الفصل الثاني والأربعون: غريب مدعوّ إلى الخلاص

الفصل الثاني والأربعون
غريب مدعوّ إلى الخلاص
17: 12- 19

أ- الإطار العام: لاهوت لوقا
إتبع لوقا أسلوباً أدبياً فوزعّ مجموعة 9: 51- 19: 27 بعدد من الردّات تعود دوماً فتعيد انتباهنا إلى ما هو جوهري. وهناك ردّتان نجدهما في هذه المقطوعة التي ندرس الآن. الأولى ظاهرة للعين بحيث تشكّل عنواناً لهذا القسم: الصعود إلى أورشليم (رج 9: 51، 53، 57؛ 10: 1؛ 13: 22، 33؛ 17: 11). هل نحن، كما يظنّ البعض، أمام إشارة جغرافية؟ ولكن تكرارها يجعلنا نشكّ ونرتاب. وحين نقرأ في 18: 31، ساعة يستعيد لوقا سلسلة أخبار مرقس التي تركها، نرى أننا لم نترك مكاننا. قال يسوع: "ها نحن صاعدون إلى أورشليم". وهذا ما يدفعنا إلى القول أننا أمام إشارة لاهوتية. كل هذه المجموعة قد وُضعت في إطار مسيرة يسوع إلى موته وتمجيده، وفي إطار خلاص الذين يتبعونه.
والردة الثانية هي ذكر السامرة، وهي لا تلفت انتباهنا. ولكننا نجدها في هذا النصّ، ثم في 9: 52 (دخلوا قرية سامرية) و10: 1 (كل مدينة أو موضع عزم أن يذهب إليه). وينتهي ف 10 بمثل السامرقي الصالح. ثم نلاحظ أنّ لوقا ويوحنا يتكلّمان وحدهما بين كتّاب العهد الجديد بمحبّه عن السامريين. نحن هنا كما في "الصعود إلى اْورشليم" أمام إشارة لاهوتية لا جغرافية. إن لوقا يتبنّى اهتمامات المسيحيين الهلينيين (يتكلّمون اليونانية) بحمل البشارة الى المسكونة كلها. هذا ما نجده في سفر الأعمال. وإنّ موقف يسوع تجاه السامريين يسمح للهلينيين بأن يدافعوا عن حملهم البشارة بصورة مباشرة إلى الوثنيين.
ومهما يكن من أمر، من الواضح في سفر الأعمال أنّ الكرازة في السامرة هي المرحلة الأولى بعد الخروج من العالم اليهودي. إنها تلعب دور انتقال: ليس السامريون وثنيين، ولكنهم لم يعودوا يهوداً. ليسوا بيهود حسب المعنى الديني للكلمة، ولكنّهم انشقّوا عن العالم اليهودي. وفي منظار لوقا، حمل قبولهم الخلاص بيسوع أملاً إلى اللايهود، وإلى الوثنيين ودعوة الى الخلاص. إذن ليس بمستحيل أن يرمز السامريون، بشكل من الأشكال، إلى الوثنيين في نظر الهلينيين. وهذا ما يعلنه لوقا بعبارة واضحة في النصّ الذي ندرس.
ب- السياق المباشر
جعل لوقا خبر شفاء البرص العشرة بين سؤال طرحه الرسك عن الإيمان، واَخر طرحه الفريسيون عن مجيء ملكوت الله. شدّد يسوع من جهة على قدرة الإيمان الذي ينال ما يشاء من الله وعلى ضرورة الخدمة المتواضعة: ما يحصله لنا الإيمان هو نعمة لا عنوان فخر. وقال يسوع في جوابه إلى الفريسيّين: "ملكوت الله هو بينكم". فحيث يكون شخص يسوع وحيث يقدر أن يمنح الخلاص بفضل الإيمان، هناك يوجد ملكوت الله منذ الآن.
ج- شفاء البرص العشرة
توقّف عشرة برص على مدخل إحدى الاترفى. لا يهتمّ لوقا لإسم القرية. لا يحقّ لهم أن يدخلوا ويختلطوا بالناس. إنّ موقفهم يوافق الشريعة المعمول بها. وسيوافق موقف يسوع أيضاً التشريع فيرسلهم إلى الكهنة: "إذهبوا إلى الكهنة وأروهم أنفسكم" (آ 14).
1- إيمان البرص (آ 13 ب)
إيمان عجيت لدى هؤلاء الرجال التعساء! تألفّت صلاتهم من ثلاث كلمات فقدّمت لنا عمق تعليم القديسة لوقا.
أولاً: يا يسوع
إذا كان الإيمان هو لقاء بين شخصين في حوار بين "أنا" و"أنت"، فحوارهم كامل هو: يسوع، نحن. صار ضمير المفرد المتكلّم (أنا) ضمير الجمع (نحن)، فدلّوا على أنهم يتشاركون في الألم نفسه والخطيئة نفسها.
هذه الطريقة بتسمية المسيح باسم "يسوع" في نداء صلاة هي قليلة جداً في العهد الجديد، لا نجدها إلاّ ثلاث مرّات في مرقس وخمس مرّات في لوقا. ما نجده عند مرقس (مرّتين في فم الشياطين، ومرّة على شفتي أعمى أريحا، مر 10: 47) نجده كله عند لوقا. ويبقى إستعمالان خاصّان بلوقا: البرص في هذه المقطوعة، ولصّ اليمين في 23: 42: "أذكرني يا يسوع متى جئت في ملكوتك". سنتوقّف قليلاً عند حدث اللصّ، لأن لوقا، على ما يبدو، قابل بينه وبين هؤلاء البرص.
هزىء اللصّ "الرديء" (لصّ الشمال) بيسوع: "أما أنت المسيح! خلّص نفسك وخلّصنا". وحين قال "خلّصنا" فكّر بخلاص مادّي صرف. أي ينزل عن الصليب ويتحرّر من آلامه. والجواب نجده في إيمان اللصّ الصالح (لصّ اليمين): "يا يسوع، أذكرني". هذا أول ارتداد أثاره صليب يسوع. وسيتجاوب يسوع مع هذا الإيمان فيمنح اللصّ الخلاص الحقيقي: "منذ اليوم تكون معي". لا يقوم الخلاص الحقيقي بأن ينزل اللصّ عن الصليب بل أن يقبل بالصليب مع يسوع. فبدل أن نبحث عن هروب خارج الشرّ البشري، يجب أن ننضمّ إلى يسوع عبر طريق الألم. هكذا يُبرز الإنجيلي الخصب الخلاصي لذبيحة المسيح: أشرك اللصّ منذ ساعة موته في مصير يسوع.
يبدو أنّ لوقا رأى مقابلة بين هذه الحالة وحالة الأبرص العاشر الذي يسير مسيرة الإيمان حتى النهاية. إنه سامري. واستعمال لفظة "يسوع" في الحالتين يلفت انتباهنا إلى وضع مشابه. ففي سياق موت يسوع (على الصليب) أو في السير نحو الصليب، نحن أمام خاطئين (في العقلية الشرقية يرمز المرض إلى الخطيئة، وبالأحرى البرص) يناديان يسوع لينالا التحرّر (من اَلامهما الأرضية)، ولكنهما يحصلان على أكثر مما طلبا وأفضل: الخلاص بالدخول في "الفردوس" أو في ملكوت الله الذي هو منذ الآن "بينكم" (17: 21).
وحصلا على هذا الخلاص حين ناديا يسوع باسمه. نحن نعرف أهمية الإممم في النظرة القديمة. يرد إسم يسوع نادراً في الأناجيل كما قلنا، ولكنه يتواتر في سفر الأعمال. وعرفت كنائسنا الشحرقية "الصلاة ليسوع". ندعوه باسمه فقط أو في عبارة طويلة مثل هذه: "أيها الربّ يسوع المسيح ابن الله إرحمني أنا الخاطئ". صلاة بسيطة يردّدها الراهب أو المؤمن طوال نهاره بل طوال حياته فترافق كلماتها تنفّسه.
ثانياً: يامعلّم
يتفرّد لوقا في العهد الجديد حين يجعل الناس يسمّون يسوع بهذا اللقب ليعلنوا قدرته. هكذا سمّاه بطرس قبل الصيد العجيب (5: 5)، وألقاه الرسل كنداء إنى النجدة وسط العاصفة (8: 24). واستعمل بطرس مرّة ثانية هذا اللقب ليتحدّث إلى الرب المتجلّي (9: 33). وقاله يوحنا بدوره ليعبّر أمام يسوع عن تعجّبه حين رأى شياطين تطرد باسمه على يد رجل غريب عن مجموعة الرسل (9: 49).
إذن، يتخذ هذا النداء "يا معلّم" على شفاء البرص معنى قوياً جداً: إنهم يرفعون دعاءهم إلى الذي هو سيّد العناصر، إلى ذلك الذي إسمه يأمر القوى الجهنّمية.
ثالثاً: إرحمنا
هذا هو نداء التعاسة نوجّهه إلى من يقدر أن يغيثنا. إنه صراخ البرص والعميان في الإنجيل: "يا يسوع ابن داود إرحمنا" (مت 9: 27؛ رج لو 18: 38- 39). وهذا الصراخ يتردّد بدون انقطاع في مزامير التوسّل (مز 31: 10؛ 51: 3).
بهذا الصراخ ننادي الله وننادي ما فيه لا يخيبنا: رحمته، حنانه، نعمته. كلمتان يونانيّتان تقابلان "حنن" و"حسد" في العبرية، وهما تعيداننا إلى التحديد الذي أعطاه الله لموسى عن نفسه: "الله رحوم وحنان، غني بالرحمة والأمانة" (خر 34: 6). صورة الحنان هي فعلة الذي ينحني بمحبة نحو صغير أو فقير. والله هو الذي يرحم. انه يحبّ كما يحبّ العريس عروسه. هذا الحنان ينشده لوقا في نشيد المباركة ونشيد التعظيم.
إذا توجّهنا في الله إلى هذه العاطفة التي تشارك فيها أم تنحني على ابنها لتغفر له، أو عروسان يشهدان على حبّهما، فكيف يردّنا خائبين؟
لهذا سيرى يسوع أنّ إيمان هؤلاء البرص كافٍ لكي تتم المعجزة من أجلهم.
2- الشفاء (آ 14)
حسب التشريع، يعود إلى الكاهن أن يتأكد من المرض كما من الشفاء في حال أصاب الإنسان داء البرص. من الواضح هنا أن هؤلاء البرص قد ذهبوا إلى الكاهن الذي تعرّف إلى مرضهم. فذهاب آخر إلى الكاهن لا معنى له، إلاّ إذا وجب عليه أن يتاكّد من شفائهم. ولهذا جاء أمر يسوع "إذهبوا إلى الكهنة وأروه أنفسكم" كأنه وعد بالشفاء.
فبدل أن يشفيهم أولاً ثم يرسلهم يتأكدودن من شفائهم (رج 5: 14)، يبدو أن يسوع أراد أن يمتحن إيمانهم. وهذه المحنة قريبة من تلك التي فرضها اليشاع على نعمان السوري (2 مل 5). لم يتحرّك النبي من مكانه بل أرسل من يقول لنعمان: "إذهب واغتسل سبع مرّات في الأردن" (آ 10). كاد نعمان يضعف في إيمانه ويمرّ بقرب المعجزة دون أن يستفيد منها.
أمّا البرص فآمنوا حالاً بكلام يسوع. نحسّ أن لوقا يهتمّ هنا بإرشادنا: حين نتمّ كلمة يسوع نحصل على ما طلبنا: "طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" (11: 28). إن لوقا يكشف لنا هنا كما في موضع آخر عن "الإلتزام الشخصي".
أمّا المعجزة بحدّ ذاتها، فلم يمكن أن يرويها راوٍ بطرايقة أكثر إيجازاً: "وبينما هم ذاهبون طهروا". نتأمّل عمل يسوع الخفي في معجزاته. إنه يختلف عن "صانعي العجائب" في العالم اليوناني أو الأوساط الرابانية فيما بعد. إنهم يكدّسون التفاصيل الغريبة بل المضحكة. أما يسوع فيجترح المعجزات التي طلبت منه بإلحاح بصمت وخفاء. وهذا ما يؤكّد لنا أننا أمام واقع تاريخي: لا شيء يُقال من أجل ممالقة صانع العجائب!
ونلاحظ من الوجهة الأدبية أنّ لوقا يكتفي بأن يشير إلى الأعجوبة بصورة عابرة. والسبب: لأنه يريدنا أن نبحث عن هدف خبره في وجهة أخرى. وهذا ما نكتشفه في ردّة الفعل التي حرّكها هذا الشفاء.
د- خلاص من أجل غريب (آ 15- 19)
هذا هو فنّ لوقا بأن يجعلنا ننتظر لنتعرّف إلى هذا الأبرص الذي انفرد عن رفاقه. قبل أن يقول لنا من هو هذا الأبرص يجعلنا نتعجّب من إيمانه. ولهذا لن نكون إلاّ موضوعيين حتى ولو كنّا لا نحبّ السامريين.
وانطلاقاً من موقف الرجل المصوَّر هنا، ومن كلمات يسوع فيه، سيسهل علينا أن نعرف من كان يسوع بالنسبة إلى هذا السامري. ولكن لوقا يقول لنا أيضاً من كان هذا السامري في نظر يسوع، أو بالأحرى إلى ما كان يرمز. وهذا الأمر ستكون له أهميته لنفهم الهدف الذي يوصلنا إليه الخبر: "إيمانك خلّصك".
1- من هو يسوع بالنسبة إلى السامري أو إيمان السامري
قبل أن نفصل مضمون إيمان السامري يجب أن نقدم ملاحظة هامة. يحصل لنا أن نقوم بأعمال لا نفهم كل بعدها إلاّ فيما بعد. مثلاً، الخطيبان اللذان يقولان "نعم" يوم زواجهما لا يعرفان بعد كل الغِنى الذي يتضمّن هذا "النعم". فبعد أن يعيشا حياة طويلة عبر الأفراح والآلام المشتركة يفهمان. فإذا أرادا في نهاية حياتهما أن يتذكّرا "نعم" بدايتها، فهل يكتفيان في ذلك الوقت بأن يعبّرا عمّا أحسّا به في يوم تبادل النعم؟ لا شكّ في انهما سيضعان في هذه الساعة الأولى كل ما كشفته لهما حياة بشرية كاملة.
وأمام المعطيات التي بين أيدي الإنجيليين، كان عليهم أن يختاروا ما يدوّنونه في كتابهم: جاء هذا السامري يشكر يسوع، وفي فعلته ما فيها من نبل. من جاء يشكر؟ جاء أقلّه إلى "نبي" بل إلى "النبي" (مع ال التعريف) أي المسيح المنتظر. ومهما يكن من أمر، محض ثقته لهذا الإنسان وحين عرف بعد قيامة يسوع وكرازة الرسل أنّ هذا الإنسان هو "ابن الله"، فهم ان فعل إيمانه في ذاك الوقت كان أغنى بكئير مما ظنّه. إذن، نحاول هنا أن نفهم ما يقول لنا لوقا عن إيمان السامري، وإن ألبسه عواطف لم يحسّ بها إحساساً واعياً ساعة شفاه يسوع.
أولاً: ان يسوع ينتمي إلى العالم الإلهي
لا نجسر أن نكتب: يسوع هو الله. ولكن لا بدّ أن نفعل. وهناك عبارتان تدعواننا إلى هذا الموقف: الأولى: إرتمى على وجهه على قدمي يسوع، إرتمى على الأرض. إن الإرتماء على الأرض هو علامة احترام عميق. فإذا وضعنا 5: 12 جانباً (نحن أمام أبرص) فهذا لا يُصنع في العهد الجديد إلاّ أمام الله. مثلاً مت 26: 39؛ 1 كور 14: 25؛ رؤ 7: 11؛ 11: 16.
العبارة الثانية: "وهو يشكره". يرد هذا الفعل 40 مرّة تقريباً في العهد الجديد ومفعوله دائماً الله (ما عدا مثلين دنيويين في روم و1 كور). يعبّر النصّ عن المفعول (نشكر الله) أو يتضمّنه كما في خبر العشاء السرّي وتكثير الأرغفة (شكر). نحن هنا أمام عمل ليتورجي، أي الافخارستيا، وهدفه لا يكون إلاّ الله. وهنا يوجّه الأبرص هذا العمل الليتورجي إلى يسوع.
ويقرّ الشرّاح جميعهم بالرّنة الليتورجية في هذه العبارة الأخرى: "وهو يمجّد الله". ولكن يبدو أن لوقا أراد أن يشير إلى أكثر من ذلك.
ثانياً: يسوع هو الهيكل الحقيقي الذي فيه نمجّد الله
يظنّ بعضنا أنّ البرص التسعة رجعوا إلى بيوتهم دون أن يمجّدوا الله. هذا ما لا يقوله لوقا. ولكن نستطيع أن نقول بشكل معقول إنهم تابعوا طريقهم حتى هيكل أورشليم ليروا نفوسهم للكاهن ويمجّدوا الله.
أمّا السامري فأحسّ أنّ الطاعة لأمر يسوع تتضمّن أكثر من حفظ مادّي لكلماته: إن أراد أن يمجّد الله وجب عليه لا أن يتابع طريقه إلى أورشليم، بل أن يعود أدراجه إلى يسوع. ووافقه يسوع على فعله: "أما كان فيهم من يرجع ليمجّد الله"؟ لقد أراد لوقا، ولا شك، أن يشدّد على هذه الفكرة: منذ الآن، المكان الوحيد الذي فيه نمجّد الله بصورة مقبولة هو قرب يسوع.
وإن لم يدعُنا أي تقارب أدبي، إلاّ أننا نشير إلى مشهد اَخر حصل في السامرة عند بئر يعقوب حيث كان يسوع في حوار مع السامرية (4: 20- 26: العابدون لله).
ثالثاً: يسوع "كاهن"
"إذهبوا إلى الكهنة وأروهم". ثم أعلن يسوع أن الذي لم يذهب، بل عاد إلى يسوع، هو الذي فهم. هل يريد لوقا أن يشير إلى أنّ الكاهن الحقيقي الواحد الذي إليه نذهب بعد الآن هو يسوع؟
رأى الشرّاح أن لوقا أراد أن ينهي إنجيله في رؤية يسوع، الكاهن الأعظم، الذي يبارك تلاميذه: "خرج يسوع مع رسله إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم. وبينما هو يباركهم، إنفصل عنهم ورُفع إلى السماء" (24: 50- 51).
إن لفظة "بارك" أحداً وهي المعروفة لدى المسيحيين بحيث لم يعودوا يعيرون انتباههم لها، لا تعود إلاّ هنا في كل العهد الجديد. ولا نجد في سائر الأمكنة إلاّ: بارك الله. والحال أن نصّي العهد القديم الوحيدين اللذين يستعملان كلمة "بارك" في المعنى عينه، يرتبطان بالكهنوت. الأول: لا 9: 22- 24 (تكريس الكاهن الأعظم). والثاني خاصة: سي 50: 20 (يصور سمعان الكاهن الأعظم وهو يبارك الشعب في يوم كيبور، التكفير العظيم).
فحين يتحدّث لوقا عن هذه المباركة في يوم الصعود، فهو يلمح إلى كهنوت المسيح. إنه يصوّر بمواد العهد القديم وأشكال التقليد البيبلي القديم، آخر ظهور للمسيح بشكل رؤية: المسيح يبارك أخصاءه كما يفعل الكاهن في نهاية الليتورجيا.
في هذا الإفتراض، قد نجد هنا تلميحاص آخر إلى هذا الموضوع في لوقا.
لقد عرف لوقا بفضل ما حمله إليه التفكير اللاهوتي في جماعته، وبفضل ما اكتشفه بنفسه من يسوع، عرف أن يكتشف في إيمان الأبرص الذي شفي كل ما يتضمّنه من غِنى. ولكننا لم نصل بعد إلى المعنى الأساسي: فالهدف الأساسي لخبره يرتبط في النهاية بما فكر يسوع بهذا السامري.
2- من هو السامري بالنسبة إلى يسوع، وإلى مَ يرمز
يبدو هنا أيضاً أنه يجب أن نميّز بين فكر يسوع ساعة حصل هذا الحدث والتوضيح الذي قدّمه الرسل عامة ولوقا بصورة خاصة.
"كان سامرياً". حين راَه يسوع عائداً، أعلن: "أما كان فيهم من يرجع ليمجّد الله سوى هذا الغريب"؟ تظاهر يسوع أنه ينظر إلى هذا السامري، لا في وجهه الطبيعي، كأخ منشق، بل في وجهه كغريب أي "وثني". في البداية كانت المجموعة مؤلّفة من عشرة برص يهود وسامريين. بالنسبة إلى يسوع (أو لوقا) كانت هناك مجموعتان تسعة يهود ووثني واحد. والغريب وحده (أي الوثني) رأى في يسوع مرسل الله. نكتشف هنا الإهتمام المسكوني لدى لوقا. صار هذا الرجل في نظره رمزاً إلى الوثنيين الذين يدخلون قبل (13: 28- 29) اليهود إلى ملكوت الله لأنه تعّرفوا إليه. أعلن بولس لليهود في رومة: "فاعلموا إذن أن الله أرسل خلاصه إلى الوثنيين. وهم سوف يستمعون" (أع 28: 28).
فالوجهة الدفاعية والهجومية (التي يتوسّع فيها متّى في أمثال عديدة) ليست غائبة من هذا النص. ولكن لوقا قد أراد أن يشدّد بالأحرى على الوجهة الإيجابية: الرسالة الى الوثنيين (كما رأى الهلينيين ومعلّمه بولس يمارسونها) هي جزء لا يتجزّأ من رسالة يسوع. ولكن يسوع أعلن عنها ودشَّنها. فيبقى على الكنيسة أن تكمّلها. وسيقول يسوع بعد قيامته ملخّصاً رسالته كما قرأها في الكتب المقدّسة: "هذا ما كتب، وهو أن الصبح يتألم ويقوم من بين الأموات في اليوم الثالث، وتُعلن باسمه بشارة التوبة لغفران الخطايا إلى جميع الشعوب ابتداء من أورشليم" (24: 46- 47). أتمّ يسوع بنفسه القسم الأولى من رسالته. وسيتمّ الثانية بواسطة كنيسته. وهذا ما سيرويه لنا لوقا في سفر الأعمال.
لقد أعلن يسوع هذه الرسالة. هنا نتذكر أهمية خطبة يسوع في مجمع الناصرة كما صوّرها لوقا: إنها خطبة تدشينية تقابل عظة يسوع على الجبل في إنجيل متّى (لو 4: 18-27). وهذه الخطبة تنتهي بجملة سوف تثير غضب السامعين: "كان في إسرائيل كثير من البرص في زمن النبي اليشاع، فما طهر أحد منهم إلاّ نعمان السوري" (4: 27).
إن هذه الرسالة التي أعلنها يسوع بهذا الشكل، سيصوّرها لنا لوقا هنا وسيقول لنا كيف يدشّنها يسوع. نلاحظ تشابهات هذا الخبر مع خبر شفاء نعمان. والتقارب مع خطبة الناصرة (نعمان السوري) يجعل الامر أكيداً.
إذا كان لوقا بيّن لنا بهذه الفعلة الرمزية بلوغ الوثنيين إلى الخلاص بواسطة يسوع، يبقى له أن يقول لنا كيف يتحقّق هذا الخلاص. وهكذا نصل إلى "هدف" الخبر.
3- الخلاص بالايمان
"قم واذهب، إيمانك خلّصك" (اَ 19). لقذ أراد لوقا أن يوصلنا إلى هنا، إلى الإيمان الذي يمنح الخلاص. لنتوقّف عند الكلمات قبل أن نستخرج التعليم الذي يريد أن يوصله الإنجيلي إلينا.
أولاً: قم واذهب
لفظتان يحبّهما لوقا حبّاً خاصاً. وهذا التواز يدعونا إلى أن لا نضغط على المعنى لنستخرج منه أكثر مما يحمل، بل أن نبحث عن المناخ الذي تعطيه هاتان اللفظتان لمؤلّف لوقا كله.
* " قم". يتحمّل فعل "اناستامي" معاني عديدة، من المعنى البسيط الذي يمكن أن نهمله في الترجمة (إذهب وافعل ذلك. أو: إفعل ذلك) إلى المعنى القوي جداً الذي يدلّ على القيامة من بين الأموات. ويعطيه السياق بعض المرّات معنى إرشادياً. مثلاً، في النزاع، قال يسوع للرسل النائمين والذين يتعرّضون للدخول "في تجربة": "قوموا، صلّوا". فالحياة المسيحية هي جهاد (يدلّنا لوقا على يسوع في الآلام وكأنه "محارب" ينتصر على الشرّ بثباته وصبره). فإذا أردنا أن نحارب نكون واقفين.
* "إذهب". نقول عن هذا الفعل الملاحظة التي قلناها عن فعل "قام". فهناك المعنى البسيط، ولكنه يدلّ أيضاً على "الصعود" إلى أورشليم. لا نستطيع أن نفسره في هذا المعنى القوي في كل النصوص. ولكن لا شك أن تكراره عند لوقا يعطيه طابعاً ديناميكياً: نحن في مسيرة. ويحدّد لوقا الحياة المسيحية على أنها "الطريق" (طريقة حياة، مذهب) (أع 9: 2) فيكون كلامه صدى لكلام يسوع الذي سمّى نفسه "الطريق" (يو 14: 6). فالمسيحية هي طريق، ولوقا يدعونا إلى السير فيها. وهنا، يعلن يسوع الذي يسير في الطريق إلى أورشليم، يعلن لهذا الرجل: "قم وسِر في الطريق". وبما أن في كلّ مجموعة "الصعود إلى أورشليم" نترجم فعل "ذهب" ب "صعد"، نستطيع أن نعبر عن فكر لوقا فنورد كلام يسوع على الشكل التالي: "قم. إصعد (معي إلى أورشليم نحو صليبي وارتفاعي). إيمانك خلّصك".
ثانياً: إيمانك خلّصك
ألم يكن للبُرص كلّهم إيمان؟ لا شك في ذلك، وهذا ما قلناه أعلاه. ويسوع رأى إيمانهم كافياً فمنحهم المعجزة التي طلبوا. فالمعجزة تفترض الإيمان. ويسوع يرفض إن لم يجد إيماناً: ففي الناصرة "لم يصنع كثيراً من المعجزات" (كتب مر 6: 5: "تعذر عليه أن يصنع أية معجزة") بسبب قلة إيمانهم (مت 13: 58). ولكنه إن افترض الإيمان دائماً، فالمعجزة تنميه. وهذا هو الوضع هنا. فلا نستطيع أن نعيد إيمان السامري إلى ما كان عليه قبل الشفاء: حينئذٍ يكون يسوع كمن يلاحظ إن إيمان هذا الرجل كان مثل إيمان رفاقه التسعة. لقد أعطته المعجزة مناسبة البلوغ إلى إيمان أعمق سيساعده على الحصول على نتيجة أخرى. آمن البرص العشرة فنالوا الشفاء. أما السامري، فنال له إيمانُه المتنامي الخلاص في هذا الوقت. أما هذا هو الجواب الفعلي للطلبة التي عبّر عنها الرسل في 17: 5: "يا رب، زد فينا الإيمان، زدنا إيماناً"؟
هـ- خاتمة: مخلصون بالإيمان
هذا هو التعليم الرئيسي الذي يريد لوقا أن نحتفظ به بعد تأمّلنا في هذا الخبر. نحن مخلصون بالإيمان، مهما كان أصلنا، سواء كنا يهوداً أم وثنيين.
يصعب علينا، نحن المسيحيين، أن نتصوّر الجديد العملي الذي حمله مثل هذا القول. لا شكّ في أن الله ما زال يقول منذ ابراهيم: "تتبارك بك عشائر الأرض" (تك 12: 3). ولكن إن عاشه بعض "مساكين" الله، الا ان اللاهوتيين اليهود (الفريسيين) قد نسوه. إهتمّوا بممارسة الشريعة التي أعطاهم الله إياها ممارسة حرفية، فظنّوا أن هذه الممارسة الدقيقة والمؤلمة بعض المرّات تؤمّن لهم الخلاص. وجدوا "البرّ" كنتيجة للمجهود البشري. ولكن هذا يتعارض كل المعارضة مع فكرالمسيح: "كل شيءنعمة". نحن لانخلص لأننا عملنا شيئاً، بل لأننا فتحنا قلوبنا فعمل الله فيها. هناك "الإيمان" لا "العمل". هناك الإستسلام الكامل إلى الله الذي يخلّصنا.
ما يبدو لنا اليوم واضحاً (وإن لم يكن واضحاً. كم نتحدّث عن استحقاقاتنا!) لم يصبح كذلك إلاّ بعد تفكير عميق وحروب عقائدية طويلة. وهذا ما يشهد عليه أعح 1- 15. فمجمع أورشليم (إنعقد بعد موت المسيح بعشرين سنة تقريباً) شكّل نهاية هذا المجهود الفكري. أعلن بطرس: "نحن نؤمن" (نحن المسيحيين الاَتين من العالم اليهودي) أننا نخلص بنعمة الرب يسوع كما هم (المسيحيون الآتون من العالم الوثني والذين لا يمارسون شريعة موسى) يخلصون... فالله طهّر قلوبهم بالإيمان (أع 25: 11- 9).
وبجانب هذه الوجهة التعليمية التي يرافقها هدف هجومي على اليهود الذين لم يقبلوا الخلاص فرأوا الوثنيين يسبقونهم إلى الملكوت، بجانب هذه الوجهة يشير لوقا إلى همّه الإرشادي في نقطتين. الأولى: يدعونا إلى السير في الطريق، نحن أيضاً، مع يسوع، نحو الصليب والمجد. "ها نحن صاعدون ". هذا ما قاله يسوع (18: 31) فضمّ بصورة واضحة تلاميذه في مسيرته نحو الاَلام. فنحن ننال الخلاص من يسوع المصلوب، شأننا شأن اللصّ الصالح (لصّ اليمين)، شرط أن نحمل معه صليبنا في الإيمان.
والنقطة الثانية. يعلّمنا يسوع هنا أنه لا يكفي أن نقبل الخلاص. علينا أن نشكر الله. علينا أن نمجّد الله من أجل هذا الخلاص. تشكّى يسوع هنا لأنه لم يرجع إلاّ واحد من العشرة ليمجّد الله. ومع ذلك، أما يجب أن نعتبر مديح الله الهدف الأخير للحياة المسيحية. وهذا النشاط الذي سيرافقنا في الأبدية نبدأه منذ الزمن الحاضر، لأن الخلاص الذي بدأ اليوم يتمّ فينا، يدعونا إلى رفع آيات الشكر. وإن لوقا يلحّ على كل الذين خلصوا بالإيمان أن يمجّدوا الربّ فينضمّوا فرحين إلى زكريا الذي أنشد مجيء المسيح بيننا فقال: "تبارك الرب الذي افتقد شعبه وأقام لنا قوّة خلاص... لكي "نخدمه " في القداسة والبرّ كل أيام حياتنا" (1: 67، 75).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM