الفصل الحادي والأربعون: إيمان الرسل، فاعلية ومجانية

الفصل الحادي والأربعون
إيمان الرسل، فاعلية ومجانية
17: 5 -10

يقدّم لوقا آيات هذا المقطع الست كأنها جواب الرب لرسله الذين يسألونه أن يزيد ايمانهم. وفي الواقع، يتضمّن هذا الجواب من جهة قولاً مجازياً (آ 6) نجده في اشكال وقرائن متنوعة عند متّى ومرقس وبولس. ومن جهة أخرى مثلاً خاصاً بلوقا (آ 7- 10). ويكفينا تفحّص سريع للنصّ لنستنتج أن القول والمثل استقلا في الأصل الواحد عن الآخر.
ندرس أولاً هذه العناصر على مستوى لوقا في الوضع وفي الشكل اللذين نجدها فيهما. ثم نعود إلى المعنى الذي كان لها في التقليد السابق.
أ- نصّ لوقا
إذا أردنا أن ندرك فكر لوقا في هذا المقطع ندرس القرائن ثم نعود إلى عناصر البناء
1- القرائن
يجعل لوقا هذه المقطوعة خلال صعود يسوع إلى أورشليم (9: 51- 19: 27)، وبالتحديد في نهاية الجزء الثاني من السفر (13: 22- 17: 10) الذي يجمع من التعاليم اكثر مما يجمع من الأحداث.
نميّز في هذا الصعود ثلاثة اجزاء. الأول، 9: 51- 13: 21. الثاني، 13: 12- 17: 10، الثالث، 17: 11- 19: 27. ونلاحظ أن كل جزء ينتهي بمثل: 13: 15- 21(مثل الوليمة)؛ 17: 7- 10 (التواضع في الخدمة)؛ 19: 11- 27 (مثل الدنانير الذهبية أو المنا).
بعد أن قدّم يسوع لتلاميذه فكرته عن المال (16: 1- 13)، توجّه إلى الفريسيين ليحدّد موقعه بالنسبة إلى الشريعة والأنبياء (16: 14- 31). ثم عاد إلى التلاميذ ليحذّرهم من الشكوك ويدعوهم إلى المغفرة الأخوية (17: 1- 2، 3- 4).
أن يتوجّه الآن إلى الرسل بعد أن كلّم محيطاً أوسع، يدلّ على انتقال إلى موضوع جوهري. كلنا يعلم الأهمية التي يعلقها لوقا على الرسل: إن التعليم المحفوظ لهم يشرف على الرسالة كلها. مثل هذا الدرس يجد مكانه في نهاية أحد اجزاء هذا السفر، وقد رآه لوقا موجّهاً كله نحو كنيسة المستقبل.
2- طلب الرسل (آ 5)
دوّن الإزائيون غالباً مقدمات مقطوعاتهم ليربطوا عناصر متعددة تلقوها من التقليد، وليحددوا موقع هذه العناصر. هذا هو وضع طلب الرسل المدوّن بأسلوب لوقاوي. مثلاً، ترد كلمة "ابوستولوس" (رسول) مرة واحدة عند كل من متّى ومرقس ويوحنا، وست مرات في لوقا، و 28 مرة في أعمال الرسل. ويتميز لوقا بتسمية يسوع "الرب " (هو كيريوس، أي مع ال التعريف).
إن آ 5 مليئة بالمعاني، وهي تقدّم عدة سمات خاصة بفكر لوقا. إنه يجعل الرسل يقدمون الطلب. هو لا يعود يتحدث عن التلاميذ كما في آ 1، لأننا أمام موضوع الإيمان. فالرسل في نظره هم الذين آمنوا بالفصح والقيامة فصارت رسالتهم دعوة لليهود والأمم إلى الإيمان "حتى اقاصي الأرض" (24: 26- 49؛ أع 1: 8؛ 15: 7؛ 20: 21).
توجّه الرسل إلى "الرب". ينفرد لوقا عن متّى ومرقس فيعطي هذا اللقب ليسوع بطريقة عادية خلال حياته على الأرض. وهو يفعل ذلك طوعاً ليدلّ على أمر هام. فإن اعطاه هنا هذا اللقب المجيد، فلأن الإيمان في نظره يتوجّه بصورة سامية إلى "الرب " الإله الذي اوحي لنا في الفصح (أع 5: 14؛ 9: 42؛ 11: 17؛ 14: 23؛ 16: 31؛ 18: 8؛ 20: 21).
إن السمة الأصيلة في آ5 تكمن في أن الرسل طلبوا من يسوع أن يزيد ايمانهم. قال الرسل: هبنا، زدنا إيماناً. يرى لوقا أن الرسل يتحلّون بالإيمان، ولكنهم لا يستخرجون كل النتائج التابعة لهذا الإيمان. قال لهم يسوع في 8: 25: "أين إيمانكم"؟
إن هذه الصلاة (زد إيماننا) لا تجد ما يقابلها في الأناجيل الا عند مر 9: 24 مع صرخة والد الإبن الممسوس: "أعن قلة إيماني". "عندي إيمان. ساعدني حتى يزيد". "ساعدني أنا غير المؤمن أو رغم عدم إيماني".
وفي ما تبقّى من مؤلّف لوقا، نرى أن الله وحده "يفتح للوثنيين باب الإيمان" (أع 14: 27)، ويطهّر القلوب بالإيمان (أع 15: 9). وهو يعطي التوبة لإسرائيل كما للأمم الوثنية (أع 5: 31؛ 11: 18). والله هو الذي سأله يسوع لكي لا يضعف إيمان بطرس (22: 32). بالإضافة إلى ذلك لا نجد نصاً في الإناجيل يقوله إن التلاميذ صلّوا إلى يسوع خلال حياته على الأرض. أما طلب الرسل الذي نقرأه هنا فيتحدّد موقعه بعد الفصح وساعة كتب لوقا إنجيله.
ولكن أي إيمان نعني؟ إنطلق عدد من الشرّاح من جواب يسوع، وتأثروا بالسياق الذي فيه وضع متّى ومرقس طلب الرسل، ففكروا بإيمان من نوع خاص، إيمان مواهبي ومتخصّص في صنع العجائب. ولكن لوقا نفسه لا يتكلم هنا على العجائب. وخلال مؤلَّفه كله لا نجد إلا إيماناً واحداً يقوم بقبول كلمة الإنجيل (8: 12- 13؛ 22: 67؛ أع 4: 4؛ 8: 12؛ 11: 21؛ 13: 12، 48؛ 14: 1؛ 15: 7؛ 17: 12-34؛ 18: 8 ب) بالإلتزام تجاه شخص يسوع (7: 5؛ 12: 46؛ 18: 8؛ 22: 32؛ أع5 : 14؛ 9: 42؛ 10: 43؛ 11: 17؛ 13: 39؛ 14: 23؛ 16: 31؛ 18: 18؛ 19: 4؛ 20: 21). إذن، لا بدّ من المحافظة على هذا المعنى في هذا المكان. ففي التعليم المسيحي الذي يقدّمه لوقا في إطار سفر يسوع، يبدو طلب التلاميذ درساً أساسياً: بالنسبة إلى الرسل، وبالأحرى بالنسبة إلى التلاميذ، الإيمان عطية من الرب يسوع يطلبها الجميع بحرارة.
3- جواب يسوع: "لو كان لكم إيمان" (آ 6)
هذه الكلمات الأربع هي أيضاً جزء من المقدّمة التي دوّنها لوقا. وما تبقّى يعود إلى التقليد وفيه يقدّم لوقا عناصر يشارك فيها متّى ومرقس كما يتفرّد بسمات خاصة به.
يعتبر يسوع أن الرسل يؤمنون. ودون أن يجيب بطريقة دقيقة إلى طلبهم، فهو يعلن قوة الإيمان: مهما كان إيمان الإنسان قليلاً فهو يستطيع بكلمة واحدة أن يقلع جمّيزة ويغرسها في البحر (او توتة. هذا ما تعنيه "سيكامينوس. هكذا ترجمت السبعينية "شكمه" العبرية. نشير إلى ان قلع الجمّيزة أصعب من قلع التوتة). صورة غريبة في عقليتنا العلمية الحديثة. ولكنها لا تدهش من اعتاد على أقوال فيها ما فيها من المفارقة، من تمثل حبة الخردل على أنها "أصغر كل الحبوب" (مر 4: 31= مت 13: 32). والجمّيزة هي نموذج الشجرة التي لا يمكن قلعها.
لسنا هنا أمام وسيلة تتيح لنا أن نصنع عجائب: فيسوع لم ينقل يوماً الجمّيزة إلى البحر، وهو لم يصنع معجزات إلا من أجل الخلاص، لا ليقدّم أعجوبة باطلة لا فائدة منها. إن كلمته تلجأ هنا إلى صورة من صور المفارقة: لا شيء يستحيل على الإيمان. وحين يورد لوقا هذا القولَ الموجّه إلى الرسل، فهو يفكر ولا شكّ بفاعلية إيمانهم الذي ملأ العالم بكرازة الإنجيل.
4- المثل: لا حقَّ للخادم (او العبد) (آ 7- 10)
هل يستطيع الرسل أن ينسبوا إلى نفوسهم استحقاق فاعليّة إيمانهم هذا؟ سبق للوقا فبيّن انهم ينتظرون زيادة إيمانهم من يسوع. وجاء المثلَ كامتداد لدرس عن اولوية النعمة.
يتركّز المثل كله على العبد (دولوس). الأجير عند لوقا هو مستيوس المذكور في 15: 17، 19. فالعبد في نظر لوقا وفي نظر قرائه، في العالم اليوناني والروماني، هو ملك صاحبه. فلا حقّ له أمام صاحبه. وحين يقوم بعمله كله، فليس له أن ينتظر شيئاً، لا اجراً ولا عرفان جميل. هذه هي ذروة المثل (آ 9).
نلاحظ أن لوقا ينفرد عن متّى ومرقس، فيستعمل كلمة "خاريس " بمعنى عرفان الجميل. يستعملها هنا وفي 6: 32، 33، 34 ("أي فضل لكم"؟). أما النصّ الموازي في متّى (5: 4 أ) فيتحدّث عن أجر وأجرة (مستوس). هذا يدلي على الأهمية التي يعلّقها لوقا على الرباطات الشخصية، لا على حق كل واحد منا.
ويتوجّه تطبيق المثل (آ 10) إلى التلاميذ. يسمّيهم لوقا عبيداً، شأنه شأن القديس بولس (أع 4: 29؛ 16: 17؛ روم 1: 1؛ غل 1: 10؛ فل 1: 6). فحين يتمّون عملهم (ما امروا به) كله، ليعتبروا نفوسهم كعبيد لا فائدة منهم.
ان كلمة "اخرايوس" تعني عادة: غير مفيد، غير فاعل، لا يعطي ثمراً. مثل هذه المعاني لا توافق المثل حيث العبد قدَّم خدمات حقيقية. لهذا لا نجد هذه الصفة في السريانية السينائية وفي نصّ مرقيون. إعتبر بعض الشرّاح "اخرايوس" أنها زائدة واقترحوا حذفها لأنها صعبة ففرضوا نفسهم على النصّ الإنجيلي ولم يحاولوا ان يفهموه. واقترح آخرون بأن يترجموها: غير أهل، مساكين. ولكن لماذ نتبع منطقنا الخاصّ ونضعف هذا القول العنيف؟ فيسوع لا يخاف المفارقة (رج 16: 17: زوال السماء والأرض؟ 18: 25: مرور الجمل في ثقب الأبرة) ولا التعارضات (رج 10: 5-6 و12: 51؛ 14: 26 و18: 20). وها هو يبين في هذا المثل أن لا حقّ للعبد على معلّمه بعد كل المجهود الذي قام به. فليقرّ الرسل هم أيضاً أنهم "غير نافعين" أمام الله: فله وحده المبادرة وهو الذي يعطي الفاعلية لرسالتهم (رج ا كور 9: 15- 18).
5- فكر لوقا
حين كتب لولا إنجيله كان الرسل قد أسسّوا الكنيسة. فحمل كلامُهم وعملهم ثماراً في كل البلدان المحيطة بالبحر المتوسط.
هذا النجاح هو ثمرة إيمانهم. إنه قوة ضعيفة وهو يشبه حبة الخردل. ولكنه بدأ يحوّل العالم. وهذا الإيمان ايقظه يسوع وحده بمجيئه وكلمته. وبعد قيامته سيكون الوحيد الذي يحركه وينميه ويزيده. هذا ما أقرّ به الرسل وأعلنوه: كل فاعلية عملهم هي منه لا من نفوسهم. قال بطرس: "لماذا تنظرون إلينا كأننا بقدرتنا او تقوانا جعلنا هذا الرجل يمشي" (أع 3: 12؛ رج 4: 7- 12)؟
الآن، لم يعد من رسل. ولوقا يقدّم هذا الدرس للذين ورثوا إيمانهم: ليقتنعوا من فاعلية إيمانهم، ليطلبوا هذا الإيمان بتواضع، وليروا في ثماره عمل الرب الإله.
إن لوقا الذي يشدّد على أن الإيمان هو نعمة، لا يلغي كل فكرة عن المجازاة. فهو يشير، شأنه شأن متّى ومرقس، إلى تلك التي وعد بها يسوع: أجر (مستوس) يعطى للمضطهدين من أجل ابن الإنسان (6: 23: إن أجركم عظيم في السماء)، للذين أحبّوا أعداءهم (6: 35). كيل ملآن مكبوس ومهزوز يُعطى للذين يعطون بسخاء (6: 37- 38). مجازاة كبرى للوكلاء الأمناء (12: 42- 44؛ 19: 17- 19). ثمار التجرد التي تقدّم المكافأة في يوم الأبرار (14: 14)، وتنيلنا اضعاف ما تركنا في هذه الدنيا، وفي الآخرة الحياة الأبدية (18: 30؛ رج 12: 33- 34). إن أمانة الوكيل الأمين هي حقيقية وستنال جزاءها، ولكنها غير موجودة من دون مبادرة الرب الذي يوقظها ويحركها ويقودها ويكملها. عندما يكون التلميذ أمام الرب، فلا يحاول أن يطالب بحقّه مثل الفريسي الذي تحدث عما يفعله لربه (18: 11- 12). عليه أن يسلّم نفسه بكليتها إلى النعمة. هذا هو بالحقيقة فعل الإيمان الذي يضعه لوقا في فم بولس (أع 13: 38- 39؛ رج فل 3: 4- 9).
ب- التقليد السابق للوقا
ونحاول الآن أن ندرك شكل ومعاني العناصر التقليدية التي جمعها لوقا وقدّمها في هذا المقطع.
1- "لو كان لكم إيمان" (آ 6)
نجد قوله يسوع هذا في عدة مقاطع من العهد الجديد وفي أوضاع وأشكاله مختلفة جدّا.
* مت 17: 20. يورده متّى بعد اخراج الشيطان من ولد يقع في النقطة. يورده جواباً على سؤال التلاميذ حوله عجزهم عن طرد الشيطان. يلتقي هذا النصّ بنصّ لوقا 17 حول الكلمات: "لو كان لكم إيمان بمقدار حبة الخردل، لقلتم لهذا الجبل". ولكن متّى يتحدث عن "نقل الجبل" لا عن قلع جميزة وزرعها في البحر.
* مر 11: 22- 23، يجعلنا مرقس هنا خلال إقامة يسوع في أورشليم، ويستنتج درساً من حدث التينة اليابسة. إن التعبير يختلف كل الإختلاف عمّا في النصّ السابق.
* مت 21: 21. نجده عند مر 11: 22- 23 بإطاره وعباراته المتنوعّة: الحقّ أقول لكم... تقولون لهذا الجبل... إنقلع وانطرح في البحر. ولكنه يختلف اختلافاً واسعاً ببدايته القصيرة.
* 1 كور 13: 2. يلمّح القديس بولس ولا شكّ إلى هذا القول: "لو كان لي الإيمان حتّى أحرك الجبال". ولكنه لا يقدّم لنا أية معطية عن قرائنه الأصلية.
من الواضح أن قول يسوع وصل إلى كتَّاب العهد الجديد عبر تقاليد مختلفة. ومن الصعب أن نعيد بناء هذه التقاليد وإبراز قيمتها النسبية. فعلى مستوى الإختيار بين الصورتين، "نقل الجبل"، "قلع الجميزة وغرسها" يختلف الشرّاح. بعضهم يعتبر أنّ الصورة الأولى هي الأقدم لأن مرقس ومتّى وبولس يشهدون لها، ولأنها تجد لها سنداً في العهد القديم (مز 46: 3؛ أش 54: 10) كما في العالم اليهودي. والآخرون يبرزون في صورة الجمّيزة أصالتها وتقاربها من بعض نصوص الرابانيّين. ومهما يكن من امر، فمختلف التقاليد تعود إلى قول على الإيمان الذي يغلب المستحيل. وفي الإطار العام للرسالة الإنجيلية، سيكون هذا الإيمان تقبلاً للتعليم عن الملكوت والتزاماً من أجل يسوع المسيح.
لا نستطيع أن نحدد الوضع الذي فيه قيل هذا القول، وقرائن العهد الجديد مختلفة. أما الصور بما فيها من مجاز ومفارقة، والإهتمام بالإيمان، يجعلاننا ننسبها إلى المعلم نفسه الذي وجهها بلا شك إلى الذين آمنوا برسالته.
2- العبد الذي لا يعطي انتاجاً (آ 7- 10)
إذا أردنا العودة إلى الشكل الأصلي للمثل، لن نجد كما في القول السابق موازاة مع متّى ومرقس. إذن، يبقى علينا أن نحصر درسنا في النقد الداخلي: آثار تدوين لوقا في لغة النصّ، تماسك البنية.
يقدّم المثل عدة عبارات تميّز اسلوب لوقا. "شمّر عن ساعديك" (باريزونيناي). نجدها ثلاث مرات عند لوقا ولا نجدها في سائر الأناجيل. وهناك عبارة "وبعد هذا"، "أكل وشرب"، "عرفان الجميل" "أمر".
وتقدم بنية النصّ سمة أخرى. نجد في أمثال يسوع بناء في ثلاثة أقسام حسب الرسمة الأصلية التالية: 1- من منكم؟؛ 2- واجد نفسه او وجد نفسه في ظرف ما؛ 3- يفعل او لا يفعل هذا الشيء.
وفي المثل الذي ندرس نجد بعد القسم الثاني (إن كان له عبد) ثلاث طلبات: 1- يقول له: أسرع واجلس للطعام (آ 7 ب)؛ 2- ولكن ألا يقول له... (آ 8)؛ 3- هل يعترف بجميل ذلك العبد... (آ 9). نحن هنا أمام موازاة تعارضية عرفها الشرق القديم. إنطلق منهـا لوقا فقدم فكرة عرفان الجميل.
من الواضح أن المثل يود أن يقنع قرّاءه من وضعهم كعبيد، مع العلم أن الوسط الفلسطيني لم يكن قاسياً تجاه العبد كالوسط اليوناني والروماني: فالشريعة تمنح العبد بعض الضمانات، فتنهي خدمته بعد ست سنوات (خر 21: 2). ولكن أفضل الشرائع لن تجد من يطبّقها. ومهما يكن من امر، فالعبد لا يملك عمله بل لا يملك نفسه. إنطلق المثل من هذا الوضع فصوَّر وضع المؤمن أمام الله. نحن نستطيع ان نقرب هذا الدرس من قول رابي انطيغون ده سوشو: "لا تكونوا كعبيد يخدمون سيدهم وهمهم ان ينالوا أجراً، بل كونوا كعبيد يخدمون سيّدهم ولا يفكرون بهذا الأمر". غير أن روح الخدمة المجانية ظل نادراً في وسط يسوع حيث هم المجازاة سيطر على التلاميذ أنفسهم (رج مت 19: 27: ماذا يكون نصيبنا؟). إن أصالة الفكرة ومفارقة العبيد غير النافعين هما إشارة إلى تجذر المثل في حياة الكنيسة.
إلى من وجّه المثل؟ إلى الخصوم، إلى الجمع، إلى التلاميذ، إلى الرسل؟ كلهم كانوا بحاجة إلى نظرة يسوع هذه. ونحن أيضاً حين نريد ان نمنّن الرب لعمل قمنا به أو حين نطلب اجراً شأننا شأن التجار.
خاتمة
عاد عنصرا هذا النصّ (أي القول والمثل) إلى يسوع الذي قد يكون تفوّه بهما في أوقات مختلفة. أراد بالقول أن يعلّم التلاميذ عن قدرة الإيمان التي تغلب المستحيل. وقدم بالمثل تعليماً إلى جماعة واسعة عن ضرورة المجانية المطلقة في خدمة الرب.
وطبع التقليد هذا الكلام بطابعه فاستعمله من أجل أهدافه. وفي النهاية، طبّقه لوقا على الرسل ليدلهم فيه على شريعة الإيمان. فالإيمان هو حياة كل تلميذ: سيرى فيه عطية من الرب فيصلي لكي تنمو فيه. وإذ يبقى متأكداً من قوة الإيمان، ينسب فاعليتها دوماً إلى الرب

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM