الفصل السادس والأربعون
البشارة إلى الناس أجمعين
16: 14- 20
هناك ليتورجيات تقرأ في عيد الصعود أع 1: 1- 11 ولو 24: 36- 53 رغم التعارض الظاهر بين الخبرين. فإنجيل لوقا يجعل الصعود "منظوراً في يوم الفصح والقيامة بالذات". أما سفر الأعمال فيجعله بعد أربعين يوماً. وها نحن اليوم في إنجيل مرقس الذي جاء يلخّص ما في لوقا دون أن "يحدّد" يوم الصعود. ولكن يبدو أن هذا "حدث" بعد القيامة. "ظهر لتلاميذه آخر مرة" (آ 14).
ففي النصوص الثلاثة (أع 1: 1- 11؛ لو 24: 36- 53، مر 16: 14- 20) نحن أمام ظهور أخير ليسوع الذي قام من الموت، يتوّجه الصعودُ في مرقس ولوقا. وخلال هذا الظهور سيتولىّ الأحد عشر رسالتهم الشاملة. وهي ستبرز بشكل خاص في نهاية إنجيل مرقس: فصّل الإنجيلي الآيات التي ترافق كلام "الوعّاظ" الذين ينطلقون، على ما يبدو، إلى العالم حالاً بعد "اختطاف" الربّ، ودون أن ينتظروا مجيء الروح القدس. مثل هذا التشديد غنيّ بالتعليم. والصمت على دور الروح القدس لا يضايق القارئ بعد أن عرف المؤمنون هذا الدور في سفر أعمال الرسل.
1- نهاية إنجيل مرقس
هذا المقطع الذي ندرس يشكّل الجزء الأخير من نهاية إنجيل مرقس (16: 9- 20). ولكن لا ننسى أن هناك مخطوطات تجعل إنجيل مرقس ينتهي في 16: 8. فنتساءل: هل أوقف مرقس كتابه عند آ 8 دون أن يروي لنا اللقاء مع التلاميذ الذي به وعد يسوع آ 7 حين قال: "إذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس: إنه يسبقكم إلى الجليل"؟ هل ضاعت هذه النهاية من الكتاب؟ كل هذا موضوع جدالا. ولكن يبقى أن انقطاع خبر مرقس فجأة جعل المخطوطات تستعين بملحقات. فبقي لنا "خاتمة قصيرة" في بعض المخطوطات، و"خاتمة طويلة" في أخرى. وُضعت الخاتمتان الواحدة قرب الأخرى في المخطوطات الاسفينية الأربعة. قد نجهل كاتب الخاتمة الطويلة. ولكن النصّين ملهمان وقانونيان. هما كلمة الله نقرأها ونتأمّل فيها، ونترك للباحثين الأمور العلمية التي لا تؤثّر على مضمون الإيمان.
أ- بنية المقطع
هذه الخاتمة "القانونية" (آ 9- 20) قد عرفها طاطيانس، وأوردها إيريناوس على أنها تخصّ إنجيل مرقس. هذا يعني أنها قديمة جداً. هي تعود إلى الزمن الرسولي. قد نجد أنها أخبار متقطّعة وأنها تنقل إنجيل لوقا. ولكن الكاتب يقدّم بطريقة شخصية كلام يسوع إلى المرسلين. لا شكّ في أنه في آ 9- 14 يلخص ظهور الربّ لمريم المجدلية، واللقاء مع التلميذين والظهور للأحد عشر. غير أن هناك إشارة تلفت النظر في هذه الآيات: التشديد على لا إيمان الحلقة الرسولية. "ما صدّقوا" (آ 11، 13). هذا ما يساعدنا على فهم بنية النصّ ويوحّد عناصره بشكل لا يبدو ظاهراً للوهلة الأولى.
حاول بعض الشّراح أن يبيّن أن المقطوعة بُنيت على التعارض بين اللاإيمان والإيمان. في آ 9- 14، نحن أمام سلسلة من الظهورات (ظهورات المسيح) في ثلاث مراحل مميّزة، وكل ظهور ينطبع بهذا التعارض. "أولا، ظهر يسوع لمريم المجدلية"، فصارت رسولة قيامته. ولكن التلاميذ ("الذين معه") لم يصدقوها. "بعد ذلك" ظهر لاثنين ذاهبين إلى القرى القريبة". حملا كلامه، ولكنهما اصطدما أيضاً باللاإيمان. "وأخيراً" ظهر يسوع نفسه للأحد عشر ووبّخهم بقساوة لأنهم لم يؤمنوا بكلام الذين رأوه قد قام.
وتبدأ لوحة ثانية في آ 15: سيُرسل الأحد عشر لكي يعلنوا الإنجيل. ونبّههم يسوع: كيف سيتجاوب السامعون مع هذا الإعلان؟ إيمان يتبعه تقبّل المعمودية أو لا إيمان وهلاك (آ 16). والذين يؤمنون ينالون الوعد، فترافق كلماتهم آيات (آ 17- 18). وفي النهاية، خُطف يسوع إلى السماء، فانطلق الأحد عشر يبشّرون حسب أمر يسوع لهم (آ 19- 20).
هنا نشير في ملاحظة عابرة إلى أن مخطوطاً أرمنياً يعود إلى سنة 946 فينسب مر 16: 9- 20 إلى الكاهن أرستون الذي قد يكون أرستيون الذي يتحدَّث عنه بابياس. وقد يكون أرستون وأرستيون أرسترخس المذكور مع مرقس في كو 4: 10.
ب- لاهوت الإيمان واللاإيمان
لا يقول مرقس (آ 14)، مثل لوقا (24: 37- 41) ويوحنا (20: 25- 27) ومتى (28: 17) إن الأحد عشر أو قسماً منهم كانوا بطيئين في التعرّف إلى يسوع القائم من الموت حين ظهر لهم. مقابل هذا لا يقول يوحنا ولوقا إن مريم المجدلية وتلميذَيْ عمّاوس إصطدموا بالإرتياب لدى الأحد عشر: أما صاحب نهاية مرقس فقد تفرّد في التشديد على شكّ الأحد عشر ولا إيمانهم.
يشير مت 28: 17 إلى شكّ التلاميذ. لم يرد أن يخسر هذه المعطية التقليدية، فأدخلها في الظهور الوحيد الذي رواه. هذا هو التفسير العادي. وهناك تفسير آخر. سجد الأحد عشر للقائم من الموت، وهذا ما يفرض الإيمان ويستبعد اللاإيمان. غير أن هذا الإيمان هو غير أكيد ومتردّد وموقّت عند عدد منهم: نحن أهام صعوبة الالتزام لدى التلميذ الذي ينتقل من الحماس إلى الهبوط. غير أن يسوع لم يهتمّ لهذه الحالات النفسية، فأمر الأحد عشر أن يتلمذوا الأمم. فالمهمّ ليس قوة البشر، بل حضور الربّ الدائم في كنيسته.
إذا كانت تلك فكرة متى، فأصالة مرقس تبدو بوضوح. ترك جانباً تعرّف التلاميذ إلى يسوع كما رواه لوقا ويوحنا، كما ترك تردّدهم حين ظهر يسوع عليهم. وركّز انتباهه على "قساوة قلوب" التلاميذ قبل هذا الظهور. إنهم مثل توما الذي كان لامؤمناً (يو 20: 28) فطلب براهين واضحة ولم يكتفِ بشهادات متلاقية يحملها رسل القيامة.
ونعود إلى مر 16: 9- 20.
في القسم الأول (آمن بما يقول الآخر)، وجب على التلاميذ أن يصدّقوا الأشخاص الذين يؤكّدون أنهم رأوا المسيح. هناك ثقة يستحقّها هؤلاء الشهود. حين رفض الأحد عشر هذه الثقة، شأنهم شأن توما في إنجيل يوحنا، فقد سقطوا في اللاإيمان (واللاثقة) تجاه الربّ نفسه. وفي القسم الثاني (نجد فعل آمن وحده)، يجب على سامعي الكرازة الرسولية، أن يتعلّقوا تعلّق الإيمان بالله الحيّ الذي ظهر حين أقام يسوع، عبر ثقة بشرية مُنحت لشهود عاينوا ظهور المسيح.
وهكذا وحَّد مرقس في نهاية إنجيله موضوع الإيمان واللاإيمان. ولكن حسب مستويين مختلفين. ففي آ 9- 14، إستعاد معطية من التقليد (رج لو 24: 11) تتعلّق ببطء التلاميذ بأن يؤمنوا بما قاله الشهود الأوّلون. وهدفه هدفان. الأول، يريد أن يُفهمنا أن القيامهّ التي أعلنها الرسل، هؤلاء الشهود المختصّون، هي مكفولة بعد أن استسلم لها التلاميذ بصعوبة. الثاني، يريد أن يذكّر القرّاء في الوعظ عينه، ورغم الإفادة الدفاعية المرافقة لمثل الأحد عشر (لم يؤمنوا)، أن على الإيمان الحقيقي أن يكتفي بكفالة الشهادة البشرية دون أن يفرض "اليقين العلمي" (ق يو 20: 29؛ مر 15: 32).
وفي آ 15- 18، نحن أمام إيمان نعلنه ومعمودية نتقبّلها في الكنيسة مع مواهب الوعّاظ والمؤمنين: نحن في قلب اللاهوت المسيحي. أما آ 19- 20 فهما خاتمة سريعة: أشار الكاتب بسرعة إلى الصعود، ثم دلّنا على الأحد عشر في عملهم الذي يحرّك الإيمان بالكرازة والمعجزات. ولم يحصل الصعود إلى السماء إلاّ لكي يتيح للأحد عشر بأن ينطلقوا بأسرع وقت ممكن. في الواقع، إن كرازتهم تستخرج كل فاعليّتها من سرّ صعود يسوع: فالربّ الذي ارتدى قدرته المحيية بالصعود والجلولس عن يمين الآب إلى السماء، هو يعمل معهم.
2- تفسيرآ 14- 20
تقدّم لنا الأناجيل خمسة أخبار عن ظهور يسوع على التلاميذ بعد قيامته: مت 28: 16- 20؛ مر 16: 14- 20؛ لو 24: 36- 49؛ يو 20: 19- 29؛ يو 21: 1- 23. لا نحاول أن نخرج التفاصيل حسب ترتيب زمني مصطنع، بل نرتّب في خمسة عواميد متوازية هذه العبارات الأدبية التي تحاول أن تقدّم "صورة" عن التلاميذ الذين رأوا القائم من الموت. فالتقليد التاريخي الثابت قدّم "للرواة" رسمة مشتركة. وبحسب هذه الرسمة عرف الرسل (بعد أن برهنوا عن ارتيابهم وشكّهم) يسوع الحيّ في اختبار "موضوعي"، وفهموا أن القائم من الموت يدعوهم بأن يتابعوا عمل يسوع المسيح انطلاقاً من أورشليم. وعلى هذه الرسمة المشتركة، توسّع كل كاتب حسب تقاليده الخاصة وأهدافه اللاهوتية، وكل هذا في ضوء الإلهام.
ومقطوعة مر 16: 14- 20 تمثّل أحد هذه الأخبار "التاريخية" اللاهوتية. هي تتركّز على رسالة التلاميذ الشاملة، وتنتهي مثل لو 24: 36- 53 بالصعود "المنظور". هي لا تقول أين تمّ هذا الظهور: في الجليل، في أورشليم؟! فالكاتب أراد أن يثبّت انتباهنا على الجوهر: لقد حمل التلاميذ الرسالة إلى الناس أجمعين.
أ- أمر يسوع
"وظهر يسوع للأحد عشر، وقال لهم".
أولاً: الوعّاظ بالإنجيل (آ 15)
وننتقل فجأة من التوبيخ القاسي بسبب اللاإيمان (آ 14) إلى الرسالة إلى العالم كله. يبدو الكاتب موجزاً فيقدّم "الأحداث" في رسمة سريعة: لا شكّ في أنه افترض أن الأحد عشر، شأنهم شأن توما في الخبر اليوحنّاوي، آمنوا فيما بعد حين ظهر يسوع لهم. ولكنه لا يتوقّف عند "تعرّف" التلاميذ إلى يسوع، ولا يحاول أن يقدّم صورة مادية عن هذا الظهور: إنه يذهب مباشرة إلى أمر يسوع لتلاميذه: "إذهبوا".
إن هذا الأمر الذي يعبّر أفضل تعبير عن روح المسيحية، لم يفهمه التلاميذ بوضوح من فم المسيح. وهذا ما نقوله أيضاً عن الأمر في مت 28: 19- 20. فلو كان أمر يسوع واضحاً وملحّاً، لما احتاج التلاميذ إلى تدخّل خاص من الروح القدس لكي يعمّد بطرس الضابط الوثني (أع 10: 1- 11: 18؛ 15: 7- 11). كان يسوع قد أفهم تلاميذه قبل موته أن الوثنيين سيدخلون إلى ملكوت الله في نهاية الأزمنة (مت 8: 11- 12؛ 25: 32؛ رد 11: 20- 24؛ 12: 41).
حين نظّم يسوع بنيان الجماعة المسيحاوية ووعدها بالسلطات الرسولية، لم يُشر بوضوح إلى المسافة التي تفصل قيامته عن مجيئه، ولم يعلن دخول الوثنيين التدريجي إلى الكنيسة قبل الدينونة الأخيرة. إذن، قد يكون الرسل استناروا بنبوءات العهد القديم وبموقف يسوع نفسه (رج مت 10: 5- 6) فاحتفظوا بالكرازة لليهود. وظنّوا أن قيامته التي تجعله ربّ الكون كلّه، سيتبعها مجيئه. وحينئذ يحقّق الله بواسطة المعجزات الخارقة ارتداد العالم كله بشكل مفاجئ. غير أنهم فهموا شيئاً فشيئاً أن هذا الارتداد لا ينتظر تتمة الأزمنة الأخيرة التي دشّنتها قيامة يسوع. وأن المسيح الممجّد قد كلّفهم بمهمة تدشين سلطانه على جميع الشعوب في حياتهم على الأرض. هذا الوعي قد قاده الروح القدس (لو 24: 49؛ أع 1: 8)، وسرّعه بولس بعد دعوة الربّ له على طريق دمشق، وأوضحه جدال كان السبب في مبادرات المؤمنين لدى الوثنيين (أع 15؛ غل 2).
وحين نقرأ خاتمة مرقس، نجد أننا وصلنا إلى نهاية التطوّر من العالم اليهودي إلى العالم الوثني. فرسالة الكنيسة إلى الوثنيين صارت واضحة فلم يعد يعارضها أحد. وما عدنا نجد أولوية اليهود في قبول الإنجيل. هكذا كان بولس يفعل كما يقول عنه لوقا في أع 13: 44-47. فالبرنامج واضح: "في أورشليم، في كل اليهودية والسامرة وحتى أقاصي الأرض" (أع 1: 8). ونقرأ في لو 24: 47 أن الربّ أرسل التلاميذ إلى جميع الشعوب ابتداء من أورشليم.
وعبارة "أعلنوا البشارة" (الإنجيل) تنتمي إلى اللغة المشتركة لدى المرسلين في الكنيسة الأولى. غير أن مرقس يدلّ على تعلّق خاص بهاتين الكلمتين. فهو وحده، بين الإنجيليين الأربعة، يقول "الإنجيل" (البشرى، الخبر السعيد) دون أي تحديد آخر. قد يكون تأثّر ببولس. وترتبط لفظة "أعلن" مع لفظة "أنجل" في 1: 14 (يعلن الإنجيل)؛ 13: 10 (= مت 24: 14)؛ 14: 9 (= مت 26: 13)، كما في النصّ الذي ندرس. ونحن قريبون جداً من خطبة يسوع الاسكاتولوجية: قبل أن يأتي يسوع في مجده، سيشهد التلاميذ حتى أمام السلطات الوثنية "لأنه يجب أولاً أن يُعلن الإنجيل إلى جميع الشعوب" (13: 10).
إن فعل "كاروسو" (كرز، أعلن) الذي يرد مراراً في سفر الأعمال، قد أعطى لفظة "كاروغما" (كرازة، إعلان) التي تعني تقريباً الإنجيل. فالرسل هم الذين ينشرون الخبر السعيد، وينادون ببشرى الخلاص المفرحة. وفي خطب الأعمال، فالكرازة تحدث صدمة لدى السامعين حين تحدّثهم عن حياة يسوع وموته وقيامته وارتفاعه، كما تعلن مجيئه كالديّان والمخلّص.
إن نهاية مرقس الموجزة لا تقول شيئاً عن موضوع التعليم هذا ولا عن الإيمان الذي يقابله. ولكن لا شكّ بالنسبة إلى كاتب الإنجيل كما بالنسبة إلى الكرازة الأولى كلها، في أن قلب الإنجيل هو في موت يسوع وتمجيده اللذين هما عمل الله الخلاصي العظيم الواحد. وهو يدلّ على ذلك بشكل ضمني حين يحدّد موقع الأمر بالإرسال بين القيامة والصعود "المنظور". فالرسل الذين رأوا يسوع من جديد حياً ومتجلّياً، سيعلنون في كل مكان هذا الحدث المركزي في كل تاريخ البشرية، ومدلوله من أجل العالم. رأوا يسوع يرتفع إلى السماء، رأوا "ذاك الذي تحتفظ به السماء إلى زمن تجديد كل شيء" (أع 3: 21)، فوجب عليهم أن يعلنوا "أن يسوع هذا نفسه سيعود كما راوه ذاهباً إلى السماء" (أع 1: 11).
والإنجيل يوجّه "إلى كل خليقة". فالعبارة توازي ما نقرأ في مر 13: 10 ومت 28: 19: "إلى كل الأمم". فالبشر وحدهم يستطيعون أن يسمعوا الكرازة ويقدّموا جواب الإيمان. ولكن لا يستبعد أن يكون الكاتب سار في خط بولس (روم 8: 19- 22؛ كو 1: 1- 23) ففكر في تأثير عمل المخلّص السرّي على الكون كلّه.
ثانياً: الإيمان جواب على التعليم (آ 16)
كانت كرازات أعمال الرسل تنتهي بدعوة إلى التوبة وقبول غفران الخطايا: يؤمن الحاضرون بالرب يسوع ويتقبّلون المعمودية. إذن، يشكّل الإيمان الجواب على الكرازة الأولى (أع 2: 41؛ 8: 12- 13؛ 11: 20- 21؛ 14: 1؛ 15: 7؛ 17: 11- 12، 34؛ روم 10: 14)، ويرتبط بالمعمودية بشكل مباشر في النصوص (أع 2: 41؛ 8: 12؛ 8: 36 ي؛ 16: 33- 34). ونجد الشيء عينه هنا: فالإيمان والخضوع للمعمودية هما النتيجة العادية لسماع التعليم. ففعل التعلّق الأول بالمسيح في الإيمان (أع 2: 44؛ 4: 32) تولده الكرازة وهو شرط الخلاص. وهذا الخلاص يتعارض والهلاك (في الدينونة الأخيرة). إنه في النهاية عمل المسيح الديّان حين مجيئه الأخير (أع 3: 20؛ 10: 42- 43؛ 17: 30- 31؛ روم 5: 10؛ 8: 24؛ 13: 11؛ فل 3: 20). وهذا الإيمان نعلنه بشكل واضح في تقبّل المعمودية التي هي ختمه، والتي تمنح المؤمنين مع غفران الخطايا عطية الروح الذي هو عربون الخلاص (روم 8: 23؛ 2 كور 1: 22؛ 5: 5؛ أف 1: 14).
إن الإشارة إلى الحكم على اللامؤمنين، وإن جاءت في شكل توازٍ متعارض، تمتلك قوامها الخاص. ففي نظر يوحنا، رفضُ الإيمان هو الخطيئة الكبرى والوحيدة. ولكننا لن "نرسل" إلى الجحيم الناس العديدين الذين عاشوا حياة طيّبة وظلّوا خارج الكنيسة: إنهم يستطيعون أن يخلصوا بواسطة إيمان ضمني والعماد بالشوق، كما يقول اللاهوتيون.
ثالثاً: الآيات (آ 17- 18)
كان يسوع قبل موته قد صنع عجائب عديدة، وأخرج الشياطين ليسند كلامه. ولكن الإزائيين بدوا متحفّظين، شأنهم شأن يسوع، فلم يتحدّثوا عن آيات كما يفعل الخصوم الجائعون إلى المعجزات والظواهر الخارقة (مت 12: 38؛ 16: 1؛ لو 23: 8). ولكن هذا التحفّظ سيختفي في سائر العهد الجديد، وفي نهاية مرقس هذه التي تشير مرتين إلى الآيات.
في آ 17 يعد يسوع بأن هذه الآيات ترافق المؤمنين الذين أشارت إليهم الآية السابقة. إذن، نحن للوهلة الأولى لا أمام معجزات الرسل، بل أمام معجزات يجترحها سامعوهم الذين آمنوا. لهذا، لم يقل يسوع: "تطردون الشياطين". بل "يطردون الشياطين باسمي". ومن جهة ثانية، تظهر الايات أيضاً في آ 20 مع فعل "رافق" (ساند). إن دور الآيات هو تثبيت كلمة الأحد عشر. ولا يقول الإنجيل من يصنع هذه الآيات.
قد نبرّر هذه الإلتباسات بأشكال متعدّدة. لا يستبعد الكاتب عن الأحد عشر موهبة صنع المعجزات. فهو يعرف أنهم كانوا المؤمنين الأوّلين الذين نالوا الوعد (هذا ما أعلنه المسيح للحلقة الرسولية): "من يؤمن بي يعمل الأعمال التي أعملها، بل يعمل أعظم منها" (يو 14: 12). غير أن الكاتب يعرف أيضاً أن مواهب صنع المعجزات وطرد الشياطين والتكلّم بالألسنة، قد أُعطيت لمؤمنين عاديين (رج 1 كور 12: 28- 29)، بل إلى تلاميذ عاشوا في الخفاء إيمانهم (رج مر 9: 38- 40). ويعرف أنه وجد خارج الأحد عشر، "رسلاً" نعموا بالمواهب عينها مثل بولس وبرنابا (أع 14: 3). ويعرف أخيراً أن المعجزات التي رافقت كرازة الرسل وثتتتها لم تتمّ دوماً بأيديهم. كم مرة عمل الروح القدس بشكل مباشر في سامعيهم وبواسطة سامعيهم (هذا ما حصل لكورنيليوس وأهل بيته، أع 10: 44- 46). هذه هي الأسباب التي تفسر غموض مرقس حين أراد أن يوجز ويبدو دقيقاً في "روايته".
إن الآيات التي وُعد بها الرسل، والتي هي نماذج تتكيّف والزمن الذي فيه وُلدت المسيحية في قلب وثنية موسوسة، تجد توضيحاً لها في سفر الأعمال. لقد طرد بولس الأرواح النجسة (أع 16: 18)، ونفض بهدوء حيّة علقت بيده (أع 28: 3- 5؛ رج لو 10: 19). وفي العنصرة، تحدّث الإثنا عشر بألسن غريبة (أع 2: 3- 11). وفي ظروف أخرى، تحدّث كورنيليوس وأهل بيته (أع 10: 44- 46)، كما تحدث تلاميذ يوحنا في أفسس (أع 19: 6) والكورنثيون (1 كور 14) وبولس نفسه (1 كور 14: 18) في لغة انخطافية. وضع حنانيا يده فشفى بولس (أع 9: 12، 17). وشفى بولس والد بوبليوس (أع 28: 8). وروى بابياس أن يوستوس الذي زاحم متيا في أع 1: 23 ليكون خلفاً ليهوذا، قد شرب سماً مميتاً فلم يشعر باي انزعاج بفضل نعمة الربّ.
كان يسوع قد مرّن تلاميذه الأقربين على استعمال سلطات الشفاء وطرد الأرواح الشريرة (مت 10: 8؛ مر 3: 15؛ 6: 13؛ لو 9: 1؛ 10: 9). وها هم يدلّون الآن بهذه الآيات على قدرة القائم (من الموت) الخلاصية ("باسمه" يطردون الشياطين)، فيدلّون سامعيهم على أن كلمتهم تستحق التصديق. وربّ الكنيسة والعالم ما زال يعدهم وفي أيامنا يتابع آياته للبشر في معجزات شفاء الأجساد. وهذه المعجزات هي سلاح في يد العاملين في نشر الإنجيل، وقد تفوّقت عليها الآيات الروحية. فالثبات (2 كور 12: 12) والثقة والتجرّد (1 تس 2: 2- 12) لدى المرسلين، ونوعية التعليم، ووحدة الجماعة وقداستها (يو 13: 35؛ 17: 21)، كل هذا يشكّل آيات عادية بها تفعل كلمة الله في القلوب مع حرية الإيمان وعمل الروح القدس في قلوب المؤمنين.
ب- الصعود
"وبعدما كلّمهم الربّ يسوع هكذا، رُفع إلى السماء وجلس عن يمين الله" (آ 19).
بعد أن أطلق يسوع الرسالة، رُفع إلى السماء لينال هذه "السيادة" على جميع البشر (رج أع 10: 36؛ روم 14: 9). فيبقى على الرسل أن يعلنوا الإيمان (ويعرضوه) على اليونانيين واليهود (روم 10: 9- 13) بانتظار أن يُمارس ممارسة تامة بمجيء الديّان السامي. في الواقع، يجمع الكاتب في إيجاز جريء وبحسب توالٍ كرونولوجي ظاهر، دافعَين لا ينتميان إلى نظام واحد: من جهة، ظهور محسوس يتوّج سلسلة ظهورات المسيح التي تنتهي بعبارة مأخوذة من سفر الأعمال: رُفع إلى السماء. ومن جهة ثانية، إرتفاع سماوي لا ينفصل عن القيامة (رج أف 4: 10؛ 1 تم 3: 16؛ عب 4: 14؛ 6: 19- 20؛ 9: 24). مهما كان القوام التاريخي لهذا "الإختطاف" الذي يحدّده أع 1: 3 بعد الفصح بأربعين يوماً، والذي يصوّره لوقا بالكلمات التي استعملت للحديث عن ارتفاع إيليا (2 مل 2: "حسب السبعينية")، نحن أمام حدث يرتبط في ذاته بشهادة إنسان. أما الإرتفاع إلى السماء فهو سرّ لا يدركه إلا الإيمان وحده.
وسرّ تمجيد يسوع هذا في بشريّته المقدّسة، يعبّر عنه هنا بصورة الجلوس عن يمين الله (مز 110: 1). لقد أورد يسوع آية المزمور ودمجها مع دا 7: 13 التي تشير إلى مجيء الابن الإنسان على سحاب السماء، فأعلن أمام المجلس الأعلى (السنهدرين) عن الظهور القريب لمسيحانيته الإلهية (مت 26: 63- 65). واستند بطرس إلى النصّ نفسه (أع 2: 34- 36) فأعلن في يوم العنصرة: "الله جعله رباً ومسيحاً". حين أقام الله يسوع، رفعه كالربّ وأعطاه الإسم الذي يفوق كل إسم (فل 2: 9). هذا يعني أنه جعل لاهوته يشعّ على ناسوته الممجّد، وأسّس سلطانه على الكون كله.
ج- الإنطلاق إلى الرسالة
"وأمّا هم، فذهبوا يبشّرون في كل مكان. وكان الربّ يعينهم ويؤيّد كلامهم بالمعجزات التي ترافقه" (آ 20).
لم يذكر هذا الإنجيل مجيء الروح، ولم يحدّد مكان انطلاق التلاميذ. قدّم لنا نظرة سريعة إلى كرازة الإنجيل، فبيّن لنا الأحد عشر وهم يحملون التعليم إلى كل مكان. وقد أراد أن يؤكد أن الرسل (وبعدهم الكنيسة في كل عصر) يستطيعون في نشاطهم الإرسالي أن يستندوا إلى حضور يسوع الحي في السماء مع كل قدرته كرب، وهو حضور فاعل وإن غير منظور. فالربّ يسوع لا يكتفي بأن يثبّت بالآيات كلام المبشّرين (ق عب 2: 31) كما وعد في آ 17-18. بل يضمّ قوته كقائم من الموت مع مجهود المرسلين الوضعاء. هذا ما نقرأه بشكل آخر في مت 28: 20: "ها أنا معكم كل الأيام وحتى نهاية العالم".
خاتمة
حين ظهر يسوع على الأحد عشر تلميذاً تباطأوا في الإيمان بقيامته. حوّلهم تحويلاً كاملا فصاروا وعّاظاً للإنجيل لا يهابون شيئاً، وأساس كنيسته. وبفضلهم، وبفضل بولس، وبفضل آخرين كثيرين، امتدّت الكنيسة إلى العالم كلّه. ولكنها لم تنتهِ بعد من عمل التبشير. والمهمّة هي هي. لهذا يردّد الربّ أنه يبقى بجانب كنيسته أو بالأحرى فيها مع قوّة التنوير والتقديس التي نلناها بفضل ارتفاعه إلى السماء. وهكذا يقدّم الإنجيل للبشر في كل مكان وفي كل زمان، ويُعطى لهم كعربون الخلاص بفضل الإيمان "العامل بالمحبّة" (غل 5: 6). فسرّ الصعود يتوجّه إلى المسيحيين الفاترين أو الخائفين، يتوجّه إلينا جميعاً نحن الذين خبا فيهم الالتزام الرسولي. يذكّرنا بحضور المسيح في كنيسته، حضوراً مجيداً وفاعلاً. ويقول لنا إنه يحتاج إلينا ليكشف عن ذاته للعالم إلى يوم مجيئه (1 كور 11: 26: ماراناتا: تعال أيها الربّ).