الفصل السابع والأربعون: نترك كل شيء ونتبع يسوع

الفصل السابع والأربعون
نترك كل شيء ونتبع يسوع
18: 18- 30

نجد في هذا المقطع الطويل موقف يسوع من الغنى والأملاك، كما نجد بشكل خاصّ علاقته بملكوت الله وبوضع التلميذ. وهكذا نتجنّب خطراً فيه نفهم فهماً سيئاً تصريحات أخرى للمعلّم، نرى فيها إما رفضاً أساسياً لكل امتلاك، وإما دعوة إلى التنسّك والزهد. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، نلتقي هنا بنقطة أساسية في كرازة يسوع: إن الإمتلاك والدخول إلى ملكوت الله يرتبطان ارتباطاً وثيقاً. نحن هنا أمام موضوع شدّد عليه لوقا بشكل واضح.
أ- المقابلة
إذا قابلنا الإناجيل الإزائية الثلاثة (18: 18- 30= مت 19: 16- 30= مر 10: 17- 31) نجد العناصر التالية:
في المقطوعة كلها، يتبع لوقا انجيل مرقس. والتحولات، الصغيرة منها والكبيرة، قد قام بها لوقا انطلاقاً من نصّ مرقس. إن أقدم الأناجيل يقدّم مجموعة موضوعية مؤلّفة من ثلاثة اجزاء مختلفة تعود إلى التقليد.
يتضمّن أول جزء حواراً تعليمياً بين رجل يسأل عن الطريق التي تقود إلى الحياة، ويسوع الذي يعطيه الجواب (مر 10: 17- 22). ويتكوّن الجزء الثاني من حوار بين يسوع وتلاميذه حول صعوبة دخول الملكوت على الأغنياء، ومن سؤال حول معرفة: من يستطيع في النهاية أن يخلص ( مر 10: 23- 27). والجزء الثالث يعلمنا بالجزاء الذي يناله كل من ترك كل شيء وتبع يسوع مر (10: 29- 31) وهكذابُني مجمل النصّ على مراحل. وقد ميّز مرقس كل مرحلة بمعطيات جديدة تبرز على "المسرح ". في كل مرة أدخل مشهداً جديداً، وفي كل مرة توجّهت كلمات يسوع إلى محاورين مختلفين: الرجل الغني، التلاميذ، بطرس (باسم الأثني عشر).
مشى لوقا بدقة مع هذا التصميم، ولكنه ربط برباط وثيق المشاهد بحيث كوّنت في إنجيله قطعة تعليمية واحدة تشدّد على مسألة الغنى والأملاك. ويبدو الرباط أوثق ما يكون بين الجزء الأول والجزء الثاني: فيسوع (في لوقا) يتابع حالاً وبشكل مباشر تصريحاته حول خير الغنى (18: 25 ي). يواصل يسوع كلامه مع الرجل الغني ويوجّه له اقوالاً ذات بعد عام. وسوف ننتظر آ 26 ليتبدّل المشهد: "فالذين سمعوا قالوا". لسنا أبداً أمام التلاميذ. فما يقوله يسوع هنا، لا يتوجّه بشكل خاصّ إليهم، بل إلى جميع الناس. فالغنى يمثّل خطراً في طريق الخلاص في أي حال ولكل إنسان. وفي الجزء الأخير فقط، يورد لوقا السؤال الذي طرحه يسوع حول وضع خاص، هو وضع التلاميذ الذين ساروا على خطى يسوع (آ 29).
قدّم لوقا، في ما قدّم، الإختلافات التالية: قال في مقدّمته (آ 18) إن الرجل هو "وجيه". هذا يعني أنه رئيس المجمع المحلّي أو مستشار في السنهدرين. اذن، هو في الوقت عينه غنيّ وصاحب تأثير على محيطه. إنه واحد من "عظماء" هذا العالم. لهذا السبب ألغى لوقا تفصيلاً صغيراً أورده مرقس: نظر إليه يسوع وأحبّه (مر 10: 21). قال له يسوع: "ينقصك شيء واحد: بع كل ما تملك" (آ 22). أضاف لوقا "كل " كما أضافها مثلاً بعد خبر الصيد العجيب: "تركوا كل شيء وتبعوه"(5: 11).
أراد مرقس أن يقول ما قاله لوقا. غير أن لوقا شدد عليه وأوضحه. ونجد الطريقة عينها في موضع آخر (5: 28 ودعوة لاوي؛ رج 14؛ 33). قالت مرقس: "كان ذا خيرات كثيرة". قال لوقا: "لأنّه كان غنياً جداً". ويتضّمن سؤال بطرس توضيحاً. فنص لوقا لا يقول إنهم تركوا كل شيء (مر 10: 28: تركنا كل شيء)، بل تركوا ما كان لهم، ما يخصّهم، املاكهم.
إختلف الإزائيون الواحد عن الآخر في إيراد جواب يسوع، وهكذا تحوّلت هذه الكلمة التي تفوّه بها المعلّم في سياق كل إنجيل. نلاحظ الإختلاف الأقل في "الخيرات التي نتخلى عنها". زاد لوقا "الزوجة". وقال: "الوالدان " لا "الأب والأم". وأغفل "الأخوة والحقول". والباعث على هذا التخلّي يبدو أقدم مما عند متّى ومرقس "لأجل ملكوت الله". إستعمل مرقس عبارات خاصة به: "لأجلي ولأجل الإنجيل". أما متّى فقال بكل بساطة: "لأجل اسمي".
ما يدهشنا هو أن لوقا ومتّى يتوافقان حين يتحدّثان بشكل عام عن الجزاء الأرضي، أما مرقس فيدخل في التفاصيل فيتكلّم عن البيوت والإخوة.. والحقول (مر 10: 29). ولكن الأسباب ليست كافية لنقول بأنه كان هناك مرجع بجانب مرقس، أو لنعارض القول بأولويّة مرقس على متّى ولوقا. فهذان الإنجيليان كتبا في وقت لاحق فوجّهتهما فكرةٌ واحدة وهي: إعتبار المكافأة المادية "في هذا العالم " ملتبسة ومشكوك فيها. وقد بدا متى أكثر تحفظاً من لوقا ومرقس فقال فقط: "كل من ترك بيوتاً... ينال أكثر بكثير أو ينال مئة ضعف (حسب مخطوطات أخرى) ويرث الحياة الأبدية" (19: 29).
إن المقابلة بين "هذا الزمان" و"الزمن المقبل" قد سقطت عند متّى. أما لوقا فكان أكثر وضوحاً. هو لم يحدّد فهم الجزاء الحاضر بشكك مادي أو روحي: "ما من أحد ترك إلا وينال أضعافها في هذا الزمان، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية" (آ 28- 30). بما أنّ لوقا لا يشير إلى الجزاء الأرضي إلا بشكل مقتضب وبألفاظ عامة، فالجزاء في "الحياة الأبدية" وفي نهاية الأزمنة يصبح بارزاً. وألغى لوقا هنا الكلمة حول "الآخرين" و"الأولين" (مر 10: 31؛ مت 19: 30)، فأنهى المقطوعة مع "الحياة الأبدية" التي كانت موضوع السؤال في بداية الخبر (آ 18: ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟).
ب- شرح وتفسير
1- الرجل الغني (18: 18- 23)
تكلّم متّى (19: 20) وحده عن "الشاب الغني". قال مرقس: إنسان حفظ الوصايا منذ صباه. وتحدّث لوقا عن "وجيه" أو "رئيس". سأل هذا الشخص عن الطريق الذي يقود إلى الحياة الأبدية. سؤال من تلميذ إلى معلّم يطلب جواب المعلم للتلميذ. هكذا كان يسأل اليهودي كل "معلّم في اسرائيل"، كل عالم في الشريعة، وينتظر منه الجواب. والجواب الذي اعطاه يسوع في البدء، كان يمكن أن يكون جواب أحد الكتبة: أنت تعرف الوصايا. فالطريق الذي يقود إلى الحياة، قد أشارت إليه الشريعة عبر مختلف الوصايا. فالشريعة هي طريق الخلاص والحياة. هذا ما أشار إليه الأنبياء أيضاً.
وفي الشق الثاني من الحوار، سنرى يسوع يكمّل جوابه بنداء للتخلّي عن كل الخيرات والسير على خطاه. يرتبط هذا الجواب هو أيضاً بالسؤال الأول المتعلّق بالحياة الأبدية. لسنا أمام "نصيحة" أو "مشورة" بل أمام "توصية" وأمراً يفرض نفسه علينا. إن لم يتبعه الإنسان لن ينال الحياة الأبدية. لا شك في أن هذه التوصية تعني اولاً هذا الرجل في الوضع الذي يعيش فيه، لأن الخطر الرئيسي الذي يهدّده في طريق الحياة الأبدية، يكمن في خيراته الكثيرة. ولكن بقدر ما نبيّن الرباط بين الغنى والحصول على ملكوت الله، نعلن في الوقت عينه حقيقة عامة، تسري على كل الذين يجدون نفوسهم في وضع مماثل. هذا ما يدلّ عليه أيضاً الجزء الثاني (18: 24 ي) بمنظاره العام. فيسوع لا يكتفي فقط بالتذكير بالوصايا. فهذا لا يتوافق مع الوضع الجديد الذي دشّنه مجيئه، دشّنه اقتراب ملكوت الله. هذا الوضع الجديد يتطلب "أكثر" (رج مت 5: 20: إن لم يزد برّكم على ما للكتبة والفريسيين). إنه يطلب تفهّماً عميقاً لمشيئة الله، وتحقيقاً جذرياً للوصايا. لا نستطيع الآن أن نحصل على الحياة إلا بالطاعة لكلمة يسوع، والتعلّق بشخصه. فكل قرار نتّخذه، نتّخذه بالنسبة إليه. ويكون الجواب واضحاً لا لبس فيه. وانقسام الحوار في زمنين أرانا الإختلاف والوحدة بين طريق الحياة القديمة والناقصة، والطريق الجديدة والكاملة.
2- خطر الغنى (18: 24- 27)
إن الخطر الذي يتهدّد الأغنياء تجاه الخلاص هو موضوع الجزء الثاني (18: 24- 27). أورد لوقا في ألفاظ تشبه ألفاظ مرقس، حوار يسوع الذي واصله مع الرجل: "ما أعسر دخول ملكوت الله على الأغنياء" (آ 20)! وما يلي في نصّ مرقس يدهشنا: بُهت التلاميذ، ضاعوا. ثم جاء اعلان ثانٍ ليسوع يشدّد على الأعلان الأولى: "يا أبنائي، ما أصعب الدخول إلى ملكوت الله" (مر 10: 24)! إن لهذه الكلمة معنى عاماً لا يصيب فقط أصحاب الأموال. إنها شكل مقتضب ومعمّم في الوقت عينه للقول السابق المتعلق بالأغنياء. ويبدو أن مرقس دوّنها، لأنه اعتبر الغنى حالة خاصة، وإن يكن فريداً في صعوبة الحصول على الخلاص. فالسؤال الثاني حول إمكانية الخلاص (مر 10: 26) يُطرح في المنظار عينه. لقد اهتمّ مرقس بهذه المسألة اهتماماً خاصاً، ساعة اقتصر متّى ولوقا (كل منهما بطريقته) على موضوع الغنى.
وهكذا جاء لوقا حالاً بمثل الجمل الذي يدخل في عين الأبرة. لم يفعل مثل متّى الذي أورد انتقالة قصيرة. "وأقول لكم أيضاً" (مت 19: 24). أما عند لوقا فسوف ننتظر فيما بعد لنجد ذكراً للسامعين الذي يطرحون سؤالاً حول الخلاص. "فالذين سمعوا قالوا" (آ 26). هو لا يدلّ على التلاميذ كما عند مرقس. فكّر الإنجيل الثاني بجميع البشر (الذين يصعب الخلاص عليهم). أما الإنجيل الثالث فواصل تفكيره في الأغنياء: مع أنهم في خطر كبير، إلا أنهم يستطيعون أن يبلغوا إلى ملكوت الله. غير أن هذه الأمكانية لا تأتي منهم. إنها تخصّ الله وحده، تخصّ قدرته السامية ومشيئته الحرة.
ويتواصل الحوار بين يسوع وتلاميذه في إنجيل مرقس حسب تدرّج دراماتيكي (مر 10: 23- 27). ذهل التلاميذ بسبب كلمة يسوع الأولى. أما يسوع فثبت هذ الكلمة وحدّد موقعها في إطار عام: ما أصعب الدخول إلى ملكوت الله. وهكذا عمّم وضعاً خاصّاً بصاحب الأموال الذي صار نموذجاً أمام الجميع (قد يصبح وضعنا مثل وضعه).
إن القول عن الجمل وثقب الأبرة يؤكد أن الجميع مهدّدون بالنسبة إلى الخلاص، وإن يكن الغني مهدداً بنوع خاصّ. حين أصاب الذهل التلاميذ تساءلوا (إذن، في نهاية المطاف): من يستطيع أن يخلص؟ وتوّج جواب يسوع الأخير الحوار فختم كلامه في تحية إلى قدرة الله التي لا حدود لها: "هذا مستحيل عند الناس، لا عند الله. فكل شيء مستطاع عند الله".
لا شكّ في أن مرقس يشدّد على المخاطر التي تهدّد الخلاص، على استحالة خلاص الإنسان بنفسه، على الاقرار الجذري بحرية الله التامة. هذا ما سيتوسّع فيه مع مثل الرجل الغني وفي أقوال متفرقة. نحن هنا أمام تأليف قام بتطعيم مسألة الخلاص على أقوال تتعلّق بالأغنياء. ثم إننا نجد في هذا التأليف آثار عمل تدويني قام به مرقس (10: 17، 24، 28). فهو يورد في مواضع عديدة من انجيله حوارات تعليمية بين يسوع وتلاميذه، وفي تدّرج يشبه ذاك الذي نجده هنا: خوف التلاميذ يرافق عدم فهمهم (مر 9: 9- 13؛ رج 8: 14- 21؛ 11: 12- 14، 20- 25).
3- سؤال بطرس (18: 28- 30)
يتوقّف الجزء الثالث عند الإثني عشر، عند "الرسل" بحصر المعنى. قال بطرس باسمهم: "ها نحن قد تركنا ما لنا وتبعناك" (آ 28). وتفردّ متّى فطرح السؤال بشكل واضح: "فماذا يا تُرى، يكون لنا" (مت 19: 27)؟ هذه الجزء موجز عند لوقا كثر منه عند متّى ومرقس. فهو يتضمّن فقط سؤالاً (غير مباشر) من بطرس وجواباً من يسوع يرد في جملة واحدة. فنحسّ أن هذا الجزء الذي يتحدّث عن المكافأة، هو أقل أهمية بالنسبة إليه. إنه سؤال خاص يعني الرسل ووضعهم الشخصي. فخدمة الملكوت تفرض علينا أن نتجرّد من الأشخاص والوطن والأسرة. غير أن هذا التجرّد يختلف عن ذاك المطلوب من الرجل الغني.
كنّا مع الرجل الغني أمام مسألة الحصول على الخلاص الشخصي. ونحن الآن أمام حرّية الرسول من أجل الخدمة. إذن، لا يفرض أي تخل مبدئي عن الخيرات، وهذه المتطلّبة لا ترتبط أيضاً بخدمة الرسالة. يقال فقط للرسل انهم لن يستطيعوا أن يكونوا أكثر سخاء من الله. وما تخلّينا عنه سنجده من جديد "أضعافاً وأضعافاً"، لا سيّما في عطية الحياة الأبدية في نهاية الأزمنة.
ونسأل: هل نستطيع أن ننتقل من بطرس والإثني عشر إلى الذين يمارسون المهام مثل المرسلين والعاملين المتجوّلين و"الأنبياء" في الجماعات؟ هل نستطيع أن نطبّق عليهم ما قيل عن بطرس؟ ما يدعونا إلى جواب إيجابي هو أن الجزئين الأول والثاني في مقطوعة لوقا هذه، يكوّنان وحدة تامة تطبّق على مجمل الجماعة. وهكذا يبرز الجزء الثالث مع سؤال بطرس بوضوح وفي ضوء جديد.
ج- الفن الأدبي
إن دراسة الفن الأدبي تفرض علينا أن نتوقّف عند كل جزء بمفرده. ونبدأ بالجزء الأخير.
1- الجزء الأخير
يتخذ الجزء الأخير عند متّى ولوقا شكل مشهد نموذجي يتركّز على قول مميّز يكوّن ذروته إن من جهة المضمون وإن من الوجهة الأدبية. هناك نوعان من النصوص في الإنجيل: نجد في النوع الأولى نصوصاً إحتفظت بتذكّر حدث تاريخي، وفي النوع الثاني نصوصاً تكوّن "مشهداً مثالياً" ليكون إطاراً لهذا القول. نحن نجد هنا النوع الثاني: طرح بطرس السؤال، فأجاب يسوع. توافق السؤال والجواب من جهة المضمون ومن جهة اللغة: يجب أن "نترك" و"نتبع ". فعلان في السؤال تكرراً في الجواب (رج مت 19- 28).
2- الجزء الثاني
ننطلق هنا من كلمات يسوع، لكي نحدّد الفن الأدبي لهذا الجزء (18: 24- 27). وهذا يسري بشكل خاصة على لوقا الذي بسّط المشهد كما قلنا. نحن أمام ثلاثة أقواك ليسوع مختلفة: إثنان عن الأغنياء، وآخر عن الخلاص بيد الله. القولان الأولان يكفيان نفسهما بنفسهما، فيشكّلان وحدة تامة بالموضوع الذي يعالجان، وبطريقة طرح الموضوع. طابعهما طابع نبوي، ووظيفتهما وظيفة تنبيه ملحّ. إلى من يتوجّهان؟ إلى الأغنياء. هذا الموضوع النبوي يُعالج في أسلوب جلياني. فلغة أسفار الجليان (أو الرؤيا) ظاهرة في عبارة وردت مرتين: "الدخول في ملكوت الله". غير أن الجمع بين هذين العنصرين يميّز طريقة يسوع في الكلام. وهناك إشارة ثالثة هي سلطة الخطبة التي تنبع من شخص الذي يتكلّم، من يسوع المسيح. إن يسوع لا يعلّل ما يقول، ولا يستند إلى كلمات الكتاب المقدس ولا إلى مبدأ معروف في "المدارس".
هذه الملاحظات تدعونا لأن نفكّر أننا أمام أقوال حقيقية ليسوع. وتصبح هذه الفرضية يقيناً حين نحدّد موقع هذه التصريحات في سائر التقليد الإزائي. نجد فيها عناصر اللغة الجليانية، مواضيع الغنى والإمتلاك في علاقتها مع ملكوت الله، سلطة الخطبة (رج مر 8: 36 ي، مت 6: 24= لو 16: 13؛ لو 12: 33 ي= مت 6: 19- 21). يجب أن نعتبر قولَي يسوع هذين كقولين منعزلين. نحن لا نستطيع إن نتخيّل السياق الأولاني الذي فيه لُفظا، فنعتبر أنهما ارتبطا باكراً بالحوار.
وتختلف المسألة فيما يخصّ الحوار القصير حول الخلاص (مر10: 26 ي). لا نستطيع إن نفهم جواب يسوع إلا إذا انطلقنا من السؤال، لأن فعل "خلّص" (الحاسم) لا نجده إلا في السؤال (من يستطيع أن يخلص؟).
نحن هنا أمام تأليف قصير لا نستطيع أن نعتبره مقطعاً تدوينياً (لمرقس). ففي الجواب، هناك تصريح يتركز على الله تركيزاً جذرياً، وهذا ما يدهشنا. فالجماعة اللاحقة التي كانت كرستولوجية في تفكيرها، لم تكن لتعبّر عن نفسها بهذا الشكل أو أن تحوّل المعنى الأولاني في هذا الخط. إن خلاص الله هنا يرتبط بقدرة الله وحدها، إنه عمل الله. لا يلمّح يسوع إلى "الخلاص" وهكذا يتضح أمام تصريح يسوع هذا، أننا أمام كلمات "حقيقية" له. فرباطها مع السؤال هو أولاني في أي حال لأن الجواب لا يُفهم وحده فهماً جيّداً. غير أن التعبير عن السؤال يكشف عن عمل "صياغة". ففي كلمة "خلّص " يجب أن نرى بشكل خاصّ تحديداً لاهوتياً (ولكن رج لو 13: 23 ي). نحن هنا وللمرة الأولى أمام لغة مقتضبة ومركّزة لا تُفهم فهماً كاملاً إلا في إطار مسيحي.
تتميّز هذه اللغة تميّزاً واضحاً بالنسبة إلى العبارات التي سبقت: "ورث الحياة الأبدية". "نال الحياة الأبدية". نستخلص من هذه الملاحظات أن السؤال والجواب يعكسان وضعاً حقيقياً في حياة يسوع، وأن السؤال وحده عبِّر عنه في لغة مسيحية. ومن وجهة الفن الأدبي، نحن أمام سؤال وجواب "تعليميين" نستطيع أن نقابلهما بأشكال مماثلة في تقليد مدارس الرابانيين. ولوّن مرقس أسلوب القول في خبره فأدخله في إطار "مسرحي".
3- الجزء الأول
ونصل إلى الجزء الأول، مشهد الرجل الغني. إذا نظرنا إلى هذا الجزء من جهة الأسلوب واللغة، وجدنا نفوسنا أمام حوار، بل حوار تعليمي. نحن أمام حوار، لأن النصّ يسير تدريجياً في سلسلة من سؤال وسؤال معاكس، من جواب وجواب معاكس. وفي النهاية هناك أمر وتوصية. وحوار تعليمي لأنه ينطلق من نقطة تعليمية: الطريق التي تقود إلى الحياة الأبديّة. ثم إن الجواب يُعطى بشكل تعليم: "واحدة تبقى عليك".
لا حديث عن الممارسة كما في وضع سأل الفريسيون فيه لماذا لا يصوم تلاميذ يوحنا المعمدان (مر 2: 18- 20)، أو فيه سأل أحدهم يسوع توجيهات عن الصلاة كما علّم يوحنا المعمدان تلاميذه (لو 11: 1ي). نحن هنا أمام سؤال تعليمي كما في السؤال حوله الوصية العظمى (0 1: 25؛ رج 18: 18)، حول قيامة الموتى (0 2: 27 ي)، حول مجيء ملكوت الله (17: 20). إذن، لا نكون دقيقين حين نسمّي هذه القطعة "خبراً". إن إنجيل النازرين (كتاب منحول) يتضمن أيضاً هذه المقطوعة. والمقابلة بين إنجيل لوقا وهذا الإنجيل تبدو مفيدة لأن شكل الحوار يمتدّ فيصبح فناً تصويرياً بشكل رواية. أما المضمون الذي يدلّ على الطابع اليهودي لهذا الإنجيل، فهو أن طلب يسوع يتركّز على الوصية التقليدية، وصية المحبّة. وهكذا ينتفي في النهاية ما تضمنته هذه المقطوعة من جديد وحاسم وهو أن نسير وارء المسيح.
"وشرع الغنيّ الثاني يتكلّم: أيها المعلّم، ماذا أعمل من صلاح لأحيا؟ قال له: أيها الرجل، أتمّ الشريعة والأنبياء. فأجابه ذاك: كل هذا فعلته. قال له (يسوع): إذهب وبع كل ما تملك، وزّعه على الفقراء، ثم تعال واتبعني. حينئذ بدأ الغنيّ يحكّ رأسه، لأن هذه الكلمة لم تُرق له. فقال له الربّ: كيف تقول: أتممت الشريعة والأنبياء؟ فقد كُتب في الشريعة: أحبّ قريبك مثل نفسك. وها إن عدداً كبيراً من اخوتك، أبناء ابراهيم، تغطّيهم الأوساخ ويموتون من الجوع، وبيتك يفيض بالخيرات دون أن يخرج شيء لهم. ثم التفت إلى سمعان تلميذه الذي كان جالساً بقربه وقال له: يا سمعان بن يونا، أسهل على الجمل أن يدخل من ثقب الأبرة من أن يدخل غنيّ إلى ملكوت السماوات".
إن هذا الحوار التعليمي يدلّ على بناء نجده أيضاً في أماكن عديدة:
- مقدمة تعرض الوضع بسرعة.
- سؤال يطرحه المحاور.
- سؤال معاكس من يسوع الذي لا يأخذ موقفاً بالنسبة إلى الحالة.
- جواب يسوع، وقد يكون كلمة من الكتاب المقدس.
- الخاتمة يقدّمها يسوع في توصية (أو أمر)، في وعد...
- ملاحظة نهائية حوله المشهد.
إن تسمية يسوع "المعلم الصالح" عند مرقس تدهشنا، لأننا لا نجدها في أي مكان آخر عنده. أما هنا فتصبح بداية جواب يسوع بلهجته المدهشة أيضاً: "لماذا تدعوني صالحاً؟ لا صالح إلاّ الله وحده". يجب أن نقبل بلا شكّ أن "صالح" السؤال يتحكّم به فقط جوابُ يسوع. فجواب يسوع الذي لم نعتد عليه يرتبط جوهرياً بهذه اللفظة. نستطيع أن نقول إن النصّ يشدّد على "الله وحده"، وإنه يعطي هكذا عنصر جواب لسؤال حول الحياة الأبدية. هذا يعني أن الحياة الأبدية هي عمل الله وحده وعمل حنانه. ولكننا لا نفهمها، لأن فكرة "الحنان" تلعب دوراً مستقلاً. وهكذا نفهم أننا في هذه المرحلة الأولى من الحوار أمام تقليد حقيقي، وان دوّن باسلوب خاصّ بكل انجيلي.
أعطي جواب يسوع (بحصر المعنى) في إيراد من الكتاب المقدّس، نجده (بشكل شبه كامل) في اللوحة الثانية من الوصايا العشر. ففي جواب الإنسان المعاكس، أكّد أنه صنع كل هذا منذ صباه. لن نرى هنا أثراً للتكبّر أو للعمى تجاه الذات، بل أعلان إيمان الإسرائيلي. وهذا الإعلان يتأسس على فكرة تقول إننا نستطيع أن نمارس الوصايا حين نعرفها. إذن، يجب أن نحسب هذه الكلمة جزءاً لا يتجزّأ من الحوار التعليمي. فنداء يسوع يفترض أننا حقّقنا ونحقّق مشيئة الله كما ظهرت حتى ذلك الوقت.
حينئذ يأتي الجواب الجوهري وهو يتألف من عدة جمل: "أمر واحد ينقصك. إمضِ وبع كل ما لك، وأعطه للفقراء، فيكون لك كنز في السماء، ثم تعال اتبعني" (مر 10: 21).
ما يلفت الإنتباه من جهة الأسلوب هو صيغة الأمر. هناك أوامر تُعطى بايقاع متلاحق، بذات القوة المتطلّبة التي لا تترك مكاناً لأي احتجاح. وما يلفت الإنتباه أيضاً هو تكديس الطلبات بعضها فوق بعض. إرتبطت الطلبتان الأساسيتان الواحدة مع الأخرى: مع كل شيء (واعطه للمساكين) من جهة، ومن جهة ثانية نداء للسير على خطى المعلّم. أما فيما يتعلّق بالطلبة الأولى، فلا نجد مقطعاً آخر يقابلها. والكنيسة الأولى نفسها لا تعرف هذه المتطلبّة في شكلها الجذري. ما يُطلب هنا، ليس التخلّي عن الخيرات (رج آ 28) ولا التنكّر لإمكانية التصرّف بها، ولا تقديم صدقة عظيمة. ما يُطلب بشكل جذري هو "البيع". فالخيرات المباعة ستستعمل أيضاً بشكل جذري: تعطى "للفقراء".
لا شكّ في أن هذا التخلّي يمنح غنى جديداً، يمنح كنزاً لدى الله. هل نفهم هذا "الكنز" في معنى مادي أم في معنى روحي؟ هذا سؤال قليل الأهمية. فنحن أمام تبادل بين التخلّي والربح. يتم هنا تحوّل سري: يصبح الغني فقيراً بشكل مطلق، ولكنه يغتني بشكل آخر. وهذا التبادل يتحقق أمام الله ويؤمّن لنا الحياة بقربه. وكان العنصران الثاني والثالث (أعطه للمساكين، فيكون لك كنز في السماء) نتيجة العنصر الأول الذي يطلب أن "نبيع كل شيء".
وإليك الآن الطلب الثالث: "إتبعني". إن التخلّي يتوجّه نحو هذا الهدف. إنه ليس غاية في حدّ ذته. إنه من أجل، السير على خطى المعلّم. بما أن التلميذ مدعوّ إلى هذا السير، فعليه أن يكون حراً كل الحرّية. هذا ما يجب أن نفهمه: ترث الحياة الأبدية إذا صرت تلميذي.
مهما كان هذا الإقتداء بيسوع، فالنصّ ينظر إليه على ضوء هذا التجرّد. ولكننا لا نجد هذه المتطلبة الجذرية في أي مقطع آخر، ولا على مستوى الكنيسة الأولى. هذا يدلّ أيضاً على أننا أمام وضع حقيقي احتفظ به التقليد.
خاتمة
طرح الوجيه السؤال: ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟ يذكّرنا هذا السؤال بسؤال طرحه معلّم الشريعة على يسوع (10: 25). إستعاد يسوع في جوابه الوصايا الرئيسية، ولكنه لم يلمّح إلى محبّة القريب (مت 19: 19) ولا إلى امكانية الأساءة إليه (مر 10: 19). هذا ما سبق وتكلّم عنه خلال لقائه مع معلّم الشريعة (10: 27). لم يذكر لوقا نظرة يسوع إلى الشاب، كما فعل مر 10: 21، ولكنه شدّد على متطلّبات ندائه: "كل ما لك، بعه ". ثم أبرز أهمية المشاركة والمقاسمة مع الفقراء قبل أن نتبع يسوع. ونلاحظ أيضاً الحزن الفجائي الذي يجتاح قلب هذا الرجل حين يلامسه نداء المعلّم. إن حزنه يدل على أن ملكوت الله أصابه. يدلّ على أن هذا الحزن هو نعمة في قلب كل هذا الغنى.
لم يقل لوقا شيئاً عن انصراف هذا الوجيه. وقد تكون عبارة يسوع حول دخول ملكوت السماوات للأغنياء، قد طرقت مسمعه. لقد كان بين "السامعين" الذين أبانوا ردّة فعل على ما قاله يسوع. أجل، السؤال يعني البشر جميعاً. ومسألة الخلاص هي المسألة الجذرية في هذا الحدث. وربط مصيرنا بمصير يسوع هو نعمة نتقبّلها منه. فليس من السهل أن نصير فقراء، ونحمل صليبنا ونسير معه في طريق يوصله إلى أورشليم. هذه نعمة نتقبلها: "فما هو مستحيل لدى الناس، غير مستحيل على الله". نتقوّى بهذا الرجاء ونسير إلى حيث يوجّهنا يسوع مهما كانت متطلباته قاسية

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM