الفصل الرابع; استراتيجيّة الخبر في الانجيل الأول

الفصل الرابع
استراتيجيّة الخبر في الانجيل الأول

منذ وقت قصير بدأ الشّراح الذين يقرأون خبر متّى، يطرحون على الانجيل الأول، كما على سائر الأناجيل، سؤالاً حول اللاهوت أو الوجهة اللاهوتيّة. أما الوجهة اللاهوتيّة لانجيل من الأناجيل فهي الفهم الخاص للإيمان والحياة اللذين يُشرفان على العالم الاخباريّ. فالانجيليون لا يقولون لقرّائهم وسامعيهم نظرتهم اللاهوتيّة. بل يبيّنون لهم ما هم عبر وصفهم للاطار والطابع والأحداث التي في أناجيلهم.
وإذا عدنا إلبى الخبر في انجيل متّى والميزات التي تبرز فيه، قد تكون الطريق الرئيسيّة التي أخذها الانجيليّ ليصف هذه الميزات هي ما يسمّى "بلاغة الفهم". سنتوقّف عند بلاغة الفهم في مت، وتطبيقها في الخبر الانجيلي. هذا ما نسميه ستراتيجيّة الخبر في الانجيل الأول.

1- بلاغة الفهم عند متّى
اهتمّ متّى، شأنه شأن سائر الانجيليين، بأن يُقنع قارئه بصحّة نظرته اللاهوتيّة. فجعل من الله السلطة السامية في خبر انجيله، ومن الراوي ويسوع شخصًا يشبه الله في السلطة التي يمتلكانها. معنى هذا هو أن الله صار "ينبوع" الوجهة اللاهوتيّة التي ينقلها متّى عبر يسوع وعبر "صوت" الراوي. وبواسطة الراوي وشموع، أعلن متّى في خبره وجهة لاهوتيّة تستبق القارئ وتؤثّر عليه، لأنها تَنعم بموافقة الله.
أ- مبدأ التفاعل
ما هي بلاغة الفهم المتّاويّة؟ هي ستراتيجيّة أدبيّة لوصف السمة الأساسيّة في إنجيله. هي طريقة متّى في وصف دراميّة الأشخاص كما يتفاعلون مع يسوع، وبعضهم مع بعض، مع الله أو عامل إلهي أو بشريّ. ونعطي أمثلة على ذلك. في 2: 1-12، يتفاعل المجوس مع هيرودس ويؤثّرون عليه وعلى تصرّفاته. في 9: 10- 11، نرى الفريسيين مع التلاميذ. في 3:27- 10، نقرأ عن يهوذا في علاقته مع رؤساء الكهنة والشيوخ. وفي 57:27- 61، علاقة يوسف الرامي مع بيلاطس.
وعلى مستوى الله، نراه حاضرًا مع بطرس ويعقوب ويوحنا على رأس الجبل (17: 5-6) بواسطة الغمامة والصوت. أما الرسل فسقطوا على وجوههم. وهناك تفاعل مع يوحنا المعمدان (3: 5-6، 7- 10)، مع الملائكة (1: 20؛ 2: 13، 19؛ 28: 2، 5). ونلاحظ أيضًا "تفاعل" المجوس مع النجمة العجائبيّة (2: 2، 10).
ولكن بما أن يسوع هو الفاعل الاسكاتولوجيّ السامي باسم الله في خبر مت، سنضيّق نظرتنا فنحدّد بلاغة الفهم في "التفاعل الدراماتيكي للأشخاص مع يسوع". وحين ندرك هذا، نحدّد بلاغة الفهم كاستراتيجيّة أدبيّة يستعملها ليحدّد السمات الدراماتيكيّة للأشخاص: إلى أي مدى حين "يرون" أو "يسمعون" يسوع في وسط أحداث الخبر، هم "يفهمونه" فهمًا صحيحًا ويتجاوبون معه "فيتقبّلونه" و"يصنعون" إرادة الله كما يعلّمها.
ب- الأسلوب المتاويّ في بلاغته
كيف يطبّق متّى بلاغة الفهم في الخبر الانجيليّ؟ عبر فنّ إظهار السمات. ففي الخبر المتّاويّ، يلعب يسوع دور القاعدة والنموذج "للإيمان والحياة". وما نقوله عن يسوع نستطيع أن نقوله عن يوحنا المعمدان (3: 1- 12؛ 21: 32). ومع ذلك، فإن على يسوع أن يصحّح النقص في إدراك يوحنا له (11: 2- 5). وكسمات تتفاعل مع يسوع، قابلها متّى بعضها ببعض ليرى إلى أيّ حدّ هي مرتّبة بالنسبة إليه. وعبر مثل هذه المقابلة للسمات، يلحّ متّى على القارئ لكي يوافق مع بعضها ويعارض البعض الآخر. ويشارك متّى موقف القارئ تجاه هذه السمات، وبالتالي يعلّمه الطريقة الصحيحة للتجاوب مع يسوع ومع تعليمه عن إرادة الله. وإذ يشارك الانجيليّ موقف القارئ تجاه السمات، فهو يقوده لكي تكون نظرته "قويمة" تجاه يسوع وخادمه أي في تناغم مع وجهة متّى اللاهوتيّة. ويمختصر الكلام، ما يتوخّاه متّى للقارئ حين يرى يسوع ويسمعه وسط أحداث الخبر، أن يفهمه فهمًا قويمًا ويتجاوب معه فيتقبّله ويصنع إرادة الله كما يعلّمها.
ما هي الإشارات الرئيسيّة التي تنبّه القارئ في ما يخصّ بلاغة الفهم؟ أهمّها هو استعمال أفعال تدلّ على الادراك، على المعرفة، على ردّة الفعل. فإذا ألقينا نظرة إلى نصّ متّى، نكتشف أن هذه الأفعال ترد مرارًا، وأن بعضها ينتمي إلى مفردات عزيزة على قلب متّى.
ج- رأى وسمع
مثلاً، يستعمل مت أفعال الادراك الحسيّ مثل "رأى" أو "سمع" ما يقارب 164 مرّة. ويلفت نظر القارئ ستًا وستين مرّة بالاداة "فإذا" أو "ها".
هناك أولاً رأى "بلابو" (20 مرّة). "ديابلابو" (مرّة واحدة). "اوراوو" (13 مرة). "إيدون" (58 مرّة). "تياأوماي" (4 مرات). "تيوريو" (مرتين). ونعطي بعض الامثلة: من ينظر إلى امرأة ليشتهيها" (5: 30). "الآب الذي يرى في الخفاء" (6: 4، 16، 18). "تنظر القذى في عين أخيك" (3:7). "أخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران" (11: 4). هذا مع "بلابو". ومع "أوراوو" نقرأ: "رأوا الصبي مع مريم أمّه" (2: 11). "أنظر أن لا تقول لأحد" (8: 4). "أنظروا أن لا ترتاعوا" (24: 6). وأخيرًا هناك فعل "تيويو": فيعني راقب، حرس، كما في 27: 36: "وجلسوا هناك يحرسونه".
ونجد فعل "سمع" مع "أكوو" (58 مرّة). "فلما سمع هيرودس اضطرب" (3:2). "فلما سمعوا هذا من الملك" (9:2). "صوت سُمع في الرامة" (18:2). "وإذ سمع أن ارخيلاوس" (2: 22). "سمع يسوع أن يوحنا أسلم" (12:4). "من يسمع أقوالي ويعمل بها" (24:7). "من يسمع ولا يعمل (26:7). كما نجد الاداة "إدو"، هوذا (62 مرّة) مع "إيدي"، أنظر (4 مرّات).
د- عرف وأدرك
ونقرأ أفعال المعرفة مثل "عرف"، "علّم"، "أدرك"، نال وحيًا. هي ترد 58 مرّة في الخبر المتّاويّ. وفعل فهم يرد تسع مرات وهو ينتمي إلى أسلوب متّى. بالنسبة إلى "عرف" نجد "غينوسكو" (20 مرّة). "لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر" (25:1). "لا تعرف شمالك ما تفعل يمينك" (3:6). "أصرّح لهم أني لم أعرفكم قط" (23:7). "أنظروا لا يعرف أحد" (9: 30). وفعل "أبيغينوسكو" (6 مرات). "من ثمارهم تعرفونهم" (7: 16). "ليس يعرف الابن إلاّ الآب" (27:11). "إيليا قد جاء ولم يعرفوه" (17: 12). وفعل "أويدا" (25 مرّة). "أبوكم السماوي عالم" (6: 32). "فلكي تعلموا أن ابن البشر" (9: 6). "لا تعلمان ما تطلبان" (20: 22). وفعل "نويوو" (4 مرات) الذي يعني فهم، شعر، أدرك. "ألا تفهمون بعد" (15: 17)؟ "أحتّى الآت لا تفهمون" (9:16)؟
ونقرأ في الخطّ عينه فعل "أبوكالبتو"، أعلن، كشف، أظهر. "ليس مكتوم إلاّ ويُعلن" (26:10). "أعلنتها للأطفال" (11: 25). "ومن شاء الابن أن يعلن له" (27:11). "لا لحم ولا دم أعلن لك ذلك" (17:16). وفعل "سينيامي"، فهم، ألقى نظرة إلى الداخل (9 مرات). "لا يسمعون ولا يفهمون" (13: 13). "حينئذ فهم التلاميذ" (17: 13).
هـ- التجاوب وردة الفعل
أولاً: قبول يسوع
بعد فعل "رأى" وفعل "سمع" وفعل "عرف"، نقرأ أفعال تدلّ على ردّة الفعل، تدلّ على قبول يسوع (أو رسول من الله). وهذا ما نجده في أشكال متنوّعة في الانجيل المتّاويّ. "قبل" أو "سجد" (كلمة عزيزة على قلب متّى)، أو "أكرم" أو "اعترف" أو "تاب"، أو "ندم" أو "اعتقد" أو "اعتمد".
نقرأ فعل "داخوماي" (10 مرات) في 10: 40: "من يقبلكم يقبلني، ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني". وفعل "لمبانو" (أخذ) الذي يرد 58 مرة. "من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك" (5: ). "كل من يسأل يأخذ" (8:7). "أخذ أسقامنا وحمل أمراضنا" (8: 17). "مجانًا أخذتم مجانًا أعطوا" (8:10). وفعل "بروسكينيو" (سجد) الذي يرد 13 مرة. "أتينا لنسجد له" (2: 2)، قال المجوس). "آتي أنا أيضًا وأسجد له" (2: 8، قال هيرودس). "فخرَّوا وسجدوا له" (2: 11). "إن خررت وسجدت لي" (4: 9، قال الشيطان ليسوع).
ونجد فعل "انترابوماي": "لعلّهم يهابون ابني" (37:21). وفعل "هومولوغيو" (اعترف): "من يعترف بي قدّام الناس، اعترف به قدام أبي" (10: 32). يرد أربع مرات. وفعل "ماتانويو" الذي يعني تاب، غيّر فكره. ويرد أربع مرات: "توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات" (3: 2) "وبّخ المدن التي ما تابت" (11: 20). وفعل "ماتامالوماي" (ندم). "لكنه ندم أخيرًا ومضى" (21: 29). ويرد مرّتين. وفعل "بستاوو" مع "ايس" (آمن) في 18: 6: "من أعثر أحد المؤمنين بي". "بستاوو" مع "إبي" في 27: 42: "فلينزل عن الصليب فنؤمن". وأخيرًا مع حرف الجرّ: "لماذا لم تؤمنوا به" (21: 25)؟ ونقرأ في 25: 40: "لي لم تصنعوه" (فعل بويايو اموي). وفي 28: 19: "عمّدوهم" (ببتيزو).
ثانيًا: رفض يسوع
ومقابل هذا، يستطيع الانسان أن يتشكّك من يسوع، أن يجرّبه، أو ينكره. أو أن يخونه كما فعل يهوذا، أو يسلّمه كما فعل معارضوه، أن يهزأ به، يضربه، يجلده، يجدّف عليه، يبصق عليه، يشتمه.
أول فعل نقرأه في هذا الاطار "سكنداليزوماي"، أي تشكّك من يسوع. كان يسوع له سبب عثار. "طوبى لمن لا يشكّ فيّ" (11: 6). "كانوا يعثرون به" (13: 57). والانسان يجعل أخاه يعثر. يرد 14 مرّة. "حينئذ يعثر الكثيرون" (24: 10). "كلّكم تشكّون فيّ" (26: 31). ويقول يسوع أيضًا: "إن أعثرتك يدك، إن أعثرتك عينك" (8:18-9). "من أعثر أحد هؤلاء الصغار" (18: 7). وثان فعل هو "باراديدومي" الذي يرد 32 مرة ويعني أسلم. "يهوذا الاسخريوطيّ الذي أسلمه" (10: 4). "ابن الانسان يسلم" (20: 18). ويرد فعل أسلم بشكل خاص في خبر الآلام: "ابن الانسان يسلم ليصلب" (26: 2). "أنا أسلمه لكم" (26: 15، قال يهوذا). "كان يطلب فرصة ليسلمه" (26: 16). "إن واحدًا منكم يسلمني" (26: 21).
والفعل الثالث "بايرازو"، جرّب، امتحن (ست مرات). "ليجرّبوه فسألوه أن يريهم آية" (16: 1). "جاء إليه الفرّيسيون ليجرّبوه" (19: 3). وقال يسوع لسائليه: "لماذا تجرّبونني يا مراؤون" (18:22)؟ "وسأله واحد ليجرّبه" (22: 35). والفعل الرابع "أرنيوماي"، أنكر": "من ينكرني قدّام الناس، أنكره أنا أيضًا" (10: 33؛ رج 26: 69- 70، 71-72، 73-74). والخامس "أبارنيوماي" (4 مرات). "فلينكر نفسه" (16: 24). "تنكرني ثلاث مرات" (26: 34). والفعل السادس "أفيامي" (تخلّى). "عندئذ تركه التلاميذ" (56:26).
ونقرأ فعل "بصق" (امبتوو) في 26: 67 (بصقوا في وجهه) وفي 27: 30 (بصقوا عليه). وفعل "ضرب" (تبتو) في 27: 30 (ضربوا بها رأسه). وفعل "جلد" في 20: 19 (يجلدوه ويصلبوه، مع فعل مستيغوو) وفي 27: 26 (جلد يسوع مع فعل فراغالوو). وفعل "جدّف" (بلاسفيميو) في 9: 3 (قال الكتبة: هذا يجدّف) وفي 27: 39 (كان المجتازون يجدّفون عليه). وفعل "هزئ" (امبايزو) في 20: 19 (ليسخروا به)؛ 27: 29 (هزئوا به). رج 27: 31، 41. وفعل "اونايديزو" (عيّر، 27: 44). وفعل "ستاوروو (صلب) في عدد من النصوص: 20: 19؛ 26: 2؛ 27: 22، 23، 26، 31، 35.
ثالثاً: عمل وحفظ
هناك أفعال تدلّ على عمل إرادة الله (كما في تعليم يسوع). مثلاً: عمل إرادة الآب السماويّ، فعل من أجل يسوع، حفظ، أخرج، حمل ثمرًا. وتبدأ مع فعل "صنع" (بويايو) الذي يرد 88 مرة في مت. نقرأ في 7: 21: "يصنع إرادة أبي". في 12: 20: "يصنع مشيئة أبي". رج 21: 31. وفي 1: 24: "فعل (يوسف) كما أمره الملاك". وفي 5: 19 قال يسوع: "من عمل وعلّم". وفي 6: 1: "تصنعوا صدقتكم" وفي 7: 24: "من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها". رج 23:13؛ 19: 16. ونقرأ بشكل خاص 25: 40، 45: "كل ما صنعتموه... إليّ صنعتموه... وما لم تصنعوه إليّ لم تصنعوه".
وفعل "تيريو" (حفظ) يرد في 23: 3: "إعملوا به واحفظوه". وفي 28: 20: "علّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم". وفعل "أخرج" (إكبالو) في 12: 35: "الانسان الصالح من كنزه الصالح يخرج الصالحات، والانسان الشرير من كنزه الشرير يخرج الشرور". وهناك فعل "كربوفوريو" في 13: 23: "ذلك يُثمر". وفعل "بويايو كربون" في 8:3، 10: "احملوا ثمرًا... كل شجرة لا تحمل ثمرًا، لا تصنع ثمرًا". رج 10: 7، 17-19؛ 8:13؛ 26: 21، 43.
ومع أن هذه اللائحة لا تستنفد الألفاظ المتّاويّة والعبارات التي تدلّ على الادراك والمعرفة وردّة الفعل، إلاّ أنها كافية لكي تعرّفنا إلى بناء متّى في بلاغة الفهم.
ولكن يبقى تنبيه نسوقه. حين نلاحظ الجمل التي فيها يستعمل متّى بلاغة الفهم، لا ننتظر أن نجد كلّ مرّة إشارة واضحة إلى جميع الأفعال التي تشير إلى الادراك والمعرفة وردّة الفعل. فالإخبار يتضمّن بالضرورة فجوات على القارئ أن يملأها. لهذا، يُفرض على القارئ أن يستخرج عملاً أو أكثر من هذه الأعمال. ونعطي مثالاً على ذلك: يلاحظ الراوي بكل بساطة في الأخبار عن القيامة، أن ملاك الرب يوجّه كلامه إلى النسوة، وأنهنّ بدورهنّ أسرعن يخبرن التلاميذ (28: 5، 8). فمن البديهيّ أن لا يوضح الراوي أن النساء سمعن كلمات الملاك وفهمنها وتجاوبن معها، فصنعن إرادة الله كما أوصى بها الملاك. ومع ذلك فعلى القارئ أن لا يتردّد في استخلاص هذه الأعمال من وصف الراوي للنساء.

2- بداية الانجيل
في بداية الخبر الانجيليّ (1: 1؛ 4: 16)، يبدو استعمال متّى لبلاغة الفهم ظاهرة منذ الأحداث الأولى. ونحن نجد أمثلة لافتة لهذا الاستعمال في تصوير المجوس ويوسف تجاه هيرودس (ف 1-2). وتصوير الشعب اليهوديّ تجاه قوّاده الدينيّين (ف 3).
أ- المجوس وهيرودس
حين نتطلّع إلى صورة المجوس ويوسف تجاه هيرودس، نرى أن مت يتحدّث في الفصل الثاني عن "تصادم" بين هيرودس، ملك يهودا، ويسوع المسيح، ملك اليهود. بما أن يسوع هو طفل، فالمجوس ويوسف لعبوا دور الرجال البالغين. ومنذ بداية الخبر يعارض مت بشدّة بين المجوس وهيرودس (2: 1-12). لقد "رأى" المجوس النجم الموحي لله في طلوعه، و"فهموا" أن هذا يعني أن ملك اليهود قد وُلد (2: 2). أسرع المجوس لكي "يتقبّلوا" يسوع كملك، فجاؤوا إلى أورشليم، وأعلنوا عن عزمهم بأن "يعبدوه" (2: 1-2)، بالاضافة إلى ذلك، بعد أن أطلقهم هيرودس إلى بيت لحم، "رأوا" أيضًا النجم الموحي، وتبعوه بفرح اسكاتولوجيّ إلى البيت حيث وجدوا يسوع. ولما "رأوه، سجدوا له" وقدّموا له تقادم تليق بالملك (2: 9- 11).
أما جواب هيرودس فجاء معارضًا كل المعارضة لجوابهم. لما "سمع" في أخبار وحي، أن ملك اليهود قد وُلد، أمسكته الرعدة، لا الفرح (2: 3). ودلّ هيرودس أنه "فهم" هذه الأخبار: اعترف أن الملك المولود جديدًا هو المسيح (2: 4). ومع ذلك وبواسطة كذبة (هي تهكّم وسخرية)، فقد أظهر للمجوس موقفه بالنسبة إلى هذا الملك. فهو يريد أن يتقبّله، أن يذهب إليه و"يسجد" له (8:2).
فبالرغم من فهم هيرودس للأخبار الموحية، لم يذهب إلى الملك الجديد ليسجد له. هذا يعني أنه "تركه". وهكذا تبدو استراتيجيّة مت بديهيّة بالنسبة إلى القارئ. فمن خلال استعمال بلاغة الفهم، صوّر المجوس صورة تعارض صورة هيرودس: من جهة "رأى" المجوس الوحي الإلهيّ، "وفهموه" الفهم القويم، وتجاوبوا معه "فتقبّلوا" يسوع. ومن جهة ثانية "سمع" هيرودس بالوحي الالهي و"فهمه" فهمًا قويمًا. ومع ذلك، كان جوابه "رفضًا" ليسوع. وهكذا دعا متّى القارئ، لكي يعارض بقوّة موقف هيرودس، ويتمثّل بالمجوس "فيتقبّل" يسوع كالمسيح وملك اليهود.
ب- يوسف وهيرودس
ويوسف، شأنه شأن المجوس، يتعارض مع هيرودس. فيوسف أيضًا ليس غريبًا عن القارئ: قد ذُكر اسمه في سلسلة نسب المسيح (16:1). وقد بدأ حضوره في الخبر حول أصل يسوع (18:1-25). في هذا الحدث صوّر متّى يوسف على أنه "بار" (1: 19)، فأضاء على العمل الذي يمّيّزه أفضل تمييز: فقد لاحظ متّى أن "يوسف" "نهض" من النوم "وصنع" ما أمره به ملاك الربّ (1: 19، 24). وفي ف 2، صوّر متّى يوسف ثلاث مرات وهو يتجاوب مع الملاك الذي يتراءى له في الحلم "فيعمل" بسرعة إرادة الله (2: 13-14، 19- 21، 22).
وكان هيرودس عكس يوسف. طلب الصبيّ يسوع لكي يدمّره (2: 13). هو "لم يعمل" إرادة الله. ومرّة أخرى تظهر استراتيجيّة متّى بديهيّة واضحة. صوّر يوسف تجاه هيرودس: "سمع" يوسف الوحي الالهي و"فهم" وتجاوب معه "فصنع" إرادة الله. أما هيرودس الذي "سمع" هو أيضًا الوحي الإلهيّ "وفهم"، فقد كان جوابه الصريح "لاعمل" لمشيئة الله. وكانت النتيجة كما يلي: ألحّ متّى بهذه الطريقة على القارئ بأن يبتعد عن هيرودس وأن يجد في يوسف مثال "العمل" بمشيئة الله بسرعة.
ج- الشعب اليهودي ورؤساؤه
وفي حدث يوحنا المعمدان (ف 3)، استعمل متّى بلاغة الفهم، فصوّر الشعب اليهودي تجاه رؤسائه الدينيّين (آ 1-12). فيوحنا الذي هو أيضًا "بطل الخبر" في انجيل متّى، قد ظهر في بريّة يهودا وأعلن للجميع التوبة بالنظر إلى دور الله الاسكاتولوجيّ الكبير (3: 1- 2). في الظاهر، "سمع" شعب أورشليم وكل اليهوديّة والمنطقة المحيطة بالاردن، إعلانَ يوحنا، و"فهموا"، وتجاوبوا مع المعمدان فتقبّلوه هو "وصنعوا" إرادة الله: خرج الشعب إلى يوحنا، خضع لمعموديّته واعترف بخطاياه (3: 5).
أمّا القوّاد الروحيّون الذين يمثّلهم الفريسيون والصادوقيون، فقد "سمعوا" هم أيضًا يوحنا، وخرجوا إليه لكي يراقبوا خدمته (3: 7). ولكن يوحنا واجه الرؤساء الذين "رأوا"، وندّد بهم، وسمّاهم "نسل الأفاعي". وهذا ما يتضمّن أنهم "أشرار" (12: 34). وطلب منهم بإلحاح أن يصنعوا إرادة الله "فيصنعوا ثمرًا" يليق بالتوبة (8:3). كيف تجاوب هؤلاء الرؤساء مع يوحنا؟ "ما قبلوه" "ولا عملوا" إرادة الله. هذا ما اعترفوا به هم بأنفسهم في نهاية حياة يسوع العلنيّة. قالوا في نفوسهم حين سألهم يسوع عن معموديّة يوحنا: "إن قلنا من السماء، قال لنا، إذن لماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا من الناس فإنّا نخاف من الجمع، لأن الجمع يعدّون يوحنا نبيًا" (2: 25-26). وسيقول يسوع فيهم: "جاءكم يوحنا في طريق البرّ، فلم تؤمنوا به. أما العشّارون والبغايا فقد آمنوا به. ولقد "رأيتم" ذلك ولم تندموا من بعد لتؤمنوا به" (21: 32).
وهكذا، عبر بلاغة الفهم، رسم مت الشعب اليهوديّ تجاه رؤسائه، فبيّن أن الشعب "سمع" يوحنا، و"فهم"، وكان جوابه "قبولاً" لله و"عملاً" بمشيئته. أما الرؤساء "فسمعوا" يوحنا وما أرادوا أن يفهموا، وكان جوابهم عدم قبول ورفض للعمل بإرادة الله. انطلاقًا من هذا، يحثّ مت القارئ على أن يتوافق مع موقف الشعب ويدلّ على معارضته لموقف الرؤساء، من فريسيين وصادوقيين. وبعد ذلك، سوف يدعو الانجيليّ القارئ لكي يعيد النظر في موقفه من الشعب اليهودي (أي: "الجمع") الذي سيأخذ في النهاية موقف رؤسائه ويرفض يسوع. رج 16:11-19، 20-24، 25-26؛ 10:13-17.
وبمختصر الكلام، استعمل مت في بداية الخبر الانجيلي (1: 1-4: 16) بلاغة الفهم فرسم وجه المجوس ويوسف تجاه وجه هيرودس، وصوّر الشعب اليهودي مقابل قوّاده الدينيين. وإذ فعل هذا، دعا القارئ إلى التوافق مع المجوس ويوسف والشعب اليهودي، وإلى عدم التوافق مع هيرودس وقوّاد اليهود. بهذه الطريقة، اهتمّ مت بموقف القارئ تجاه هذه الوجوه، فحثّه على أن يأخذ بالموقف اللاهوتي كما في الانجيل، أي فهمه للإيمان والحياة كما ظهرا بشكل سلبي أو إيجابي من خلال أعمال هؤلاء الأشخاص.

3- في منتصف الخبر الانجيليّ
في منتصف الخبر الانجيليّ (17:4- 16-20)، شدّد متّى من خلال استعماله لبلاغة الفهم، على حدثين يقعان في نقطة استراتيجيّة. الأول: السبب الذي لأجله تكلّم يسوع بالأمثال (13: 10-17). والثاني: تفسير يسوع لمثل الزارع (13: 8-13). ويجب أن نلاحظ في هذين المقطعين أن يسوع هو المتكلّم الرئيسيّ. ينتج من هذا الوضع أن القارئ يقف وجهًا لوجه مع يسوع الذي سيقنعه بحقيقة هذه الوجهة اللاهوتيّة التي نجدها في ف 13، وبالتالي بما نجده في انجيل متّى من نظرة لاهوتيّة.
أ- السبب من التكلّم بأمثال
وإذا أردنا أن نقدّر الموقع الاستراتيجيّ لهذين المقطعين، أي داخل خبر المؤامرة في مت، نتوقّف عند التيّار في منتصف الخبر الذي يقود إليهما. في أول مرحلة من "منتصف الخبر الانجيليّ" (17:4- 11: 1)، حدّثنا مت عن خدمة يسوع العلنيّة لدى اسرائيل. فهو عبر نشاطه في التعليم والكرازة والشفاء (4: 23؛ 9: 35؛ 11: 1: انتقل من هناك ليعلّم ويبشّر)، يوبّخ اسرائيل بالنظر إلى ملك الله الاسكاتولوجيّ القريب، وذلك في نداء من أجل "التوبة" وفي تقبّل الملكوت: "توبوا، فإن ملكوت السماوات قريب" (4: 17). ودعا أيضًا تلاميذ فـ "صنعوا" حالاً ما أمرهم به (18:4-22؛ 9:9: "قال له: اتبعني. فقام وتبعه"، 10: 2- 4).
في المرحلة الثانية من "منتصف الخبر" (2:11- 16: 20)، صوّر متّى جواب اسرائيل على رسالة يسوع: لم يقبله الجمع ولا الرؤساء الدينيّون، بل رفضوه، "ولكن، بمن أشبّه هذا الجيل؟ إنه يشبه صبيانًا جالسين في الساحات، يصيحون بآخرين، قائلين: زمّرنا لكم فلم ترقصوا. ونحنا لكم فلم تلطموا. جاء يوحنا لا يأكل ولا يشرب فقالوا: إن به شيطانًا. وجاء ابن البشر يأكل ويشرب فقالوا: هوذا إنسان أكول، شروب للخمر، يحبّ العشّارين والخطأة. إلاّ أن الحكمة تزكّت بأعمالها" (11: 16-19). وسوف يقرعّ يسوع مدن البحيرة التي لم تتب مع أنه أجرى فيها أكثر عجائبه (11: 20-24). وفي 12: 14 "خرج الفريسيون وائتمروا عليه ليهلكوه". وسوف يقولون فيه: "هذا الرجل لا يُخرج الشياطين إلاّ ببعل زبول، رئيس الشياطين" (12: 24). في هذا الموقع الحرج من المؤامرة، صوّر مت ردّة الفعل عند يسوع تجاه رفضهم له، بأن كلّم الجموع. بالأمثال (13: 3). وهذا ما يقودنا إلى المقطع الأول، إلى السبب الذي لأجله كلّم يسوع الشعب بالأمثال.
في هذا الحدث، سأل التلاميذ يسوع لماذا يكلّم الجموع بالأمثال (13: 10). فأجابهم يسوع مستعملاً بلاغة الفهم ليعطي صورة نموذجيّة عن موقفين متعارضين، موقف الجموع وموقف التلاميذ. بالنسبة إلى الجموع، قال يسوع عنها؟ "رأت" ولكنها "ما رأت". "سمعت" ولكنها "ما سمعت"، وبالتالي "ما فهمت". أما التلاميذ فلهم عيون لكي "يروا"، ولهم آذان لكي "يسمعوا" (13: 13، 16). وشرح يسوع الشيء الذي رآه التلاميذ وسمعوه: "إن كثيرين من الأنبياء والصديقين قد اشتهوا أن يروا ما أنتم راؤون ولم يروا، وأن يسمعوا ما أنتم سامعون ولم يسمعوا" (17:13). ففي داخل السياق المتّاويّ، هذه "الأشياء" (أي: ما أنتم راؤون) التي يشير إليها يسوع هي أحداث ارتبطت بخدمته الاسكاتولوجيّة في التعليم والكرازة والشفاء. قال يسوع: "إنطلقوا وأعلموا يوحنا بما تسمعون وترون. العميُ يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصمّ يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يبشرون" (11: 4-5؛ رج 17:4-1:11).
إن يسوع، منذ بداية رسالته، كان له تلاميذ تبعوه (4: 18-22). ورافقته جموع كثيرة. نقرأ في 23:4: "وكان يطوف في الجليل كله، يعلّم في مجامعهم ويبشّر بانجيل الملكوت، ويشفي كل مرض وكل سقم في الشعب" (رج 9: 35؛ 11: 1). والنتيجة هي أن الجموع والتلاميذ "رأوا" و"سمعوا" يسوع. ولكن الله منح الوحي الالهي للتلاميذ، وأعطاهم أن "يعرفوا" أسرار ملكوت السماوات (13: 11). غير أنه أخفى مثل هذا الوحي وهذه الأسرار عن الجموع.
وبعد أن عُزل يوحنا من خدمته، قد يفترض القارئ أن الجموع التي هيّأها يوحنل لمجيء يسوع، سوف تتقبّله. كان قد قال لهم: "توبوا فإن ملكوت السماوات قريب... أعدّوا طريق الرب، واجعلوا سبله قويمة" (3: 1-3؛ رج 7:11- 10). في الواقع، لم يكن الأمر هكذا (رج ف 11). فإن يسوع في كلامه إلى الجموع أعلن أن موضعهم هو مع مدن الجليل التي رفضت أن "تتوب" وتتقبّله مع أنه صنع فيها عجائب عظيمة (11: 20-24). والآن في هذا المقطع حول السبب من التكلّم بأمثال (13: 10-17)، لجأ يسوع إلى بلاغة الفهم ليقابل بين الجموع والتلاميذ: اختلفت الجموع عن التلاميذ حين "رأت" يسوع و"سمعته" وسط أحداث خدمته الاسكاتولوجيّة في التعليم والكرازة والشفاء، ولكنها لم "تفهمه". وبدلاً من أن "تقبله" "رفضته". في إطار ذلك، وعبر بلاغة الفهم، يوبّخ يسوع القارئ ويدعوه لأن يمشي مع التلاميذ، ويترك الجموع، ويأخذ بالنموذج الذي قدّمه حول التلاميذ والجموع.
ب- تفسير مثل الزارع
والمثل الثاني اللافت في استعمال متّى للبلاغة الفهميّة، في المرحلة الثانية من منتصف خبره (11: 2- 16-20)، هو حدث تفسير مثل الزارع (18:13- 23). هذا المقطع يتبع ذاك الذي عالجناه (لماذا الأمثال) وهو يرتبط به ارتباطًا وثيقًا. هناك صوّر يسوع التلاميذ على أن لهم آذانًا "تسمع". وهنا يحرّض يسوع التلاميذ داخل برنامج، لكي "يسمعوا" و"يفهموا"، ويدلّوا على أنهم فهموا حين "يعملون" مشيئة الله.
فسرّ يسوع مثل الزارع (13: 18-23) من أجل تلاميذه. فصوّر أربعة وجوه، ودعا التلاميذ لكي يقابلوا نفوسهم بها. في الصورة الأولى، يقف ذاك الذي "يسمع" كلمة الملكوت ولا "يفهمها"، فيعرّيه منها الشّرير (13: 19). في الصورة الثانية، يقف ذاك الذي "يسمع" الكلمة و"يتقبّلها" بفرح، ولكنه يتخلّى عنها في ساعة الضيق أو الاضطهاد (13: 20- 21). في الصورة الثالثة، يقف ذاك الذي "سمع" الكلمة، ولكنه اهتمّ بهموم هذا العالم وغرور الغنى، فظلّ "بدون ثمر" (13: 22). وفي الصورة الرابعة والأخيرة، يقف ذاك الذي "سمع" الكلمة و"فهمها" فهمًا قويمًا صحيحًا، فدلّ على ذلك حين عمل ثمرًا و"عمل" إرادة الله.
هذه الصور الأربع تقدّم مثالاً واقعيًا عن الطريقة التي بها يكون القارئ من عائلة يسوع الحقيقيّة. وكان يسوع قد قال: "كل من يصنع إرادة أبي الذي في السماء هو أخي وأختي وأمّي" (12: 50). وعبر استعمال بلاغة الفهم، قابل يسوع بين الصورة الرابعة والصور الثلاث الأولى، وحثّ تلاميذه (والقارئ من خلال التلاميذ) على أن يكونوا في خطّ المثال الرابع، "فيسمعوا" الكلمة و"يفهموها"، ويدّلوا على أنهم "فهموها" حقًا حين "يعملون" إرادة الله.
ومجمل الكلام في هذين المقطعين من "منتصف الانجيل"، أن متّى جعل يسوع يستعمل بلاغة الفهم ليصوّر في شكل نموذجيّ الجموع اليهوديّة تجاه التلاميذ، وليحثّ التلاميذ، وبالتالي قرّاء الانجيل، على أن يكونوا مثل الحبّة الرابعة التي سمعت وفهمت وحملت ثمرًا. وهكذا عبر استعمال بلاغة الفهم، ألحّ يسوع (في انجيل متّى) على القارئ بأن يأخذ بموقفه اللاهوتيّ، بفهمه للإيمان والحياة كما عبّر عنه في الدينونة بالنسبة إلى الجموع وإلى التلاميذ.

4- المرحلة الأخيرة في إنجيل متّى
أ- نظرة أولى
في المرحلة الأخيرة من الخبر الانجيليّ في مت (16: 21-28: 20)، نجد عدّة أمثلة لاستعمال بلاغة الفهم. ونتوقّف عند أربعة مقاطع. ثلاثة منها هي أمثال يسوع (28:21؛ 22: 10)، والرابع يتحدّث عن المهمّة العظيمة التي سلّمها يسوع إلى تلاميذه (28: 16-20). ونقول مرّة أخرى إن هذه المقاطع نجدها في خطب يسوع. فيسوع هو ذاك الذي به يلتقي القارئ، وهو الذي يلحّ على القارئ بأن يتقبّل الوجهة اللاهوتيّة التي يقدّمها، وهي الوجهة التي نجدها في انجيل متى.
في منتصف الخبر المتّاوي، كان جواب اسرائيل لخدمة يسوع في التعليم والكرازة والشفاء، رفضًا له ومؤامرة من أجل قتله (11: 2؛ 12: 50). لهذا، استعمل يسوع بلاغة الفهم فصوّر الجموع اليهوديّة في ألفاظ مطلقة، كأولئك الذين لم "يروا" ولم "يسمعوا" ولم "يفهموه" كما لم يفهموا الفهم القويم رسالته الاسكاتولوجيّة (13: 13). أما بالنسبة إلى القوّاد الروحيين، فإن مت لم يجعل يسوع يصوّرهم بشكل نموذج إلاّ في نهاية إنجيله. وهذا سيتمّ بعد دخوله يسوع إلى أورشليم. والصراع الذي كان يسوع معهم قوّى القطيعة بينه وبينهم.
ففي هيكل أورشليم، كانت المواجهة الكبرى ليسوع مع القوّاد الدينيين، وذلك قبل آلامه (21: 12-22، 46). وخلاله هذه المواجهة، قدّم يسوع ثلاثة أمثال ضد اسرائيل (21: 28-32؛ آ 32-46؛ 22: 1- 10)، ووجّهها إلى الرؤساء، أو أعضاء السنهدرين (21: 23). في هذه الأمثال، تحدّث يسوع عن علاقة الله بإسرائيل في تاريخ الخلاص. وفي الوقت عينه، استعمل بلاغة الفهم ليصوّر الرؤساء الذين "لم يتقبّلوا" عمّال نهاية الأزمنة الذين أرسلهم الله إلى اسرائيل، بل رفضوهم وهم "عارفون": يوحنا المعمدان، يسوع، التلاميذ المرسلون.
ب- المثل الأول، مثل الابنين
المثل الأول من أمثال يسوع ضدّ اسرائيل هو مثل الابنين (21: 28-32). لامس فيه يسوع الدور الذي لعبه يوحنا المعمدان في تاريخ الخلاص. وإذ روى يسوع هذا المثل، استعمل بلاغة الفهم ليصوّر ابنًا تجاه الآخر، وبالتالي ليصوّر القوّاد الروحيين تجاه العشّارين والبغايا.
وإذ صوّر يسوع ابنًا تجاه الآخر، أعلن أن الابن الأول الذي بدأ فرفض طلب أبيه بأن يعمل في الكرم ثم غيّر رأيه ومضى، قد عمل إرادة أبيه. أما الابن الثاني الذي وافق على طلب أبيه، ولكنه لم يعمل العمل المطلوب، فلم يعمل إرادة أبيه. وبالطريقة عينها أعلن يسوع: العشّارون والبغايا تجاوبوا مع يوحنا المعمدان، "فآمنوا" به و"قبلوه"، وهكذا عملوا إرادة الله وسيدخلون إلى ملكوت الله المجيد. أما الرؤساء الدينيّون الذين كان جوابهم ليوحنا "عدم إيمان" وبالتالي "عدم قبول"، فلم يعملوا إرادة الله. وهكذا يُمنعون من الدخول إلى ملكوت الله المجيد. وهكذا عبر بلاغة الفهم التي استعملها يسوع، فقد صوّر الرؤساء الدينيّين في تفاعلهم مع يوحنا المعمدان، ودعا القارئ إلى المشاركة في دينونته القاسية تجاههم.
ج- المثل الثاني، مثل الكرّامين القتلة
والمثل الثاني الذي أورده يسوع ضدّ اسرائيل هو مثل الكرّامين القتلة (21: 33-46). هنا رسم يسوع تاريخ الخلاص منذ زمن أنبياء العهد القديم حتى زمانه هو (21: 34-37). وعبر استعمال بلاغة الفهم، صوّر الرؤساء، فقدّم بشكل دراماتيكيّ تفاعلهم معه. وإذ قال يسوع المثل قدّم تماهيًا أثار موقفًا فيه بعض التحدّي. ماهى بين صاحب الكرم وبين الله، بين إبن صاحب الكرم الذي يسمّيه "ابني" مع نفسه. يسوع هو ابن الله كما أن هناك ابنًا لصاحب الكرم. وماهى بين الأشرار العاملين في الكرم، الذين تجرّأوا وقتلوا ابن صاحب الكرم فنالوا عقابًا كبيرًا وبين رؤساء الشعب الروحيين. وإذ قام يسوع بهذا التماهي، دلّ على أنه راح إلى قلب هويّته وعمق رسالته. ما أراد يسوع أن يعلنه، هو أنه في عين الله ذاته ابن الله. والله العامل السامي قد أرسل اسرائيل وأن الرؤساء هم أولئك الذين "رأوا"، ولكنهم رفضوا أن "يقبلوه" وأرادوا قتله. وهكذا ينتقل ملكوت الله إلى أمّة "تثمر ثمرًا"، أي "تعمل" إرادة الله (21: 37-43).
وتوقّف يسوع. فأخذ متّى الخبر ليُعلم القارئ عن الطريقة التي بها ردّ الرؤساء الدينيون على المثلين اللذين رواهما يسوع ضدّ اسرائيل. قال متّى: حين "سمع" رؤساء الكهنة والفريسيون أمثال يسوع، "عرفوا" أنه تكلّم عنهم (21: 45). وكان ردّهم أنهم أرادوا أن "يوقفوا" يسوع من خلال مؤامرة. أي رفضوه (21: 46). ما يخفيه هذا الغضب الكبير لدى الرؤساء، ليس فقط أمرًا سلبيًا يدلّ على رفضهم له، بل طبيعة برنامج يسوع الذي من خلاله بدت صورتهم. قال يسوع عن الرؤساء: "رأوا" و"سمعوا" يوحنا المعمدان، ورأوه وسمعوه هو أيضًا في وسط أحداث خدمته الاسكاتولوجيّة، ولكنهم لم "يفهموه" فهمًا قويمًا، وكان ردّهم عدم قبول يوحنا ويسوع، ولاعمل لمشيئة الله. والقارئ يستنير بمثلَي يسوع هذين ضد اسرائيل فيأخذ بموقف يسوع من الرؤساء ويبتعد عنهم كل بعد.
د- المثل الثالث، مثل وليمة العرس
والمثل الثالث الذي قاله يسوع ضد اسرائيل هو مثل العشاء الكبير أو وليمة العرس (22: 1- 10). فيه قدّم يسوع وجهة أخرى من تاريخ الخلاص، وهي التي شدّد عليها منذ زمانه حتى زمن الرسالة المسيحيّة إلى الأمم (22: 2، 9- 10). وإذ فعل يسوع ما فعل لجأ إلى بلاغة الفهم ليصوّر الرؤساء الدينيين بألفاظ تجعلهم تجاه التلاميذ المرسلين في الكنيسة الأولى.
حين روى يسوع هذا المثل، قام مرّة أخرى بالتماهي بين الملك والله (23: 2، 7). بين وليمة العرس وتدشين ملكوت الله الاسكاتولوجيّ بواسطته هو ابن الانسان (22: 2). بين العبيد الذين حملوا الدعوات إلى العيد والتلاميذ المرسلين (22: 3، 4، 8). بين المدعوّين إلى العشاء الذين استهانوا بالدعوة أو قتلوا العبيد والرؤساء الدينيين لدى اليهود (22: 5-6). بين دمار "مدينتهم" ودمار أورشليم (22: 7). بين دعوة العبيد التي وصلت إلى الآخرين والرسالة المنتشرة في العالم كله (22: 9- 10).
بواسطة هذه التماهيات أراد يسوع أن يحرّك سؤالاً هامًا: إن الرؤساء الدينيين الذين رفضوا، بإرادتهم، التلاميذَ المرسلين الذين بهم دعاهم الله تكرارًا لكي يدخلوا إلى عالم الملكوت الاسكاتولوجي الذي دشّنه هو ابن الانسان، قد رفضوا في الوقت عينه الله وابنه وذلك بملء إرادتهم. والنتيجة هي أن غضب الله يحلّ عليهم، والله سوف يرسل التلاميذ ليدعو الآخرين (= الوثنيين) إلى الملكوت (22: 8- 10).
على هذا المستوى القاسي يختتم يسوع أمثاله الثلاثة ضد اسرائيل. وقد استعمل بلاغة الفهم ليصوّر القوّاد الروحيين في شكل يدلّ على أنهم ما قبلوا عمّال نهاية الأزمنة الذين أرسلهم الله إلى اسرائيل. بل "رفضوهم": يوحنا المعمدان، يسوع نفسه، التلاميذ المرسلون. وبواسطة هذه البلاغة حثّ الانجيليّ القارئ على أن يأخذ بوجهته اللاهوتيّة، فيفهم تصرّف اسرائيل مع الله في تاريخ الخلاص.
هـ- إرسال التلاميذ
والمقطع الأخير اللافت عن استعمال يسوع لبلاغة الفهم نجده في نهاية المرحلة الأخيرة من الخبر المتاوي: في الحدث الذروة الذي فيه يسلّم يسوع القائمُ من الموت إلى تلاميذه المهمّةَ العظمى البعد فصحيّة (28: 16-20). وإذ استعمل هذه البلاغة كيّفها لكي يصوّر، لا التلاميذ أنفسهم بعد القيامة، بل عالم الرسالة الواسع الذي سيذهبون إليه ويحملون البشارة (28: 9- 10). وبعبارة أخرى، ما هو خاص هنا هو أن استعمال يسوع لبلاغة الفهم يقود إلى تحديد الرسالة.
هناك ثلاث كلمات مفاتيح يستعملها يسوع ليدلّ على هذه المهمّة العظمى التي سُلِّمت إلى التلاميذ: "تلمذ". "عمّد". "علّم" لكي يحفظ. تلمذوهم، عمّدوهم، علّموهم بأن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. إن لفظة "تلمذ" تدلّ على بلاغة الفهم، لأنها تشير إلى دعوة الناس لاتِّباع يسوع (18:4-22؛ 9: 9). كان يسوع قد قال في خطبته الاسكاتولوجيّة (ف 24-25) إن طريقة التلاميذ في دعوة الناس وتنبيهم، هي في إعلان "انجيل الملكوت" في كل الأرض المسكونة (24: 14). واعلان انجيل الملكوت يظهر في "إعلان إخباريّ" يقول فيه يسوع: "حيثما كُرز بهذا الانجيل في العالم كله، يُخبر أيضًا بما فعلت هذه (التي مسحت يسوع بالطيب) تذكارًا لها" (26: 13).
فإن مت يرى في خبر يسوع مثلاً أوليًا عن ذاك الاعلان. ولما روى متّى خبره كان هدفه الرئيسيّ دعوة القارئ إلى اتّباع يسوع، وتوجيهه لكي "يرى" و"يسمع" و"يفهم" يسوع وخدمته فهمًا قويمًا. وفي الخطّ عينه، اعتبر الانجيليّ أن التلاميذ العائشين بعد الفصح سيتمّون رسالتهم في العالم فيدعون الناس إلى اتباع يسوع، ويدعونهم لكي "يروا" يسوع و"يسمعوه" في هذا الاعلان الاخباريّ لانجيل الملكوت، و"يفهموا" يسوع ويفهموا خدمته فهمًا صحيحًا.
واللفظتان المفتاحان الأخريان، أي التعميد والتعليم، تدلاّن هما أيضًا على بلاغة الفهم. "عمّد" أي أتمّ طقسًا به يتجاوب الناس مع يسوع "فيتقبّلونه". و"علّم" الناس لكي يحفظوا، أي دعاهم لكي "يعملوا" إرادة الله كما علّمها يسوع. فإذا توقّفنا عند هذه الألفاظ الثلاث معًا (تلمذ، عمّد، علّم)، نرى أن يسوع القائم من الموت استعمل بلاغة الفهم ليصوّر رسالة التلاميذ بعد الفصحيّة في العالم كله: فالرسالة في العالم تقوم بأن نوجّه الناس لكي يروا يسوع ويسمعوه في خبر إعلان انجيل الملكوت، ويفهموه الفهم الصحيح، وأن يتجاوبوا معه فيتقبّلوه في المعموديّة ويصيروا تلاميذه ويتعلّموا بأن يعملوا إرادة الله كما علّمها هو.
وهكذا يتعلّم القارئ في خاتمة الخبر الانجيلي أن الهدف الذي يجرى وراءه التلاميذ بعد الفصح والقيامة، لا يختلف عن هدف متّى في خبره الانجيليّ. وهو أن القارئ أو السامع يرى يسوع ويسمعه في وسط الأحداث الاسكاتولوجيّة فيفهمه الفهم الصحيح ويتقبّله ويعمل مشيئة الله كما علّمها.

5- بلاغة الفهم وتطبيقها في مت
بعد أن تفحّصنا أمثلة لافتة لاستعمال مت بلاغة الفهم في مواضع استراتيجيّة من "المؤامرة" على يسوع، نودّ الآن أن نشرح ما تعنيه هذه البلاغة، ونبيّن كيف طبّقها متّى.
إذا أردنا أن نقدّر الدور المركزيّ الذي تلعبه هذه البلاغة في الانجيل المتّاوي، من أجل إيصال الوجهة اللاهوتيّة، يجب أن نلاحظ الانتشار الواسع لهذه البلاغة في الخبر الانجيليّ. ولكي نعطي فكرة عن هذا، نتحرّك من خلال الحدث الفرديّ لنلفت الانتباه إلى استعمال متّى بلاغة الفهم في أنماط الخطب الكبرى، مثل خطبة الأمثال، وفي المواضيع الرئيسيّة أو المركزيّة التي تضمّ جزءًا من الخبر أو الخبر كله: وهذا ما نجده في ألقاب يسوع المسيحانيّة التي نجدها في قلب الكرستولوجيا المتّاويّة. مثلاً: المسيح، ملك اليهود (ملك اسرائيل)، ابن داود، ابن الله. أما لقب "ابن الانسان" فلا يدخل في المناقشة، لأن البعض لا يعتبرونه لقبًا مسيحانيًا ولا كرستولوجيًا بل اسمًا خاصًا.
أ- في الخطاب الامثاليّ
رأينا انتشار هذه البلاغة في الخطاب الأمثالي، في أمثال يسوع الثلاثة ضد اسرائيل، ورأينا حضور بلاغة الفهم فيها. غير أن هذه الأمثال الخاصّة تركِّز على موضوع الرفض و"اللاقبول" للعمّال الذين أرسلهم الله إلى اسرائيل. ولكن في سائر أمثال يسوع كما ترد في الخبر المتّاوي، نجد تشديدًا على خلقيّة الملكوت، على موضوع "العمل" بإرادة الله. وقد يكون المثل الذي يلوّن جميع الأمثال الخلقيّة هو مثل البيت المبنيّ على الصخرة (7: 24-27) الذي اعتنى متّى فجعله في نهاية عظة يسوع على الجبل.
في هذا المثل، يبدو التشديد الخلقيّ واضحًا: يلحّ متّى على القارئ بأن يتشبّه بالرجل الحكيم (مقابل الجاهل أو المجنون) الذي بنى بيته على الصخر. هذا يعني أن على القارئ أن "يسمع" كلمات يسوع ويفهمها ويتجاوب معها "فيعمل" إرادة الله كما علّمها يسوع. وفي أي حال، وجود أمثال يسوع الخلقيّة عبر الانجيل المتّاوي، يدلّ دلالة واضحة على انتشار بلاغة الفهم في هذا الانجيل.
ب- في الألقاب المسيحانيّة
وهناك إشارة ثانية إلى انتشار هذه البلاغة في الخبر المتّاويّ، نجدها في استعمال متّى لألقاب يسوع المسيحانيّة.
أولاً: لقب المسيح
ونبدأ بلقب "المسيح" (مشيحا، ماسيا) الذي هو أساس في كل الخبر المتّاويّ والذي يبدأ منذ الفصل الأول (آ 1، 16، 17، 18). في نهاية متتالية تمتدّ من الفصل الثالث إلى الفصل الحادي عشر، يستعمل مت بلاغة الفهم ليصوّر يوحنا المعمدان. يوحنا انسان "سمع" عن أعمال يسوع خلال حياته العلنيّة. ولكنه لم يفهمها الفهم الصحيح فكاد أن يعثر ولا "يتقبّل" يسوع كالمسيح. فيوحنا، خلال خدمته (3: 1-12) أعلن ذاك "الآتي، الأقوى"، الذي يتبعه والذي يحمل الدينونة (3: 11-12). ومع أن يسوع كان ذلك الذي تبع يوحنا، فهو لم يمارس الدينونة الأخيرة. مقابل هذا، سار في الجليل يعلّم ويكرز ويشفي (17:4؛ 11: 1؛ رج 23:4؛ 35:9؛ 11: 1).
"سمع" يوحنا وهو في سجنه عن أعمال يسوع (11: 2). فأرسل تلاميذه يسألون يسوع. هل هو المسيح حقًا؟ قالوا: "أأنت الآتي أم علينا أن ننتظر آخر" (3:11)؟ وجاء جواب يسوع لافتًا للنظر. أمرَ تلاميذَ يوحنا فقط بأن يذهبوا وينيروا يوحنا بأعماله الشفاء والكرازة التي رأوا وسمعوا يسوع يجريها (11: 4- 5). المهمّ في أمر يسوع هو أن الأعمال التي يجريها هي ما يجب أن يفهمها يوحنا على أنها "مسيحانيّة" لأنها تُتمّ نبوءات العهد القديم (أش 29: 18-19؛ 35: 5-6؛ 61: 1). بالإضافة إلى هذا الأمر، أرسل يسوع إلى يوحنا كلمة تحذيريّة: "طوبى لمن لا يشكّ فيّ" (11: 6). فإن كان يسوع سبب عثار ليوحنا، فهذا يعني من قبَله "رفضًا" ليسوع.
وبمختصر الكلام، استعمل يسوع في جوابه إلى يوحنا، بلاغة الفهم. دعاه إلى أن "يرى" و"يسمع" أعمال الشفاء والكرازة التي يجريها. وأن يفهمها فهمًا صحيحًا، وأن يتجاوب معها "فيقبل" يسوع ولا يرفضه كالمسيح. ومن خلال يسوع الذي يلحّ على يوحنا بأن يرى ويسمع ويفهم ويتقبّل المسيح، يلحّ متّى على القارئ بأن يفعل كذلك.
ثانيًا: لقب ملك اليهود
في المسيرة الصاعدة من ف 2 والواصلة إلى ف 27، يلقي متّى الضوء على هويّة يسوع كملك اليهود أو ملك اسرائيل. ومع التشديد على هذا اللقب، يستعمل متّى بلاغة الفهم في ف 2 ليصوّر المجوس تجاه هيرودس، وفي ف 27 ليصوّر الجنود الرومان وبيلاطس، والقوّاد الروحيين. نتذكّر هنا ما سبق وقلناه عن المقابلة بين هيرودس والمجوس في ف 2: "رأى" المجوس النجم الموحي، وفهموا أنه يدلّ على ملك اليهود، فذهبوا يتقبَّلون ذاك الملك و"يسجدون له" (2: 2، 9، 11). أما هيرودس فـ "سمع" أخبارًا تقول إن ملك اليهود قد وُلد. ومع أنه فهم ذلك، إلاّ أنه لم يتقبل ذاك الملك ولم يسجد له، بل رفضه وتآمر عليه لكي يقتله (3:2، 8، 13).
في ف 27، يصوّر مت الجنود الرومان وبيلاطس والقوّاد الدينيين، على مثال ما صوّر هيرودس. هم أيضًا "رأوا" (أو "سمعوا") يسوع، ولكنهم لم يفهموا أنه ملك اليهود (أو اسرائيل)، ولم يتقبّلوه، بل رفضوه ملكًا. وإذ "هزئ" الجنود الرومان بيسوع قبل الصلب (27: 30) "رفضوه" حتّى حين جعلوا التاج عليه هزءًا على أنه "ملك اليهود" (27:27- 31).
وبيلاطس صلب يسوع بين لصّين، بين ثائرَين على السلطة الرومانيّة، فدلّ على أنه "رفضه" مع أنه أعلن على الملأ (هزءًا) عبر الكتاب فوق رأس يسوع على الصليب، أن يسوع دخل ملكوته على أنه "ملك اليهود" (27: 37-38).
والقوّاد الروحيون الذين "هزئوا" بيسوع على الصليب، "رفضوه" حتى حين اعترفوا هازئين أنه "ملك اسرائيل" وأعلنوا أنهم "سيؤمنون" به إن هو نزل عن الصليب (27: 42). في هذا الجوّ، لا الجنود الرومان، ولا بيلاطس، ولا القوّاد الروحيّون، "رأوا" يسوع و"فهموه" الفهم الصحيح على أنه ملك اليهود أو ملك اسرائيل. والنتيجة هي أنهم لم يقبلوه. بل رفضوا يسوع كملك، شأنهم شأن هيرودس. وإذ صوّر متّى هؤلاء كما صوّرهم، دعا القارئ إلى النظر في هزئهم وإلى الأخذ بوجهته اللاهوتيّة في التطلّع إليهم.
ثالثًا: لقب ابن داود
في الخبر المتّاوي كما نقرأه في ف 1-22، يظهر لقب مسيحاني آخر هو لقب "ابن داود". وهو يظهر قرابة عشر مرات. في 1: 1: "يسوع المسيح ابن داود" (رج آ 6) في 9: 27، صاح الأعميان: "يا ابن داود ارحمنا". وفي 12: 23 "بهت الجمع وقالوا: أفلا يكون هذا ابن داود"؟ وفي 15: 22 هتفت المرأة الكنعانيّة: "يا ابن داود ارحمني". وفي 15: 30- 31، ينادي أعميا أريحا يسوع: يا ابن داود ارحمنا". وفي 21: 9 تهتف الجموع: "هوشعنا لابن داود" (رج آ 15). وفي 22: 42-45 كان الجدال حول يسوع الذي هو ابن داود وربّ داود.
هنا استعمل مت بلاغة الفهم ليصوّر المجتمع المهمّش في اسرائيل تجاه اسرائيل نفسه الذي تمثّله الجموع اليهوديّة والقوّاد الروحيّون. وإذا أردنا أن نلاحظ التعارض، نتطلّع إلى يسوع ابن داود الذي يُجري عددًا من الاشفية ولاسيّما شفاء العميان. فيسوع شفى على التوالي أعميين (27:9- 31) وأصمّ وأخرس فيه شيطان (12: 22- 24)، وابنة المرأة الكنعانيّة، التي كان فيها شيطان (20: 29-34) وأعميين آخرين (20: 29-34) والعميان والعرج في الهيكل (2: 14-15). كل هؤلاء يعيشون على هامش المجتمع.
بالاضافة إلى ذلك، شهد الأولاد الذين يُعتبرون "كلا شيء" في عالم الخبر المتّاويّ، لشفاءات أجراها يسوع في الهيكل، فهتفوا له بصوت عال على أنه ابن داود (15:21). وهكذا يظهر أن السمة التي تميّز هؤلاء الأشخاص الذين يعيشون على هامش المجتمع (ولاسيّما العميان)، هي أنهم "رأوا" في الايمان. رأوا وفهموا أن يسوع هو المسيح الداودي و"تقبّلوه" على أنه كذلك. في 27:9-29، دلّ الأعميان على أنهما رأيا في الايمان. لهذا قال لهما يسوع: "ليكن لكما بحسب إيمانكما". وفي 15: 21-18، رأت المرأة في إيمانها ما لم يره الآخرون. هؤلاء جعلوها مع الكلاب، مع الوثنيين الذين يقفون خارج "البيت". أما هي فاعتبرت نفسها من البنين. فنالت أكثر من الفتات المتساقط على الأرض. نالت "ما تريد". وفي 20: 29-33، طلب الاعميان أن تنفتح أعينهما. أعين الجسد. ولكن أعين الايمان كانت مفتوحة عندهما. هذا عند العائشين على هامش الشعب اليهوديّ.
أما السمة التي تميّز الجموع اليهوديّة والقوّاد الروحيين، فهي أنهم ظلّوا "عميانًا" تجاه الحقيقة التي تقول بأن يسوع هو مسيح اسرائيل الداودي. فالرؤساء لا يريدون حتى التوقّف عند الفكرة القائلة بأن يسوع يمكن أن يكون ابن داود. لهذا قالوا: "إنه برئيس الشياطين يخرج الشياطين" (9: 34) رج 12: 24). أما الجموع، فحين رأت يسوع يشفي الأعمى، والأخرس الذي فيه شيطان، تساءلت: "أما يكون هذا ابن داود"؟ ولكن طريقة طرح السؤال مع الاداة "ميتي" (23:12)، دلّت على أنهم ليسوا مستعدين لقبول هذه الامكانيّة: لا يمكن أن يكون يسوع ابن داود. ومع أن هذه الجموع هتفت ليسوع بأنه ابن داود ساعة دخوله إلى أورشليم، إلاّ أنها لم تعرف هوّيته الأصليّة حين سألت شعب أورشليم: من هذا؟ أجابت الجموع: "النبيّ الذي من ناصرة الجليل" (21: 9- 11).
والنتيجة هي أن الجموع وقوّاد اسرائيل الروحيين قد "رأوا" يسوع ولكنهم رفضوا أن "يفهموا" أنه ابن داود، فدلّوا على "عماهم" وبالتالي "رفضوا" يسوع على أنه ابن داود. وعلى أساس هذا التعارض الذي قدّمه متّى بين العائشين على هامش المجتمع والجموع والرؤساء، دعا القارئ إلى أن يقتدي بهؤلاء المهمّشين "فيدرك"، ويتقبّل يسوع على أنه حقًا المسيح الداودي.
رابعًا: لقب ابن الله
بين الألقاب المعطاة ليسوع، لا يظهر فقط لقب "ابن الله" عبر الخبر المتّاوي، شأنه شأن سائر الألقاب، بل هو يرتدي أهميّة كبيرة. والسبب في ذلك هو أن لقب "ابن الله" هو لقب به يتوجّه الله إلى يسوع، وهو يدلّ على علاقة يسوع بالله علاقة بنويّة فريدة.
نقرأ في 17:3 عن الصوت الآتي من السماوات: "هذا ابني الحبيب". وفي 17: 5 الكلام عينه في حدت التجلّي. رج 2: 15 حيث يرد قول النبيّ: "من مصر دعوت ابني"؛ 21: 37-38 (سيهابون ابني). وبقوة هذه العلاقة البنويّة، يبدو الله فاعلاً بشكل حاسم في يسوع من أجل الخلاص (16:3؛ 11: 27؛ رج 1: 23). فيسوع لعرف إرادة الله ويعملها، وهو طائع كل الطاعة لله (4: 1-11؛ 39:26، 42، 44؛ رج 21:16).
بالنسبة إلى هذا اللقب، استعمل متّى بلاغة الفهم. فصوّر أمرين. الأول، هناك البعض "رأى" و"سمع" يسوع، كأنه "فهم" أنه ابن الله. وتجاوب معه "متقبّلاً" إياه كما هو. الثاني، وهناك آخرون ظلّوا دون النظر إلى الدرجة التي بها "يفهمون" يسوع بأنه "ابن الله"، ويردّون عليه "رافضينه" كما هو.
وهكذا "أفهم" الله يسوع أنه ابن الله منذ بداية الخبر المتّاويّ (1: 18، 20؛ رج 2: 15؛ 17:3؛ 17: 5)، وصُوّر يسوع كأنه فهم هذا أيضًا (17:3؛ ق 3:4، 6؛ رج 11: 27؛ 17: 5؛ 21: 37؛ 22: 2؛ 63:26-64). وبعد ذلك، فبطرس والتلاميذ من جهة، والجنود والرومان الذين شهدوا موت يسوع من جهة أخرى، قد جعل منهم الانجيليّ أداة الوحي الالهيّ (16: 16-17؛ 27: 54؛ رج 14: 33)، وقد "فهموا" و"تقبّلوا" يسوع كابن الله.
مقابل هذا، إن أولئك الذين "يعارضون" يسوع، "ويرفضونه" كابن الله، هم مثل إبليس (4: 1- 11)، مثل الشياطين (28:8-29)، والجموع اليهوديّة (التي مرّت من هناك) التي "تجدّف" على يسوع عند الصليب (27: 39-40). والثائران اللذان صُلبا معه شتماه (27: 44). وكذا نقول عن القوِّاد الروحيّين الذين أرادوا أن "يقبضوا" على يسوع، لأنه قال مثل الكرّامين القتلة (21: 46)، أو الذين هزئوا منه عند الصليب (27: 41-43).
من هنا، وبقدر ما القضيّة هي هويّة يسوع كابن الله، يستعمل متّى بلاغة الفهم ليرسم خطًا محدّدًا يفصل الله عن إبليس والشيطان من جهة، ومن جهة أخرى يفصل يسوع وتلاميذه عن اسرائيل (الجموع والرؤساء). حين رسم متّى هذا الخطّ، أراد أن يقنع القارئ لكي "يرى" و"يسمع" يسوع في وسط أحداث الانجيل، و"يفهم" و"يقبل" يسوع كابن الله.
في نظرة إلى الوراء بيّنا كيف توزّعت بلاغة الفهم في انجيل متّى من خلال أمثال يسوع الخلقيّة، وألقابه المسيحانيّة الرئيسيّة. وكان هدفنا من هذا أن نوضح الدور المركزيّ الذي لعبته هذه البلاغة التي حاولت أن تقنع القارئ بحقيقة هذه الوجهة اللاهوتية.

خاتمة
ونتساءل في نهاية هذا البحث عن عناصر بلاغة الفهم. وقد وجدنا ثلاثة.
1- استعمل مت أفعالاً مثل "رأى"، "سمع"، قرابة 230 مرة، فدلّ على تحذّره في تقليد الإخبار البيبليّ. اختلف عن الأدب الجلياني من جهة، وعن الأدب النبويّ من جهة أخرى، فما رفع "رأى" فوق "سمع" ولا "سمع" فوق "رأى". مقابل هذا، شدّد على دور هاتين الحاستين من أجل الفهم والنظرة الروحيّة. وهكذا دلّ الانجيل الأولى على أن طريق الحقيقة تمرّ في الخبر.
2- وتلفت انتباهنا أيضًا لفظة "فهم" على المستوى اللاهوتيّ. لا يعتبر مت البشر منذ ولادتهم غير قادرين على الفهم، ولا هو يؤكّد أن بإمكانهم على مستوى الطبيعة أن يدركوا حقيقة الله أو الوحي. ففي نظر متّى، الوحي الالهي يُعطى للبشر مجانًا بواسطة الله عبر يسوع المسيح. ومع ذلك، فعلى المستوى البلاغيّ، الطريقة التي فيها يوجّه متّى القارئ، لفهم صحيح يمرّ عبر وجهة محدّدة. فعلى القارئ الذي يريد أن يفهم يسوع فهمًا صحيحًا أن يدرك يسوع كما أدركه مت نفسه. هذا يعني أن النهج الذي يحمل ثمرًا للتعرّف إلى لاهوت متّى، لا يقوم في مقابلة المراجع ولا في فصل التقليد عن التدوين. بل في اكتشاف وجهة الانجيليّ. وهذا ما حاولنا أن نكتشفه.
3- يبقى السؤال الصعب حوله الهدف الذي توخّاه متّى حين كتب إنجيله. اعتبر بعضهم أننا لا نستطيع أن نتميّز هذا الهدف. ولكننا نقول إن هدف متّى يتوضّح عبر استعمال بلاغة الفهم. فالانجيليّ الأول يريد أن يقود القارئ إلى أن "يرى" و"يسمع" يسوع في وسط أحداث خبرة، إلى أن "يفهمه" فهمًا صحيحًا "فيتقبّله" كالمسيح وابن الله، ويعمل إرادة الله كما يعلّمها يسوع.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM