كثيرًا من الأنبياء والأبرار قد رغبوا في أن يروا ويعرفوا ما ترون وما تسمعون (13: 11-15؛ مر 4: 10-12؛ لو 8: 9-10). وبعبارة أخرى، كان التلاميذ شهود أحداث ومستودع علم لم يصل إليه البشر وتمنّاه عظام العهد القديم. إذن، قد دخلوا في حقبة جديدة هي العهد المسيحاني الذي هو موضوع رجاء اسرائىل. وهذا العلم الذي منحه الله لهم، يتضمّن وضعًا جديدًا، يتضمّن تكيّف كل كيانهم مع الآب الذي يتقبلّهم منذ الآن في حياته الحميمة.
هـ - عندئذ نفهم الموقف الذي اتّخذه يسوع تجاه الشريعة وتجاه الفرائض الأخلاقيّة والدينيّة التي تعبّر عنها هذه الشريعة. فمنذ بداية الكرازة، يحضّ يسوع سامعيه على التوبة، على انقلاب تام في العقليّة وفي التصرّف الخلقيّ. ((توبوا)) (ميتانويو). استعاد أقوال الأنبياء الذيت كلِّفوا بأن يأتوا بالشعب اللامؤمن إلى الله. فعلى العالم اليهوديّ أن يعود إلى إله العهد. ويوم الدينونة يسبقه تحريض قويّ ونهائيّ سيكون عمل إيليا (4 عز 6: 26؛ مز سل 18: 14؛ يوب 23: 26؛ سي 48: 15؛ ملا 3: 1ي). وقد جعل المعمدان من هذا الموضوع أساس كرازته، فدعا سامعيه إلى معموديّة التوبة لغفران الخطايا وممارسة الشريعة (3: 1-12؛ لو 3: 1-20؛ كر 1: 2-7). واستعاد يسوع ذات العبارة، ولكنه شدّد على موقف جديد: فالتوبة هي أن نأخذ بطريقة حياة جديدة، هي أن نعيش في كل شيء بحسب إرادة الله. واتخذ يسوع تجاه الشريعة موقفًا خاصًا جدًا فعرّفنا إلى وعيه لرسالته.
كلنا يعرف المكانة العامة التي تحتلّها الشريعة في الديانة اليهودية. هي مجمل تعليم الله كما نجده في أسفار موسى الخمسة (أو: التوراة بالمعنى الحصري)، والوحي عن الله ومخطّطه والتعبير عن مشيئته في ما يتعلّق بتصرّف المؤمنين. في زمن يسوع، كانت الجدالات حامية حول امتداد الشريعة ووسائل شرحها: توقّف الصادوقيون عند أسفار موسى الخمسة. أما الفريسيون فلم يتوقّفوا فقط عند الشريعة المكتوبة (في التوراة)، بل راحوا إلى الشريعة الشفهيّة التي ستدوّن منذ القرن الثاني ب.م في المشناة ثم في التلمود. فالسلوكيات (أو: هلكوت) تعبّر عن إرادة الله المقدّسة شأنها شأن فرائض موسى. أما يسوع فاتّخذ موقفًا مغايرًا: حافظ بقوّة على سلطة شريعة موسى، على النصّ ((القانوني))، ولكنه فسّره بالنظر إلى هدف الله الذي ألهمه، فقاد المؤمنين إلى موقف دينيّ أكثر كمالاً.
صارت سلطة المعلّمين ((معصومة)) من الخطأ، صارت وحدها المسؤولة عن تفسير الشريعة والتعبير عن إرادة الله في الظروف الخاصة. وهكذا أخذ المعلّمون وظيفة الأنبياء. أما يسوع فرفض الاعتراف بهذه السلطة والتمسّك بتقاليد هذه المدارس (13: 54؛ 23؛ يو 7: 15). ((علّم كمن له سلطان، لا مثل المعلّمين)) (7: 29). هو ما أراد أن يلغي ((التوراة))، ونحن نقرأ في عظة الجبل كلمة حاسمة: ((لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمّل. الحقّ أقول لكم: إنه إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول من الناموس ياء أو نقطة واحدة حتّى يتمّ الكلّ)) (5: 17-18). ويتابع يسوع: (( من يتعدّى واحدة من هذا الوصايا حتّى من أصغرها، ويعلّم الناس أن يفعلوا هكذا، فإنه يُدعى الأصغر في ملكوت السماوات)) (آ 19). غير أنه يميّز بين مشيئة الآب وتعابير هذه المشيئة في الشريعة. فما يهمّ أولاً هو أن نعمل مشيئة الله فنصل إلى أهداف الله التي نجد آثارها في الشريعة.
هناك فرق بين الفرائض. وقد لفت يسوع انتباهنا إلى الفرائض الخلقيّة دون أن يهمل الفرائض العباديّة (لو 11: 42). غير أنه يُبرز ما يتعلّق بالعدالة والرحمة (23: 23). ما قدّم شرائع جديدة ولا هو أضاف أقوالاً على أقوال المعلّمين، بل بسّط الشرائع القديمة ولا سيّما ما يتعلّق بالسبت وبشرائع الطهارة (12: 1-14؛ لو 6: 1-11؛ مر 2: 23؛ 3: 6). إنه يدلّ في الواقع على المواقف المرتبطة بموقف الآب والتي تلهم تصرّف أخصّائه.
صار التلاميذ منذ الآن مشاركين في الملكوت، صاروا أبناء الله ، فوجب عليهم عندذاك أن يعيشوا حياة السماء، أن يقتدوا بالآب في صلاحه وحنانه. والمحبّة التي هي انشغال المختارين الوحيد، هي منذ الآن شريعة الملكوت: نثمر الوزنات التي أعطيناها، ونحمل زيتًا بانتظار العريس الآتي، ونخدم الربّ في الصغار (25: 31-46). وتصوِّر عظة الجبل الطريقة التي بها نحيا متّحدين مع الآب: ((كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات كامل هو)) (5: 48). وكل أمور الأرض تخضع لهذا التصرّف الجديد. لا شكّ في أن كل هذا لن يكون ممكنًا إلا في النهاية، حين يُتمّ الملكوتُ انتشاره ويتوافق المختارون كل الموافقة مع الآب. ولكنهم يقدرون منذ الآن أن يحيوا حياة السماء ويوافقون تصرّفهم مع تصرّف الآب. وهكذا يكون الملكوت حاضرًا هنا منذ الآن.
غير أن مثل هذا الموقف يُعتبر انقلابًا حقيقيًا. اختلف يسوع عن الفريسيين فاتّخذ المبادرة في تحديد نوايا الله وتفسير روح الشريعة دون العودة إلى التقاليد. هو موقف غير مقبول إن لم يكن يسوع هو المسيح. هو موقف تجديف كما قال الفريسيون. قد نستطيع القول إن ما فعله يسوع جاء في خطّ النصائح التي قدّمها الأنبياء، ولكن يبقى أن يسوع طالب بامتياز مسيحاني. بامتياز يدلّ على اتحاده الحميم بالله .
و - إذن، تميّز تعليمُ يسوع بتأكيده أن الملكوت أعطي منذ الآن، ولكنه يظلّ سرًا. هو يمنح العطايا المسيحانيّة، والنعمة بأن نحيا على هذه الأرض حياة توافق حياة الله. بل أكثر من ذلك: كل هذا يرتبط بالايمان به. فبعد أن شكر الآب لأنه كشف أسرار الملكوت للصغار، أضاف: ((كل شيء دُفع إليّ من أبي، ولا يعرف أحد الابن إلاّ الآب، كما لا يعرف أحد الآب إلاّ الابن ومن أراد الابن أن يكشف له)) (11: 25-27؛ لو 10: 21-22). أعلن يسوع أولاً صفته كابن الآب الذي منه تسّلم كل شيء. وإذا كان الدخول إلى الملكوت يعني في النهاية أن نصير أبناء الله الذي في السماء، فمثلُ هذا العبور لا يتمّ إلاّ في اتحاد عميق مع ذلك الذي هو ((بالطبيعة)) ابن الله. عرف يسوعُ الآب واتّحد به اتّحادًا لا يستطيع البشر أن يعرفوه أو يعبّروا عنه. وهو يستطيع وحده أن يكشف (ويعطي) حياة الآب للذين اختارهم الآب في رحمته. ولكننا لا نصل إلى الآب إلاّ إذا تقبّلنا تعليم الابن، إلا إذا آمنا بيسوع الذي هو مرسل الله وابن الآب.
2 - المعجزات ومدلولها المسيحاني
ليس يسوع فقط واعظًا بانجيل الملكوت. لقد بدأ يحقّق هذا الملكوت بأعمال تُظهر قدرة الله . فالمعجزات تدلّ على رسالته وتميّزها عن رسالة يوحنا المعمدان. حين أراد متّى أن يرسم لوحة عن نشاط يسوع، قدّم خطبة نموذجيّة (عظة الجبل) ويومًا نموذجيًا (يوم كفرناحوم) ملأه بالمعجزات (4: 25-9: 35).
أ - قد تبدو المعجزات تأكيدًا يمنحه الله للذي أرسله (تث 18: 19 ي). أما معجزات يسوع فليست خارقة تتوخّى قبل كل شيء أن تؤثّر على المخيّلة وتفرض سلطة يسوع. بل إن يسوع رغب في أن تبقى معجزاته خفيّة، ورفض الدعاية (16: 1-4؛ مر 8: 11-12). يُسمّي الانجيل معجزات يسوع أعمال قوّة أو آيات، وهي تقف في خطّ إعادة بناء الانسان، وتعمل على تحقيق ما يُعلن. المعجزات علامات تدلّ على أن الملكوت هو هنا كقوّة حيّة وفاعلة.
في نظر يسوع، يبدو العالم خاضعًا للفوضى، والعدوّ قد زرع فيه الزؤان (13: 25). وستقاتله قوى الشر بقوّة هو وأخصاءه حتى النهاية. فلقاء الشيطان الذي جاء مباشرة بعد العماد في الأردن، جعل الخصمين الواحد تجاه الآخر. وستتواصل الحرب على مدّ رسالة يسوع، وستصل إلى ذروتها في الحاش والآلام (4: 11؛ لو 4: 13). وأداة تسلّط قوى الشرّ على العالم هي الفوضى التي أقامت في كل مكان، في الطبيعة وفي البشريّة. لقد أراد يسوع أن يعيد النظام إلى الكون، ومعجزاتُه هي أداة عمله. سيطر على قوى الطبيعة، هدّأ العاصفة، مشى على المياه. وشفى المرضى وأقام الموتى وطرد الشياطين. كل هذا عمل مسيحانيّ. حين شفى يسوع عملَ عمَلَ الآب الرحيم الذي يريد خلاص ما قد هلك. هذا ما يدلّ عليه فعل ((خلّص)) (أو أحيا) الذي يرد مرارًا في الأناجيل.
وعى يسوع أنه بهذه الطريقة يُنجز عمل الخلاص المسيحانيّ الذي أنبأ به الأنبياء: جاءه تلاميذ يوحنا يسألونه عن رسالته، وانتظروا اعلانًا صريحًا يدلّ على صفته كالمسيح، فأجاب دالاً على أعماله التي فهم الشعب اليهوديّ معناها المسيحانيّ في خطّ أشعيا النبي: ((اذهبوا وقولوا ليوحنا ما تسمعون وما تنظرون: العميان يرون، العرج يمشون، المساكين يبشّرون، وطوبى لمن لا يشكّ فيّ)) (11: 4-6؛ رج أش 35: 5-6؛ 61: 1).
ب - ونتوقّف بشكل خاص عند بعض المعجزات: طرد الشياطين، معجزات ترافق كلمة الغفران، وأخرى تدلّ على شخصيّة يسوع. إن طرد الشياطين جزء من الحرب على قوى الشرّ. فلا بدّ من تدمير قبضة إبليس لحمل الخلاص إلى البشر وبناء الملكوت. ولقد دلّ يسوع نفسه على بُعد هذه الأمور في جدال مع الفريسيين الذين لـمّحوا أن يسوع يفعل ما يفعل ببعل زبول رئيس الشياطين. أجاب: كل مملكة تنقسم على نفسها تخرب. أما يسوع فهو ((الاقوى)) (إبليس هو القويّ)، وقد جاء يستعيد البيت الذي احتلّه الشيطان. وأضاف يسوع: ((إن كنت بروح (باصبع) الله أطرد الشياطين، فهذا يعني أن الملكوت جاء إليكم)) (12: 25-30؛ مر 3: 23-27؛ لو 11: 17-23). لقد دلّت تقسيمات (صلاة بها يُطرد الشيطان) يسوع على أن روح الله معه، وهذا يكفي ليؤسّس سلطة تعليمه حول الملكوت. كما دلّت أن الملكوت المنتظر هو هنا يفعل في السرّ. وإقامة الملكوت تتضمّن طرد الشياطين ورذل الذين هم له. وسيقول يسوع لتلاميذه الذين كلّفهم بأن يتابعوا عمله ويطردوا الشياطين: ((كنت أرى الشيطان ساقطًا كالبرق)) (10: 8).
يقوم العمل المسيحاني بتدمير مُلك الخصم. غير أن يسوع قال لتلاميذه: ((لا تفرحوا في أن الشياطين تخضع لكم. بل افرحوا بالحريّ لأن أسماءكم مكتوبة في السماء)) (لو 10: 18-20). وأورد لوقا حالاً نشيد التهليل فدلّ على أن الملكوت واقع إيجابيّ، وأن الانتصار على إبليس بداية دخول البشر إلى حياة حميمة مع الآب.
ج - إن إعلان الغفران الذي منحه الله للخطأة المتواضعين والواثقين، يحتلّ حيّزًا واسعًا في تعليم يسوع: أمثال الفريسي والعشّار، والخروف الضال، والدرهم الضائع، والابن الشاطر (لو 15؛ 18: 10-14؛ مت 18: 12-14). بالاضافة إلى ذلك، نرى يسوع مرارًا يغفر الخطايا للعشّار والزانية، لزكّا ومريم المجدليّة. قال: ((أريد رحمة لا ذبيحة. ما جئت لأدعو الأبرار، بل الخطأة)) (9: 12؛ لو 5: 32). ذاك كان جوابه للفريسيين الذين لاموه لأنه يعاشر الخطأة. فالخلاص يقدّم للذين ندموا على خطاياهم وغفروا لمن خطئ إليهم، وجعلوا رجاءهم في يسوع، وآمنوا أن يسوع يريد أن يخلّصهم.
هذا ما نجده بمناسبة شفاء المخلّع. جعل مرقس هذا الحدث في بداية انجيله. حُمل المريض إلى يسوع وطلب الشفاء. فراح يسوع إلى جذور الشرّ. قال له: ((مغفورة لك خطاياك)). احتجّ الفريسيون: ((من يستطيع أن يغفر الخطايا))؟ هذا امتياز إلهيّ لم يحصل عليه نبيّ من الأنبياء. فأجاب يسوع بالعمل، لا بالكلام. شفى المخلّع (مر 2: 1-12). وهكذا كانت المعجزة علامة منحها الله فثبَّت صفةَ يسوع كابن الله الذي يغفر الخطايا. بل هناك رباط وثيق بين قسمَي الخبر: حين شفى يسوع المخلّع دمّر الخطيئة فيه. لهذا ارتبطت أخبار المعجزات بعطيّة باطنية: ((اذهب، إيمانك خلصك)) (9: 22). تصرّف يسوع ببساطة وقوّة لأنه يمتلك القوّة الالهيّة التي تخلّص البشر وتمنحهم الخيور السماويّة.
د - وهناك معجزتان هامتان بالنسبة إلى موضوعنا: الظـهور الالهي في المعموديّة، وحدث التجلّي. في الحالتين كشفت المعجزةُ البُعد السماوي لرسالة يسوع وشخصه. ففي التجلّي أشعّ المجد الذي يدلّ على الأزمنة الأخيرة، على وجه يسوع، مستبقًا المجيء (باروسيا). جاء يسوع في التواضع والذلّ، ولكنه أيضًا ملك المجد والديّان وسيّد ملكوت السماوات. أظهر نفسه كما هو لتلاميذه لحظة. أظهر نفسه كما سيكون في المجيء. والظهور في الاردن ينير هو أيضًا وضع يسوع الحقيقيّ: هو انسان. ومع أنه بلا خطيئة، تقبّل عماد التوبة متضامنًا مع الخطيئة. أراد يوحنا أن يتهرّب، فدعاه يسوع لكي يتمّ كل برّ. أكّد هو حالة يسوع كانسان، نقاوته من كل خطيئة، إرادته بأن يرتبط بالخطأة ويخضع مثلهم لطقس التطهير. أراد أن يمارس الشريعة اليهوديّة وبالتالي أن يتمّ كل برّ.
فكان جواب الآب ظهورًا إلهيًا، وتجلّى الروح على يسوع في بداية رسالته، وأعلن الصوت تماهي يسوع الابن مع عبد الله المتألم. وهكذا قدّم عماد يسوع وجهة عمله ووجهة شخصه. يسوع هو انسان بين البشر، يخضع لما يخضعون له، ويتّضع مع الخطأة. وفي الوقت عينه هو كائن سماويّ انفتحت له السماء وامتلك عطيّة الروح ورأى فيه الله ابنه ومسيحه. هذه المشهد يتضمّن الخطوط الكبرى لسرّ الملكوت الحاضر منذ الآن ولكن بشكل خفيّ، لسرّ الصليب والقيامة. هذا المشهد يدلّ على وعي يسوع لنفسه أنه المسيح، حسب إرادة الله ، فيعلن الأحداث التالية وينيرها.

3 - الالقاب المسيحانيّة وسرّ يسوع
أ - تفحّصنا حتّى الآن نشاط يسوع: دلّت كرازته على أن ملكوت الله قريب، ولكنه يبقى سرًا. كما دلّت على موقف الذين صاروا أبناء الله . وتحدّثنا عن قدرة الله في يسوع الذي دمّر سلطان قوى الشر وغفر الخطايا وأعاد النظام الذي أراده الله. كل عمل يسوع بدا وكأنه عمل المسيح الذي انتظره اسرائيل: ليلة الدينونة الأخيرة التي كلِّف بها، هو يأتي ليخلّص البشر الذين وثقوا به، ويدخلهم منذ الآن في حياة حميمة مع الآب، ويمكّنهم من عيش حياة جديدة معه. لا شكّ في أن كل هذا يبقى خفيًا، والمؤمنون يعيشون انتظار تجلّيه الأخير. ولكن الملكوت أعطي منذ الآن.
عرضَ المعلّمُ مرات عديدة هدف مجيئه وسط البشر بلفظة ((جئتُ)). بعضهم صوّر يسوع نبيًا كلّفه الله بمهمّة محدّدة. والبعض الآخر رأى الطابع المسيحاني والاصل الالهيّ ليسوع. لقد جاء يسوع يُلقي على الأرض نارًا. يحمل روح العنصرة. وكان خطّ ثالث جليانيّ، تحدّث عن مجيء ابن الانسان في المجد. قبل أن نعود إلى كل هذا، لا ننسى أن يسوع وعى نفسه مكلّفًا بمهمّة من قبل الآب، وأنه جاء من السماء لكي ينجزها.
ب - بين الألقاب التي تعبّر عن صفة يسوع المسيحانيّة، هناك تلك التي تصفه كالملك والممسوح بالزيت المقدس (مسيح). نُسبت إلى يسوع، بل هو أعلن نفسه ملكًا في آلامه. نحن نجد في الأناجيل الازائيّة استعمالين للقب ملك. الاستعمال الأول يتحدّث عن ملك هو وارث داود. والاستعمال الثاني يشدّد على علاقة هذا الملك بملكوت السماوات. مهما كانت أهميّة المسيحانيّة الملكيّة في العهد القديم، يجب أن نعرف أن الآمال الشعبيّة في زمن العهد الجديد تركّزت على رئيس تعينه قوّةُ الله فيقلب التسلّط الأجنبيّ ويقيم مُلك اليهود الشامل والنهائي. وحين ظهر يسوع كارزا بالكلمة، شافيًا المرضى، اجتمعت هذه الآمال فيه، فناداه المرضى ((يا ابن داود)) (9: 27؛ 15: 22؛ 20: 30-31؛ 21: 1-9؛ مر 10: 47؛ 12: 35؛ لو 18: 38-39؛ 20: 41)، وتوسّلوا إليه أن يرحمهم. ولكن يسوع الذي شفاهم طلب منهم أن يحفظوا السرّ: ليس هو الملك الذي يتخيّلون. هو يرفض نظرة وطنيّة وسياسيّة إلى الملك المسيح. غير أنه يوافق بعض الشيء على هذه التسمية التي يُطلقها الشعب.
والأمر ظاهر ساعة الدخول إلى أورشليم. هتف الجمع للملك ابن داود الذي يحمل بركة الربّ. قبل يسوعُ بهذا النداء، ولكنه دلّ على نظرة مغايرة حين استعمل الآتان، علامة السلام، لا الجواد الذي يرمز إلى الحرب. فبالصليب الذي صار قريبًا، سيصبح يسوعُ الملكَ الحقيقيّ ووارث داود والسيّد الذي انتظره الأنبياء. وايراد زك 9: 9 الذي يشدّد على ملك مسيحانيّ يأتي بالوداعة، يبيّن أن الرسل الأولين أدركوا بُعد هذا الحدث (21: 1-9؛ مر 11: 1-10؛ لو 19: 26-38).
وفي سلسلة ثانية من النصوص (ذات طابع جليانيّ)، تحدّث يسوع نفسه عن ملكوته (13: 41؛ 16: 24-28؛ 19: 27-29): هو ابن الانسان الذي يمارس وظيفة الديّان والملك (لو 22: 29-30). لقد وعى يسوع أنه الملك السماوي الذي جاء يقيم على الأرض ملكوت السماوات. سأله بيلاطس: ((هل أنت ملك اليهود))؟ فأجاب يسوع بدون تردّد: ((أنا هو)) (27: 11؛ مر 15: 2؛ لو 23: 2-3). وسخرية الفريسيين والكتابة على الصليب وهزء الجنود، كل هذا يدلّ على أهميّة اعتبار يسوع نفسه ملكًا خلال المحاكمة. إذن، طالب يسوع بصفة ملكيّة، ولكنه لم يكن ملكًا من الأرض كما انتظرته الجموع، بل الملك السماوي والمتعالي. خلال حياته العلنيّة، بدا يسوع متحفّظًا في هذا المجال. أما الآن فهو واضح كل الوضوح: فالموت والقيامة حاضران هنا وهما يؤسّسان مُلكه بشكل نهائيّ. صار الصليبُ الموضعَ الذي فيه مُسح يسوع ملكًا.
ج - إن لقب ملك ووارث داود يلتقي مع لقب آخر هو لقب لاهوتيّ: الممسوح، المسيح. استعمل المسيحيّون الأولون هذا اللقب مرارًا فصار اسم علم (11: 2؛ لو 2: 11، 26؛ 4: 41). نتوقّف هنا عند وقتين حاسمين في حياة المعلّم يبرَّر فيهما هذا الاسم: اعتراف بطرس على طريق قيصريّة فيلبّس، وإعلان يسوع أمام السنهدرين. في الوقت الأول، أراد يسوع أن يبني ايمان التلاميذ ولا سيّما بطرس. وفي الثاني ستكون شهادته الواضحة سبب موته.
يشكّل حدث قيصرية فيلبس منعطفًا في حياة المعلّم: بعد مرحلة أولى من النجاح الشعبي، نجد بعض التردّد. اعتزل يسوع الجمع وكرّس نفسه لتكوين تلاميذه قبل الصعود إلى أورشليم وإلى الصليب. وكان اعتراف بطرس محطّة هامة ارتبط بها التجلّي والانباء بالآلام والقيامة وتأسيس الكنيسة على بطرس والاثني عشر. بدأ يسوع وسأل تلاميذه عن رأي الناس فيه. لقد رأى الناس أن يسوع هو نبيّ عظيم.
ولكن بطرس راح أبعد من ذلك. قال مرقس: ((أنت المسيح)). وزاد متّى: ((إبن الله)). أما لوقا فقال: ((أنت مسيح الله)) (أي مرسل الله الممسوح بالزيت المقدس) (16: 16؛ مر 8: 29؛ لو 9: 20). نلاحظ تشديدًا واضحًا على طابع يسوع المسيحاني. أما عبارة مت فتعكس اعتراف ايمان صريح عرفته الجماعات المسيحيّة الاولى. وافق يسوع على ما قاله بطرس، ثم فرض الصمت حالاً إلى وقت موته وقيامته اللذين أنبأ بهما الآن. توسّع الانجيل الأول في هذا الجواب وأورد قول يسوع: ((طوبى لك يا سمعان بن يونا، لأن لا لحم ولا دم أظهرا لك ذلك، لكن أبي الذي في السماء)) (16: 17). لا بدّ من موهبة إلهيّة لنعرف هذه الحقيقة السماويّة المرتبطة بملكوت السماوات، لنعرف صفة يسوع المسيحانيّة. وحين وافق المعلّم على جواب بطرس، بيّن المستوى الذي يقف عليه اكتشاف طابعه المسيحانيّ. لا نبلغ إلى هذا المستوى إلاّ بنعمة فريدة من الآب.
وأمام المجلس الأعلى، ساعة تقرّر موت يسوع، سمّى المعلّم نفسه المسيح بشكل احتفاليّ وعلنيّ للمرة الأولى. سأله عظيم الكهنة: ((أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا إن كنت المسيح ابن الله)). فأجاب يسوع: ((أنت قلت. وأيضًا أقول لكم إنكم منذ الآن ترون ابن الانسان جالسًا عن يمين القدرة وآتيًا على سحاب السماء)) (26: 63-64؛ مر 14: 61-62؛ لو 22: 67-69). فقاد هذا الجوابُ يسوع إلى الموت. ففي ظروف خطيرة جدًا، وأمام أرفع سلطة في اسرائيل، شهد يسوع فأعلن أنه المسيح، فكلّفه هذا الاعلان الموت. ارتبط هذا اللقب بالنظرة الجليانيّة كما في سفر دانيال وبالفكرة الملكيّة التي توسّع فيها مز 110. فيسوع الذي يُحكم عليه بالموت، يعلن مجيئه المنتصر وإقامة مملكة السماء عبر الدينونة. لم يعد هنا من موضع لمسيح سياسيّ. ففي الموت والقيامة صار يسوع حقًا المسيح ابن الله الحيّ.
د - وجاء لقب ((ابن الله)) في السياق عينه، فدلّ هو أيضًا على سرّ عميق: فقد يعني فقط انسانًا قريبًا جدًا من الله ، فيدلّ على كائن مسيحانيّ، وإن لم يكن هذا الاستعمال متواترًا في العالم اليهوديّ. في هذا المعنى استعمله بطرس وعظيم الكهنة. غير أن الكنيسة اكتشفت مدلولاً آخر عميقًا على ضوء العنصرة. لا شكّ في إن إشارات عديدة في عمل يسوع وكرازته، كشفت فيه صفة سامية وحياة حميمة مع الآب. ولكن هذا لا يُدرك إلاّ في أشخاص تهيّأوا فخضعوا بدون تردّد لأنوار الروح. هي عبارة دلّت على أن يسوع هو ابن الله . ولكن كل عمله وكل كيانه قد كُشفا لنا في نور وصل إلينا من العلاء.
هـ - كل هذا يقودنا إلى لقب ابن الانسان. هي عبارة استعملها المعلّم مرات عديدة واحتفظ بها التقليد باحترام دون أن يستعملها بدوره. هي تعني انسانًا من الناس (كما في حزقيال وبعض المزامير). ولكنها نالت في الإطار الجليانيّ معنى رفيعًا جدًا. سمّى دانيال وأخنوخ بهذا الاسم الكائنَ السماوي الذي سينزل من السماء ليدين العالم ويقيم ملكوت الله إلى الأبد (دا 7: 13؛ 1 أخن 38ي؛ 4 عز 13: 3). وفي الأناجيل الإزائيّة، نميّز ثلاث سلاسل من الأقوال تحمل هذا اللقب. أولاً، هناك نصوص اسكاتولوجية تستلهم سفر دانيال حيث يرتبط ابن الانسان بانتصار يدلّ على نهاية الأزمنة. رج 24: 30 (مر 13: 26؛ لو 21: 27)؛ 24: 37-39 (مر 13: 14)؛ 24: 44 (لو 12: 40)؛ 25: 31 (مر 14: 62)؛ 26: 64 (لو 22: 69؛ مر 8: 38). يعتبر يسوع نفسه كالديّان الذي سيأتي في نهاية الأزمنة على سحاب السماء مع الملائكة والقديسين. هو ينعم بقوّة إلهية ويشعّ بمجد سماويّ. نجد هذه النصوص في القسم الأخير من الأناجيل، الذي يبدأ في الخطبة الجليانيّة ليصل إلى موت يسوع وقيامته.
وهناك سلسلة ثانية من النصوص تطبّق العبارة على المسيح العائش في فلسطين. بعضها يدلّ على يسوع الفقير الذي لا موضع له يُسند إليه رأسه (8: 20؛ لو 9: 58)، أو يسوع الذي يأكل ويشرب (11: 19؛ لو 7: 31) مع العشّارين والخطأة، أو يسوع الذي له سلطان به يغفر الخطايا على الأرض (9: 6؛ مر 2: 10؛ لو 5: 24)، أو يسوع الذي يؤكّد أنه سيّد السبت (12: 8؛ مر 2: 28؛ لو 6: 5). في هذه القرائن، يدلّ لقب ابن الانسان على انسان من الناس، كما يدلّ على المسيح. كيف نفهمه؟ هو يبقى في وضوح غامض خلال حياة يسوع العلنيّة. فالنفوس المستعدّة ترى صفة يسوع المسيحانيّة التي تترافق مع سلطته على السبت أو غفران الخطايا. من يمارس هذه السلطة يكون المسيح كما في سفر دانيال. ولكن يسوع أراد أن يحافظ على سرّه الذي سيتوضّح شيئًا فشيئًا ليصل بنا إلى موته وقيامته.
والسلسة الثالثة تقف بين السلسلة الأولى والسلسلة الثانية: هي نصوص تتوجّه إلى التلاميذ الذي ينشّئهم يسوع على أسرار الملكوت، وهي تتحدّث عن ابن الانسان الذي سيتألّم ويموت. وتلتقي عبارة دانيال هنا مع عبارة تتحدّث عن عبد الله المتألّم (16: 21؛ رج مر 8: 31؛ لو 9: 22؛ مت 17: 22؛ رج مر 9: 31؛ لو 9: 44؛ مت 20: 18؛ رج مر 10: 33؛ لو 18: 31) كما في أشعيا النبيّ. ونضمّ إليها قولين يشيران إلى القيامة، مرّة في كلام يتوجّه إلى التلاميذ (17: 19؛ مر 9: 9) ومرّة أخرى في كلام ملغز موجّه إلى الفريسيين (12: 40؛ لو 11: 30). نحن في شكل عام أمام نصوص موجّهة إلى تلاميذ آمنوا بيسوع أنه المسيح فلفت انتباههم ما قاله أشعيا. لا شك في أن مساكين الرب (ع ن و ي م) أدركوا سمات مسيح فقير ومتواضع، ولكنهم لم يستطيعوا أن يقرّبوا بين ابن الانسان في دانيال وعبد يهوه في أشعيا. إن يسوع قرّب بين هذين اللقبين، فما استطاع التلاميذ أن يتبعوه، بل ((ثاروا)) عليه، وحزنوا، ولم يفهموا (16: 22؛ 17: 23). وسينتظرون الصليب وأنوار الصليب لكي يدركوا معنى كلماته.
إن عبارة ((ابن الانسان)) هي عزيزة على قلب يسوع، لأنها تذكر بوضوح طابعه المسيحاني الرفيع، وتخفيه في الوقت عينه عن أعين الذين لم يستسلموا إليه في الايمان. هذا ما يُسمّى السرّ المسيحانيّ الذي أشرنا إليه: غموض في بعض تعليم يسوع. صمت يُفرض على من نال الشفاء أو على شياطين طُردوا من البشر، تحفّظ في استعمال الألقاب المسيحانيّة خلال الحياة العلنيّة. كل هذا يدلّ على موقف اتخذه يسوع بملء وعيه. هو لا يريد أن يكشف عن نفسه كمسيح سياسيّ، كما يخاف من النظـرات البشريّة والحماس العنيف والسطحيّ لدى معاصريه. كما لا يريد أن يقدّم نفسه صراحة كالمسيح المتعالي. لا شكّ في أن عمله وتعليمه حول الشريعة يدلاّن على نبيّ عظيم ستتعرّف إليه القلوب البسيطة وتتعلّق بشخصه. ولكن كل هذا يبقى سريًا حتّى اليوم الذي فيه تبدأ المرحلة الأخيرة. حين يطلّ الموت والقيامة، يتبدّل كل شيء، ويترك يسوع كل التباس: يقول عن نفسه إنه الملك والمسيح وابن الانسان وعبد يهوه.

4 - الخلاص بموت ابن الانسان وقيامته
لو قبل اليهود قبولاً صريحًا يسوع المسيح والملكوت، لكان قبولهم البدايةَ المباشرة للعهد المسيحاني كما صوّره الأنبياء. ولكن رفضهم فرض إعادة النظر في المخطّط الخلاصي. وهكذا يتمّ الخلاص بواسطة ذبيحة الصليب. ولهذا، اتّخذ الملكوت وجهة أخرى. تلك هي وجهة بشريّة لم يتوقّف عندها الانجيليون. فالملكوت الذي وعظ به يسوع منذ البداية هو واقع سريّ. ويسوع نفسه تحيط به الظلال. كل شيء يتعلّق بحدث حاسم هو الموت والقيامة قبل أن يكون المجيء.
أ - خلال رسالة يسوع الجليلية، الموت هو حاضر. فالفريسيون رأوا في يسوع خصمًا عنيدًا يجب أن يتخلّصوا منه. وصوّرت الأناجيل نموّ هذه العداوة التي لا شيء يوقفها (11: 18؛ 12: 14؛ مر 3: 6؛ لو 19: 47؛ يو 5: 18؛ 7: 1، 19، 20، 25؛ 8: 37-40؛ 11: 53). وجاءت كلمات غامضة تفوّه بها المعلّم فجعلتنا نستشفّ المكانة التي يحتلّها في فكره موته وقيامته. لام الفريسيون التلاميذ لأنهم لم يمارسوا الصوم، فأجاب يسوع: كيف يصومون والعريس معهم. ولكن ستأتي أيام يؤخذ العريس منهم (9: 15؛ مر 2: 19-20؛ لو 5: 34). وطلب الفريسيون أيضًا آية، فأجابهم بطريقة ملغزة وتحدّث عن آية يونان. ((هكذا يبقى ابن الانسان ثلاثة أيام وثلاث ليال في بطن الأرض)) (12: 40). وحدّث يسوع التلاميذ عن كأس سيشربها (20: 22؛ مر 10: 38)، وعن معموديّة يعتمد بها (لو 12: 49-50)، عن حجر يرذله البناؤون فيصبح رأس الزاوية (مر 12: 10-11؛ رج مز 118: 22-23). نستطيع القول إن الصليب يقف أمام يسوع، وهو يرغبه رغبة عظيمة (لو 22: 15). أما في يو 2: 4، فيسوع يتكلّم منذ البداية عن ساعته.
ب - ولكن كيف يتصوّر يسوع هذا الحدث الحاسم في نظره؟ اعتبر يسوع موته كواقع ضروريّ، كمهمّة تُفرض عليه، كواجب يخضع له. فالآب يريد أن يشفي البشريّة ويقيم ملكوته، ويوزّع عطاياه. وقد أرسل يسوع من أجل ذلك. وتحقيق هذا القصد الخلاصيّ يمرّ في الموت. هذا ما تشدّد عليه النصوص. ((ينبغي على ابن الانسان أن يتألّم كثيرًا)). وحين رفض بطرس هذا الكلام، وبّخه يسوع بقساوة لأن أفكاره ليست أفكار الله بل أفكار البشر (16: 23). ولمّح يسوع إلى خيانة يهوذا فقال: ((وابن الانسان يمضي كما هو مكتوب عنه)) (مر 14: 21). والتلميحات إلى الكتب المقدسة في الانباءات بالآلام، واختيار التفاصيل المرويّة، كل هذا يدلّ على الاهتمام عينه. فالآلام تُتمّ مخطّطَ الله. ويسوع خضع لها بدون تحفّظ، بحبّ لا حدود له وباحترام بنويّ. خلال حياته لم يطرح سؤالاً على مخطّط الآب، بل رضي به كلّ الرضى حتّى في قلب المحنة. ((كل شيء ممكن لديك. فأجز عني هذه الكأس. ولكن ليس ما أريد أنا، بل ما تريد أنت)) (26: 39؛ مر 14: 36؛ لو 22: 42؛ يو 4: 34؛ 12: 27؛ 14: 31). وعاش يسوع طوال حياته وحتى الصليب هذه القاعدة الكبرى التي عبّر عنها: صنع مشيئة الآب. والصليب هو سرّ حبّ بنويّ تجاوب الله معه بفعل حبّ أبويّ هو القيامة. فالنظرة إلى الموت ترتبط دومًا بالنظرة إلى القيامة.
ج - وطاعة الابن التامّة هذه لها مدلول مسيحانيّ. فهو يتألّم ويموت كمرسَل الله من أجل الملكوت. هذا ما يدلّ عليه قول نقرأه في لو 12: 49-51: ((جئت لألقي على الأرض نارًا وكم أرغب في أن تشتعل. إن لي معمودية اعتمد بها وما أشدّ تضايقي حتّى تتمّ. أوتظنون أني جئت لألقي السلام على الأرض؟ أقول لكم: لا، بل الشقاق)). إن إعطاء الروح الذي هو موضوع رغبة المعلّم قد خضع لقبول معمودية كان عماد الاردن صورةً مسبقة عنها. هذه المعموديّة هي آلام يسوع (مر 10: 38) يتطلّع إليها في تضايق، ولكنه يرغب فيها كوسيلة مطلوبة لمجيء الملكوت.
إن مجيء ابن الانسان في المجد يمرّ في ذلّ الموت على الصليب. والملكوت يفترض موت وقيامة ذاك الذي هو ملك فيه يتلخّص هذا الملكوت. عاد يسوع ثلاث مرات إلى هذا الحدث المؤلم والضروريّ في عبارات مشابهة (انباءات الآلام)، وإلحاح الانجيليين يدلّ على تعليم هام عاد إليه المعلّم مرارًا دون أن يُفهم. والاشارة الثالثة التي هي الأوضح، قد جعلها متّى حالاً قبل الدخول إلى أورشليم. فيسوع يصعد بكامل وعيه إلى المدينة التي سيموت فيها، وولْي الخبر سيلقي الضوء على أهمية هذا القرار ومدلوله. وكان جدال حول المقاعد الاولى في الملكوت، استفاد منه يسوع ليشدّد على هذه الخدمة التي يقوم بها، على موته التكفيريّ. وكانت معجزة أخيرة ساعة خروج يسوع من أريحا، فدلّت على أن الموت هو ثمن هذه الشفاءات وهذا الخلاص.
د - قال يسوع لابني زبدى المهتمين بالأولويّة في الملكوت، وبالتالي بمجدهما الخاص: ((أنتما لا تعلمان ماذا تطلبان. هل تستطيعان أن تشربا الكأس التي سأشربها)) (20: 22؛ مر 10: 38)؟ وزاد مرقس: ((وأن تعتمدا بالمعمودية التي اعتمد بها)). وهكذا تحدّث يسوع بعبارة ملغزة عن آلامه القريبة جدًا. نحن أمام موازاة بين المشاركة في الصليب والمشاركة في مجد الملكوت. هناك أمر يفرض نفسه على يسوع، وهو يأتي من عند الله . أجاب الرسولان أنهما يقدران. وثبّت يسوع إعلانهما. سيدخلان بعده في سرّ الآلام وينالان الجزاء. موهبة الآب حريّة ونعمة. والصليب لا يعطينا حقًا بالجزاء، بل يفتحنا على عطيّة الآب.
وراح يسوع أخيرًا إلى قلب الموضوع فأعلن: ((من أراد أن يكون الكبير بينكم يكون خادمكم. ومن أراد أن يكون الاول، عليه أن يكون عبدكم. على مثال ابن الانسان الذي ما جاء ليُخدم، بل ليخدم، ويبذل حياته فدية عن كثيرين)) (20: 26-28؛ مر 10: 43-45). إن عمل الآلام والموت يبدو خدمة وعطاء. لقد تواضع يسوع وأخذ صورة العبد، ولهذا كان له المقام الأول في الملكوت. وبهذا الاتضاع أسّس الملكوت بشكل نهائيّ وثبّته. وذكّرنا هذا القول بعمل يسوع المسيحاني حين أعلن المعلّم لقبه الرسمي ((ابن الانسان)) وتحدّث عن رسالته ((جئت)).
وتحدث النصّ عن الفدية (لترون) عن الكثيرين. الفدية هي كميّة من المال بها نفتدي عبدًا من الأسر. وقد دلّت على التكفير في أش 53. حين أعطى يسوع حياته، صار فدية عن الكثيرين. هناك مقابلة بين الواحد والكثيرين. لقد أتمّ يسوع باسم الجميع عملاً لا يستطيعون أن يقوموا به. لقد جاء يخلّص الخطأة، فانضمّ إليهم وحمل شقاءهم. وهزء الفريسيين ينير كل مشهد الجلجلة: ((خلّص آخرين وما استطاع أن يخلّص نفسه)) (27: 42). فهو إذ أراد أن يخلّص الآخرين رفض أن ينجو من الموت.
هـ - وهناك قول آخر ينير المعنى الذي أعطاه يسوع لموته: هو قول تلفّظ به يسوع خلال العشاء الأخير الذي شارك فيه تلاميذه. نجده في الأناجيل الازائيّة الثلاثة وفي الرسالة الأولى إلى الكورنثيين (26: 26-29؛ مر 14: 22-25؛ لو 22: 15-20؛ 1كور 11: 23-25). تذكر هذه النصوص مباركة يسوع للخبز والخمر. نحن في إطار عشاء فصحيّ يذكّر الشعب بالخلاص السابق ويفتح على الرجاء. فالله سيأتي أيضًا ويخلّص شعبه المسبيّ ويمنحه الخيور السماويّة. تحدّث يسوع عن الخبز المكسور وعن الخمر المراق كرمز لجسده ودمه اللذين أعطيا لتلاميذه. وأعلن يسوع موته القريب لأن الطقس الافخارستي يتّخذ معناه بالنظر إلى موت يسوع على الصليب. سيموت يسوع عن أخصّائه وهو يبذل ذاته لأجلهم كالحمل الفصحيّ.
في العشاء الأخير دلّ يسوع بوضوح على المعنى الفدائى لموته فجعله في إطار العهد القديم. بل هو قدّم ذبيحة نفسه، لأن لا قيمة للصليب إلاّ بقدر ما يتقبّله يسوع في المحبّة والطاعة البنويّة. وهكذا ارتبط العشاء الأخير ارتباطًا وثيقًا بالصليب وأعطاه كل معناه. ونعمَ التلاميذ بهذا الموت وشاركوا فيه حين تقبّلوه. فإذا كان دور يسوع فريدًا، وإن كان الجميع قد خُلِّصوا بذبيحة تكفيرية واحدة، يبقى أن هذا العمل لن يتمّ إلاّ إذا حاول التلاميذ أن يتبعوا المعلّم ويتحلّوا وسط المحن بذات عواطف الطاعة والمحبّة. ((من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني)) (16: 24). إذا كان يسوع هو ينبوع كل فداء بموته وقيامته، فعطاء ذاته لأخصّائه لا يمنع عنهم المحنة. فمعه يمرّون عبر المحن. والفداء الذي أتمّه يسوع، لا يأخذ كامل معناه إلاّ حين يشارك فيه تلاميذه. هذا هو معنى الطقس الافخارستي حيث نتذكّر موت الرب ونعترف بقيامته وننتظر مجيئه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM