الفصل الخامس والأربعون: ظهورات القائم من الموت

الفصل الخامس والأربعون
ظهورات القائم من الموت
16: 9- 13
كيف ينتهي كتاب بأداة بسيطة؟ كيف ينتهي بدون إعلان رسمي للقيامة. هذا ما نجده في الخاتمة القانونية (16: 9- 20) التي جعلتها الكنيسة الأولى بعد مشهد النساء عند القبر. سندرس بشكل عام هذه الخاتمة ونتوقّف بشكل خاص عند الظهورات (16: 9- 13)، تاركين إلى فصل لاحق موضوع البشارة إلى الناس أجمعين.
1- نظرة عامة
إن النصّ الذي نقرأه الآن هو نصّ كتابي وإن لم يكن من يد مرقس. لهذا يسمّى "الخاتمة القانونية". ونجد بجانبه في بعض المخطوطات نسخة قصيرة تكتفي بتوضيح آ 8: "أما هنّ فأعلنّ بإيجاز للذين كانوا مع بطرس كل ما أمرن به. بعد هذا، ظهر يسوع لهم أيضاً وأرسل بواسطتهم، من المشرق إلى المغرب، الإعلان المقدّس وغير الفاسد للخلاص الأبدي".
وهناك أربعة شهود تقدّم على التوالي النسخة الطويلة والنسخة القصيرة، دون أن تتخذ موقفاً من ذلك. وهناك مخطوط يقحم بين آ 14 وآ 15 من هذه الخاتمة القانونية، حواراً بين يسوع والتلاميذ. قرأه إيرونيموس وذكر بدايته.
"قالوا ليسوع دفاعأ عن نفوسهم: إن هذا الدهر، دهر الكفر واللاإيمان هو تحت سلطان الشيطان الذي لا يسمح للأرواح النجسة أن تتقبل حقيقة الله وقدرته. لهذا، فاكشف منذ الآن برّك. قالوا هذا للمسيح. فأجابهم المسيح: لتمد تمّت نهاية سنوات سلطان الشيطان، ولكن أشياء أخرى هائلة صارت قريبة، لقد سلّمت لأجل الذين خطئوا لكي يرجعوا إلى الحق ولا يُخطئوا من بعد، فيرثوا المجد والبرّ، المجد الروحي واللافاسد الذي في السماء".
أما الخاتمة القانونيّة فقد دوّنت بأسلوب يختلف جداً عن سائر مر، فانفصلت عن مسيرة الخبر السابق (حيث لم تقم النسوة بإبلاع الرسالة). إن 16: 9- 20 هو ملخّص لأخبار الظهور التي توردها سائر الأناجيل، مع تلميحات إلى أحداث ترد في سفر الأعمال (16: 17- 20). لا يقدّم هذا الملخّص أي عنصر جديد لمعرفة أفضل عن المسيح والأحداث التي جاءت بعد القيامة. إن صحّة هذه الخاتمة التي عرفت منذ القرن الثاني، قد ناقشها بعض آباء الكنيسة. وإذ رأى شرّاح عديدون أنه من المستغرب أن يتوقّف إنجيل مرقس بشكل مفاجئ في آ 8، اعتبروا أن خاتمة الإنجيل الأصلية قد ضاعت وحلّ محلّها هذا النصّ. في الواقع، نحن لا نعلم إن كان صاحب الإنجيل قد دؤن خاتمة يورد فيها ظهوراً للقائم من الموت، أو إن كان بدا له كافياً بأن يحيل القارئ إلى تقليد معروف هو تقليد ظهورات الجليل (16: 7).
2- قراءة إجمالية
أما المتتالية التي ندرس (16: 9- 20) حسب الخاتمة القانونيّة، فتتضمّن أربعة مقاطع قصيرة: ظهور لمريم المجدلية (16: 9- 11). ظهور للمسافرين (16: 12- 13). ثم ظهور للأحد عشر (16: 14- 18). وأخيراً، الصعود مع الإنطلاق في الرسالة (16: 19- 20).
إن المقطع الأول يبدو منفصلاً عمّا سبق. هو يبدأ بدون فاعل، كما لو كان الحديث عن يسوع، لا عن النسوة ومريم. والحاشية "التي أخرج منها سبعة شياطين" تعود إلى لو 8: 2 في معرض حديثه عن النساء اللواتي تبعن يسوع ليخدمنه. أما واقع التلاميذ الذين لم يؤمنوا فنجده عند متى (28: 17: كانوا قد ارتابوا) وعند لوقا (24: 11: كان هذا الكلام بمنزلة الهزيان، فلم يصدّقونهن). وخبر الظهور الأول لمريم المجدلية، يلتقي مع النسخة اليوحناوية (20: 1، 11- 18) التي استعاد منها النصّ الآية الأولى والآية الأخيرة.
ويجمل المقطع التالي (16: 12- 13) في بضع كلمات الفقاهة الطويلة التي دوّنها لو 24: 13- 35 على طريق عمّاوس. غير أن التلميح إلى قلّة الإيمان (قلة التصديق) لدى "سائر التلاميذ" (الذين بقوا، الآخرين) تجاه شهادتهما، لا يرد في لوقا (24: 34: قام الربّ حقاً وظهر لسمعان).
إن خبر ظهور يسوع للأحد عشر (16: 14- 18 يستلهم مرة أخرى خبر لو 24: 36- 53. فهو مثله ينتهي بحاشية قصيرة عن الصعود (16: 19- 20). لا نجد أي تحديد عن الزمان والمكان. ولا نعرف إذا كانت الأولوية للظهورات التي في أورشليم أو الجليل: المهم هو الرسالة التي سلّمت إلى التلاميذ. حين ظهر يسوع للأحد عشر، وبّخهم بقساوة على قلّة إيمانهم بألفاظ احتفظ بها مر لخصوم المعلّم (أونايديسن، 16: 14؛ رج 6: 6؛ 9: 24). هنا نقرأ اعتراضاً من قبل التلاميذ وجواباً من قبل يسوع. وقد ذكرنا هَذا النصّ أعلاه.
إن هذا التوسّع يشكّل انتقالة مرغوبة من التوبيخ على قلّة الإيمان إلى الرسالة إلى العالم كله. هذه الشموليّة تدلّ على وعي الكنيسة ساعة دوّن هذا المقطع، على وعيها لمسؤولية حمل الإنجيل إلى الوثنيين. لا نجد تفصيلاً عن هذه الكرازة كما في خطب سفر الأعمال. فما يهم هو فقط البشرى والخبر الطيّب. ويلتقي هذا الإنشاء مع إنشاء مر الذي يرى اتحاد الإنجيل بشخص يسوع. والإشارة إلى الإيمان والخضوع للعماد كجواب على الكرازة الأولى، تجد تعبيراً لها عند متى (28: 19: إذهبوا، تلمذوا، عمّدوهم) وأعمال الرسل (2: 38: ليعتمد كل واحد منكم باممم يسوع المسيح؛ 16: 31- 33). وفي أع أيضاً تجد الآيات الهادفة إلى طبع الكرازة الرسولية بالصدق، تفسيرها الكامل. فالرسل (أع 5: 16) وفيلبّس (أع 8: 7) وبولس (أع 16: 18) يطردون الأرواح النجسة. فمنذ العنصرة يتكلّم الأحد عشر (وآخرون بعدهم) بلغات جديدة (أع 2: 4، 11؛ 10: 46؛ 19: 6؛ رج 1 كور 14: 2- 40). وخلال الإقامة في مالطة، هزّ بولس حيّة علقت بيده (أع 28: 3- 5) فلم تصبه بأذى. ووضع اليد على المرضى يمنحهم الشفاء (أع 4: 30؛ 9: 12، 17؛ 28: 8؛ رج 1 تم 4: 14؛ يع 5: 14- 15). أما السمّ القاتل الذي لا يؤذي التلاميذ، فلا نجده في العهد الجديد (إلا بالمعنى الرمزي من افتراء ومحاولة الإساءة)، بل يذكره بابياس عن برسابا والأعمال المنحولة عن يوحنا الرسول.
وفي النهاية، نجد حاشية عن الصعود (16: 19- 20) في رسمة سريعة. من جهة، هناك ظهور محسوس يتوّج سلسلة الكرستوفانيات. يعبَّر عنه بلغة مأخوذة من أع 1: 9: "رُفع إلى السماء"، مع تلميح إلى اختطاف إيليا (2 مل 2: 11). وهناك أيضاً ارتفاع سماوي وتمجيد يسوع بشكل جلوس عن يمين الله يعود إلى مز 110 (رج 12: 36؛ 14: 62؛ 16: 5).
لا يذكر النصّ حلول الروح، ولا نقطة انطلاق الرسل. بل يرينا إياهم حاملين الرسالة: فنشاطهم الرسولي صار ثمرة عمل الرب، وجاءت الآيات فثبّتت الكلمة.
3- قراءة تفصيلية
أ- ظهور لمريم المجدلية (آ 9- 11)
هذا هو الظهور الأول بين الظهورات الأربعة. وهو يعود بانشائه إلى لوقا ويوحنا. يصوّر هذا الظهور بواسطة فعل "فانتاي" الذي لا يظهر في مر إلا في 14: 62 الوقت هو الصباح الباكر. كلمة نجدها في مر، ولكن يونانية "اليوم الأول من الأسبوع" (بروتي سباتو) تختلف عن تلك التي في 16: 2. ولفظة "أخرج، طرد" (اكبالاين بارا) هي فريدة في العهد الجديد. إن العودة إلى ما فعلته مريم في آ 10 يحيلنا إلى يو 20: 18. وتصوير التلاميذ كــ "الصحابة" (الذين يصحبونه) ليس خاصاً بمرقس. "وهي أيضاً مضت" (رج آ 10، 12، 15) يستعمله مر في 9: 30. ولفظة "حيّ" (آ 11) نجدها في 10: 23؛ 12: 27. لا يستعمل مر فعل "أبصر" (تيا أوماي)، بل يو. وفعل: لم يصدّق (أستيو) نجده في العهد الجديد (لو 24: 11، 41؛ أع 28: 24؛ روم 3: 3؛ 2 تم 2: 13؛ 1 بط 2: 7)، ولكننا لا نجده في سر. والقول عن نقص الإيمان عند التلاميذ هو تذكّر لما في ست 28: 17 ولو 24: 11.
ب- ظهور لاثنين (آ 12- 13)
هذه الآية هي تذكّر لما في لو 24: 13- 35. "ظهر، أظهر نفسه" نجده في مر 4: 22؛ 16: 12، 14. أما سائر الألفاظ فليست مرقسيّة. "وبعد هذا" (ميتا توتا) لا نجده في مر بل في يوحنا. ونقول الشيء عينه عن "هيئة أخرى". هناك فعلان نجدهما عند مرقس: ذهب، رجع. لا نستطيع أن نفهم ماذا يعني الإنجيلي بعبارة "بهيئة أخرى". هل بشكل مسافر كما في لو 24، أو بشكل غير شكل البستاني كما في يو 20: 15؟ هل بشكل فيه يتجاوز يسوع الأبواب المغلقة والمقفلة (يو 20: 19، 26)، ويختفي فجأة (لو 24: 31)؟
خاتمة
إن أخبار الظهور تخسر طابعها المطلق الذي يُعطى لها في بعض المرّات. لا شكّ في أنها لا تزال أساساً من أجل الإيمان بالقيامة. ولكن يبدو أن الإنجيلي الثاني اعتبر أنه لا يحتاج أن يذكر واحداً منها. ففضل أن يبقي قارئه برفقة النسوة اللواتي ظللن على مستوى حضور يسوع على الأرض. حينئذ اصطدمن بالسرّ الفصحي وما استطعن أن يتقبّلنه. ومع ذلك فقد أعلنّه.
كان من الضروري أن تورد بعض الأناجيل أخباراً تروي كيف تراءى (رؤي، جعلهم يرونه) الرب يسوع. فبفضل هذه الأخبار يستطيع المؤمن أن يفهم وضعه تجاه يسوع القائم من الموت. ولكن، ظلّ مرقس أميناً لما قاله في مجمل إنجيله، فجعلنا أمام السرّ، وما تجرّأ أن يعطي صورة عنه: هكذا يبقى القارئ أمام السرّ الذي يتم. كيف ذلك؟ هذا ما لا يعرفه مرقس نفسه.
ولكن مرقس يجعل القارئ حيث يجب أن يكون، مع النسوة اللواتي سرن مسيرة من المسيرات. لا إن دعين ليرين المكان الذي وضع فيه يسوع، حتى طُلب منهنّ حالاً أن يمضين. فالقبر يطرد كل من يقترب منه. وهو يرمز إلى كل ما تبقّى من حياة يسوع على الأرض. يجب أن نذهب إليه، ولكن شرط أن نُحمل في مشروع آخر، فندخل في اختطاف أو نسكت أولاً دون أن نفهم. وهكذا نتقبّل كلمة الله قبولاً أفضل، لأن الله يُسمع في عمق الغياب. هذا ما يعني بطرس بشكل خاصّ، لأنه أنكر يسوع. فأمانة الله أعظم من خيانة البشر. إنه ينتظرنا في الجليل، في أرض الرجاء

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM