على عود بعشرة أوتار يا رب إلى السماوات رحمتك
 

 

 

36
يا رب إلى السماوات رحمتك

ينطلق الكاتب من شرّ الأشرار فيصل إلى حنان الله وعدالته. وبين عرض الوضع والطلب الملحّ، نجد مديحاً ينشد هذا الحنان وهذه العدالة. لا شكّ في أن المرتّل أراد بذلك أن يشدّد على أن عدالة الله القديرة ومعطية الحياة، تشكّل الدواء الوحيد للظلم الذي نجده في الكون. أما الجواب على هذه الصلاة فنقرأه في آ 13: يسقط كل من يفعل الأثم، يرتمي ولا قيام له.
يعرض المرتّل الوضع في ما يتعلّق بنوايا الأشرار وتصلّبهم في الشرّ. والسبب هو: الشرير لا يهتمّ بالله. لا يخاف لأنه يعتبر أن الربّ لا يحاسب. لهذا يظن أن كل شيء مسموح له. وظلمه هو عمل لسانه (افتراء أو محكمة) عمل "علكه" في صمت الليل. لهذا، من الخير أن لا نسير معه. فالثورة مطبوعة في قلب الأشرار، كما أن الشريعة مطبوعة في قلب الأبرار. لهذا، لا شيء يجعلهم يبدّلون طريقهم. فلا يبقى حلّ أمام قساوة القلب إلا قدرة الله وعدالته.
ويقدّم لنا المديح هذه العدالة برفقة الدينونة والرحمة والأمانة لدى الله. هذه الأربع هي أساس عرش الرب. فالعدالة والدينونة تشكّلان صفات اللاهوت (حتى في العالم الوثنيّ). والرحمة والأمانة تذكراننا بطريقة إله العهد في تصرّفه مع البشر.
وعمل عدالة الله لا يعرف حدوداً. فهو يرتفع فوق الجبال، فوق جبال الله أي أعلى الجبال. وينزل إلى أعمق أعماق الغمر. هكذا أنشد بولس الرسول عرض حبّ المسيح وطوله وعمقه وعلوّه (أف 3: 18). حين نكون في العلاء نشرف على الأشياء ويمتدُّ حقل عملنا. ورحمة الله وعدالته الرفيعتان تدركان كل الخلائق، وسيأتي يوم ينعمون فيه بتدخله. ويفضل عدالة الله، نجد ملجأ تحت جناحيه، نجد الحماية. بل نجد الحياة، نجد النور الآتي من الهيكل.

أنت يا رب، نور وملء النور، حياة تنقل إلينا الحياة
أنت أيها الحبّ السامي والحقّ الذي لا ضلال فيه
أنت الاله الساكن بيننا في أرض ستزول منها الخطيئة والأثم
فما أكرم رحمتك، في ظلّ جناحيك يحتمي البشر.

أنت تهتمّ بالناس، بكل انسان، فأنت الأب المحبّ الشفوق
بل أنت تهتمّ حتى بالحيوان والنبات،
فأنت الخالق الذي خلق كل شيء وهو يحفظه من العدم
أنت تلاحقنا بحبك وعطفك، وتلاحق بنوع خاص الخاطئين،
تلاحقهم ليعودوا إليك، فما أكبر رحمتك يا رب.

ظهرت لنا نوراً يضيء طريقنا، وسراجاً يوجّه خطانا
في ظلمة الكون، في ظلمة الحياة، في ظلمة القلب، أنت نور العالم،
ومن يمشي معك لا يدركه ظلام
بنورك نعاين النور، فما أكرم رحمتك.

أنت تريدنا للحياة، ونحن نسير نحو الموت
أنت تريدنا للنعمة، ونحن نسير إلى الخطيئة التي تجلب المرض والألم وكل شرّ
أنت يا رب ينبوع الحياة الفيّاض دائماً على البشر الرافضين
فما أكرم رحمتك وما أعظم عطاياك
ولهذا نريد أن ننشد لك مع المؤمنين.

هذا قول المعصية للشرير في أعماق قلبه:
لا تضع مخافة الله أمام عينيك،
يتملّقه ويفتن عينيه فلا يجد اثمه ويبغضه
كلام فمه خبث وغش وهو يهمل الحكمة وعمل الخير
ويعدّ للاثم وهو على فراشه ويقف في طريق لا تصلح ولا يرفض
أن يفعل السوء.

للمؤمن وحي يأتي من لدنك يا الله وقول يحدّثه في أعماق قلبه وفي ضميره
وللشرير قول يأتيه من أهوائه الكامنة فيه
للخير شريعة تقدّم لنا، وللشرّ شريعة تريد أن تفرض ذاتها علينا، تريد أن تأسرنا وتقيّدنا وتستعبدنا.

إذا كان الرجل الطيّب يخرج الطِيب من كنزه الطيّب
فمن باطن الإنسان، من قلبه، تنبعث المقاصد السيّئة والسرقة والقتل والزنى
والطمع والخبث والغشّ والحسد والشتم والكبرياء.
أما الشرير فهو من أسلم نفسه إلى شهوات نفسه
فتاه في أرائه الباطلة وأظلم قلبُه الغبيّ
زعم أنه حكيم فإذا هو أحمق
رفض الحق واستبدله بالباطل، بل أسلم نفسه إلى الأهواء الشائنة.

الشرير ينتظر الوحي، لا من نور الله، بل من أهوائه الشخصيّة
يُعطى له النور، فيفضّل الظلمة على النور، لأن أعماله شريرة
يعيش في الخبث والغش والكذب، فلا يرى ولا يفهم، ولا يكتشف مكامن الشر
بل إن الشر الذي في قلبه يتملّقه فيرى الشر خيراً، يتملّقه الشر فلا يبغضه.

الشرير يسأل وحياً من عالم الليل والظلمة
يعدّ العدّة للشرّ في الليل
وفي النهار ينفّذ ما وعدته نفسه فلا يرفض أن يفعل السوء
ولأنه أهمل الحكمة وعمل الخير، نزع من أمامه مخافة الرب التي هي رأس الحكمة.

تخلّى عن مخافتك يا رب، ومخافتك ينبوع حياة تساعده على اجتياز الشر
تخلّى عن مخافتك التي هي قوّة للمجاهدين وحماية للضعفاء
تخلّى عن وصاياك التي تفرض عمل الخير،
تخلّى عن نورك الذي يدلّنا على خطايانا ويعيدنا إليك
ما أتعسني أنا الخاطىء. من يخلّصني من جسد الخطيئة هذا؟
نعمة ربنا يسوع المسيح.

يا رب إلى السماوات رحمتك وإلى الغيوم امانتك.
عدلك مثل الجبال الشامخة، وأحكامك مثل أعماق البحار،
وأنت تخلّص البشر والبهائم يا رب.
ما أكرم رحمتك يا الله؟ في ظلّ جناحيك يحتمي البشر.
من دسم بيتك يشبعون، ومن نهر جناتك تسقيهم،
لان عندك ينبوع الحياة، وبنورك نعاين النور.

أمام حالتنا هذه لا نستطيع إلا أن ننشد لرحمتك وصلاحك
أنت يا من أظهرت لنا صفاتك الخفيّة وقدرتك الازليّة والوهيتك
أنت يا من عرّفتنا بنفسك، فنحن نريد أن نمجّدك ونشكرك ونعبدك أنت يا خالقنا ومخلّصنا
أنت هو الاله الرحوم، رغم خطايانا وآثامنا، فرحمتك أرفع من السماوات
أنت هو الاله الأمين، رغم خداعنا وخياناتنا، فأمانتك تصل إلى الغيوم
أنت هو الاله العادل، رغم جورنا في الحكم عليك، وعدلك ظاهر كالجبال الشامخة
أنت هو الاله الحكيم، رغم جهلنا وغباوتنا، وحكمتك أعمق من البحار،
وأحكامك سّر مغلق علينا، وطرقك غير طرقنا.

أعطنا يا رب إيماناً بك عميقاً وثيقاً لا يزعزعه شيء.
الحياة معك جنة ونعيم، والبعد عنك تعاسة وشوك وعوسج
في ظلّ جناحيك نجد الحماية كعصفور تحت جنح أمه،
وفي الالتجاء إليك نجد الخلاص لأن لا خلاص لنا إلا فيك
بالإقامة في بيتك، نشبع نحن الجياع والعطاش إلى الطعام والشراب،
نحن الجياع والعطاش إلى البر والقداسة.
فمن بيتك يخرج نهر يسقينا، بل أنهار من الماء الحي
تجعل من يشرب منها لا يعطش ابداً
تعطي من يشرب منها الحياة الأبديّة.

فما أكره رحمتك يا ربّ، يا ينبوع الحياة، يا نوراً من نور
بك سعادتنا وملء فرحنا وغبطتنا،
نتمنّى أن نقف على عتبة بيتك، نأخذ بعض الفتات من تحت مائدتك،
ولا ندخل بيوت المنافقين الذين يأكلون فلا يشبعون، وينامون فلا يستريحون
نريد أن نحيا معك فتكون لنا الحياة، وتكون وافرة
نريد أن نقف بحضورك فتكون لنا النور، أنت النور الذي ينير العالم
باتّصالنا بك أيها الماء الحيّ، يصير فينا عينُ ماء تتفجرّ حياة أبدية
باتحّادنا بك أيها النور البهي، نصبح بدورنا نوراً يراه الناس فيمجدونك.

أدم لعارفيك رحمتك، وعدلك للمستقمي القلوب.
لا تقترب مني قدم المتكبر، ولا تزحزحني يد الشرير.
هناك يسقط فاعلو الأثم. يرتمون ولا قيام لهم.

الفرق بعيد بين عارفيك الحكماء،
وبين الجهّال الذين ينكرون وجودك ويقولون: لا اله.
الفرق بعيد بين المستقيمي القلب، الذين يسيرون في طريقك القويم،
وبين فاعلي الشرّ الذين يسلكون طريق الاعوجاج، طريق الحية الجهنميّة
الأبرار يعرفونك لأنك عرّفتهم باسمك، فقبلوك، فعرفت فيهم أبناءك
والأشرار تجاهلوا كلامك، رفضوك نوراً لهم وحياة،
رفضوك مع أنك كشفت عن ذاتك لجميع البشر أنت يا من تريد خلاص البشر.

لهذا سيسقط الأشرار بشّرهم، يرتمون ولا قيام لهم
هم متكبرّون، يرفضون كل مساعدة، ويعتبرون نفوسهم بغنى عنك يا الله
لا يريدون لنعمة الله أن تدخل قلوبهم،
يهربون مثل قايين فلا تقع عينهم على عين الله
ولكنك إله المغفرة قبل أن تكون إله العقاب والقصاص.
كفروا، رفضوا أن يعرفوك، قيّدوا الحق بالباطل، عبدوا المخلوق دونك أيها الخالق
أرادوا أن يعيشوا بعيداً عنك، فكان لهم التيهان والضلال والموت.

نجّنا اللهم من الشرّ والأشرار، فلا نقع في حبائل الأشرار ولا يجرفنا الشرّ بأمواجه
أعطنا قلباً نقياً وروحاً مستقيماً، فنسير في طريق وصايك ونبقى أمناء لعهدك
أعطنا القوة فلا نتزحزح، والنور فلا يغشانا الظلام
نستند إليك، نتّكل عليك. نؤمن أن سعادتنا فيك ومنك وحدك.

أدم لنا رحمتك ومحبّتك، أدم عدلك وحكمتك.
كن نور نورنا وحياة حياتنا، وقمّة فرحنا
وإذا تغلّبتْ علينا التجربة وسقطنا في الخطيئة، وابتعدنا عنك
أنت يا رحمة واسعة ويا حباً يحوط بك الخلائق، أحط بحياتنا وارحمنا
فرحمتك أطيب من الحياة، بل هي الحياة.

منذ بداية الكون ورحمتك تقلب الأرض فردوساً والصحراء جنة غناء
منذ القديم وأنت ترافق شعبك فتغمره بحبك وتحميه بعطفك
كن ذلك النور الذي ينير كنيستك، فكلامك نور لها.
كن تلك الحياة للمؤمنين، فبالعماد كانت لهم الحياة،
وبجسدك ودمك تدوم لهم هذه الحياة
نرفع إليك صلاتنا ونحن متأكّدون أنك تستجيب صلاتنا.
لهذا ننشد: ما أكرم رحمتك
ونهتف: ما أعظم خلاصك.
أدم لنا رحمتك وخلاصك ما دامت السماء والأرض، إلى جيل الأجيال.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM