المُقَدّمَات

المُقَدّمَات
يرد في هذه المقدمات أربعة فصول:
1- مدخل إلى إنجيل متّى
2- تصميم إنجيل متّى
3- التأليف الأدبي أو ترتيب الانجيل
4- المعاني اللاهوتيّة في إنجيل متّى.

الفصل الأول
مدخل إلى إنجيل متّى

إنجيل متّى هو أول أسفار العهد الجديد، وأول إنجيل يُذكر في اللائحة القانونيّة، وقد سمّي الإنجيلي الكنسي في درجة أولى. نصوصه ترد أكثر ممّا ترد نصوص سائر الأناجيل، بل سائر أسفار العهد الجديد، في بدايات الكنيسة. منذ اكلمنضوس الأول أسقف رومة، إلى برنابا واغناطيوس الأنطاكي، إلى الديداكيه وتعليم الرسل. وفسّره الآباء من أوريجانس، إلى يوحنا الذهبيّ الفم، إلى هيلاريوس أسقف بواتييه في فرنسا، إلى ديونيسيوس الصليبي وإيشوعداد المروزي في العالم السريانيّ.
هذا هو الإنجيل الأول الذي نحاول أن نتعرّف إليه. فنتوقّف عند كاتب الكتاب، عند زمان ومكان تدوين الكتاب، عند المحيط الذي وُلد فيه.

1- كاتب إنجيل متّى
لم يوقّع الإنجيل الأول، شأنه شان سائر الأناجيل. وقد نُسب في القرن الثاني إلى الرسول متّى. مثل هذه النسبة لا تجد ما يسندها داخل نصّ الإنجيل؛ لهذا سنعود إلى ما يسمّى النقد الخارجيّ والشهادات التي تركها الآباء، قبل أن نتعرّف إلى الرسول متّى.
أ- شهادة بابياس
بعد أن تحدّث بابياس عن مرقس، قال: "إذن، هذا ما ورد في بابياس عن متّى. إذن، حول متّى قيل هذا: إذن رتب متّى الأقوال (لوغيا) في اللغة العبريّة، وكل فسرّها كما استطاع".
يرى النقّاد أن بابياس يتحدّث عن الأناجيل اليونانية التي عُرفت في أيامه (125- 130)، يتحدّث عن مت ومر. ويبدو مهتماً بـ "الترتيب" الإنجيلي. بدا إنجيل مرقس "عديم الترتيب". وشدّد بابياس على الترتيب في إنجيل متّى. بالإضافة إلى ذلك، ذكّرنا بابياس بوجود مؤلّف لمتّى في العبريّة (يعني: الآراميّة كما في يو 19: 13، 17: 20: 15 حيث الكلمات الواردة في العبريّة، قد وردت في الحقيقة في الأراميّة). قال بعضهم إن مت كتب بحسب الطريقة العبريّة، أي بحسب أسفار التوراة ولا سيما التاريخيّة منها. ولكنهم اختلفوا حول معنى لفظتَي "أقوال" (لوغيا)، "فسَّر". كما اختلفوا على السبب الذي دفع بابياس ليذكر عمل الرسول متّى بمناسبة حديثه عن الإنجيل الحاليّ.
أولاً: الأقوال- لوغيا
إن لفظة "لوغيا" تعني القول الإلهىّ، القول المأثور. أما النسخة السريانية لأوسابيوس القيصريّ (الذي نقل شهادة بابياس) فترجمت اللفظة: إنجيل. واستند بعض الشرّاح إلى هذا التفسير الأخير، فذكروا معنى هذه الكلمة في بعض نصوص العهد القديم كما تدلّ القرائن على ذلك. أما في الحاشية عن مرقس، فالكلمة ترادف "الخطب والأعمال"، لأنها تجمل هاتين اللفظتين بعد ذلك بقليل. إذن، "لوغيا" تعني "إنجيل". وهكذا يؤكّد بابياس وجود إنجيل أراميّ ألّفه الرسول متّى.
وهناك شرّاح آخرون يفضّلون أن يحتفظوا بالمعنى الأول: أقوال إلهية، أقوال مأثورة عن يسوع. ولكن إذا أردنا أن نماهي "لوغيا" (في مت) مع "أقوال وأفعال" (في الحاشية عن مر)، يجب أن ترجع العبارتان إلى كاتب واحد. ولكن الواقع هو أن "لوغيا" تنتمي إلى تفسير كتبه بابياس عن تقليد يوحنا حول "أقوال الرب وأعماله". هذا ما من جهة. ومن جهة ثانية، هناك شبه تأكيد أن الحاشية عن متّى تأتي من بابياس. كما نعرف أيضاً أن بابياس اهتمّ بشكل خاص بأقوال الرب (كتب خمسة كتب تفسير لأقوال الربّ). ينتج عن كل هذا، أن بابياس يشير لا إلى الأناجيل، بل إلى "الأقوال" كما جمعها متّى.
إذن، دلّ بابياس على وجود "مجموعة أقوال" ألّفها متّى فجاءت كالحجر الأول في إنجيله. رفض بعض الشرّاح هذا الرأي. إن بابياس يفكّر فقط في قسم من مؤلّف متّى الذي فسّره. كما أنه لا يؤكّد أن متّى انطلق من أقوال الربّ فأعطانا عملاً مرتَّباً (عكس مرقس).
ثانياً: كل فسّرها كما استطاع
الكلمة اليونانيّة هي "هرمينا"، التي تدلّ على "الترجمة" بالمعنى الحصريّ للكلمة، على نقل مكتوب لهذا المعنى يكون مقبولاً. إذا كانت "لوغيا" تدلّ على "الإنجيل، فهذا يصعب قبوله إذا كانت لوغيا تعني أقوال. وقد يعني الفعل أيضاً في المعنى الواسع: الترجوم الشفهيّ.
ويرى آخرون في فعل "هرمينا" تفسيراً وشرحاً. ويبدو هذا المعنى معقولاً في فم بابياس: فهو يصف هكذا محاولاته الخاصّة عندما يعلن أنه لم يتردّد أن يزيد على "تفاسيره" (هرمينايا) ما عرفه وحفظه من الشيوخ. قال هذا في مقطع قريب من المقطع الذي درسنا، وحيث الموضوع هو الأناجيل أيضاً.
ثالثاً: وذكر بابياس عمل الرسول
إذا كان التفسير السابق صحيحاً نستطيع أن نحدّد السبب الذي دفع بابياس ليتكلّم عن متّى. أراد بابياس أن يسند عمله إلى عمل متّى، وقابله مع المحاولات السابقة. وهكذا نستطيع أن نقرأ كلامه كما يلي: "رتّبت الأقوال بيد متّى في اللغة العبرية، وفسرّها (أي: شرحها) كل واحد كما استطاع". ويتواصل فكره: "أما أنا بابياس فسوف أشرحها مجموعة في خمسة كتب بحسب النموذج الذي أخذه متّى لكي يجمعها".
بعد هذا، نستطيع أن نستنتج أن متّى جمع أقوال الربّ في اللغة الآراميّة، أو حسب الطريقة العبريّة. ويرى بابياس أن مؤلّف الرسول يسند بسلطته الإنجيل اليوناني الذي عُرف في أيامه: هذا ما يفترضه تأكيده حول تجميع الأقوال وحول محاولات التفسير التي تلت تدوين هذه الأقوال.
ب- شهادات أخرى
ايريناوس. يبدو مرتبطاً بشهادة بابياس. وهو يوردها.
اوريجانس. يرى أن متّى العشّار الذي صار رسول يسوع المسيح، كان أوَّل من كتب. وقد كتب لليهود الذين ارتدّوا إلى الإيمان.
ترتليانس. جعل متّى ويوحنا على ذات الدرجة الرسوليّة، عكس مرقس ولوقا.
وهكذا انضمّ تقليد آسية الصغرى إلى تقليد مصر وأفريقيا، فقدّم لنا امتداداً كافياً لئلا نحسب أن شهادة بابياس قد كُتبت على سبيل الدفاع فقط، كما قال بعض النقّاد. أجل، التقليد الخارجيّ يحدّثنا عن متّى الرسول ككاتب الإنجيل الأول.
ج- معطيات النقد الداخليّ
أولاً: ما يقوله التقليد
يتيح لنا التفحّص النقديّ للإنجيل الأول بأن نحدّد موقع ما قاله التقليد. نترك جانباً بعض البراهين "الرديئة" المأخوذة من طبيعة مت. هل يستطيع شاهد عيان أن يدوّن مؤلّفاً لا يعكس إلا قليلاً "الصور" التي رأيناها عند مر؟ نجيب على هذا التساؤل بأن الأناجيل هي في الوقت عينه نتاج جماعة ونتاج "شاهد" من الشهود. أما أن يُقال بأن الرسول رفض أن يرتبط بمرقس لأنه لم يكن "شاهداً"، فهذا يعني أننا نفترض أن المسألة الإزائيّة قد حلّت. ولكن الأمر ليس كذلك.
ثانياً: اسم متّى
كل لوائح الرسل تحمل اسم "متّى". مت 10: 3: "فيلبس وبرتلماوس. توما ومتّى العشّار". رج مر: 3: 18 (الترتيب عينه)؛ لو 6: 15؛ في أع 1: 13 نجد ترتيباً مختلفاً: "فيلبس وتوما. برتلماوس ومتّى". وما يلفت النظر هو أن الانجيل الأول يتفرّد بالتفصيل الذي يصف متّى بالعشّار.
حين يذكر الإنجيل الأول صفة العشّار، فهو يعود بنا بلا شك إلى خبر دعوة العشّار في 9: 9: "وفيما يسوع منصرف من هناك، أبصر إنساناً جالساً على مائدة الجباية اسمه متّى. فقالت له: اتبعني. فقام وتبعه". غير أن هذا العشّار يسمّى لاوي في مر 2: 14= لو 5: 27= مت 9: 9. هل نحن أمام شخص واحد؟ هنا يرد اعتراض يقول بأن اليهودي لا يحمل اسمين ساميّين. فهناك أشخاص حملوا اسماً ساميّاً وآخر لاتينياً أو يونانياً. مثلاً: يوسف يوستوس (أع 1: 23). يوحنا مرقس (أع 12: 12، 25). شاول بولس (أع 13: 9). وقد يكون الاسم الثاني أرامياً. مثلاً، سمعان الذي يُقال له كيفا (أي صخرة). يوسف الذي يقال له برنابا (أع 4: 36). يوسف الذي يُدعى قيافا (المؤرخ يوسيفوس في القديميّات اليهوديّة 18/ 2: 7).
إذا قلنا إنه كان لمتّى تقليد خاص به ومختلف عن نصّ مر حول دعوة العشّار، نستطيع أن نفترض أن العشار سمّي "لاوي". وحين دعاه يسوع، لقّبه "متّى" (= متاي. شكل مقتضب لاسم إلهي يجني عطيّة الله: متتيا)، كما لقّب سعان كيفا أو بطرس. ويبدو أن مت يتصرف كذلك في 8: 14 حين يتفرّد فيلقّب سمعان باسم بطرس. ثم إن الانجيليّ قد يكون منح الكرامة الرسوليّة للاوي. وبما أنه يهتمّ اهتماماً خاصاً بالخلفيّة اليهوديّة لخبره، فقد سرّ بأن يعلن أن أحد الرسل انتمى إلى فئة العشّارين الذين كانوا مبغوضين.
ثالثاً: لغة الانجيل
كانت صعوبة أولى في نسبة الإنجيل الأول إلى الرسول متّى: التفاصيل التي نجدها عنه هو العشار الذي تبع يسوع. والصعوبة الثانية هي لغة الإنجيل. هناك من يقول إن النص الحاليّ هو "نقل" دقيق لأصل أرامي (هدف دفاعيّ). لا شك في أن التقليد يقول بوجود مؤلّف أراميّ. لم نستطع أن نتعرف إليه حتى في الإنجيل العبرانيّ. ماذا نقول في كل هذا؟ لقد وُجد في أساس إنجيل متّى الحالي مراجع أراميّة نسب بعضها إلى متّى الرسول. وإذا أردنا أن نحدّد النصوص التي أخذت من متّى الأرامي هذا، كما فعل البعض، ندخل في متاهات لا نستطيع الخروج منها.
في الواقع، إن إنجيل متّى الذي بين أيدينا مطبوع بطابع مؤلّف يونانيّ بألفاظه (كلمات مسيحيّة مثل "باروسيا" المجيء، "بالنغاناسيا" التجديد، 19: 28)، بأسلوبه اليونانيّ المنمّق. كل هذا يدلّ على أن الانجيل الذي بين أيدينا قد دوّن في اليونانيّة مستفيداً ربما من متّى الأرامي ومن مراجع أخرى لاسيّما إنجيل مرقس.

2- محيط الإنجيل الأول
نطرح هنا سؤالين. الأول: المحيط الذي وُلد فيه مت. الثاني: أين دوّن ومتى دوّن.
أ- أصول الانجيل الأول
ظنّ التقليد أن الإنجيل الأول توجّه حسب تعبير أوريجانس "إلى مؤمنين جاؤوا من العالم اليهوديّ" (ايريناوس، ايرونيموس، اوسابيوس، يوحنا الذهبيّ الفمّ). وأثبت النقد الداخليّ هذا الظنّ: فمت هو في الدرجة الأولى الإنجيل الفلسطيني، شرط أن نفهم هذه الكلمة في المعنى الواسع فنضم سورية وفلسطين والبقاع اللبنانيّ في إضمامة واحدة. فهو يتفوّق على مر ولو حين يصوّر المحيط الذي عاش فيه يسوع. بل إن الطريقة التي بها يكتب تدلّ على المحيط الذي دوّن فيه. وهذا ما تدلّ عليه دراسة الألفاظ، والعادات، والاتجاهات اللاهوتيّة.
أولاً: دراسة الألفاظ
إن الألفاظ التي استعملها مت هي ساميّة في نماذجها. فعنده وحده نجد عبارات مثل "حل وربط" (16: 19؛ 18: 18) للدلالة على الحرم "الكنسي" أو على قرار على مستوى تعليميّ وقانونيّ (كما في وثائق قمران)، ومثل "النير الذي يحمله الإنسان" أو "ملكوت السموات" (لا ملكوت لله)، أو "المدينة المقدّسة" (أي أورشليم) (رج 4: 5 في لو 4: 9 أ نقرأ: اورشليم؛ رج 27: 53: دخلوا المدينة المقدّسة)، أو "حكم جهنم" (23: 33)، أو "البرّ" للدلالة ربّما على الصدقة، أو "رقا" (5: 22: رأس فارغ) أو "ماموناس" (المال: 6: 24؛ رج 16: 9؛ 11: 13).
وهناك طرق تأليف خاصة بهذا العالم "الاراميّ". "بهاتين الوصيّتين يتعلّق الناموس كله والأنبياء" (22: 29). "اللحم والدم (أي الضعف البشري) لم يكشفا لك ذلك" (16: 17). "أنا بريء من دم هذا الصدّيق" (27: 24. هذا ما قاله بيلاطس)؛ "انقضاء الدهر" (24: 3)؛ "الظلمة البرانيّة"؛ "البكاء وصريف الأسنان". ونجد تلاعباً على الكلمات بين بعل زبول وصاحب البيت في 10: 25.
بالإضافة إلى ذلك لا يرى مت إلا ضرورة نادرة بأن يشرح عبارات فلسطينيّة كما فعل مر. ترجم مت فقط: عمانوئيل أي الهنا معنا (1: 23). الجلجثة أي موضوع الجمجمة (27: 33). إيلي إيلي لمّا شبقتاني أي إلهي إلهي. لماذا تركتني (مز 22: 1). أما مر 3: 17 فشرح لقب ابني زبدى: بوانرجس أي ابني الرعد. و5: 41 فسرّ العبارة التي قالها يسوع للصبية المائتة. طليتا قومي، أي صبيّة لك أقول قومي. و7: 11، 34 فسرّ معنى "قربان" (كتقدمة مقدّسة) و"افتح" أي انفتح. رج 9: 34؛ 10: 46؛ 14: 36.
ب- عادات البلاد
وترد عادات فلسطين مراراً وأغلب الأحيان بدون شرح لها. تكلّم مت مع مر ولو عن هدُب الرداء وفيها ما فيها من ارتباط بعالم الطقوس (9: 20= لو 8: 44؛ مت 14: 36= مر 6: 56؛ مت 21: 5). وعن طريقة الحلف (15: 4- 6 وز؛ رج 5: 34- 35؛ 23: 16- 22). وعن الغسل قبل الطعام (15: 2= مر 7: 2- 5: شرح مر العادة ولم يشرحها مت 15: 11، 18 الذي احتفظ بلفظة غريبة، كوينوو، جعله عادياً وبالتالي نجساً)، وعن الكتبة الذي يحبّون التحيّات في الساحات العامة، والمراكز الأولى في الاحتفالات (23: 6- 7= مر 12: 38- 39= لو 20: 46+ 11: 43).
ويتفرّد مت فيورد العادات التالية: حمل التقدمة إلى المذبح (5: 23). عادات الكهنة يوم السبت (12: 5: ينقضون السبت)، تقوى ظاهرة لدى عدد كبير منهم (6: 1- 6، 16- 18: يحبّون الصلاة قياماً في المجامع، ينكرون وجوههم ليظهروا للناس صائمين)، وضع الهدب والعصائب (23: 5)، دفع العشور (23: 23، مع إهمال أثقل ما في الشريعة)، محاولة اجتذاب المرتدين الجدد (23: 15: دخيلاً). وتكلّم مت عن القبور المكلّسة (23: 27)، "والأشياء المقدّسة" أو الأقداس (7: 6، 11)، والتمييز بين وصايا صغيرة ووصايا كبيرة (5: 19)، "وكل علّة طلاق" كما في الجدال بين شمعي وهلال (19: 3).
على قارىء مت أن يعرف جغرافية سورية المذكورة في 4: 24 (مر 3: 8 يوضح)، خاصيّات اللهجات الفلسطينية. قال الحاضرون خلال محاكمة يسوع لبطرس: "في الحقيقة أنت أيضاً منهم، فإن لهجتك تشهد عليك" (26: 73؛ رج مر 14: 70 الذي اكتفى بالقول: لأنك جليليّ). وعليه أن يعرف ما هو اليوم الأول من الفطير. قال مت 26: 17: "وفي اليوم الأول من الفطير، دنا التلاميذ إلى يسوع". ولكن ما هو هذا اليوم الأول؟ هذا ما سيشرحه مر 14: 12: "الذي فيه يُذبح الفصح". هو يوم 15 نيزان، اليوم الأول بين سبعة أيام يؤكل فيها الخبز الفطير.
ثالثاً: الاتجاهات اللاهوتية
وهناك حواشٍ عديدة تحدّد موقع دراما يسوع في إطار الاهتمامات اللاهوتيّة لعصره. حسب مت، لم يُرسل يسوع إلى إسرائيل. قال في وصاياه لرسله: "لا تسلكوا طريقاً إلى الوثنيين ولا تدخلوا مدينة للسامريين. بل انطلقوا إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل" (10: 5- 6). فالسامريون كالوثنيين محتقرون من اليهود. إذن، لا يذهب اليهوديّ إليهم. ونحن نعرف كيف جادل أبناء كنيسة أورشليم بطرس لأنه أكل مع كورنيلوس الوثني أنه من خائفي الله (أع 11: 2- 3). في 15: 24 قال يسوع للمرأة الكنعانيّة عبارة تدل حقاً على لغة اليهود مع الوثنيين: "لم أرسل إلا إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل". وزاد: "لا يحسن أن يؤخذ خبز البنين ويلقى لصغار الكلاب" (آ: 26). الكلاب هم من الخارج فلا يحق لهم أن يعيشوا مع البنين الذين هم في داخل البيت. وسيقول يسوع أيضاً: "الحق أقول لكم إنكم لن تتمّوا مدن اسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان" (10: 23). هذا ما يدل على نشاط الرسل في إسرائيل، أو على هربهم من مدينة إلى مدينة داخل إسرائيل، وقبل الانتقال إلى العالم الوثني، على ما سيفعل بولس حين يبشّر في آسية الصغرى أو بلاد اليونان.
ودلّ يسوع في مت على أنّه مهتمّ بممارسهّ الشريعة اليهوديّة. ولغة الانجيل في هذا المجال مميّزة. أولاً: نطيع الشريعة بلا تحفّظ. "لا تظنّوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل... كل من يتعدّى واحدة من هذه الوصايا..." (5: 17- 19؛ رج 12: 5 وشريعة السبت). ثانياً: يسمّي فاعلي الأثم أهل "انوميا"، أي الذين يعارضون الناموس (نوموس في اليونانيّة): 7: 23 (أبعدوا عني يا فاعلي الأثم)؛ 13: 41 (كل المعاثر وفاعلي الأثم)؛ 24: 12 (لكثرة الاثم)؛ رج 23: 28. ثالثاً: يتكلّم عن "ابناء الملكوت" (8: 12: يلقون في الظلمة البرانيّة، يدلّ بهم على اليهود)، عن الكتبة الذين "تتلمذوا لملكوت السماوات" (13: 52، كما يتتلمذ الواحد لرابي)، عن الهرب في يوم سبت (24: 20: لا يقطع المؤمن أكثر من كلم واحد)، عن "الوليمة مع إبراهيم" (8: 11).
قيل ألّف انجيل متّى من مقطوعات ليتورجيّة ضُمّت بعضها إلى بعض. لا شك في أن الاجتماعات الليتورجيّة كانت المناسبة للتأمّل في حياة الرب وأعماله وأقواله. ولكن لا ننسى أن الكاتب قام أيضاً بعمل أصيل. وقيل إن مت هو فقاهة حول السلوك المسيحيّ، وقد ألّفه رابي واحد أو أكثر، لأنه يورد الأسفار المقدّسة كما يفعل صاحب "تفسير حبقوق" الذي وُجد في مغاور قمران. لا شك في أن هناك تشابهات. ولكن هناك اختلافات عديدة، والخلاف الأهم: في تفسير حبقوق نحن أمام نصّ من الكتاب نفسّره في حياتنا. أما في الانجيل فحياة يسوع هي التي تفسّر الكتب وتعطيها معناها الأخير. الإنجيل بعيد كل البعد عن كتاب مدرسيّ. هو حياة قبل أن يكون حرفاً وكلاماً مكتوباً. لهذا نقول إنه كان للإنجيل الأول اهتمامات فقاهية وكنسيّة. ويبقى أن هذا الإنجيل هو ابن كنيسة متّى.
ب- أين دوّن الانجيل الأول ومتى
إذا أردنا أن نأخذ بعين الاعتبار هذه المعطيات السابقة، نظنّ أن مت دوّن في سورية. وربّما في أنطاكية حيث العنصر اليهوديّ كان كبيراً مع حضارتين أراميّة ويونانيّة. عرف اغناطيولس الأنطاكي (+ 107) هذا الانجيل الأول (ذكره في الرسالة إلى أفسس 17: 1 وإزمير 1: 1؛ 6: 1)، وهذا يعني أنه دوّن قبل سنة 100.
ولكن هل نستطيع أن نحدّد أكثر حين نفسّر النصوص؟ نعم، لأن عظة الجبل تعكس ردّاً من الكنيسة المسيحية على اليهود الذين رصّوا صفوفهم بعد دمار أورشليم والتأموا في مجمع يمنية بين سنة 70 وسنة 80. مثلاً، هناك تلميحات إلى الأسطورة التي تقول إن جثمان يسوع قد سُرق (27: 64). وإلى الافتراءات حول مولد يسوع كما نقرأها في التلمود. وإلى الإشارة إلى الرابي... وهكذا يجعل النقاد زمان تدوين مت بين سنة 80 وسنة 90.
هذا ما يفسّر الطريقة التي بها أعاد متّى تفسير مثَل الوليمة على ضوء سقوط أورشليم. نقرأ في 22: 6- 7: "والآخرون قبضوا على الغلمان فشتموهم وأماتوهم (هكذا اضطهد العالم اليهوديّ المسيحيّة الناشئة). فتميّز الملك (يسوع) غيظاً وأنفذ جيوشه (كما كانت جيوش كورش في يد الله كذلك كانت الجيوش الرومانيّة في يد يسوع الممجّد) فأهلك أولئك القتلة وأحرق مدينتهم". إن النص الموازي في لو 14: 16- 24 لا يورد هذه الحاشية، وإن كان لوقا يشير إلى سقوط أورشليم في مواضع أخرى. ثم إن مت 24: 15 (= مر 13: 14) يشير إلى هذا الدمار في الخطبة الأسكاتولوجية كما وردت "في فم يسوع". "فإذا رأيتم رجاسة الخراب (الجيوش الوثنية) التي تكلّم عنها دانيال قائمة في المكان المقدس -ليفهم القارىء- (وإن سقطت أورشليم فهذا لا يعني أن نهاية العالم حلّت. نحن هنا أمام نظرة إيمانيّة) فعندئذٍ الذين في اليهوديّة فليهربوا إلى الجبال" (آ 16). وهكذا إذ نتأكد أن مت دوّن بعد سنة 70 ودمار أورشليم، وقبل سنة 100 واسقفيّة أغناطيوس الأنطاكي، وإذ نفهم ارتباط الهجوم على اليهود في إطار مجمع يمنية، نقول إن إنجيل متّى قد يكون عاصر إنجيل لوقا فدوّن تقريباً سنة 85 في أنطاكية ووجّه إلى الجماعات المسيحية المشتتة في سورية وفلسطين وشرقي لبنان.

3- المحيط الذي وُلد فيه الإنجيل الأول
كتب إنجيل متّى في جماعة من الجماعات ومن أجل جماعة محدَّدة. وهكذا نرى يسوع لا في فلسطين وحسب، بل في جماعة مثل أنطاكية أو إحدى كنائس العالم الآرامي اليوناني. هو يعظ ويعلّم ويشفي. هو حاضر وسط شعبه ومتنبّه للرسالة التي أنيطت به. فمن هي هذه الجماعة؟ هي كنيسة يهوديّة من أصل مسيحي. هي كنيسة تعارض العالم اليهوديّ الرسمي. هي كنيسة تنفتح على العالم الوثني.
أ- كنيسة مسيحيّة من أصل يهوديّ
كنيسة متّى جماعة ينطبع تصرفها بالتقاليد اليهوديّة ولا سيّما الليتورجيّة منها. وصاحب الإنجيل، على ما يبدو، هو يهوديّ المولد والتربية والثقافة. وهو ينجح نجاحاً باهراً حين يضع في إطار يهوديّ الأخبار والمواد والوثائق التي جمعها عن حياة يسوع كما صيغت وفُسرّت في الكنائس المسيحيّة.
هذه الجماعة هي كنيسة مسيحيّة، أسّسها "يسوع المسيح ابن الله الحيّ" (16: 16). أعضاؤها هم "تلاميذ" جاؤوا إلى مدرسة المعلّم (11: 39؛ 23: 8). هم يلتئمون ليتقبلوا من معلّميهم (5: 19) التعليم في خطب مدروسة. غير أنهم يبحثون قبل كل شيء عن "فهم" الكلمة (13: 23).
هذا التعليم هو تعليم أخلاقي وعملّي. فصاحب الإنجيل يرى أن الشريعة ما زالت حيّة (5: 18) ولكنه ينظر إليها بعينين جديدتين. هي بلا شكّ الدستور القديم الذي أعلنه موسى في الماضي. ولكن المسيح قد قادها إلى ملئها وكمالها (5: 17)، قد أعادها إلى مبادئها الحيّة ونقّاها من عالم الفتاوى الذي غرقت فيه. وهكذا بدا يسوع كمفّسر للشريعة، وقد أسّس براهينه على الكتب المقدّسة دون أن يتجاوز الحقوق التي يسمح بها اليهود لمعلّميهم.
والشريعة كما سُمعت ومُورست، هي "كلمات" المسيح التي ما زالت تتوجّه إلى المؤمنين (7: 24- 26). وهذه الأقوال تستطيع وحدها أن تقودهم إلى "البر" الحقيقيّ (5: 20) وتوجّههم في سلوك أخلاقي، في طريق الكمال (5: 48؛ 19: 21).
وحين يأتي المسيحيون إلى مدرسة المسيح، يدلّون على أمانتهم للتقاليد القديمة على مستوى الصلاة، بعد أن يجدّدوها: صلاة لا تظاهر فيها ولا كلام كثير (6: 5، 7). والصلاة الربيّة (صلاة الأبانا) هي نموذجها. صلاة نقيّة يرافقها غفران حقيقيّ للذنوب (6: 14- 15). وفي المحنة والتجربة يتَّحد المؤمنون اتحاداً حميماً بصلاة المسيح (26: 40- 41) وهم واثقون بأن المسيح حاضر في قلب جماعاتهم (18: 20) كما كان الله حاضراً في هيكله في العهد القديم.
هؤلاء المسيحيون يحتفلون في الإيمان بالإفخارستيا (26: 19). ولكن تبقى شعائر العبادة خاضعة للمحبّة، فتعبرّ عن المغفرة والرحمة. "إبدأ أولاً وصالح أخاك" (5: 23- 24؛ 9: 13). وبقي السبت معمولاً به. ولكنه لم يعُد يعني شيئاً بعد أن دُمِّرَ الهيكل وصارت أفخارستيا يوم الأحد التي هي وليمة القائم من الموت، تجمع الكنيسة في اجتماع حقيقيّ. هم يفكّرون في تبديل ممارسة السبت فيصل إلى كماله في ممارسة المحبّة الأخويّة كما تقول الكتب المقدّسة (12: 1- 8).
والأعمال الصالحة التقليديّة في العالم اليهوديّ كالصوم والصدقة، تمارَس ممارسة عاديّة في الجماعة ولكن "في الخفية" (6: 2- 4، 16- 18)، شأنها شأن الصلاة (6: 6).
وتنظّمت أسرار الكنيسة. فالمعمودية حاضرة (28: 19) وهي ترتبط بمعموديّة يسوع (3: 13- 17) التي فُهمت فهماً أفضل على ضوء موت يسوع وقيامته. وممارسة غفران الخطايا ثابتة (18: 18)، حيث يشارك الناس في سلطة ابن الانسان (9: 6- 8). وهكذا تقوّت الجماعة بحضور المسيح فيها "كل الأيام وحتى انقضاء الدهر" (28: 20). تلك الجماعة التي وُلد فيها إنجيل متّى بين سنة 80 وسنة 90.
هذا الإنجيل هو تعبير عن إيمان حيّ في الجماعة. وهو أيضاً قد كُتب في ظرف معيَّن فواجه الواقع الجديد.
كان المسيحيّون في أورشليم قد تركوا المدينة المقدّسة قبل سنة 70. فأقام بعضهم في بلاّ، شرقيّ الأردن؛ وتوزّعت جماعات مسحيّة أخرى في سورية (4: 24) أو انضمت إلى كنيسة أنطاكية. فالجماعات الهلنستية استقبلت في سورية وبدون صعوبة، مسيحيين من أصل يهوديّ.
كانت صعوبات على مستوى الاندماج. وأخرى على مستوى الحلافات الداخليّة. وازداد على ذلك محن ما زالت آثارها في الإنجيل الأول. فالجماعات التي تركبّت في بدايتها من عناصر مختلفة، امتزجت شيئاً فشيئاً، فكان فيها المسيحيّون الطيّبون والمسيحيّون الرديئون (13: 36- 43، 47- 50). وبرزت تجربة جديدة: لقد صار يسوع بعيداً في الماضي. وقد أعلنت شريعته منذ خمسين سنة تقريباً. لم يعد من وجود للشهود الأولين والتلاميذ. وضعُف الحماس الأول في الكنيسة. وتدنّى مثال الكمال (5: 48؛ 19: 21). وطلب المؤمنون الله والمال معاً (6: 24). واطمأنوا إلى عالما العجائب (7: 21- 23). وبردت المحبّة لدى الكثيرين (24: 12).
في كنيسة حيث الجميع إخوة (23: 8) فهمَ المؤمنون أن "أعداء الإنسان هم أهل بيته" (10: 36). فهل تكون المسألة الحقيقية أن نعرف من هو الأعظم (20: 22)؟ فروح الخدمة والمحبة تجاه الصغار والضعفاء، تجاه الخطأة، وإصلاح العيوب والنصح الأخوي، كل هذا يحتاج إلى إنعاش. لا بدّ من التنديد بالرياء وبالإثم الذي هو عصيان لإرادة الآب الذي في السماوات، وقد يقود إلى الهلاك. فالباب ضيّق والطريق حرجة.
وجاء توبيخ متواتر: يا قليلي الإيمان (6: 30؛ 8: 26، 14: 31؛ 16: 8؛ 17: 20). وهو يتوجّه إلى مسيحيين تتقاذفهم العاصفة (8: 23- 27) وهم مستعدّون أن يتبعوا الأنبياء الكذبة (24: 11).
قال يسوع: اتبعني (8: 22؛ 9: 9). فتبعوه. هذا هو الدواء الوحيد الذي به يواجه يسوع نقص الإيمان عند تلاميذه. هو يطلب منهم فعل إيمان. يطلب منهم موقفاً. والذين يقبلون بأن يتبعوه، يفهمون فهماً حقيقياً أن أعماله هي أعمال قدرة.
في الحقيقة، الخلاص هو حاضر الآن، وحاضر دائماً. والمسيح الممجَّد هو منذ الآن حاضر في كنيسته (1: 23؛ 28: 5 2). غير أن المعلّم الذي وعد أنه يعود، قد تأخّر (24: 48- 49؛ 25: 5، 19). وهذا التأخّر يولّد الملل. فيجب أن نعيش في السراب. نحن لا نعرف متى تكون نهاية العالم (24: 36). لهذا يجب أن نسهر ولا نخاف الانتظار الطويل (24: 42؛ 25: 13؛ 26: 38). لهذا يبدو من الملحّ أن نجعل في الكنيسة الظروف القويّة التي تتيح لها أن تتابع مسيرتها في الزمن "إلى أن يأتي". ليس المهمّ أن نعطي الكنيسة سلطة فيها التراتبيّة مع مختلف البنى، بل قاعدة حياة للأجيال المتعاقبة.
ب- كنيسة تعارض العالم اليهوديّ الرسميّ
إن قاعدة حياة من أجل هؤلاء المسيحيين الذين لم يلامسهم تعليم بولس، ستكون شريعة تمارَس وتفرض نفسها مثل شريعة موسى في العالم اليهوديّ: أما هي تعبير حقيقيّ وشامل عن إرادة الله؟ هذا ما يعتقده كاتب الإنجيل الأوّل. وهذه الشريعة مهما كانت متجدّدة هي في امتداد الأولى. فيسوع هو رابي مشهور. وقد عبّر عن فكره حسب الأقوال التقليديّة مع احتمال عظيم بالصدق تجاه الماضي في نقائه. إذن، يجب أن يؤول تعليمه إلى تشريع دقيق يعطينا طمأنينة كاملة. ولكن هذه تجربة للمتعلّقين بالشريعة الجديدة، رفضها الإنجيل بعنف وشدّة؛ إن مشيئة الله حرّة ولا شيء يقيّدها. "كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السماء كامل هو" (5: 48). "اغفر حتى سبعين مرّة سبع مرّات" (18: 22).
وردّة الفعل هذه على الشريعانيّة (تعلّق مفرط بالشريعة)، هل تدلُّ على قطع كل صلة بالجماعات اليهوديّة في ذلك العصر؟ كيف بدت اليهوديّة التي طُردت من مدينتها وهيكلها وعرفت الموت والعبوديّة على يد الرومان الذين احتلوا البلاد وأحرقوا أورشليم؟ قبل سقوط أورشليم بقليل، استطاع بعض الفريسيين أن يهربوا من المدينة فأسّسوا مدرسة في يمنية (أو: يبنة) على الشاطىء الجنوبي ليافا. وقد صارت هذه المدرسة بعد سنة 70 ملجأ للفريسيين الذين نجوا من الموت. وهناك استعاد العالم اليهوديّ الفلسطينيّ حياته.
كان الهمّ الأول رصّ الصفوف. فترتّبت الخلافات بين المدارس المتزاحمة. وتثبت كلندار مشترك للأعياد، وتنظمت الليتورجيا في المجامع. وحُدّد القانون اليهوديّ للكتب المقدّسة، أي اللائحة الرسميّة للتوراة. وأعطيت أهمية كبرى للرابانيين، كما بدأوا يدوّنون تقليد الشريعة اليهوديّة. ووحدة هذا العالم اليهوديّ الذي وُلد من جديد، تقوّت بعد أن ضغط عليها الخارج: الوثنية، الغنوصيّة، وخصوصاً المسيحيّة الفتيّة.
وهكذا لم يبق من العالم اليهوديّ الذي كان متنوّعاً جداً في زمن المسيح سوى الحركات العماديّة، والفريسية والمسيحيّة. وسيكون صراع بين هاتين الفئتين الأخيرتين وسيكون قاسياً. دافع العالم اليهوديّ عن نفسه، فرفض السبعينية أو ترجمة الكتب المقدّسة إلى اليونانيّة، وأدخل صلوات وطقوساً لا يستطيع المسيحيّ أن يمارسها، فكان التباعد تاماً بين اليهود والمسيحيّين.
عرف المسيحيّون هذا التشيّع الذي وُلد في يمنية، فبدا العالم الفرّيسي شراً وطمعاً واستبداداً. واتهم "المعلّمين" في زمن المسيح الذين أعلنوا قبل جميع المؤمنين الحدثين الرئيسيين في حياة يسوع: ولادته لهيرودس (2: 5) وقيامته لبيلاطس (27: 63). إذن، لا عُذر لهم. وعبر الرؤساء اتهّم الشعب كله: "سيؤخذ منكم ملكوت الله" (21: 43). إن أبناء الملكوت يُطرحون خارجاً في الظلمة البرانيّة (8: 12). لقد قبل هذا الشعب أن يقوده رؤساؤه، فحمل بإرادته مسؤوليّة موت يسوع. "دمه علينا وعلى أولادنا" (27: 23- 25).
وكان دمار أورشليم أول فصل في هذا العقاب. "سيُترك لكم بيتكم خراباً" (إر 22: 5). والربّ ترك مسكنه (شكينه في العبرية). والفصل الثاني يتحدّد موقعه في المجيء وساعة الدينونة حين يكون حظّ سدوم وعمورة أفضل من حظ هؤلاء اليهود الذين لا يؤمنون (10: 15؛ 11: 22- 24).
إن موقف الإنجيل من العالم اليهوديّ كما تنظّم في يمنية، لم يكن فقط دفاعاً عن المسيحيّة، بل هو توخّى تربية الجماعة المسيحيّة، وتوجيهها في حياتها الداخليّة. هذا الانجيل يقرّع المسيحيين الأردياء كما يقرّع اليهود (7: 5؛ 24: 51)، ويهدّدهم بالعقاب نفسه (7: 19- 23؛ 18: 23- 25؛ 25: 14- 30). نحن لا نكتشف في الإنجيل لا روح الانتقام ولا حضاً على العنف. فالإنجيل يعظ بمحبّة الأعداء، والأعداء هم اليهود (5: 44- 47؛ 5: 12= 23: 34- 35).
وإن الانجيل قد حافظ على قول قديم: "فمهما قالوا لكم فاعملوا به واحفظوه" (23: 2). وهذا ما يدلّ على أنّ صاحب الانجيل الأوّل ما زال يراعي العالم اليهوديّ. فقد بقيت علاقات بين الفئتين، والقطيعة ليست بتامة. إن الانجيل لا ينغلق على العالم اليهوديّ. هو لا يقوم باستمالتهم إلى المسيحيّة، ولكنه يترك الباب مفتوحاً. "تجدون الراحة لنفوسكم" (11: 28- 30) إن أخذتم نير المسيح.
ج- كنيسة تنفتح على الوثنيين
بدت هذه الجماعة حتى الآن مهتمة بذاتها، بنظمها، بأسرارها، بقوّتها الأدبيّة، بمجابهتها للقوى المعادية. ولن ننتظر الكلمات الأخيرة للمسيح القائم من الموت كي نسمع نداءه إلى الوثنيين (28: 19). فالجماعة كلها تهتمّ بهم، وتستقبلهم بين أعضائها، وهذا ما يدلّ عليه الانجيل: فأول من عبد يسوع هم المجوس (2: 1- 12). ودُعي إلى الوليمة "كل الذين تجدونهم" (22: 9). "كل الأمم في الكون كله" (24: 14؛ 26: 13). وسيأتي منهم "كثيرون من المشرق والمغرب" (8: 11) ليتّكئوا مع أبناء الملكوت. هي "الجموع الكثيرة" (يذكرها متّى 40 مرة) التي تتبع يسوع فتعلن مسبقاً دخول الجماعات الوثنية إلى الكنيسة (4: 25). وهم الأفراد مثل قائد المئة (8: 5- 13) أو الكنعانيّة (15: 21- 28)، الذين يعلنون إيمانهم. وهو قائد المئة والذين معه يحرسون يسوع عند الصليب (27: 54). كلهم يرون في يسوع (وهذا ما يتفرّد مت بقوله في 12: 18- 21) "خادم جميع الأمم" (رج أش 42: 1- 4).
اعتبرت جماعة متّى أنها "نور العالم" (5: 13- 16). وهي كذلك لأنها تستنير بنور يسوع. لهذا، اقتنعت كل الاقتناع بسلطة يسوع الذي هو ملك العالم وديّانه (25: 11 ي)، فتذكّرت أمره الأخير: "تلمذوا جميع الأمم" (28: 19). كانت الجماعة مستعدة لهذه المهمّة بعد أن كوّن يسوع من تلاميذه "رسلاً" أي "مرسلين". (10: 2، 5). بعث بهم نحو الخراف الضالة في بيت اسرائيل (10: 6؛ 15: 24). كانت تلك المرحلة الأولى في رسالة تشمل الأمم الوثنية كلها، بمساعدة المسيح الذي سيكون معها "حتى انقضاء الدهر".

خاتمة
هكذا حاولنا أن ندخل إلى الانجيل بحسب متّى. توقفّنا عند الكاتب، عند الزمان الذي كُتب فيه والمكان. وتعرّفنا إلى الجماعة التي عاش فيها متّى وكتب لها. جماعة آتية من العالم اليهوديّ. وقد تكون أقامت في أنطاكية يوم دوّن متّى إنجيله. ذاك كان الفصل الأول وستتبعه فصول ثلاثة تورد تصميم الانجيل الأول والتأليف الأدبي فيه قبل أن تدرس المعاني اللاهوتيّة التي لولاها لظلّ الانجيل سيرة حياة لا كتاب تعليم من أجل كنيسة محدّدة، بل من أجل كنائس العالم كلها وحتى انقضاء العالم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM