الفصل الخامس والأربعون: الفريسي والعشّ‍ار

الفصل الخامس والأربعون
الفريسي والعشّ‍ار
18: 9- 14

مثل الفريسي والعشّار خاص بلوقا. أخذه من مرجع خاص (قد يشترك فيه مع متّى) استقى منه مواد القسم المحوري في إنجيله (صعود يسوع إلى أورشليم). بعد هذا المثل سيعود لوقا إلى مسيرة إنجيل مرقس.
مثل بسيط جداً، وهو لا يطرح أسئلة خاصة على المفسّر. هو يدخل، من الوجهة الأدبية، في مجموعة أمثال لا نجدها إلاّ عند لوقا: السامري الصالح، المزارع الجاهل، لعازر والغني. وهذه الأمثال هي أكثر من تشبيهات، إنها أمثلة ملموسة عن مواقف نقتدي بها أو نتجنّبها.
هذا المثل يضع أمامنا رجلين يصلّيان، وهو يلي مثلاً آخر نجد فيه أرملة تتوسّل إلى قاضٍ ظالم. ونلاحظ أيضاً أن آ 14 ب (من يرفع نفسه ينخفض) لا توافق كل الموافقة معنى المثل، وأنها توجد في مرقس ومتى.
إن هذه الملاحظات تحدّد تصميم هذه الدراسة. أولاً: المثل في حدّ ذاته والدرس الذي نستخرجه منه (18: 9- 14 أ). ثانياً: معنى التحريض على الصلاة الذي نجده في السياق (18: 1- 14 أ). ثالثاً: توسيع النظرة التي تعطيها آ 14 ب والسياق العام لهذين المثلين: الخطبة عن "يوم ابن الإنسان" (17: 20- 37).
أ- المثل الأصلي (18: 9- 14 أ)
نجد في هذا المثل ثلاثة أقسام: المقدّمة (آ 9) التي تحدّد السامعين. المثل في حدّ ذاته (آ 10-13) يصوّر لنا رجلين صاعدين إلى الهيكل، وصلاتهما تبرز موقفين روحيين مختلفين. الخاتمة (آ 14 أ) تستعيد بشكل تضمين آية المقدمة: "قال يسوع لبعض الذين يثقون بأنفسهم بأنهم صالحون (أبرار، صديقون)...". وتحدّد المعنى: "أقول لكم: هذا (العشار)، نزل إلى بيته مبرراً (مقبولاَ من الله)، لا ذاك (الفريسي)". "بار" (ديكايوس)، مبرّر (داديكايومانوس): كل معنى المثل يقوم في هذا الإنتقال من صيغة المعلوم إلى صيغة المجهول: هل نحن نبرِّر أنفسنا، أم نبرَّر أي إن الله يبرّرنا؟
1- السامعون هم ممارسون للشريعة (آ 9)
حين نعرف إلى من توجّهت رسالة وما هي اهتمامات ذاك الذي كتبها، نفهمها فهماً أفضل. غير أنه ليس من السهل دائماً أن نكتشف السامعين الحقيقيين للمثل... والإنجيل كما نقرأه اليوم هو نتيجة تفكير الجماعة الأولى وكرازتها. وبما أنه أولاً حياة ونداء إلى التوبة، لم يتردّد الرسل بأن يؤونوه لمحيطهم. وتحاول العظة اليوم أن تؤون لنا أحداثاً عنت في الأصل أشخاصاً يعيشون في وضع يختلف عن وضعنا. هذا ما فعله في الماضي الواعظون الأوّلون. وجه يسوع أمثاله، على ما يبدو، إلى خصومه من فريسيين وصادوقيين... ولكن حين رويت فيما بعد في أوساط لا نجد فيها فريسيين، كيّف الرسل أمثالهم على التلاميذ (الذين يمكن أن يميلوا إلى عالم الفريسيين مثلنا). وتبدّلُ السامعين هذا بدّل معنى المثل في بعض المرّات. ولكن التطوّر لم يلعب دوره في المثل الذي ندرس، وهذا برهان عن الطابع العتيق لهذا التقليد: "قال يسوع لبعض الذين.." أي للفريسيين. لا شكّ في انه لا يسمّيهم بصورة واضحة، أقلّه في هذا الموضع. لأنه سمّاهم باسمهم في مكان آخر ولم يراع شعورهم. قال يسوع للفريسيين الهازئين به: "أنتم تبرّرون أنفسكم عندَ الناس، لكن الله يعرف قلوبكم. رفيع القدر عند الناس رجس (موضوع كراهية) عند الله" (لو 16: 14- 15).
فلماذا لم يسمّهم هنا بوضوح؟ لأنه يرينا واحداً منهم على المسرح. هذا ممكن. ولكن لأن لوقا يريد أن يهدي هذا الخبر إلى كل "الفريسيين" (ونحن أيضاً) في كل العصور.
وبعد ألفَيْ سنة على قراءة الإنجيل، لم نحتفظ من كلمة فريسي إلاّ وجهة الإحتقار. لا شكّ في أنه كان هنا فريسيون أردياء. ولكن الفريسيين هم في البدء "قدّيسو" العهد القديم أي أناس متديّنون في العمق ربطوا حياتهم كلها بالله وبشريعته يدرسون تفاصيلها بمحبّة. هم يعرفون نفوسهم أنهم مدعوّون، شأنهم شأن كل يهودي، إلى العيش بحضرة الله القدّوس. ولكنهم شعروا أكثر من غيرهم أنه، إن كان الإتحاد بالرب شيء عجيب، فهو مخيف ويحمل متطلّبات قاسية. وفي أوقات الإضطرابات لن يتردّد بعضهم من أن يقدم نفسه لسيف الكفار ولا يهاب الموت. ولقد ظنوا في كل وقت أنهم يعبّرون عن إيمانهم بالله في حياتهم كلها. إنهم يمارسون الشريعة على أكمل وجه، بحيث لا يستطيع أحد أن يلومهم أنهم أهملوا فريضة واحدة من فرائض الشريعة. كانوا مثال التقوى، وكان الشعب يُعجب بهم ويحبّهم. وهذا ما جعلهم يؤثّرون عليه تأثيراً عميقاً.
ولكن لماذا يهاجمهم يسوع بكل هذا العنف؟ بسبب استعداد قلوبهم. وهذا ما يُجمله لوقا بكلمات لاهوتية سنفهمها في النهاية: يثقون بنفوسهم. يعتبرون نفوسهم أبراراً.
2- الفريسي والعشّار أو موقفنا الروحي الأساسي ينكشف في صلاتنا (آ 10- 13)
جعل يسوع أمامنا رجلين ذاهبين للقاء الله، صاعدين إلى الهيكل حيث يقيم الله. يصوّرهما في عمل هو قمّة هذا اللقاء، يصوّرهما في الصلاة.
"فريسي" و"عشّار". نحن أمام نقيضي المجتمع اليهودي الديني. الممارس الذي لا عيب فيه، الذي فحص ضميره فحصاً دقيقاً فلم يجد شيئاً يتّهم به نفسه، ونموذج الخطأة، العشّار الذي يكرس نفسه بوضعه ووظيفته للظلم والكفر، الذي يجعله الناس بين الخاطئين وفي صفّ الفجّار والزناة (مت 21: 31- 32).
نشير إلى أنّ وظيفة العشّار كانت جبي الضرائب وتقديمها للرومان الذين يبغضهم الشعب اليهودي بغضه لرومة المحتلّة. كان على العشار أن يقدّم كمية من المال يحدّدها الحاكم، فيجمعها بالقوّة من الناس ويزيد عليها ربحه الشخصي الذي يتنوّع بتنوّع وسع ضمير الجابي أو ضيقه.
أولاً: الفريسي "يشكر"
"وقف الفريسي". هذا هو موقف الصلاة العادية. والعشّار أيضاً "وقف ". إذن، لا يدل الوقوف على تظاهر بالصلاة. وقف الفريسي وأخذ يشكر الله: صلاة جميلة ونقيّة لا يطلب فيها شيئاً لنفسه. هي صلاة شكر لله. ثم ما الذي ينقصه ليطلبه؟ لقد غمره الله بكل عطاياه: وهو يعيش في حضرة الله، في الصلاة كما يفعل الآن وفي سائر حياته حيث تسيطر شريعة الله على كل اهتماماته. حفظ نفسه من كل خطيئة (أورد أخطرها وأقلّها خطورة)، وأكثر من الأعمال الصالحة، لا المفروضة وحسب مثل الصوم السنوي لعيد التكفير (كيبور) أو تقديم عشر غلاله، بل تضحيات يخضع لها طوعاً: يصوم مرّتين كل أسبوع، يعطي عشر ثمن كل ما يشتريه، في حال أغفل البائع أن يقوم بواجبه الديني.
من يتجزأ منّا أن يتلو مثل هذه الصلاة؟ فالفريسي ليس بخبيث. فما يقوله قد فعله حقاّ. إنه "قدّيس" أو "بار" كما تقول التوراة. هو يعرف ذلك، ويعرف أيضاً انه سيستحق من اجل هذا، الحياة الأبدية. لا شكّ في أنّ حياته صعبة، ولكنه متأكد من أنه سيمتلك في الآخرة ما ينعم به منذ الآن على الأرض: سينعم بحضور الله. إنه لا يحسد هذا العشّار مع غناه وحياته السهلة، وهو لا يريد أبداً أن يبادل حياته بحياة هذا "الخاطئ" الذي يكرهه الشعب لأنه لا يكتفي بأن "يسرق " الناس، بل يتعامل مع المحتلّ الغريب.
ثانياً: العشّار يعترف بخطاياه
جاء الفريسي يشكر الله. وجاء العشّار يقرّ بخطاياه. وقف هو أيضاً ولكن عن بعد. خفض عينيه وقرع صدره قائلاً: "خطيئتي عظيمة". إعتاد الناس أن يصلّوا بصوت منخفض. وقد يكون العشّار سمع صلاة الفريسي، وهذا يعفيه من الإقرار بخطاياه بعد أن أقرّ بها الفريسي عنه. بقي له الأهم وهو أن يحدّد موقفه تجاه الله، كما هو بالحقيقة. وهذا ما يقوم به بكلمات بسيطة ولكن عجيبة: "أغفر لي، يا الله، أنا الخاطئ".
"يا الله". الإيمان هو أوّلاً لقاء بين شخصين في حوار بيني أنا وبينك أنت، بين العشّار وبين الرب. عرف العشّار، شأنه شأن الفريسي، أنه بحضرة شخص يقدر أن يدعوه باسمه.
"إغفر". ما هو المعنى الدقيق لهذه الكلمة؟ كن راضياً، كن عطوفاً. هذا هو المعنى الذي نجده في أس 4: 17. توسّل مردخاي: "إستجب صلاتي، كن راضياً ( لا تغضب) على شعبك وحوّل صلاتنا إلى فرح". هي كلمة "هيلسكوماي" التي تعني في السبعينية: غفر الخطايا، كفّر عنها. ولماذا يغفر الله؟ من أجل اسمه. لا نجد سبب الغفران في الإنسان وبرّه واستحقاقاته، بل في قداسة اسم الله (مز 79: 9). واستُعمل الفعل مرّة ثانية فقط في عب 2: 17: "صار يسوع شبيهاً بإخوته في كل شيء ليصير في علاقاته مع الله كاهناً رحيماً وأميناً ليكفّر عن خطايا الشعب".
"أنا الخاطئ". لا معنى لمدلول الخطيئة إلاّ في علاقة شخص بشخص. وخارج هذا الإطار لا نعود أمام الخطيئة، بل أمام ذنب أو إساءة أو عاطفة نقص. وإذا تأمّلنا في تطوّر شعب الله، نلاحظ أنه بقدر ما تعمّق في فكرة الله، تعمّق أيضاً في فكرة الخطيئة. ففكرة الخطيئة هي الوجه الآخر لفكرة الله. لقد صرخ بطرس بعد الصيد العجيب: "إبتعد عني لأني خاطئ" (5: 18). لا نصل إلى التوبة حين "نعلك" خطايانا بدون انقطاع، بل حين نقف في حضرة الله، في حضرة المسيح المصلوب. وصرخة القلب هذه التي يطلقها بطرس أو العشّار، تكشف عن عمق عاطفتهما الدينية. لقد أحسّ لوقا بهذه العاطفة التي تُفهمه أنه خاطىء، لأنه اختار أن يحدّد موقعه في قلب المسيح ليروي لنا حياته: تفرّد فاستعمل هذه اللفظة في المفرد ليدلّ على شخص ملموس، واستعملها مع ال التعريف في هذه المرة فقط وكأنه يدل على نفسه. هذا لا يعني أن العشّار هو خاطىء من الدرجة الأولى، هو نموذج الخاطئين. هو لا يقابل نفسه بالآخرين. ولكن التعريف يخلق فينا إحساساً خاصاً: حين ينظر إلى نفسه لا يجد ما يحدّدها إلاّ هذه العبارة: أنا الخاطئ.
ثالثاً: قل لي كيف تصلّي
أشكرك يا الله لأني قدّيس... إغفر لي يا الله أنا الخاطئ.
إذا كانت الصلاة التي فيها نعبّر عن حوارنا مع الله، تكشف موقفنا الروحي الأساسي، فمن الواضح أن لوقا حين قدّم لنا هذا التعارض قدّم لنا نموذجين من المؤمنين: يبدو الأوّل وكأنه لا يهتم إلاّ بالله: أشكرك أنت. ويبدو الثاني مهتمّاً بنفسه: إغفر لي أنا. الفريسي متجرّد كل التجرّد. والعشّار لا يعرف أن يخرج من عالم حاجاته. هو يطلب. غير أنّ الأول يجعل من الله مفعولاً: أنا أشكرك أنت. والثاني يجعل من الله فاعلاً: أنت أغفر لي أنا.
"وقف الفريسي". هذا يدلّ على موقف ليتورجي عادي. ولكن حين يلتقي الفريسي بالله، فهو يحسّ غريزياً أن له مقامه، أن له وزنه. إنه كالغني الذي يرتاح في موقفه لأن المال في يده. والفريسي يثق بنفسه لأنه بار. لا شكّ أنه فعلاً بار وقدّيس ولا عيب فيه. ورفضه لكل خطيئة وأعماله الصالحة واستحقاقاته، كل هذا يعطيه دالة أمام الله: لقد "ربح " السماء منذ الآن. ولهذا فهو يكتفي أن يشكر أي أن يقف أمام الله كالدائن أمام صاحب المصرف ليحسب له حساب أمواله. فهو في الواقع مهتم كل الإهتمام بنفسه حين يصلّي. هناك الترجمة العادية: "صلّى في نفسه" (بروس هيوتون). ولكن يرامياس يلاحظ بحق ان الإنسان لا يصلّي "في نفسه" بلى بصوت منخفض. لهذا قد نكون أكثر أمانة لفكر لوقا حين نترجم: "كان يسمع نفسه يصلّي". وحرفياً: "إلتفت إلى نفسه (لا ألى الله) وأخذ يصلّي". إنه يجعل نفسه فاعل الأفعال كلها: انا أصوم، أنا أوفي: إنه كامل، وبسبب كماله العظيم، سيجبر الله أمامه على أن يكون مفعولاً يتجاوب مع ما يفعله الفاعل.
أما العشار فهو نموذج "الفقير"، المسكين: هو لا يملك شيئاً في ذاته يعطيه ثقة بنفسه أمام الله. إذن، لم يبقَ له إلاّ حلّ واحد: أن يجعل ثقته في الله. شابه الفريسي فجاء يلتقي الله في حوار بين "أنت" و"أنا". ولكن الفريسي استند الى أنا، إلى شخصه، ليشكر "أنت" الإلهي. أما العشار فأحسّ أولاً أن "أنت" أي الله يتوجه إليه بكلامه، أحسّ أنه يتقبّل حياته جواباً على كلام الله. إنه يتقبّل نفسه كهدية من الله حين يقول "أنا". هذا هو الإيمان: إنه جواب الإنسان على كلمة الله الذي يجعله إنساناً (موجودا) حين يقرّر أن يخرج من نفسه ليقف في الآخر، في الله.
نحن أمام صلاتين، أمام موقفين روحيين. ماذا يقول الله فيهما؟ سيقدّم لنا يسوع الجواب في خاتمة هذا المثل.
3- الخاتمة: عاد إلى بيته لا "باراً" بل "مبرّراً"
"أقول لكم: هذا نزل مبرراً إلى بيته، لا ذاك". سبق ولاحظنا أنّ هذه الجملة تؤلّف تضميناً مع بداية النصّ: "قال يسوع (هذا المثل) لبعض الناس الذين يتكلّمون على نفوسهم لأنهم صديقون أو أبرار". إذن، هذه هي النقطة الأساسية في المثل. ما الذي يريد يسوع أن يقوله؟
إن للفظتي "بار" و"بر" في التوراة معنى غنيّاً جداً. من كان باراً وجه تجاه كل إنسان الموقف الصحيح واللائق. والمبرّر أمام امتحان أو جدال، هو من يبرهن لا عن براءته، بل عن صحّة تصرّفه كله، وهكذا تسطع براءته الخاصة وتوافقُه مع شريعة الله. فالفكرة القانونية المرتبطة باللفظة في اللغة العادية زالت في الإستعمال البيبلي: من يتجرّأ ويقيس نفسه مع الله؟ من يظن أنه يقدر أن يدخل في جدال معه؟ ولهذا اتخذت لفظة "تبرر" أمام الله معنى "وجد حظوة في عينيه ". لقد تبدّل المعنى تبدّلاً كلّياً: فما الذي يتيح للإنسان أن يقف أمام الله لا نجده في الإنسان بل في الله. لم نعد أمام "البر" و"البرارة"، بل أمام "الحظوة" و"النعمة" و"الحنان". غير أن هذا لا يعني أن كلمة "بر" أفرغت من كل محتوى قانوني. إن قلنا هذا تناسينا كرامتنا كبشر. إذا كنا أبرمنا عقداً مع الله وتعديناه بخطايانا، فغفران بسيط من قبله قد يذلّنا فيجعلنا نشعر أن لا أهمية لخطايانا أمامه. بل إن كل ما نعمله لا يهمّه! ولهذا أراد الله أن "يستحق" الإنسان خلاصه. ولكن "العمل" الوحيد الذي يمكن أن يقف أمامه هو عمل إبنه الذي صار إنساناً. فيسوع المسيح وحده قد استطاع أن يجد لنفسه وباسمنا جميعاً الموقف الحقيقي الذي نقفه أمام الله، وذلك لأنه الإبن الذي صار إنساناً، لأنه الإنسان الذي لم يعرف الخطيئة. وهذا الموقف هو موقف البار المتألم الذي يسلم نفسه إلى الآب على الصليب، وينال منه في صباح الفصح بشريّته الممجدة كجزاء لتقدمته الداخلية. والطريقة الوحيدة التي به نقدر أن نكون أبراراً أمام الله، هي أن نجد نفوسنا مشاركين بالإيمان في موقف يسوع الداخلي هذا. حينئذ وحينئذ فقط، تنتج حياة يسوع هذه ثمارها فينا، وتظهر "عبر أعمالنا".
هذا هو ضلال الفريسيين الدراماتيكي: "جعلوا ثقتهم في نفوسهم لأنهم أبرار". جعلوا أعمالهم علّة خلاصهم. ولكنها نتيجة هذا الخلاص. إعتبروها استحقاقاً وكفالة أمام الله. ولكنها في الواقع عطيّة من الله.
هذا هو الموقف الذي يريدنا يسوع أن نرذله. إذا أردنا أن نجد حظوة لدى الله، يجب أن نكون العشّار والخاطىء والفقير الذي يعرف نفسه كما هو، ويستعد أن يتقبّل نفسه وكل خير فيه كهدية من الله. لا شك في أنّ هذا العشّار خاطىء. ولكن المسيحية ليست أولاً أخلاقية سامية. إنها تعبّر قبل كل شيء عن جوابنا إلى إله يوجّه كلامه إلينا في يسوع المسيح. المسيحية هي أولاً إيمان وتعلّق بيسوع الذي فيه وحده نقدر أن نلتقي بالله.
هذه هي التوبة التي يدعونا يسوع إليها. فالمسيحي ليس إنساناً "باراً" بل "مبرّراً"، ليس إنساناً يستحق كل نعمة بل خاطئاً أنعم عليه، عفي عنه. الموقف المسيحي كله يتلخّص في هذا الإنتقال من صيغة المعلوم (أنا أبرر نفسي) إلى صيغة المجهول (أنا مبرَّر، أي: إن الله يبرّرني). ومع ذلك يجب أن أبقى ناشطاً لأترك الله يفعل في. قد نظن بعض المرّات أنّ خطيئة الشيطان كانت في انه قال للّه: "لن أخدم ". وقال توما الأكويني: "قال الشيطان: أنا سأخدمك وهكذا أدرك السعادة بقواي الطبيعية وحدها". الحياة المسيحية هي عبور من لفظة "سأعمل" التي استعملها الشيطان (أنا الذي أعمل)، إلى جواب مريم "ليكن" (ليعمل الله فيّ ما يريد).
ويتابع يسوع كلامه بقساوة غير عادية: هذا ليس نصيحة وحسب. انه الشرط الذي لا بدّ منه لخلاصكم: العشّار تبرّر، وجد حظوة عند الله، لا الفريسي.
هذا هو التعليم الجوهري الذي أراد يسوع أن يعطينا بهذا المثل. ولكن لوقا قدّم لنا أمثولتين أخريين حين جعل المثل في سياق آخر وزاد عليه آ 14 ب.
ب- دعوة إلى الصلاة
تنظيم المقاطع في النصّ أمرٌ مهم جداً. وحين يعطي المدوّن لمقطوعات منعزلة وجدها في الجماعة الأولى، حين يعطيها مكاناً محدّداً في مجموعة، فهو غالباّ ما يزيد معنى جديداً، وإن بصورة جزئية. وهذا هو واقع النصّ الذي ندرس.
أراد يسوع بهذا المثل أن يعلمنا أننا إذا شئنا أن نخلص، يجب أن ننتقل من موقف الفعل (أريد أن أفعل) إلى موقف التقبّل (ليكن لي حسب قولك). ولهذا قدّم أمامنا على المسرح رجلين يصلّيان. إستفاد لوقا من هذا المثل، وهو الذي يشدّد كثر من سائر الإنجيليين على الصلاة، فقدّم تعليماً في هذا المعنى.
إنّ يسوع يصلّي قبل كل حدث مهمّ من أحداث حياته: إذ كان يصلّي، ظهر الله عليه خلاله عماده (3: ا 2). وقبل أن يختار الإثني عشر، قضى ليلته في الصلاة (6: 12). وبعد أن صلى في أحد الأيام على انفراد (9: 18) طرح على تلاميذه السؤال الذي حرّك جواب بطرس واعترافه. وحين شاهده أحد التلاميذ يصلي في أحد الأمكنة (11: 1)، طلب منه أن يعلّمهم الصلاة. ويصلّي يسوع أيضاً لئلا يضعف إيمان بطرس (22: 32). ومن على صليبه سيصلّي إلى الآب من أجل نفسه (23: 46) ومن أجاب صالبيه (23: 34). وحين روى لوقا خبر النزاع في جتسيماني، لم يحتفظ منه إلاّ بتعليم واحد: "إسهروا وصلّوا لئلاّ تدخلوا في تجربة" (22: 40، 46). وفي هذا اختلف عن متّى ومرقس اللذين احتفظا بتعليم عقائدي: على يسوع أن يعبر في هذه الساعة، ساعة الآلام (رج يو 20:12- 21).
ولا بدّ أن نذكر أيضاً أن الجميع في إنجيل لوقا ينشدون ويصلّون: عرف زكريا أنه سيكون له ولد، فهتف: مبارك الرب. وصنع الرب عظائم في مريم فأنشدت. وملائكة السماء سبّحوا الله. وكذا فعل سمعان الشيخ... والبرص الذين يريدون أن يشفوا والخطأة الذين يطلبون مغفرة خطاياهم.
هذا التعليم عن الصلاة يشكل خلفية الإنجيل كله، ولكنه يبرز في وقتين مهمين: في 11: 1- 13 حيث يزيد لوقا على الصلاة الربّية مقطوعتين أخريين تشدّدان على ضرورة الصلاة بإلحاح. وفي 18: 1- 14، يجمع مثلين، مثل "القاضي الظالم والأرملة المزعجة" ومثل "الفريسي والعشار".
في المثل الأول (18: 1- 8) أراد يسوع أن يفهمنا أن نتكل على الله في صلاتنا. إذا كان رجل قاس مثل هذا القاضي الظالم قد تحرّك لسبب أناني محض بتوسّلات أرملةً تعيسة، فكم بالحري الله، أبو المراحم، يسمع صراخ مختاريه. الحق أقول لكم: إنه يسرع إلى إنصافهم. ونجد التعليم عينه في مثل الصديق المزعج (11: 5- 8). قال يسوع: إنّ الله يصغي إلى صلواتنا. ويستخرج لوقا درساً من أجل قرّائه: إذن صلّوا بإلحاح، صلّوا ولا تملّوا إلى أن يستجيب الله لكم.
إذا قابلنا بهذا المثل مثل الفريسي والعشّار، نكون أمام تعليم عن الطريقة التي بها نصلّي. أجل، يقول لنا لوقا كيف نصلّي: حين تأتون إلى الله لا تستمعوا إلى نفوسكم، لا تلتفتوا إلى ذواتكم. بل كونوا واعين لفقركم وافتحوا قلوبكم على غفران الله وحبّه.
ج- الفريسي والعشّار هما نموذجان للمخلّص والهالك في الدينونة الأخيرة (آ 14 ب)
"فمن يرفع نفسه ينخفض، ومن يخفض نفسه يرتفع". إن هذه الآية (آ 14 ب) تشكل خاتمة المثل، وكل شيء يدلّ على أنها الخاتمة الثانية التي زيدت فيما بعد لتعطي المثل بُعداً آخر.
فهذه الخاتمة لا توافق كل الموافقة المعنى العام. قيل أن الخبر يصوّر التعارض بين "البار" و"المبرّر"، لا التعارض بين "المرتفع" و"المنخفض". لا يقول لنا يسوع إنّ الفريسي انخفض، بل انه لم يتبرّر. ولم يقل لنا إنّ العشّار انخفض حين أقرّ بخطاياه (وإن كان لم يقرّ بها)، أو انه ارتفع، بل انه ذهب "مبرّراً". إذا جعلنا هذه الآية خارج التضمين الذي يحدّد بداية الموضوع ونهايته (شأنه شأن المزدوجين في نقل كلام شخص آخر)، فهي تزيد على المثل أمثولة ثانية (مع العلم أن الأمثال القديمة تتضمن عادة درساً واحداً). وهذه الأمثولة نجدها في مكان آخر من التقليد: في نهاية مثل اختيار المقاعد في الوليمة (لو 14: 11). طبقها متّى مرة أولى على الفريسيين المتعجرفين (مت 23: 12)، ثم على التلاميذ الذين يتساءلون عمّن هو الأعظم في الملكوت (مت 18: 4) فجاءت مع اختلاف بسيط: "من اتضع وصار مثل هذا الطفل، فهو الأعظم في ملكوت السماوات ". إذن، كل هذا يجعلنا نظنّ أننا أمام قول معزول ربطه التقليد بالمثل. وهكذا يدلّ هذا العمل الأدبي على إحدى الإتجاهات التعليمية في الجماعة.
حين نقل الرسل تعليم يسوع أرادوا قبل كل شيء أن يكونوا أمناء لتعليمه. ولكن الوضع تبدّل، وهذا ما دفعهم إلى اكتشاف كل متضمّنات التعليم إكتشافاً أفضل. وهكذا دخل هذا الفهم الجديد في النصّ بصورة طبيعية. توجّه يسوع بالمثل إلى خصوم محدّدين، فجاءت خاتمةٌ أكثر اتساعاً تطبّق المثل على الوضع المسيحي الجديد. وبما أن عودة المسيح تأخّرت، شدّدت الكنيسة الأولى على نهاية الأزمنة والدينونة.
لا شكّ في أن هذا القول المعزول يبدو بشكل كلام مأثور ينطبق على ظروف مختلفة، أكثر منه على كرازة اسكاتولوجية. ولكن صيغة المضارع في الفعل قد تلمّح إلى زمن مقبل فتعيد الأمور كله إلى موضعها الحقيقي. وإذا عدنا إلى السياق، يبدو هذا التلميح إلى الدينونة الأخيرة واضحاً بصورة خاصة. فالشرّاح يقولون إن لوقا (وربّما التقليد السابق للوقا) ربط هذا المثل بالذي سبقه، مثل القاضي الظالم. ولكن هذا المثل ينتهي بخاتمة ثانية لا شكّ في بعدها الاسكاتولوجي: "حين يجيء ابن الإنسان هل سيجد إيماناً على الأرض" (18: 8 ب)؟ نحن هنا أمام استعادة واضحة للخطبة الكبيرة التي تسبق مجيء ابن الإنسان (17: 20- 36). حين زاد لوقا على الخبر الأوّلاني اعتباره الأخير، فقد فكّر بالمجيء العظيم ورأى في العشّار نموذج المختارين وفي الفريسي نموذج الهالكين. وهكذا جاء الإهتمام الاسكاتولوجي عينه الذي شدّد على التطبيق الجلياني على مثل المرأة التعيسة، جاء فزاد شيئاً على مثل الفريسي والعشّار، وهكذا ربط المثلين بالخطبة الجليانية التي سبقتهما. وهكذا يقدّم هذا المثل على مستوى تدوين الإنجيل الأخير، يقدّم غناه لمجموعة كبيرة تبدأ في 17: 20 وتنتهي في 18: 14.
طرح الفريسيون سؤالاً عن الزمن الذي فيه يجيء ملكوت الله. فأعطى يسوع هنا كما في مكان آخر (11: 29: جيل فاسد يطلب آية) جواباً أراده ملتبساً: ملكوت الله هو فيكم وبينكم بواسطة شخصي (17: 20- 21)
وفي الخطبة الجليانية الأولى في لوقا (17: 23- 37) توجّه يسوع بحديثه إلى تلاميذه فاستعاد مجمل المسألة مجيباً عن أسئلة ثلاثة. الأول: متى يأتي الملكوت؟ هو منذ الآن في يسوع، ومع ذلك يجب أن ننتظر أيضاً يوم انتصاره النهائي. الثاني: كيف يقوم هذا الملكوت؟ تتضمّن الدينونة وجهتين. وجهة ذاتية: سيحكم البشر بأنفسهم على أنفسهم بموقفهم العميق تجاه المسيح. سيخلص المختارون لأنّهم رفضوا أن يتكلوا على غناهم، رفضوا أن يتكلوا على ذواتهم فقبلوا أن يخسروا حياتهم من أجل يسوع. ووجهة موضوعية: إن الإبن سيختار الذين هم له. السؤال الثالث: أين تتمّ هذه الدينونة؟ سيقوم ملكوت الله في كل مكان وُجد فيه اناس عاشوا الحبّ أو البغض.
ويأتي المثلان اللذان يتبعان فيقدّمان صورتين ملموستين لهذه الخطبة. أولاً، التلاميذ الذين وجّه إليهم المثل الأول. قال يسوع: كما أنّ الأرملة وجدت أذناً صاغية لدى القاضي، فأنتم المختارون سيسمع لكم الدّيان الحقيقي. فلا تخافوا. ولكن حين يعود ابن الإنسان في مجيئه الثاني، هل سيجد اناساً مثلهم، هل سيجد إيماناً على الأرض؟ ثانياً، الفريسيون في كل زمن. يستعيد يسوع كلامه: كيف يقوم هذا الملكوت؟ إذا أردت أن ترتفع، فضع ثقتك في الله لا في نفسك. وكل مرّة نتشبّه بالعشّار يأتي ملكوت الله ويكون ابن الإنسان بيننا ودنينا.
خاتمة
ندرك في نهاية هذه الدراسة إدراكاً أفضل، كيف حاولت الجماعة الأولى أن تجيب على أسئلة المسيحيين فدُفعت إلى التعمّق في تعليم يسوع وتطبيقه على الوضع الجديد. دعانا يسوع إلى الإنتقال من موقف الذي يمنّن الله لأنه عمل عملاً صالحاً إلى موقف الذي يتقبّل كل شيء كهديّة من الله. دعانا إلى أن نضع ثقتنا في الله لا في ذواتنا، إلى أن نترك الله يعمل فينا.
شدّدت الجماعة على هذا التعليم فقالت: على هذا ستكون دينونتنا. ومنذ الآن، حين يكون هذا الموقف موقفنا، يصبح ملكوت الله (أي: يسوع) في وسطنا وبيننا.
وبما أن الصلاة تكشف موقفنا الروحي العميق، استفاد لوقا من المثل ليقول لنا كيف يجب أن نصلّي: لا نستند إلى ذواتنا، إلى أعمالنا، ولكن نخرج من ذواتنا على مثال المسيح على الصليب فنسّلم ذواتنا كلها بين يديّ الآب

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM