الفصل الثاني :منابع التأليف في إنجيل متّى

الفصل الثاني
منابع التأليف في إنجيل متّى

حين نقرأ عظة الجبل أو سائر عظات يسوع في مت، نلاحظ أننا أمام وثائق تعود إلى مختلف التيارات في المسيحيّة الأولى. ولكن يبدو أن التقليدين الرئيسيين اللذين عمل فيهما متّى هما: معين الأقوال أو لوغيا، والمتّاويات أو الأمور الخاصّة بمتّى. هذا ما ندرسه في هذا الفصل مشدّدين على عظة الجبل، بحيث يستطيع القارئ أن يطبّق على الخطب المتّاويّة ما نقوله هنا.
إن عظة الجبل فرضت نفسها في تاريخ المسيحيّة كشرعة الايمان الأساسيّة بقوّة براهينها وتماسك بلاغتها. فقد جمعت كرازة يسوع بشكل موجز جعلت المؤمن يطرح على نفسه السؤال الأساسيّ: من هو يسوع؟ ماذا يمثّل لنا في شخصه وفي تعليمه؟
في هذا الاطار نتحدّث أولاً عن معين الأقوال. وثانيًا عن المتّاويّات أو المقاطع الخاصة بمتّى.

1- معين الأقوال (اللوغيا)
إن إطار الخطبة المتّاويّة نجده في معين الأقوال. فإذا قابلنا نص متّى مع نصّ لوقا، نلاحظ أن متّى وجد خطبة مؤلّفة تعرض تعليم يسوع بشكل برنامج حياة.
أ- نظرة عامة
المعين وهو ترجمة لفظة "كويلي" الالمانيّة، لفظة مجرّدة تحاول أن تجمع النصوص الموازية بين متّى ولوقا كما في "كتاب" وُجد قبل الانجيلَين الأول والثالث.
1. بدأ المعين فقدّم لنا يسوع من خلال كرازة يوحنا. ثم أعطانا خبر المعمودية في الاردن، والتجارب في البريّة. بعد ذلك أعلن الخطبة كما في مت 5: 1-2: "فلما رأى يسوع الجموع، صعد إلى الجبل. ولما جلس، دنا إليه تلاميذه، ففتح فاه وجعل يعلّمهم". وفي لو 6: 12، 20 أ: "وفي تلك الأيام، خرج يسوع إلى الجبل ليصلّي... ثم رفع عينيه إلى تلاميذه وقال".
وكان التعليم الأول التطويبات. في الأصل، ثلاث تطويبات توجّهت إلى الفقراء والجياع والحزانى، مع الوعود المرتبطة بها. ذاك هو الاطار التفسيري للمجموعة!
لقد بدأت الأزمنة الأخيرة، أزمنة تتمّة المواعيد. ثم زيدت تطويبة رابعة تدلّ على الصعوبات التي لاقتها الحركة التي نقلت هذه الأقوال وعاشت منها ودوّنتها بشكل موجز. فجعلت وضع المؤمنين في إطار الكرازة الاسكاتولوجيّة للنبوءات المسيحيّة: إن الملكوت هو للذين يتكرّسون لإعلانه فيصبحون ضحيّة العداوة (مت 3:5-12= لو 6: 20-26).
2. ويتواصل التعليم في سلسلة من التوجيهات تُشرف عليها جذريّة وصيّة المحبّة. فوصيّة المحبّة هي عنوان برنامج خلقيّ للحياة المسيحيّة. والصلاة من أجل المضطهدين هي القاعدة التي نجدها في خط التطويبة الرابعة. فالنصيحة بأن نقدّم الوجه الآخر، وأن نترك قميصنا لمن أخذ رداءنا، ونعطي من يطلب منا، هي الصورة الملموسة عن هذه الخلقيّة. والرفض في التمييز بين أصدقاء وأعداء، هو المعيار الذي يدلّ على انتمائنا إلى الجماعة. وتتأسسّ نماذج التصرّف، كما تحدّدت هنا، على الثقة بعناية الله الذي يرسل مطره على الأخيار والأشرار، وعلى القاعدة الذهبيّة (مت 7: 12= لو 6: 31) التي تطلب من المؤمن أن يفعل للغير بحسب ما يتمنّى أن يفعل له الغير (مت 39:5-48= لو 6: 27-36).
3. وما يتفرعّ من جذريّة وصيّة المحبّة، في العلاقات بين الأشخاص، هو النداء بأن لا ندين الآخرين. من جهة، رحمة الله حاضرة اليوم. ومن جهة ثانية، هناك إعلان الجزاء بحسب شريعة المثل (بكسر الجيم) في النهاية. من يدين يُدان (7: 1-5= 6: 37-42).
4. وينتهي التعليم بتنبيه أخير مبنيّ على الشجرة وثمارها، وعلى البيت المشيّد على الصخرة. إن الانتماء إلى الملكوت يتجسّد في ممارسة نماذج التصرّف التي تحدّثت عنها عظة الجبل (7: 16-27= لو 43:6-49): "من ثمارهم تعرفونهم".
ب- تأليف الخطبة من الوجهة الأدبيّة
تتميّز قواعد التأليف المستعملة هنا بالسمات التالية:
1. من الوجهة الشكليّة تبدو الخطبة كتجاوز أقوال في موضوعات وفنون أدبيّة مختلفة. هناك أقوال نبويّة مثل التطويبات، وقواعد جماعيّة مثل وصيّة المحبّة. وهناك قولات حكميّة مثل الاعتبارات التي تتحدّث عن عناية الله. وهناك رسوم قانونيّة... وكل هذا يتسلّم وحدته من السياق الذي جُعل فيه. لم يتدخّل التدوين في صياغة النصّ، بل في تجميع عناصر متباينة وترتيبها حسب منطق خاص به.
2. ولكن هذا التجميع لم يتمّ على مستوى الصدف. فالتحليل البلاغي يبيّن أن هذه الفسيفساء من الأقوال تبدو في وحدة براهينيّة. فإن مجمل العظة ينتظم بشكل متّفق عليه. إن الاعلان الاسكاتولوجي الذي يؤسسّ وعي الحركة لنفسها، يبدو بشكل مفترضة للقواعد الخلقيّة التي تحدّده. وتُذكر جديّة هذه القواعد في التنبيه النهائي. فالمنطق البراهيني لا يشرف فقط على البنية الاجماليّة، بل على توسّع كل جزء من الأجزاء أيضًا. وهذا ما يظهر بشكل واضح جدًا في توسّع حول حبّ الأعداء. يُقدَّم الطرح بشكل صورة. يتوسَّع فيه. وفي النهاية يعطى أساسًا لاهوتيًا وخلقيًا.
3. بنى عمل التدوين خطبة ذات أبعاد جديدة، ولكنه تسجّل في تواصل مسيرة قادت إلى تكوين تقاليد. وإن تحليلاً لمختلف الوحدات المجموعة، يُتيح لنا أن نكتشف ظواهر التجميع التي أشرفت على التوسّع الذي أمامنا. ونأخذ مثلاً مت 39:5-48= 27:6-36: تشير مجمل البراهين إلى محبّة الأعداء. فوصيّة حبّ الأعداء كانت النقطة التي عليها تبلورت مجمل الوحدات. فاحتذبت إليها ثلاث قولات سابقة (الوجه الآخر، القميص، عطاء لمن يطلب)، وجمعتها حول موضوع مشترك. في الأصل، كانت هناك أفعال الأمر الأربعة هذه (لا تقاوموا، قدّم له الآخر، امض، أعط). فوُضعت معًا لتُبرز بأشكاله مختلفة المفارقة في ما تطلبه العظة. إن وصيّة المحبّة، وبالأحرى محبَّة الأعداء، هي أمر يعارض في الأصل نفسه بنفسه. ونتيجة البرهان تقوم بأن تزيل جميع الحواجز بين الأبرار والأشرار (لا يستطيع أحد أن يحقّق الوصيّة)، وأن تعيد الفئتين إلى نعمة الله.
والقولات الثلاث الأخرى تقابل خطّة اللاعنف، وتلجأ إلى خطط الاتصال فتحرم الحقد من سلاحه. أما التفاسير التي تلي، فقد أضيفت فيما بعد: هي تفترض أن وصيّة محبّة الأعداء صارت قاعدة جماعيّة تساعدنا على التعرّف إلى حلقة التلاميذ. ونقول الشيء عينه في البرهان اللاهوتيّ، الذي به تسندُ عنايةُ الله المبادئ الخلقيّة التي جاءت على هذا الشكل، ذاك الاله الذي يُشرق شمسه على الأشرار والأخيار. وأخيرًا، إن الحضّ على الصلاة من أجل المضطهدين، هو العنصر الأخير الذي ضُمَّ إلى المجموعة. فنحن نلاحظ أن كل ما يلي قد توجّه إلى وصيّة المحبّة وتوسّع دون أن يأخذ بعين الاعتبار هذا الأمر الثاني.
4. في الخاتمة نقول إن التقليد جمع أولاً بعض الأقوال التي نُقلت في الأصل بشكل مستقلّ، بحسب موضوع محدّد. وكانت هذه الأقوال نقطة انطلاق لتعليم توخّى أن يحدّد قواعد تصرّف الحركة. وتوسّع التعليمُ بواسطة عناصر جديدة جاءت تبرزه وتؤسّسه. وبدت هذه العناصر الجديدة، شأنها شأن القديمة، كأنها كلام يسوع مع أنها جُعلت لتفسّر هذا الكلام.
وتدخّل تدوين معين اللوغيا أو الأقوال في تواصل هذه المسيرة، فضمّ وحدات صيغت بهذا الشكل، وكوّن مجموعة عضويّة لأقوال يسوع مع أول نسخة للعظة على الجبل.
ج- كيف بدت المسيحيّة في عظة الجبل
إن المعتقدات التي نجدها هنا تتميّز بالسمات التالية:
1. ما يُشرف على المسيحيّة والوجود المسيحيّ، هو قراءة جديدة لحدث يسوع تنطلق من إعلان جليانيّ للملكوت. لقد فهمت الحركة نفسها كجماعة اسكاتولوجيّة في نهاية الأزمنة. وقد تحدّد تعليمُها وعملها بيقين جعلها تعتبر أن المواعيد قد وجدت منذ الآن كمالها. فالتعزية القريبة قد أعلنت للفقراء والجياع والحزانى، وعاشت الحركة في يقين الانتظار. والاضطهاد نفسه لم يستطع أن يحوّل ثقتها أو يضعفها، بل هو تسجّل في ولْي منطقيّ لتاريخ نبوءة، كانت الحركة وارثًا لها وخاتمة.
2. من يتكلّم حين يتكلّم يسوع في خطبة الجبل وغيرها من الخطب المتّاويّة؟ لاشكّ في أن العناصر القديمة هي صدى لنشاط يسوع نفسه. غير أن جوهر التوسّعات يرتبط بحياة الحركة فيما بعد الفصح، وهذه الحركة قد توسّعت في هذا الارث الذي تسلّمته وفسّرته. واللافت في هذه الظاهرة هو أن توسّع الإرث يتمّ بدون تواصل مع نقل التقاليد القديمة. فالأقوال الذي خُلقت جديدًا تُجعل على ذات مستوى الأقوال القديمة. والتمييز الذي عرفه العلم الحديث بين أقوال يسوع الأصيلة وتكوّنات الجماعات، لا يجد هنا شيئًا يوازيه. فالمتكلّم لم يعد يسوع التاريخيّ. لاشكّ في أن مجمل التقليد يرتبط بيسوع. فيسوع هو المتكلّم دومًا في الأقوال القديمة وفي الأقوال التي خُلقت حديثًا. وقد شكّل نقل أقواله نقطة انطلاق نشاط لاهوتيّ في الحركة. فإن كان الكلام قد نُقل، وإذا كانت توسّعات جديدة قد أبرزته ونشرته، فلأن يسوع قد قام، ولأن الجماعة رأت فيه ابن الانسان الذي رُفع إلى السماء والذي تنتظر عودته القريبة. فهو الذي يتكلّم في هذه الخطب المتّاويّة. وبما أن يسوع هو الرب، ننقل نحن كلامه. وبما أنه هو الذي يتكلّم بفم الأنبياء، أضيفت أقوال جديدة على أقوال قديمة في تواصل تام. لهذا تحوّل مجمل الارث الديني في الجماعة إلى كلمة يسوع، من أي مكان أتى.
هنا نتوقّف عند محاولة تسعى أن تكشف أقوال يسوع بالذات، أقوال يسوع كما صدرت من فمه. تحاول أن تقوم بتمييز لم تمُّم به مسيرةُ نقل الارث الانجيلي. وهي تودّ أن تجد في الأقوال الأصيلة تعليم يسوع الحقيقيّ. ولكنها تصطدم بصعوبتين.
الأولى على المستوى الأدبي والثانية على المستوى التأويليّ (1) إن التمييز بين كلمات يسوع وكلمات الربّ، تمييز دقيق جدًا. والفكرة المسبقة حول مضمون كرازة يسوع التاريخي، تلعب دورًا حاسمًا في محاولة إعادة تكوين النصّ. (2) إن التقليد حول تعليم يسوع، قد حُفظ بشكل أفضل في مجمل إعادة التفسير أكثر منه في أقوال عُزلت عن السياق الذي نُقلت فيه. (3) إذا كانت كرازة يسوع توخّت أن تحرّك السامعين وتدفعهم إلى العمل، فالأصالة لا تكمن في إعادة تكوين كلماته كما لو كنّا في متحف أشياء قديمة، بل في نقل حيّ للكرازة. هذا ما فهمه التقليد الذي أعلن قانونيّة الأناجيل الأربعة بشكل إجمالي ولم يتوقّف عند كلمات يسوع يدرسها في حدّ ذاتها.
3. ما يحدّد التوجيه الاهوتي في الحركة، هو أن يسوع اعتُبر الربّ الحاضر لدى جماعاته الاسكاتولوجيّة. ساعة أوجزت العباراتُ الهلنستية السابقة لبولس، جوهرَ الكرازة المسيحيّة في إعلان الحدث الخلاصي، حدث الموت والقيامة (روم 3: 25؛ 4: 24-25؛ 1 كور 3:15- 5...)، لم يكن ليوم الجمعة العظيمة من بعد سوتيريولوجيّ (على مستوى الخلاص) خاص للكلمات النبويّة في معين الأقوال أو اللوغيا. ليس يسوعُ المخلّص الذي مات وقام، بل ابن الانسان الذي علّم أخصّاءه وما زال يعلّمهم. وكان لهذا الوضع نتائج مباشرة على حياة الجماعة. فالهلينيون (المسيحيون الذين جاؤوا من العالم اليوناني والحضارة اليونانية) ركّزوا العبادة المسيحيّة على الافخارستيا التي تذكر موت الربّ إلى أن يجيء. وقد وجدت أهميّة الاحتفال صدى لها، لا في رسائل بولس وحسب (1 كور 16-17؛ 11: 17-34؛ 10)، بل في التقاليد التي ورثها إنجيل مرقس (مر 14: 22-25) واستعادها منه كل من متّى ولوقا. غير أنّنا هنا فقط أمام تقليد تفسيريّ في الجماعات المسيحيّة الأولى. فالاتحاد مع المعلّم الحي يأخذ في معين اللوغيا طريقًا آخر هو طريق صلاة الربّ الذي غاب من تقليد الهلينيين، تقليد بولس ومرقس. فاللاهوت المسيحيّ للحركة ليس لاهوت التجسّد، ولا لاهوت الحاش والآلام، ولا لاهوت الصليب، بل لاهوت المجد في المعنى الحصري للكلمة.
4. ويعبَّر عن قواعد التصرّف الناتج عن نظام المعتقدات كما تحدّدت، في برنامج خلقيّ يقدّمه مجمل خطبة لو 20:6-49= مت 5-7، كما بُني في معين اللوغيا. فأقوال يسوع بما فيها من مفارقة، تشكّل نقطة انطلاقها وأساسها. انطلقت الحركة من تقليدها الخاص فجعلت منه مبدأ قواعد إيجابيّة بها تحدّد هويّتها. لا نطرح هنا سؤالاً نعرف به القدر الذي يجعل هذا الاستعمال يتوافق مع منطق نقل كرازة يسوع. فتجاه جذريّة فهم الزمن والتاريخ الذي هو في أساس الحركة، نجد جذريّة أسلوب الحياة الذي أخذت به. فالقاعدة قد أعطيت في وصيّة المحبّة وموقف اللاعنف الذي ينبع منها. والتوصيات بعدم مقاومة الشّرير تقدّم على أنها تطبيق لمحبّة الأعداء (مت 5: 44 أ= لو 6: 27 ب: أحبّوا أعداءكم: جملة أولى وطرح الخطبة في معين اللوغيا). والموقف المطلوب هو موقف "حرب" لا موقف تكتيف الأيدي ولاعمل. هو تطبيق لخطّة الاستسلام الذي يغلب حين لا يردّ على الضرب بالضرب، ولعبة الجيش الذي ينتزع سلاح العنف والبغض حين يتمّ أكثر ممّا يُطلب منه. والطريقة المحدّدة بهذا الشكل تقابل ضرورة العيش بالشكل الملائم في عالم يحدّده انتظارُ عودة ابن الانسان القريبة، والثقة بعناية الله ورحمته. والصلاة من أجل الأعداء هي النهاية المنطقيّة والنتيجة. وهي تدلّ على إمكانيّة الحركة في مواجهة الظلم دون التخلّي عن تماسك معتقداتها.
د- التقبّل المتّاوي لعظة الجبل
إن خطبة معين اللوغيا (أو الأقوال) كانت الإطار الأدبيّ لعظة الجبل كما نقرأها في مت. وقد أدرجت في المنطق السرديّ للانجيل. فتبدّل منظارها تبدّلاً عميقًا على ثلاثة مستويات:
1. دخل البرنامج الخلقي للخطبة فني برنامج آخر وضعه متّى، هو برنامج إبراز الشريعة. فالإشكاليّة الأساسيّة في فهم متّى للعظة قد أعلنت منذ البداية: "لا تظنّوا أني جئت لأبطل الناموس والأنبياء" (17:5- 20). فدخلةُ متّى لها معناها على مستوى الموضوع الذي جعله أمامه. فما يعلنه يسوع هو تفسير يعتبر قاعدة تجاه مشيئة الله كما تعبّر عنها التوراة في التقليد اليهوديّ. وتفسير المسيحيّة هذا يتعارض بشكل واضح مع تفاسير أخرى قد نُحِّيت: فهناك حركات مسيحيّة ظنّت أن يسوع هو نهاية الشريعة. ما اكتفى متّى بأن يرفض مثل هذا الموقف. بل ربط ربطًا مباشرًا تقليد يسوع بالشريعة اليهوديّة: فوصيّة المحبّة مع موقف اللاعنف، ليست معطية جديدة، بل القراءة الصحيحة للعهد القديم.
هنا نقدّم ملاحظتين. الأولى: إن الطرح الذي يعلن أن حرب متّى تصيب بشكل مباشر اللاهوت البولسيّ كما نجده في روم، 1 كور، 2 كور، غل، هو واضح على المستوى اللاهوتيّ ومعقول على المستوى التاريخيّ. ولفظة "الأصغر" في مت 5: 9 هي مزحة حول اسم الرسول. وهي تذكر بشكل لازع "نكتة" بولس تجاه نفسه حين قال إنه أصغر الرسل (1 كور 5: 9). والثانية: إن القسم الأكبر من براهين معين اللوغيا حوله وصيّة المحبّة (لو 6 :27-36)، قد أعيدت صياغته بشكل تفسير تناقضيّ للشريعة: النقيضة الخامسة حول شريعة المثل (خر 21: 24؛ تث 19: 21؛ لا 24: 20). النقيضة السادسة حول وصيّة حبّ القريب (لا 18:19).
2. ونتيجة ذلك لم تعد الكرستولوجيا (دراسة عن يسوع المسيح) التي تؤسّس سلطة التوراة هي هي. لاشكّ في أن يسوع هو الذي يتكلّم، ولكن يسوع هذا لم يعد يسوع معين اللوغيا عينه. فالرب الذي تكلّم بفم أنبيائه، والذي عاشت الجماعة بقربه المباشر، قد حلّ محلَّه معلّمُ الشريعة الذي ترك تعليمه لكنيسته، والذي سيعود ليدين الأحياء والأموات بعد أن ينال كل سلطان في السماء وعلى الأرض (28: 16-20). لقد تبدّل المتكلّم، ولكن تبدّل أيضًا الناطق الذي وُضع التعليم في فمه وأعطي باسمه. كرّر متّى عظة معين اللوغيا. ولكن ليس الشخص ذاته هو الذي يتفوّه بها. وموضوعها قد تبدّل. وصار التواصل مقاطع تعيد صياغة النصّ وتحدّد التنوعّ الضروريّ في الزمان والمكان، لمسيرة الحركات المسيحيّة.
3. والتحوّلات في الكرستولوجيا تقابل في النهاية تبدّلاً في إدراك التاريخ. فالانتظار القريب للعودة الذي فشل بسبب زمن يطول، قد استعيد في تاريخ خلاص يربط وضع الجماعة المتّاويّة بماضي المواعيد التوراتيّة، بحاضر الصراع والمزاحمة مع العالم اليهودي، وبكرازة دينونة تجازي الأعمال التي أتمَّها كل إنسان. إن موضوع المجازاة الاسكاتولوجيّة، الذي كان حاضرًا في خطبة معين اللوغيا عبر التنبيه بأن لا ندين الغير، صار موضوعًا مركزيًا في البرهان. لاشكّ في أن الطاعة قد سبقها نداء التطويبات. ولكن هذه التطويبات تعطي، في النسخة المتّاوية، الشروطَ الخلقيّة للسعادة الاسكاتولوجيّة: طوبى للذين يعملون في طلب البر، للذين يتصرّفون كحاملي سلام، للذين يرحمون. كانت المواضيع موجودة من قبلُ في الوضع السابق للخطبة. أما الجديد فهو أن الاستحقاق الحاسم قد جُعل أمام سامعي عظة الجبل، والمواضيع الاسكاتولوجيّة قد استُعملت بشكل تربويّ على مستوى الترغيب والترهيب. إن وضع الشريعة موضع العمل يُقدَّم بلاغيًا على أنه شرط للدخول إلى الملكوت. والصدى السيكولوجي الذي تلاقيه مثل هذه الطروح (البعيدة كل البعد عن إنجيل يوحنا و"انجيل" بولس) تفسّر بدون شكّ فاعليّة عظة الجبل حين دخلت في الانجيل الأول.

2- التقاليد الخاصّة بمتّى
أ- لمحة عامّة
إن التفسير الخاص الذي تفرضه عظة متّى على الجبل لخطبة معين اللوغيا، هو نتيجة تداخل تدوين الانجيل الأول مع التيّار الشريعاني الذي توسّعت فيه الوثيقة الثانية المهمّة التي نجدها فيه: عنيت بها إرث التقاليد الخاصّة بمتّى. فعناصرها المختلفة تتوزّع داخل بنية عامّة قدّمتها الوثيقة الأولى (أي معين اللوغيا) ولكن منظارها الخاص حدّد الصورة الايديولوجيّة لعظة الجبل. فهذا الارث ينبع من حركة أخرى في المسيحيّة الأولى، انطلقت من أورشليم، من محيط عائلة يسوع. ووجدت من يتكلّم باسمها في شخص يعقوب، أخي الرب، كما وجدت نموذج فهمها لكرازة يسوع في التقليد الفرّيسي لتفسير الشريعة. وصف بولس ممثّليها بـ "الأخوة الكذبة" (غل 2: 1-10؛ 2: 11- 14)، ورفض أن يركما في إنجيلهم انجيلاً مسيحيًا (غل 1: 6- 11).
وقد استعاد منهم متّى في ف 5-7 العناصر التالية:
1. النقائض الثلاث الأولى حول تفسير الدكالوغ (الوصايا العشر) وسفر اللاويين: "سمعتم أنه قيل للأقدمين: لا تقتل" (5: 21-24). "... لا تزن" (27:5-28). "... لا تحلف" (33:5-36). إن التحليل الأدبيّ يبيّن أن متّى وجد في متّاوياته ثلاثًا من هذه النقائض الست التي نجدها في عظة الجبل. وانطلق من نموذج تقاليد تلقّاها، فأعطى لعناصر أخرى جاءت من معين اللوغيا، شكل ثلاث نقائض جديدة أضافها (الطلاق، شريعة المثل، وصيّة المحبّة).
حين قرأت هذه الحركة المسيحيّة الوصايا قراءة سريعة، قابلتها بتفسير يسير في خطّها إلى النهاية: فكل من وجّه كلمة سوء لقريبه، أو نظر إلى امرأة ليشتهيها، ينتظره حكم الدينونة الأخيرة. فيجب أن نتساءل: من أين جاءت الحركة بهذه الأفكار؟ كما نلاحظ تقديم مجمل النصّ بشكل متاوي. فمختلف حالات التصرّف المنحرف قد جُعلت في لائحة: "إن غضبت. إن قلت له يا أحمق. إن قلت له يا مجنون". ويأتي العقاب: "تستحق حكم المجلس. تستحق المحاكمة. تستحق جهنم".
2. وهناك التعليمات الثلاث حول الصدقة (6: 2-4) والصلاة (6: 5-6) والصوم (6: 16-18). نلاحظ تجمّعًا في ثلاثة تعاليم متوازية. اختلفت المواضيع وما عادت تعني الخلقيّات بل الممارسات التقويّة. ويتوافق التوسّع مع ذات القواعد المعمول بها في الفتاوى. لا يرجع هذا التعليم بشكل مباشر إلى الكتاب المقدس، كما في النقائض، ولكنه يؤكّد بشكل هجومي نظامه الخاص ضدّ تقليد ونماذج من التصرّف مزاحمة له. إن الجذريّة التي تميّز تفسير الشريعة في مجالات العلاقات بين الأشخاص، تجد ما يقابلها في جذريّة وضع الانسان أمام الله.
ب- التأليف الأدبيّ في التعاليم
تتميّز هنا قواعد التأليف بما يلي:
1. إن العمل الأدبي يبدو أكثر تماسكًا في التعاليم الخاصّة بمتّى أكثر منه في خطبة "معين اللوغيا". فالبنية التعليميّة للنقائض والتعاليم حول ممارسات التقوى، تدلّ على سيطرة الأشكال البراهينيّة على المواد التي تسلّمها متّى.
يتبع البناءُ البلاغيّ للنقائض النموذجَ الأساسيّ لرسمة مشتركة: (1) مقدّمة الطرح (قيل لكم). ترد مثل درس تلقّاه النقل الرابيني. (2) إعلان الطرح الذي هو إيراد من العهد القديم (لا تقتل). (3) مقدمة النقيضة (طرح يناقض، أما أنا): الناطق (أي يسوع) يرفض الدرس المقبول (الذي يؤخذ به) ويُحلّ محلَّه درسًا آخر. (4) إعلان النقيضة (كل من غضب على أخيه) التي لا تلغي الطرح، بل تمتدّ إلى مفترضاته، وتستخرج النتائج الأخيرة. ويأتي في ترتيب مختلف (5) توسّع بشكل فتوى في النقيضة مع عناصر ثلاثة. (6) موضوع اسكاتولوجي يجازي الطاعة أو العصيان للشريعة كما تفسّرها النقيضة (أو ما يناقض. الطرح).
يتسجّل مجملُ البنية في منظار حركة تعود إلى سلطة يسوع (أما أنا فأقوله لكم) ليفرض تفسيرًا امتداديًا للشريعة. وهكذا يبدو التعليم الذي تكوّن على هذا الشكل، في بنيته الأدبيّة ومضمونه، في خط الجدال الرابيني مع تأكيد يواجه هذا الجدال.
2. ويضع التعليم المثلّث حول الصدقة والصلاة والصوم ذات السياق من الاتصال، ويأخذ من هذا السياق شكله الذي هو متماسك على مستوى المعنى. هذا التعليم يهاجم نموذجًا يرفضه ويعارضه بمتطلّبته الخاصّة باسم يسوع: (1) هناك عبارة بشكل فتوى تقدّم الموضوع الخاص بالتعليم: "إن صنعتم صدقة... إن صلّيتم... إن صمتم...". (2) يلي هذا التعبير توصية سلبيّة (لا تبوّق أمامك، لا تكرروا الكلام). يعيدنا هذا الأمر إلى مثل المرائين السيّىء. جاء تصرّفهم بشكل كاريكاتوريّ فاستعمل كأداة بها نبتعد عن مثل هذا الموقف. (3) إذا كان تصرّف المرائين هو موضوع انتقاد، فبسبب الهدف الذي يطلبونه في غير محلّه: "لا تفعلوا... كما يفعل المراؤون لكي". (4) القسم الأول من التعليم (القسم السلبي) ينتهي بقول مقولب يدلّ على فشل المحاولة: "الحقّ أقول لكم: لقد أخذوا أجرهم" (من الناس، فلا ينتظروا أجرًا من الله). (5) ويأخذ التعليم نقيض الحلّ غير الموافق الذي أخذ به المراؤون، فيقدّم توصيته الخاصّة: "أما أنت فإذا صنعت صدقة... فإذا صمت". (6) وتجاه غاية التصرّف الضالّ الذي يقوم به المراؤون، نجد الغاية التي يطلبها التعليم: "إفعل هذا لكي". فالمعيار الذي جاء هو أيضًا في شكل مقولب، هو أن ممارسات التقوى تقدَّم إلى الله لا إلى البشر. وسياق النقل هو كما في النقائض سياق صراع التفاسير. فالسياق الذي يوجّه النقائض هو: كيف نفسّر الشريعة لنجد فيها إرادة الله. أما تفسير التعاليم المتّاوية فهو: كيف تكون تقيًا بحيث لا تغش نفسك؟ (7) تجاه الحكم الموجّه على فشل المرائين، نجد وعدًا للذين يتوافقون مع التوصيات: "أبوكم الذي يرى في الخفية يجازيكم".
3. لا ينطلق تأليف النقائض والتعاليم من مزج بين اللوغيا، والأقوال النبويّة، بل من توسّع متواصل لتقليد التفسير. ونستطيع أن نكتشف في النقائض كما في التعليم على الوصايا، عناصر كانت نقطة الانطلاق في صياغة النصّ. غير أن هذه الصياغة لم تصر ببلورة مواد متنافرة، بل بمسيرة توضيح ذاتي وابراز، وحسب منطق يرتبط بالفنّ الأدبيّ. وقد أعطيت نقطة الانطلاق بالنقيضة بحصر المعنى (سمعتم أنه قيل لكم، أما أنا فأقول لكم)، التي تبدو في ذاتها صراعًا حول تفسير الشريعة. وشرحت الاتساعاتُ المتتالية التفسير وحدّدته، وصيّرته أمرًا محسوسًا. وشرّعته فصار قاعدة حياة باستعمال المواضيع الاسكاتولوجيّة. أما المحطّات التالية في التفسير فهي استخراج المعطيات الحاضرة في التقليد من قطبها، أو صياغتها في ترتيب برهانيّ حين نكون أمام عناصر خارجيّة مثل العنصر الذي أضيف على النقيضة الأولى وعلى تطبيقاتها الفتاويّة (5: 23-24). فالرابينيّة (صفة الرابي أي المعلّم) تعود إلى سلطة يسوع لتوسّع تفسيرها المسيحي للعالم اليهوديّ بحسب قواعد التأويل الخاصة بمدارس الفريسيين.
4. إن تاريخ التوسّع في تعاليم المصادر المسيحية المتهوّدة الخاصة بمتّى، تدلّ على مسيرة عادت بالحركة إلى المستوى اليهوديّ. فالنقائض نفسها التي كانت نقطة بلورة الفتاوى، تتبع ذات منطق النقل بما فيه من مفارقة، الذي كان لوصيّة محبّة الأعداء ورسماتها في معين اللوغيا. إن التفسير الجذريّ لها يعزّز بُعد الوصيّة بحيث لا يعود يمكن تطبيقها. وتؤخذ الشريعة بجديّة بحيث تخسر في الواقع كل امتيازاتها. وعلى المستوى الانتروبولوجي (أو دراسة الانسان) تصبح المتطلّبة جذريّة جدًا، فلا تصيب فقط خارجيّة الأعمال بل باطنيّة الضمير، بحيث يُصبح كلُّ برّ مستحيلاً. فتكشف أن لا انسان يبرّر بالشريعة أمام الله (روم 3: 30). لقد طُردت الشريعانية (التعلّق المفرط بالشريعة) من سجنها وعادت إلى نعمة الله وحدها.
وتنقلب هذه الوجهة النقديّة بالاتساعات المتتالية. فكل ما يطلبه علم الفتاوى هو أن يجعل منها تفسيرًا. وفي المنظار الذي يشرف عليها، لسنا أمام نقل تعليم يسوع وفرضه كقاعدة تفسير للشريعة. فإذا أراد وجد نفسه مجبرًا على قراءة تخفّف من قوّة المفارقة وإظهار طابعها القاسي بمظهر انسانيّ. وهكذا يعود أمر يسوع بما فيه من مفارقة فيصبح قابلاً للتطبيق. ولكن في الوقت عينه أعيدت الشريعة ومعها النهج القسريّ الذي يفجّر النقيضة. وهذه الظاهرة تدلّ على جدليّة خاصة بمسيرة التقليد. والهدف الذي يُشرف على ذلك هو أمانة للتعليم الذي قُبل. وبما أنه تكرَّر وورد في سياق جديد من الاتصال، فبُعده البراهيني يتحوّل ويصبح كفيلاً لعالم تفسيري غريب عنه.
ج- كيف بدت المسيحيّة في التعاليم
إن النهج الذي اتّبع هنا يتميّز بالسمات التالية:
1. إن تفسير المسيحيّة والوجود المسيحي، تتحكّم به قراءة جديدة لموت يسوع، تنطلق من نظرة رابينيّة إلى الأمانة للشريعة. ففي الشريعة نطلب مشيئة الله. والايمان يُفهم بحسب هذه الحركة، في داخل العالم اليهوديّ. أما أشكال تعبيره اللاهوتي فهي أشكال المدارس الفريسيّة. ونظراته الأساسيّة قريبة من نظرات هذه المدارس. والوحي قد ارتبط بالتوراة، أي بموسى والأقدمين، من كتبة وفريسيين جلسوا على كرسي موسى (2:23-3). من هذا القبيل، ضمّ يسوع نفسه إلى سلسلة التفاسير التي ما زالت تكوّن الشريعة.
2. فمن يتكلّم في هذه التعاليم حين يتكلّم يسوع؟ يبدو هنا كما في معين اللوغيا أن العناصر القديمة هي صدى نشاط يسوع نفسه. وإعادة صياغة هذا الارث في قالب قويم، هي نتيجة تفسير جديد قام به يسوع ككاتب ومعلّم للشريعة. وقد أُسقطت كرازتُه على إطار قدّمته ممارسات التأويل الرابيني. إنه مفسّر الشريعة. والحركة تقرّ له بلاشكّ بسلطة خاصة. غير أن هذه السلطة يجب أن تُفهم في عالم إسناد ارتبط هو به. فيسوغ يتمتّع بسلطة كمعلّم الشريعة، وبقدر ما تتطلّب قراءته للشريعة من سلطان، وفي معنى آخر: لا تأخذ الشريعة من يسوع قيمَتها كقاعدة حياة، بل أمانةُ يسوع للشريعة تمنح يسوع سلطته. ينتج عن هذا أيضًا، أن الناطق لم يعد يسوع التاريخيّ، بل وجهٌ أسسّ رابينيّة مسيحيّة تنتمي إلى تعاليمه. يسوع هو المعلّم، لأنه حين يتكلّم فهو موسى (كما يجب أن يُفهم) الذي يتوجّه إلى شعبه.
3. أن يقدَّم يسوع كمفسّر مأذون لشريعة موسى، يحدّد الاتّجاه اللاهوتي للحركة. فهي تُفهَم أولاً كممارسة داخل العالم اليهوديّ. من هنا جاء التحذير: "لا تأخذوا طريق الوثنيين، ولا تدخلوا مدينة السامريين" (10: 5). لم تُعتبر المسيحية بعثة لجماعة من المرسلين بل خمير إصلاح داخل اسرائيل: "إذهبوا بالحري إلى الخراف الضالّة من بيت اسرائيل" (10: 6). فدعوتها هي عيش وإعلان أمانة الشعب الحقيقية لإلهه وشريعته. وهكذا صارت المسيحيّة قريبة، في هذه النقطة الحاسمة، من حركات أخرى معاصرة تعمل للاصلاح: هناك الفريسيون الذين ذكرناهم. وهناك الأسيانيّون أيضًا. في هذا المجال نفهم بسهولة أن تُعتبر هذه المسيحيّة "اندفاع الهلينيين لاستمالة الناس إلى الايمان" (أع 6-8؛ 11: 19-30) زيفًا، والعمل البولسي غشًا ومكرًا (غل 2: 1-10؛ 2: 11- 14؛ روم 15: 14-33). فالتوسّعات المسيحيّة في العالم الوثني تتسجّل في لاتواصل تام مع الطريقة التي بها فهموا يسوع.
4. إن قواعد التصرّف الناتجة عن هذا النهج اليقيني كما حدِّد، تجد تعبيرًا عنها في أمانة أكبر للشريعة وطاعة أقسى. والأوامر التي نقلها يسوع، بما فيها من مفارقة، قد أخذت بجدية ورُتبت كقواعد حياة، فصارت لهم العنصر المؤسّس. من هذا القبيل، يبدو تواصل التقليد حقيقيًا وإن مدهشًا. فالايمان المسيحيّ يتحدّد بجذريّة المتطلّبات المفروضة واقتراب الجزاء الأخير. استعيدت التمثّلات الاسكاتولوجيّة من الأوساط الفرّيسيّة. ولم ترتبط بها صورةُ يسوع بشكل من الأشكال: إنه ليس الديّان بل معلّم الشريعة. وبما أنه كذلك، فقد نقل فقط المعايير التي تطبّق على الدينونة الأخيرة. "فمن يتعدّى واحدة من هذه الوصايا، حتى من أصغرها، ويعلّم الناس أن يفعلوا هكذا، فإنه يُدعى الأصغر في ملكوت السماوات. وأمّا من يعمل بها ويعلّم، فهذا يُدعى عظيمًا في ملكوت السماوات" (5: 19). طريقة الكلام هجوميّة، وهو يصيب الهلنستيين الذين يعودون في أخبار الجدالات إلى سلطة يسوع ليتصرّفوا بحريّة تجاه قواعد الطهارة الطقسيّة، تجاه الأصوام والصلوات، كما يصيب التوسّعات في كنائس تأسّست في محيط وثنيّ، ولاسيّما اللاهوت البولسي الذي يعتبر أن المسيح هو "نهاية الشريعة" (روم 10: 4).
د- التقبّل المتّاوي للتعاليم
إن النظرة إلى المسيحيّة كما يعرضها تعليمُ المصادر الخاصّة بمتّى، كان لها الأثر الحاسم على الصورة اللاهوتيّة للانجيل.
1. استعاد متّى من مصدره، التأويلَ الرابينيّ للشريعة. ففي نظره هو أيضًا، تبقى المسيحيّة خاضعة لمجمل التوراة (التي لا تتضمّن فقط العهد القديم، بل مجمل التفاسير حسب النظرة التي يدافع عنها الفريسيون). فيسوع هو ويبقى معلّم الشريعة: "لا تظنوا أني جئت لأنقص الشريعة والأنبياء: ما جئت لأنقض بل لأكمّل" (5: 17). فممارسة الشريعة تبقى المحك للإيمان المسيحي: "إن لم يزد برّكم على برّ الكتبة والفريسيين، لن تدخلوا ملكوت السماوات" (5: 20). غير أن الارث المسيحي المتهوّد يقابله إرث وصل إلينا بواسطة إنجيل مرقس فأبرز وجهة الهلينيين. والشميلة التي جاء بها متّى جاءت في عمقها أصيلة. احتفظ متّى من الحركة الرابينيّة بالطرح الذي يعتبر الشريعة قاعدة حياة. واستعاد من الهلينيين فكرة تدرّج الوصايا، وهي فكرة تجد شرعيّتها في اسم يسوع، وتجعل من محبّة القريب والرحمة والبرّ أو القاعدة الذهبيّة، معيارَ التراتبية والتفسير. والتأويل الذي تكوّن انطلاقًا من هذين القطبين يجد تعبيره في نزع الجذريّة عن المتطلّبات الجذريّة التي عادت إلى مجال الممكن في منظار يُبرز البُعد الخلقي. وأضيفت قواعد تطبيقيّة محدّدة لتكون استنتاجات عمليّة للنقائض: النداء إلى المصالحة كقاعدة تطبّق الأمر بأن لا نغضب (5: 25-26)، وتنظيم الطلاق كقاعدة تطبّق النقيضة حول الزواج (5: 31-32)... وأعطيت الصلاة الربية كحلّ عمليّ لمسألة الصلاة (6: 9-13).
2. إن انتقال النظرة إلى الشريعة هو نتيجة تبدّل الكرستولوجيا. فيسوع لا ينال سلطته من تعليم الشريعة، بل نقرّ به ربّ السماء والأرض، وبالتالي المفسّر الاسكاتولوجيّ لمشيئة الله. إن المبدأ التأويليّ لسرد الانجيل لا يُعطى في تفسير التوراة. بل في التجّلي الفصحي (بواسطة القيامة) الذي يجعل ظهور الأرضيّ كظهور القائم من الموت. لم يعد الناطقُ مفسّرَ موسى، بل المعلّم الاسكاتولوجيّ لمشيئة الله. وما تفرضه الشريعة لم يعد سوى درفة في نقل الانجيل الذي بدأ بتأكيد أعطي للتلاميذ بحضور عمانوئيل إلى جانبهم، ويتواصل بالدعوة التي وجِّهت إليهم ليمضوا ويعلنوا البشارة لجميع الأمم.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM