الفصل التاسع: الهرب إلى مصر والعودة إلى الجليل

الفصل التاسع
الهرب إلى مصر والعودة إلى الجليل
2: 13- 23

بنيت المقطوعتان آ 13- 15 وآ 19- 23 حسب النموذج الأدبي الواحد، وأحاطتا بمقتل الأطفال في بيت لحم (آ 16- 18). نكتشف في آ 19- 23 عناصر جديدة لا نجدها في آ 13- 15، فتشكل بداية أدبيّة ولاهوتيّة في انجيل الطفولة أمام انجيل متّى كلّه.

1- الدينامية الكرستولوجية
نتوقف أولاً عند الدينامية الكرستولوجية في المسيرة التدوينية. واللوحة التالية تلقي ضوءاً أول على المقطوعتين اللتين ندرسهما.
مت 2: 13- 15 مت 2: 19- 23
1- الوضع 1- الرضع
بعد انصرافهم ولما مات هيرودس
2- الملاك ليوسف 2- الملاك ليوسف
ها إن ملاك الرب ها إن ملاك الرب
تراءى ليوسف تراءى ليوسف
في الحلم وقال له: في الحلم وقال له:
أ- قم أ- قم
ب- خذ الصبي وأمه ب- خذ الصبي وأمه
ج- واهرب إلى مصر ج- وامضِ إلى أرض اسرائيل
د- وأقم هناك
حتى أقول لك
فإن هيرودس موشك فلقد مات
أن يطلب الصبي طالبو نفس الصبي.
ليهلكه
3- التنفيذ 3- التنفيذ
وإذ بلغه أن ارخيلاوس
يملك على اليهودية
مكان هيرودس أبيه
خاف أن يذهب إلى هناك
وأوعز إليه في الحلم
أ- فنهض يوسف
ب- وأخذ الصبي وأمه
ج- وانصرف إلى مصر وانصرف إلى نواحي الجليل
د- وأقام هناك وجاء وسكن في مدينة
إلى وفاة هيرودس تسمّى الناصرة.
4- إيراد من العهد القديم 4- إيراد من العهد القديم
ليتم ما قال الرب ليتم
بالنبي القائل: ما قيل بالأنبياء:
من مصر إنه يدعى
دعوت ابني ناصرياً
نستطيع أن نبيّن إن هذه الدبتيكا تتدرجّ بشكل عجيب في تربتيكا (مثلّث) تكون الدرفة الأولى فيها 1: 18- 25 (ظهور ليوسف). وها نحن نقدّم لوحة تحدّد دور المقطوعات الثلاث في مجمل مت 1- 2.
الإعلان ليوسف الهرب إلى مصر العودة إلي الجليل
وها إن ملاك ها إن ملاك ها إن ملاك
الرب تراءى الرب تراءى الرب تراءى
له في الحلم ليوسف في الحلم ليوسف في الحلم
دعاه من مصر دعوت يدعى
باسم يسوع ابني ناصرياً
إن التشابه بين هذه النصوص الثلاثة لافت للنظر. ففعل "دعا" يوحّد بينها توحيداً عميقاً: يبدأ مع مفعول به، فيدلّ بالتسميات الثلاث (يسوع، ابن، ناصري) على المضمون الكرستولوجي الغنيّ.
أما بالنسبة إلى الوحدة الأدبية واللاهوتية في هذه التربتيكا (المثلّث، ثلاثة مقاطع) التي تشكّل "النسبة" (1: 1- 17) مقدّمة ساطعة لها، فتدلّ المقطوعتان (2: 1- 12، 2: 16- 18) على اختلافات عميقة (مثلاً غياب يوسف، غياب ملاك الرب). ولكن هناك تقاربات واضحة تجعل الواحدة مكمّلة للأخرى. إن آ 16 تشكّل بوضوح ولي آ 12، وتتجاوب آ 7 مع آ 16. إن مقتل الأطفال هو امتداد لزيارة المجوس. في حركة مت التدوينية كان العنصران موحّدين لا الأصل ثم فُصلا وترتّبا قبل الهرب إلى مصر وبعده.
قد يكون الانجيلي كوّن كتلة هذين الفصلين (مت 1- 2) انطلاقاً من وحدتين أدبيتين تكوّنتا في مدرسته: من جهة مقطوعة المجوس مع ما يتبعها (مقتل الأطفال)، ومن جهة ثانية التربتيكا التي تفحّصناها مع مقدّمتها الاحتفالية التي هي "نسبة" يسوع. كان هدف 1: 1- 17 أن يثبت هويّة يسوع الشرعيّة: "يسوع المسيح هو ابن داود، وابن ابراهيم" (1: 1). ويوسف هو رجل مريم، التي منها وُلد يسوع الذي يدعى المسيح (1: 16).
حينئذ لا تكون المقطوعات الثلاث (1: 18- 25؛ 2: 13- 15؛ 2: 19- 23) إلا توضيحاً ساطعاً لآخر كلمات "النسبة": "يسوع الذي يُدعى المسيح". وجب على الانجيلي أن يحدّد من هو في الحقيقة يسوع هذا الذي يعترف به المسيحيون على أنه المسيح، أي ذاك الذي كانت مهمّته بأن يتمّ الكتب المقدسة. إنه حقاً مخلّص جميع البشر. (يسوع عمانوئيل، الله معنا، 1: 23، 25. يتمّ تك 12: 3؛ 22: 18). وهو أيضاً الابن (ابن داود الذي وُلد في بيت لحم، وابن الله، 2: 15. يتمّ 2 صم 7: 12- 16). ولكن يبقى أنه يسوع الناصري (2: 23)، هذا الإنسان الذي خرج من قرية مجهولة في الكتاب المقدّس.

2- من مصر دعوت ابني (2: 13- 15)
إن خبر الهرب إلى مصر هو أولاً مدى بعيد وحقيقي لتجوالات الآباء: تجوال ابراهيم (تك 12). تجوال يعقوب الذي يشبه خبره (كما في تك 46: 2- 5) خبر مت. "قال الله لاسرائيل لا رؤية ليليّة: يعقوب، يعقوب! لا تخف من أن تنزل إلى مصر، لأني أجعل منك هناك شعباً عظيماً. فأنا أنزل معك إلى مصر، وأنا أصعدك من هناك".
ويبدو الإيراد الكتابي "من مصر دعوت ابني" كالذروة في هذه المقطوعة. ففيه يكمن مفتاح التفسير. من اللافت أن يكون مت قد تخلىّ عن الترجمة السبعينية (الأولاد) وتوقف عند النصّ العبري (ابني). نفهم في دينامية خاصّة به ما يُشرف على اختيار الانجيلي لهذه اللفظة. إختار هو 11: 1 الذي قدّم له لفظة "ابن"، كما احتفظت بها مختلف المجموعات في الكنيسة الأولى على أنها مسيحانيّة. فيسوع ليس فقط "ابن داود" (كما في النسبة). بل هو أيضاً "ابن الله" (كما في البشارة ليوسف).
عندئذ تمّت نبوءة ناتان في ملء معناها: "أبقي بعدك ذرّية تخرج من صلبك وأثبّت ملكه. أكون له أباً ويكون لي ابناً... ويُحفظ بيتك وملكك إلى الأبد أمامي، ويكون عرشك ثابتاً إلى الأبد" (2 صم 7: 12- 16). إن الاختيار الأخير (من مصر دعوت ابني، مت 2: 15) يدلّ على ارتباط بين ملك يهوه (خر 15: 18) الذي بدا ملموساً باختيار ابنه اسرائيل (خر 4: 22)، وملك المسيح ابن داود الذي يمثّل اسرائيل الجديد كما جاء يكوّنه.
ونزيد على ذلك فنقول: كانت مصر في وعي اسرائيل الديني أرض العبودية التي منها أخرج الله شعبه (ابنه). كانت كذلك قبل كل شيء وبشكل خاص. وعلى مثال موسى في الماضي، يسوع هو اليوم أداة تحرّر تعود فيه المبادرة كلها إلى الله. وقد أشار مت في موضع آخر إلى الرسالة الموسوية، كما يدلّ عليه التوازي التالي:

خر 4: 19- 20
وقال الرب
لموسى في مديان:
انطلق، عُد
إلى مصر
فقد مات أولئك
الذين هددوا حياتك
إذن، أخذ موسى
زوجته وابنه
ووضعهما على حمار
وعاد أدراجه إلى
أرض مصر. مت 2: 19- 21
وتراءى ملاك الرب
ليوسف في الحلم وقال له
قم وعد
إلى أرض اسرائيل
فقد مات أولئك
الذين هدّدوا حياة الصبي
قام يوسف وأخذ
الصبي وأمه

وعاد إلى
أرض اسرائيل.

نلاحظ التشابه بين هذين المقطعين. إن مت 2: 19 ب (فقد مات الذين) يورد خر 4: 19 ب. نحن هنا أمام تذكّر عاديّ لدى كاتب اقتنع اقتناعاً عميقاً بأن المسيح هو موسى الجديد. وصيغة الجمع (ماتوا، هلكوا) تدهشنا. فالعدوّ هو هيرودس، وهو في صيغة المفرد. كل هذا يجعلنا نفكّر أن مت 2: 13- 15 و2: 19- 23 قد ألّفا بشكل تزامن. يجب أن نضع نصاً فوق الآخر كما في عمليّة الورق الشفّاف لنفهمهما معاً.
ويجب أن نعود أيضاً إلى التقوى اليهوديّة الشعبيّة، وإلى جميع التقاليد الحيّة التي يحافظ عليها أتقياء اسرائيل في زمن يسوع والانجيليين، حول شخصيّة موسى. فنصل عبر الترجوم والمدراش، إلى معطيات تمثّل "إضافة" حقيقيّة بالنسبة إلى ما نقرأ في الفصول الأولى من سفر الخروج. هذه "الإضافة" ترافق قراءتنا للعهد القديم إذا أردنا أن نفهم إلى من توجّه يسوع وكيف فهم شخصَه ورسالته أولئك الذين عرفوه خلال حياته على الأرض.
ها نحن نقدّم هنا مقطعاً من "القديميات اليهودية" (للمؤرخ فلافيوس يوسيفوس) الذي عاصر تقريباً تدوين الأناجيل. إنه يقدّم لنا عيّنة هامة عن التعبير عن هذه التقوى الشعبيّة في العالم اليهودي.
"وهناك حدث آخر دفع المصريين بشكل خاصّ إلى إفناء جنسنا. فقد أعلن أحد الكتبة المكرّسين (برع هؤلاء الناس في الانباء بدقّة بالمستقبل) للملك أنه قد وُلد في ذلك الزمن لبني اسرائيل واحد يخفض من تفوّق المصريين ويرفع بني اسرائيل. وحين يبلغ عمر الشباب، يتجاوز جميع البشر في الفضيلة وينال شهرة أزليّة. خاف الملك من مقال هذا الشخص، فأمر بأن يُقتل كل الذكور الذين يولدون لبني اسرائيل: يرمونهم في النهر. إذن، كانوا غارقين في هذا الضيق. ولكن لا يستطيع أحد أن يتغلّب على إرادة الله مهما كانت الحيل التي يلجأ إليها. فهذا الولد الذي أنبأ الكاتب المكرّس بولادته، قد نجا من ملاحقة الملك، وتربّى، ودلّت أعماله على الانباء الذي يعنيه".
نلاحظ في هذا النصّ أن مقتل أطفال العبرانيين لا يقرّره فرعون لكي يوقف نموّ بيت اسرائيل (خر 1: 18- 20). بل يسبّبه إنباء بولادة طفل سيقلب الموضع في مصر. وفي الطريقة التي فيها أفلت يسوع بطريقة عجائبيّة من الملك هيرودس الذي "طلب الصبي ليقتله" (آ 13)، نقرأ قرار فرعون باستئصال جميع الأطفال. وهكذا نجد في خلفيّة خبر متّى، هذا النصّ وسائر النصوص البيبلية واللابيبلية التي تحدّثنا عن موسى الذي نجا من الموت.
لقد دلّتنا البنية الأدبية في مت 2: 13- 15 على المرمى الحقيقي لهذه المقطوعة. فكما في زيارة المجوس، احتفظ هذا الخبر بتذكّر السنوات الأخيرة في عهد هيرودوس وما كان فيها من سفك دماء. وتأثر النصّ تأثّراً قوياً بتذكّر مولد موسى، فوجد قمته في هذه الكلمات "دعوت ابني". وارتبطت هذه الكلمات بالخبر بواسطة "من مصر". وهكذا أغلقت دائرة النعمة بين يهوه وشعبه: فالخروج من مصر يندرج اندراجاً أبدياً في حركة دائرية حيث تجد كل انحرافات التاريخ وجهتها الصحيحة وهدفها.

3- يدعى ناصرياً
قدّم مت العودة من مصر في ثلاث محطات. أولاً، "أرض اسرائيل" (آ 21). أي مجمل أرض فلسطين التي تُعتبر أرضاً مقدسة، أرض الموعد. ثم "ناحية الجليل" (آ 22). وأخيراً، "مدينة الناصرة" (آ 23). إن الناصرة، وإن كانت موضعاً مجهولاً في الكتب المقدّسة، كانت مع ذلك جزءاً من أرض اسرائيل التي اختارها الله. وهكذا يحيط الكاتب تدريجياً بالموضع الذي فيه نجد أصول يسوع.
وسيبيّن لنا تفحّص هذه المحطّات الثلاث كيف أن هذه المقاربة الجغرافيّة لموطن يسوع الحقيقي، ترافقها مقاربة لاهوتية.
أ- العودة إلى أرض اسرائيل
جاءت الأنوار من عالم الخروج ومن عالم موسى على أخبار مت 2، فدلّت المتتالية المتاوية في 2: 19- 23 على نهاية الخروج والدخول إلى أرض اسرائيل في فلسطين. ولكننا نجد أكثر من ذلك في النصوص. فنحن أمام "عودة"، لا أمام دخول بسيط (أو موقت). نحن أمام عودة ذي طابع نهائي. فالعبارة "دخل إلى أرض اسرائيل" (مت 2: 21) نجدها في حز 20: 36- 38 في معرض الحديث عن عودة المنفيّين. "وكما حكمتُ على آبائكم في أرض مصر، هكذا أحكم عليكم، يقول الربّ الإله. فإني أجيزكم (أجعلكم تعبرون) تحت العصا، وأعيدكم في عدد قليل. أفصل عنكم المتمرّدين، أولئك الذين ثاروا عليّ. أخرجهم من الأرض التي يقيمون فيها. ولكنهم لا يدخلون إلى أرض اسرائيل، فتعرفون أني أنا الربّ".
نلاحظ في نصّ حزقيال هذا أن العودة من المنفى تتوازى مع سفر الخروج والإقامة في البرية بعد الخروج من مصر. كما نحسّ بأن هذا النصّ حاضر في التدوين المسيحي للدبتيكا التي نحلّلها. ففي هذا الاسرائيل الجديد الذي يريد متّى أن يقدّمه لنا كالاسرائيل الحقيقي، يبدو الانجيلي الأول وارث روحانية وجدت أخيراً تتمتها وكمالها. فولادة يسوع وطفولته (وكذلك كل مراحل حياته) تجدان إطارهما في نصوص تتحدّث عن "نؤمن اسرائيل". هذه النصوص هي نتيجة لغة وأسلوب سيستفيد منهما الكاتب الانجيلي ليكتب "حياة" يسوع.
نجد في هذه النصوص الموضوع الاشتراعي المرتبط بأشعيا والمتحدّث عن خروج جديد. هذا الموضوع يجد صدى عميقاً عند مسيحيّي الكنيسة الأولى. لم يعد يسوع ذاك "الموسى" الذي مات في البرية قبل أن يصل إلى أرض كنعان. بل هو ذلك الذي يجمع كل المنفيّين من أجل عودة نهائيّة إلى أرض الموعد. عندئذ نستطيع القول حسب هذه الشميلة الانجيليّة الرائعة، إن المسيح يسوع الذي هو غاية الخليقة الجديدة، يعيش أيضاً منذ ولادته كلاً من هاتين المحطتين الحاسمتين في خلاص اسرائيل وهما: الخروج ونهاية العبودية. العودة من المنفى والخروج الجديد.
أجل، إن الرؤية المتاوية هي بداية الخلاص النهائي الذي حمله يسوع الناصري بشكل العودة (الرجوع) الأخيرة. فيسوع وحده ولا شخصٌ آخر، هو الذي جاء يتمّ هذا العمل الاسكاتولوجي (في نهية الزمن) الذي صوّرته مسبقاً المحطتان المميّزتان في تاريخ الشعب المختار وهما: الخروج والعودة من بابل.
ب- ناحية الجليل
إن "ناحية الجليل" هي الأرض التي فيها ظهر يسوع على الجموع وأعلن لهم اقتراب ملكوت السماوات (4: 17). هناك كرز وعلّم واجترح معجزات دلّت على الحدث الذي يُبلغه إلينا. ولكن في نظر اليهودي المعاصر ليسوع، كان للجليل اتساع وأهمية يتجاوزان تصوّراتنا الجغرافية. كان يصل في الشمال إلى لبنان والسلسلة الشرقية مع جبل حرمون. وكان يصل في الشمال الشرقي إلى دمشق. وفي الشرق إلى دكابوليس أو المدن العشر. وفي الغرب كان يصل إلى صور وصيدا. وأفضل شاهد على أبعاد الجليل هو المؤرّخ فلافيوس يوسيفوس الذي يسقط خارطته الخاصّة (أي خارطة عصره) على المناطق التي توزّعت على قبائل الشمال في زمن يشوع بن نون (يش 19).
"نال رجال زبولون الأرض التي تمتدّ إلى بحيرة جنسارت، وتصل إلى ضواحي الكرمل والبحر والمنطقة الواقعة وراء الكرمل والتي تسمّى "الوادي" بسبب موقعها. أعطيت كلها لرجاله أشير. وكانت تجاه صيدون. والأراضي التي من جهة الشرق حتى مدينة دمشق والجليل الأعلى، فقد أقام فيها رجال نفتالي حتى جبل لبنان ومنابع الأردن" (القديميات اليهودية 5/ 1: 22).
ونزيد أنه في زمن يسوع وربما حتى القرون الوسطى، اعتبر الجليل (ولا سيّما شماله) في نظر اليهود أرضاً مسيحانية وموضع تجمّع المنفيّين حول السابق (إيليا) في انتظار المسيح الذي سيظهر في ذاك المكان. وتأويل زك 9: 1 (دمشق مسكنه) ليس بغريب عن هذه النظرة.
في زمن العهد الجديد، وُجد رباط بين الخروج الجديد (أو عودة المنفيّين) وأرض الجليل (أو دمشق). وهذا ما يدلّ عليه أدب قمران. فحسب وثيقة دمشق التي عُرفت أيضاً في اكتشافات مخبأ القاهرة سنة 1896، يبدو أن أهل قمران أرادوا أن يعيشوا خبرة البرية. مارسوا روحانية العهد الجديد، واهتموا بتتميم نبوءة عا 5: 26- 27 في انتظارهم للمسيح (7: 15؛ 20: 11- 15).
في هذه المنطقة المميّزة في فلسطين، بدأ يسوع رسالته وتابعها كـ "نعم" يتجاوب مع الانتظار الذي تجسّد في الناس شيئاً فشيئاً. وأبرز مت بشكل خاص الوجهة "الجليلية" في جواب يسوع هذا. فلقد تفرّد في ذكر أش 8: 23- 9: 1 (في مت 4: 15- 16) الذي نجد فيه تحقّقاً لانباءات "الظهور في الجليل" (28: 16- 20). لهذا، افترض أن عودة المنفيين قد تحقّقت كلياً في هذا الظهور للمخلّص في الجليل: نحن أمام الترائي الأخير (ابيفانيا) للربّ القائم من الموت: ولد كـ "عمانوئيل" (1: 23). وهو مع تلاميذه (28: 20) في كل مكان أي في جليل صار اليوم متجلياً وانفتحت حدوده حتى أقاصي الأرض.
ج- مدينة تدعى الناصرة
إن يسوع جعل قرية الناصرة مدينة مشهورة. لم تكن معروفة حتى ذلك الوقت، ولكنها سمّيت "موطنه" (مر 6: 1؛ لو 4: 16). وهذا الموضع الذي تجذّر فيه يسوع جعل العهد الجديد يسمّيه "الناصري" (2: 23).
ترتبط الصعوبة الكبيرة في هذا المقطع بالكلمات الأخيرة: "إنه يدعى ناصرياً". لا نجد مثل هذا القول في الكتاب المقدّس. ثم إن صيغة الجمع "الأنبياء" تدعونا ألاّ نبحث عن إيراد محدّد، بل أن نعتبر أن القول موجود بشكل ضمنيّ في مجمل الأسفار. بحثَ الشرّاح عن مراجع هذه العبارة وقدّموا الفرضيات المختلفة. وها نحن نقدّم أهمها.
يرى بعضهم أن "الناصرة" يعود إلى العبرية "ن ص ر" في أش 11: 1 (جذع يخرج من فم يسّى). ويرى بعضهم أن الأصل هو في قض 13: 3- 7 (إنباء بمولد شمشون) ولا سيّما في لفظة "نزير" (في السبعينية: نزارايوس) المطبَّقة على الولد. ولكن يجب أن نتذكر أن الانجيلي لا يورد أبداً الكتاب بمعزل عن حركة تفسير تعطيه كامل معناه. وتجاه هذا، إن الحريّة التي يتخذها بالنسبة إلى النصّ تتيح له بأن يكون أميناً له. حين يعرض مت عبارة أعاد تصحيحها (أش 7: 14 في مت 1: 23) على أنها قول نبوي، أو حين يجمع عدة عناصر كتابيّة في وحدة تامة، فهو يريد أن يقدّم لنا في شكل من الأشكال ملخّصاً عن تاريخ الخلاص. وهكذا يُدخل الماضي كله في حدث التجدد لكي يعطيه معناه النهائي.
عندئذ، لن تكون هناك صعوبة أن نقول بأن مت 2: 23 ج ليس إيراداً كتابياً، بل عبارة كوّنها الانجيلي وسمّاها "قول الأنبياء". فمدينة الناصرة هي موضع تتمة مجمل المواعيد، لا موعدٍ واحد. فما يهمّ مت هو تتمة الكتاب المقدّس كله. وانطلاقاً من ناصرة الجليل، سيتراءى يسوع مع ملء قدرته المسيحانيّة. حينئذ تدخل المواعيد إلى حيّز العمل، تدخل في التاريخ.

خاتمة
إن ما يسمّى خبر الطفولة عند مت ولو ليس معترضة نستطيع أن نستغني عنها. فنحن نجد فيه المركّبات اللاهوتيّة والأهداف التعليميّة التي حاول كل انجيلي أن يجعلها في كتابه. وإذ أراد الانجيلي أن يحدّثنا عن مولد يسوع وطفولته، استعمل لغة تعبرّ في نظر معاصريه عن الطابع الفريد لهذا الواقع. يبقى على المفسّر أن يتعرّف إلى هذه الصفة لكي يكتشف التعاليم التي تصدر عن هذا الخبر. كان انجيل الطفولة آخر ما كتب في الانجيل (كالمقدمة في كتاب)، فطبع بطابعه العميق والديناميكي الخبرة المسيحيّة الأولى. فالانجيل لا يستخرج أخباره من "تقارير" ماضية ومرتبة. بل يعيد صياغتها، فيخرجها من مناخ مسيحي وكنسي تسلّم بذارها، وأنماها، وغذاها بتعليم لاهوتي نجده في الانجيل كله. بدلاً من أن نبحث حرفياً عمّا حدث بالفعل في أخبار الطفولة، ننطلق من هذا الواقع البسيط الذي عاشه يسوع في دنيا البشر، ونكتشف التعليم العميق الذي نجده في انجيليَ متّى ولوقا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM