41
طوبى لمن يراعي المسكين
هذا المزمور هو آخر مجموعة مزامير التوبة (38- 41) وأقدمها. لا يهتمّ التائب بنعمة الله وعفوه، بقدر ما يهتمّ بـ "الثأر" من عالم معادٍ . حينئذٍ يأتي أحد "الأنبياء" ويدعو المؤمن لكي يثق بالله لا محنته. عند ذاك يوجّه التائب صلاته إلى الله ويقرّ بخطيئته التي هي سبب الشرّ الذي يصيبه، ويصوّر العزلة التي يعيش فيها، ويطلب تدخّل الله من أجله.
يبدأ المزمور بخطبة تتوجّه إلى مريضة أقعده المرض على سريره، فلاحقه في شقائه عدوّ شرس. غير أن الربّ يستطيع أن يقوّيه، ويشفيه من وضعه، ويؤمّن له السعادة التي يتوق إليها على الارض.
يبدأ تعليم التعزية هذا بعبارة "طوبى، هنيئاً". هكذا يستقبل الرب مؤمنيه. ونجد مثل هذه البداية في مز 32: 2: "طوبى لمن غفر الله له خطيئته". وفي مز 94: 12: "طوبى للذي يوبّخه الربّ". وفي أي 5: 17: "طوبى لمن يستغفر الله". وإذ يتقوّى المؤمن بهذا التشجيع يعلن قراره: سيقرّ بخطيئته التي هي سبب مرضه (تلك كانت نظرة الأقدمين).
ولا يهتمّ المؤمن بألمه بقدر ما يهتمّ بالعداء الذي يحيط به. هو يتكلّم عن أعداء عزموا على إهلاكه وإزالة ذكره من الأرض.
وعن أصدقاء قدماء تخلّوا عنه بل خانوه. وزياراتهم هي صداقات في الظاهر، هي "سعدنة" وتكشيرة في الوجه تخفي أسوأ النوايا. وإذ رأى الخاطىء أن الجميع رذلوه، توجّه إلى الربّ الذي يستطيع وحده أن يبدّل له حاله.
هو تحدٍّ حقيقيّ أمام الله. ماذا سيفعل بعالم حكم على تقيّه؟ هنا ترتبط فكرة الانتقام باسم إله العدالة مع طلب المغفرة. فمسألة الموت والحياة هي في التوراة مسألة الانتصار النهائيّ أو الهزيمة النهائيّة. قد يهتف العدوّ أنه انتصر، ولكن يكفي أن يهتمّ الرب بقضية المؤمن فيتحوّل الغالب إلى مغلوب. أما المؤمن فيسير بقدم ثابتة تسنده يد الله. وفي النهاية يقيم في خيمته على الدوام.
أنا أمامك الآن يا ربّ، كالمسكين والفقير والبائس
شفيتَ أمراضي، وأزلت آلامي وأوجاعي
أنا أمامك يا ربّ، كالخاطىء الحامل ذنوبه
أقرّ بخطاياي، وأعزت لك بهفواتي من قلب تائب يعود إليك.
صلاتي صلاة المؤمن الذي وثق، فلقي جواباً في ثقته بك
صلاتي صلاة إنسان تعوّد أن يخونك، وينسى ما أغدقت عليه من نعم أنت أيها الإله الأمين
صلاتي أريدها متواضعة مستسلمة، صلاة العابد أمام ربه، والابن مع أبيه
صلاتي صلاة الفرح، أنشدها من حولي، فأعبّر بها عن السعادة التي حصلتُ عليها.
رجائي أنت يا ربّ، فلا تَدعْني أخيب
رجائي أنت يا ربّ، وأنت تستجيب أيها السيّد إلهي
لا تتركني يا ربّ بعد أن تركني الناس، ولا تتباعد عني في ضيقي
أنت يا ربّ يا مخلّصي، تسرع إلى نصرتي وتبادر إلى معونتي
فأنا شاكر لك أنعامك يا ربّ.
طوبى لمسكين يتّكل على الله ففي يوم السوء ينجّيه الربّ.
يحرسه ويطيل حياته ويجعله هانئاً في الارض، ولا يسلّمه إلى أعدائه
يساعده على فراش المرض ويبدّل أسقامه قوة.
أنا أستعدّ لأخبر إخوتي بما حدث لي من خير، أنا الفقير المسكين
هنائي عظيم، وسعادتي لا تحدّ، بعد أن تعرّفت إلى أفضالك يا ربّ
أنت تمنح العون لمن يتّكلون عليك، لا على نفوسهم أو على البشر
أنت تباركهم في زمان السوء فلا يخزون، وتعينهم في يوم الجوع فيشبعون.
الناس لا شفقة في قلوبهم، وبالأخصّ على المرضى والمساكين
أما أنت فالاله الأمين الذي تصل إلى السماء أمانته
أما أنت فلا تتخلّى عن الملتجىء إليك، عن الذي تبعك وولاّك على أمره
أما أنت فتحمل إليّ الخلاص، فأحسّ بيدك وأكتشفك في عطائك
فما أعظمك يا الله.
قلت: يا رب تحنّن عليّ، اشفني خطئت إليك
أعدائي يقولون بلؤم: متى يموت ويبيد اسمه
يدخلون ليروني فيتكلّمون الكذب وفي قلوبهم يتجمّع الخبث
وحين يخرجون يدبرّون المكايد.
أحسست بشرّ الناس، فجئت إليك لألقي عندك همّي، وأبوح لك بحزني
وها أنا أتذكّر، كيف أسندَتْني رحمتُك يوم زلّت قدمي
كيف طيّبتَ بتعزياتك نفسي، يوم كثرُت الهموم في داخلي
لهذا أقول وأردّد: تحنّن عليَّ وارحمني، يا إلهاً غنياً بالرحمة.
أنا لست هنا لأتذكّر آلامي السابقة، ولا لأصف لك حالتي التي وصلتْ إلى حافة اليأس
أنا لست هنا لأملأ قلبي بالمرارة على من أرادوا الاساءة وشاؤوا الإيقاع بي
أنا هنا لأقول لك شكري وامتناني. أنا هنا لأخبر الناس بسعادتي
أنا هنا لاتعلّم واعلّم الآخرين أن الاحتماء بك خير من الاحتماء بالبشر
فماذا يستطيع أن يعطي الانسان؟
والآن وبعد أن غمرتني بحنانك، تذكَّرت صلاتي إليك
إشفني من ذاتي، إشفني من مرضي، إشفني من خطيئتي
فأنا كالمرضى الذين شفيتهم، أعود إلى خطيئتي فيصيبني أعظم
وأنا المسكين الضعيف، أحسّ بألسنة الناس ما تزال تقذف الشرّ
وأشعر بعيونهم تبحث عن ضعف فيّ يقودني إلى السقوط والموت والهلاك
لهذا أصرخ كما صرخ بطرس وقد كادت الامواج تغمره: يا رب نجّني.
والآن وبعد أن رحمتني، أقرّ أمامك مرة أخرى بخطاياي، بقلب منسحق ومتّضع
المرض الذي عانيت منه، نبّهني إلى خطيئتي، ووعّاني إلى بُعدي عنك
الشرّ والخطيئة في نفسي، الألم والعذاب في جسدي
ورجوعي إليك يغفر لي خطيئتي، ويعلّمني أن أتجاوز ألمي وعذابي
فاشفني يا ربّ، أنا الذي فعلت أمامك كل الشرّ الذي فعلت،
لا توبّخني بسخطك فتزول الصحة من جسدي،
ولا تؤدّبني بغضبك فلا تبقى سلامة في عظامي.
يبغضونني ويتهامسون عليّ وجميعهم يظنوّن السوء بي
يقولون: داء يضايقه، وإذا اضطجع لا يعود يقوم.
حتى صديقي الذي وثقت به وأكل خبزي انقلب عليّ.
أعداء المؤمن يا ربّ يلجأون إلى كل الوسائل ليصلوا إلى أهدافهم الشريرة
يخدعون، يحتالون، يفسدون، يخرجون الباطل في صورة الحق
يستعينون للحصول على ما يريدون بقوى تفوق قوى الطبيعة
ولكن الوهم يستولي عليهم في ما يزعمون ويعتقدون
فكل القوى المنظورة وغير المنظورة، وكل سلاطين هذا الكون، تخضع لك وتأتمر بأمرك يا ربّ
حتى الشيطان لا يتصّرف من دون إرادتك وقد سقط عن عرشه بقوة الانجيل.
ونتألّم يا ربّ أكثر ما نتألّم، لا ممّن حسبناهم أعداءنا الذين لا يريدون لنا خيراً
نتألّم من أصدقائنا، ممّن سالمناهم وشاركناهم في ذبيحة السلامة أمامك
الذي وثقنا به، وما خفنا من الجلوس معه إلى مائدة واحدة، خان العهد وما حفظ المعروف
الذي وثقنا به تخلّى عنا، بل عادانا وتكبّر علينا، ونسي حرمة الضيافة والمساكنة
بعد أن كان صديقاً انقلب علينا، بعد أن كان معنا صار ضدنا، رفع عقبه علبنا ليسلبنا مالنا.
كم أحسّ يا ربّ بقوّة المحنة وثقل التجربة، فأكاد أقول: كل إنسان كاذب
كم أحس بالقساوة تحيط بي بعد أن صرت وحيداً معزولاً كالبوم في الأرض الخراب
وكم أفهم نفسية داود يوم تركه مشيره وصديقه وثار عليه
وكم أفهم قلب إرميا يشتكي إليك من أصحابه الملازمين له الواقفين معه
وكم أدخل في عواطفك يا يسوع يوم خانك يهوذا بقبلة الصديق لصديقه ولكنها كانت قبلة الخيانة والموت.
أحببتَه كسائر الرسل، ساويته بسائر تلاميذك، وسلّمت إليه المسؤوليات
جعلته أليفك وصديقك، وأسمعته أجمل كلماتك
فعاملك كعدوّ وباعك كمجرم، وأسلمك إلى أيدي قاتليك
لا شكّ في أنك تألّمت كثيراً في قلبك، وتألّمت أكثر من أجله يوم قلت: لو لم يولد ذلك الانسان لكان خيراً له.
دعوتَه إلى عشائك الأخير، غمست له اللقمة كما غمستها لرفاقه
كلّمته بالألغاز، فلم يفهم أحد من المدعوين، فما جرحته، ولا بُحت بسّره أمام الحاضرين
حدّثته يوم النزاع بلغة اللطف والوداعة والمحبة: يا يهوذا، أبقبلة تسلّم ابن الإنسان؟
أكل خبزك، فرفع عليك عقبه، كالفرس حين يرفس وما أراد أن يفهم.
أما أنت فهيّأت التلاميذ، أنبأتهم لئلا يشكّوا: تؤمنون بأني أنا هو
أنا الربّ الأمين الذي لا يتبدّل وإن تبدّلت عواطف الذين حوله
أنا الرب الباقي على أمانته لأنه لا يستطيع أن ينكر نفسه.
هذا ما يشجّعنا يا ربّ لنأتي رغم خياناتنا السابقة وبُعدنا عنك.
وأنت يا رب تحنّن عليّ وأقمني معافى لأجازيهم
فأعرف أنك ترضى عني وأنّ عدوي لا يروعني
وأنك تسندني لنزاهتي، وتبقيني على الدوام أمامك.
أمين ثم أمين.
وأعود إلى نفسي، وأعود إليك يا الله
أنت غفرت لي، فماذا يقدر البشر أن يفعلوا معي من بَعد
أنت أقمتني من مرضي، وجعلتني معافى، فأبقني أمامك على الدوام
أنت تعرف نزاهتي وتعلّقي بك، رغم شروري وخطاياي
فارضَ عني واقبلني بين أتقيائك والعاملين بوصاياك.
تشفيني يا رب، فأعلم أني أنعم برضاك، وأعيش تحت نظرك
تغفر لي خطيئتي، فأحسّ بنعمتك الالهيّة ويدك الأبويّة
تعود إليّ الصحة، فأعرف فرح الحياة على أرض الاحياء، وسروراً بالاقامة في حضرتك
يغمرني غفرانك فأهتف لك: لو تقبل أن تكون لي الربّ على الدوام وإلى أبد الأبدين
أنت بارّ أيها الربّ، وتحبّ الابرار، والصدّيقون يشاهدون وجهك
أنت حيّ أيها الربّ، وتبيّن لي سبل الحياة، فأفرح أمام وجهك، وأتنعّم معك على الدوام
أنت كامل، وتدعونا إلى الكمال، ولأجلك أصون نفسي ولا أصنع شراً
أنت رحوم لا تردّ صلاة التائبين، استمعتَ لي وأصغيتَ إلى صوت صلاتي
لهذا نباركك، ونبارك اسمك من الآن وإلى الأبد. آمين ثم آمين.
نعم يا رب نعم، ما أعظم سعادتي إن عرفتُ ما تفعله لأجل المسكين
أنت يا من شئت أن تكون فقيراً بيننا لتعلّمنا ما قيمة الفقير
أنت يا من قلت: هذا لا يفهمه اللحم ولا الدم، بل الروح الآتي من عند الله
علّمنا أن نغسل أقدام أخوتنا كما فعلت مع تلاميذك
علّمنا أن نقترب من الألم بنظرة الحبّ، فنجد لطافة القلب التي تبلسم الجراح
أنت يا من أخفيت هذه الأمور عن الحكماء، صرت ذلك المسكين معنا نحن المساكين
تباركت لأنك أوحيت لنا هذه الأمور، تباركت لأنك تحبّ الوضعاء.
أنت أيها الرحوم، تعرف أن ترحم، وتعلّمنا أن نرحم ولا نقسو على إخوتنا
أنت أيها الرحوم، ترحم شرط أن نكون من المساكين الذين أحببت
أنت أيها الربّ ترحم، شرط أن نعود إليك فتشفينا من شرورنا
أنت أيها الرب، تنقّي عبادك من كل خطيئة، فلا يخافون شيئاً عند الصعوبات
يعرفون أنك ترضى عنهم، فلا يعودون يهتمّون لرضى الناس، بل لرضاك أنت وحدك.