الفصل الأربعون: المعثرة والإصلاح الأخوي

الفصل الأربعون
المعثرة والإصلاح الأخوي
17: 1- 4

وعاد يسوع إلى تلاميذه، غير أن موضوع الحديث القصير الذي نجده هنا، ليس المال، بل كما في ف 16، طريقة عيش العلاقات الأخوية. وذلك في مجالين. في كلمة أولى يحذّرهم يسوع من الشكوك والمعثرة. من أن يقولوا أقوالاَ تجرّ الآخرين على خطاهم حتى الجحود. حينئذ الويل لهم. ثم يعلّم يسوع المسيحي كيف يكون ردّه على إساءة شخصية اقترفها ضدّه مؤمن آخر: نمارس أولاً الإصلاح الأخوي، نتجرّأ فنقول للآخر أنه أخطأ تجاهنا. فقد يعود الآخر إلى التوبة. بعد هذا أغفر، فالرب قد غفر لك مراراً.
أ- قراءة إجمالية
وتتبذل اللهجة منذ الآيات الأولى في ف 17. هي توجيهات محدّدة تعطى للرسل والتلاميذ في خطّ أخبار الفصل السابق وما فيها من مثالية. أما المناسبة، فالخبران اللذان توسّع فيهما الساعةَ يسوع: إنّ موقف الوكيل الخائن يصدمنا للوهلة الأولى. ويصدمنا صدمة أقوى موقفُ الرجل الغني الذي يعيش البزخ تجاه أخيه لعازر. ما هي ردّة فعلنا أمام هذه الشكوك التي تصل إلى الفقير، إلى الضعيف؟
إن القول حوله الشكوك والمعثرة (آ 1- 2) يضمّ عبارتين ترد الثانية وحدها في مر 9: 42. أمّا مت 18: 6- 7 فاستعادهما بشكل معاكس. العبارة الأولى تشير إلى الشكوك بشكل عام. والثانية إلى الشكوك التي تجعل "الصغار" (صغار القوم) يعثرون. ويزيد متّى: "الذين يؤمنون بي". إنّ السياق اللوقاوي يختلف للوهلة الأولى عن السياق المتاوي الذي هو "الخطبة الكنسية" (كيف تعيش الجماعة؟). في الواقع، يشير لوقا هو أيضاً إلى تحذير (آ 3) يذكّرنا بتحذير 12: 1 حيث دُعي التلاميذ أن يتنبّهوا إلى "خمير الفريسيين" وحكمهم الفاسد. في ف 12، لم يستطع الفريسيون أن يقبلوا أن يُعطى كلّ شيء مجّاناً وبوفرة. أمّا هنا، فالرجل الذي يشكّك هو الذي لا يدخل في "لعبة" وفاء الديون (رج 6: 35: أحسنوا واقرضوا غير راجين شيئاً) التي تجد ذروتها في الغفران. فالمعثرة الحقيقية في نظر لوقا، المعثرة التي تهدّد مجموعة التلاميذ، هي أن لا نترك رحمة الله تمرّ في قلوبنا.
تتحدّث آ 3- 4 عن المغفرة. وتجدان ما يوازيهما في مت 18: 15، 21- 22. في النسخة المتاوية، لا يضع يسوع أي شرط للمغفرة. أمّا نصّ لوقا فيخضعها لارتداد المخطىء. هناك فرض علينا بأن ننبّه أخانا الخاطىء. وقد قال لا 19: 17-18: "لا تبغض أحداً في قلبك، بل عاتبه عتاباً... لا تنتقم، ولا تحقد، بل أحبّ قريبك مثلما تحبّ نفسك". وقدّم متّى صورة عن مسيرة المصالحة نجد ما يشبهها في جماعة قمران.
إن نسخة لوقا دلّت على أمل كبير نؤسّسه على الخاطىء: نمهله كما أمهل الكرام التينة التي مرّت عليها ثلاث سنين ولم تثمر (13: 7-9). والإلحاح على التوبة الضرورية يبرز مهمّة المصالحة التي تتضمّن المغفرة. كما أننا لا نستطيع أن نردّ ديناً إلى شخص يرفض أن يستردّه، هكذا لا تكون المغفرة كاملة إلاّ إذا ارتدّ الآخر وطلبها. حينئذ تصبح المصالحة الحقيقية ممكنة.
قال يسوع في 12: 1: "إحذروا أنتم دوماً خمير الفريسيين". وقال في 17: 3: "إحذروا دوماً من أنفسكم". نحن هنا أمام العطاء والمغفرة. من دخل في هذا الجوّ انتبه إلى الحكم الفاسد وإلى المعثرة. ودخل في تصرّف يميّز الله الآب الذي يُنعم علينا بالأخوّة.
نعيش الغفران بين الاخوة، نؤسّس جماعة تمارس المشاركة والمغفرة. لهذا فـ "الرسل" المسؤولون عن إدخال إسرائيل وجميع البشر في عالم النعمة والرحمة، المسؤولون عن تأسيس جماعات تعيش من هذا الروح، طلبوا من الرب: "زدنا إيماناً" (آ5). هم أضعف من أن يمارسوا ويعلموا سرّ المصالحة والغفران. إنهم يحتاجون إلى إيمان كذاك الذي يقتلع الأشجار ويرميها في البحر.
ب- قراءة تفصيلية
1- تنبيه من الشكوك والمعثرة (17: 1- 13)
"قال لتلاميذه". نجد هنا التركيب اليوناني الخاص بلوقا. في آ5، سيصبح التلاميذ "الرسل". إن كلمات يسوع تتوجّه من خلال هذه التسمية المحدّدة إلى قرّاء لوقا المسيحيّين. إلينا نحن.
"لا بدّ أن تقع الشكوك". إنّ لفظة "سكندلون" تقابل في العبرية. "يقش": وقع في فخ وشرك. رج يش 23: 13؛ قض 2: 3؛ 8: 27 (هؤلاء الوثنيون يوقعونكم). أو: "كشل": عثر، زلّ، سقط. رج لا 19: 14؛ 1 صم 25: 31؛ مز 119: 165 (لا شيء به يعثرون). مع الوقت اندمجت الفكرتان فدلّتا على "سبب دمار" لشخص ما. والعثار في أقوال يسوع يُفهم انجذاباً إلى الجحود والتخلّي عن الأمانة لله ولكلمته كما أعلنها يسوع (رج 23:7: طوبى لمن لا يشكّ فيّ). ولكن تنبيه يسوع برز في عبارة عامة، لهذا لا نستطيع أن نستبعد نظرة أوسع وهي الإنجذاب إلى الخطيئة بشكل عام.
"إنما الويل". يستعمل لوقا "بلين" (رج 10: 11). هذا ما نجده في بردية 75، السينائي، الفاتيكاني، البازي. ولكننا لا نجد هذا الشكل في الاسكندراني وبعض الترجمات السريانية واللاتينية.
"خير له" رج طو 3: 6: الموت عندي أفضل من الحياة. هذا هو وضع المشكك. يتحدّث السينائي والفاتيكانن والبازي وبردية 75 عن الحجر الذي يدلّ على الأميال (اكتشف واحد في قمران. هو من البزلت) والإسكندراني عن حجر الرحى، الحجر الذي يديره الحمار. يبدو أننا بالأحرى أمام حجر الأميال. ونحن نجد حجر الرحى في مز 9: 42؛ مت 18: 6، فحاول النسّاخ التنسيق بين لوقا والإزائيين الآخرَين. يتحدّث رؤ 18: 21 عن حجر الأميال الذي رمي في البحر، فدلّ على ما سيحدث لبابل. أمّا في قض 9: 53، فلسنا أمام حجر الرحى (لماذا يوجد على السطح)، بل أمام "مدحلة" على السطح، تستعمل في الشتاء لرصّ التراب فلا تتسرّب المياه إلى الداخل.
2- كلام عن المغفرة (7: 3 ب- 4)
"إذا خطىء أخوك". قد يعني في المعنى الحرفي الأخ من الأب والأم. وفي المعنى الواسع: التلميذ. رج أع 1: 15؛ 6: 3؛ 9: 30؛ 10: 23. أما بالنسبة إلى أساس تعليم يسوع فنجده في لا 19: 17. مع العلم أنّ المغفرة لا تقف عند الاخوة والأقارب، بل تصل إلى كل إنسان على مستوى المحبة. يزيد البازي "إليك" (خطىء إليك). ويغفلها السينائي والإسكندراني والفاتيكاني. قد تكون زيدت رغبة في التنسيق مع نصوص أخرى.
"وبّخه، لمه". نحن هنا أمام تنبيه خفيف. نقول له خطأه بتهذيب. مثل هذا اللوم هو أفضل من التجريح به أمام شخص ثالث. تقول وصيّة جاد (وصيات الآباء الإثني عشر): "فيحبّ الواحد الآخر من كل قلبه. إن خطىء واحد إليك، كلّمه بسلام نابذاً سمّ البغض وغير حافظ للحقد في نفسك. فإن أقرّ بخطأه وتاب، فاغفر له". التوبة هي تبديل العقلية، تبديل الإتجاه والعودة إلى. إله العهد.
"سبع مرّات" هو عدد الكمال. هذا يعني أنه خطىء إليك أكثر من مرّة وتمادى في الخطأ. ومع ذلك، إن عاد تائباً فاغفر له. يجب أن لا يكون لغفرانك حدود. قال الإسكندراني وغيره: وعاد إليك سبع مرّات "في النهار" (تماشياً مع الشقّ الأول ف آ 4). أمّا السينائي والفاتيكاني فاغفلا في النهار وقالا فقط: "وعاد إليك سبع مرّات يقوله".
ج- تفسير النص
1- وقال يسوع لتلاميذه
يتابع لوقا خبر مسيرة يسوع إلى أورشليم، فيقدّم لنا بعض الأقوال التي لا ترتبط بالفصل السابق أو المثل السابق. هي أربعة أقوال في هذا القسم الثاني من الصعود إلى أورشليم. 17: 1- 2 أ: حول الشكّ أو حجر العثار. 17: 3 ب- 4: واجب المغفرة المسيحية. 17: 5- 6: قوة الإيمان المسيحي. 17: 7- 10: حول الخدمة المسيحية. بالإضافة إلى ذلك لا ترتبط هذه الأقوال بعضها ببعض. أقوال متنوّعة حول التلمذة. والقول الأول يشير إلى الشكوك أو حجر العثار الذي يضعه التلاميذ أمام الآخرين فيجعلهم يخطأون أو يجحدون إيمانهم.
ألّف لوقا هذه المقدّمة التي فيها يصوّر يسوع ملتفتاً إلى تلاميذه (آ 1 آ). للوهلة الأولى إن القول حول حجر العثار يرتبط بما في مر 9: 42 ومت 18: 6- 7. إن متّى يرتبط بمرقس، أمّا لوقا فلا يتطابق مع مرقس إلاّ في ثلاث عبارات "في البحر"، "حول عنقه"، "واحد من هؤلاء الصغار". وإن "الويل" في آ 1ج يشبه مت 18: 7 الذي ليس له ما يقابله في مرقس. نقرأ في النص المتاوي: "الويل للعالم من الشكوك. ومن الضروري أن تقع الشكوك. إنما الويل لمن تأتي على يده". إن التشابه بين النصّ اللوقاوي والنصّ المتاوي، يدلّ على أنّ جزءاً من لوقا يعود إلى المعين. وبما أنّ الأقوال في آ 3 ب- 4، 5، 6 تعود إلى المعين، يبدو من المعقول أن آ 1ب- 2 تعودان إلى المعين. وهذا يعني أنّ لوقا احتفظ بالترتيب الأصلي. غير أنّه تأثر بمرقس (9: 42. مقطع يقابل هذا الإهمال الصغير). لا شك في أنّه دوّن ما دوّن منطلقاً من المعين ومن مرقس في آ 1ب- 2. أمّا آ 3 أ فهي من تأليف لوقا.
إنّ الأقوال حول الشكوك تنتمي إلى عالم الشريعة. وقد رأى بولتمان في آ 2 مثلاً قديماً أخذته الكنيسة واحتفظ به لوقا بدون أن يبدّل فيه. واعتبر أنّ الجملة المرقسية "واحد من هؤلاء الصغار المؤمنين" هي شكل مسيحي لهذا المثل الذي زاد عليه متى "بي" (المؤمنين بي). أن يكون الشكل اللوقاوي المتفرّع من المعين، أقدم من مرقس، قد نقبل به. أما أن يكون أخذ بمثل قديم، فهذا أمرٌ آخر.
نبّه يسوع تلاميذه إلى أنّ الشكوك في الحياة المسيحية أمرٌ لا بدّ منه. إنّ البشر يتأثّرون الواحد بالآخر، بحيث إنّ بعض التلاميذ يخطأون بسبب خطيئة غيرهم. وأخذ تنبيهه شكل "ويل" وُجّه ضدّ الذي يكون ينبوع هدم ودمار (لا يبني). وقساوة المصير الذي ينتظر هذا الشخص هو من التعبير بحيث لا يحتاج إلى تفسير. إنه أساس التنبيه الأخير: "كونوا على حذر". لا تكونوا مثل هذا الرجل وإلاّ...
ويشير القول إلى سحر الجحود (على الآخرين) الذي يشكّل حجر عثار أمام التلاميذ الذين يُطلب منهم الصدف والثبات في الإيمان. فالتلميذ الذي دفع "أخاه" إلى العثار على مستوى الأمانة، لا يستحقّ الحياة، إنه يكدّس الخطايا على نفسه من أجل الموت. هنا نُدرك البعد الاسكاتولوجي لهذا التنبيه.
ويصوّر التلاميذ المسيحيون على أنهم "الصغار". وهي لفظة تذكّر قارىء إنجيل لوقا ب "الأطفال" في 10: 21. هم أشخاص لا عون لهم. إنهم ضعفاء على المستوى البشري.
إذا انطلقنا من السياق الحالي، لا نستطيع أن نقول من هم الأشخاص الذين تأتي الشكوك على يدهم. في أع 20: 29- 30، يلقي بولس خطبته الأخيرة على شيوخ أفسس في ميليتس، فيحذّرهم من "الذئاب الخاطفة" التي تدخل إلى القطيع، من "أناس يحاولون بأقوالهم الفاسدة أن يجتذبوا التلاميذ وراءهم". مثل هؤلاء الأشخاص هم من يذكرهم لوقا حين يورد "وبل" يسوع.
2- إذا خطىء أخوك
يتعلّق القول الثاني بواجب المغفرة، وهو ينظر إلى وضع مسيحي أخطأ في شكل من الأشكال تجاه تلميذ من التلاميذ.
عاد لوقا إلى المعين، ووجد ما يقابل نصّه في مت 18: 15، 21- 22 التي تشكّل قسماً من الخطبة الكنسيّة في الإنجيل المتاوي. يبدو أنّ لوقا حافظ على الترتيب الأصلي في آ 3 ب-4 ب. أما متّى ففصل القول الأول عن القول الثاني وأقحم بينهما 18: 16- 18 حول الإصلاح الاخوي. إن القولين في لوقا يحافظان على التوازي، وبالتالي يعكسان المعين الذي حوّله متّى.
نحن هنا أمام موضوع عزيز على قلب لوقا هو موضوع المغفرة. هناك مقاطع عديدة تتحدّث عن غفران الله للإنسان. أما هنا فنحن في اتجاه آخر هو مغفرة خطايا إقترفها إنسان ضدّ آخر، إقترفها تلميذ تجاه آخر. ما هو موقف هذا "الآخر"؟ يرى يسوع أنّه من الضروري أن نلوم المخطىء أو نوبّخه. أن ندلّه على مكامن الخطأ. فإن قَبِلَ التوبيخ أو اللوم، جاء الغفران. إن الهدف من التوبيخ هو التوبة التي يتَبعها الغفران. هنا نتذكّر الطلب الثاني في الصلاة الربية (11: 4): "إغفر لنا كما غفرنا".
وحفظ القول الثاني، فعلّم التلاميذ أن الغفران يُمنح ساعة تظهر التوبة. ولو كان ذلك "سبع" مرّات. ولو كانت أخطاء غير محدودة. وقد تكون إرادة الغفران غير مشروطة. إن سؤال بطرس في مت 18: 21 يرتبط بما في تك 4: 24: سبعاً وسبعين مرّة.
خاتمة
هذا هو معنى كلام يسوع. يحذّرنا من الشكّ، من الحجر الذي يعثر بها أخونا. فالمؤمن الصغير والضعيف قد يعثر حين يرى تصرف أحد أفراد الجماعة، فيخون المسيح وينكر إيمانه. وقد يشير بولس إلى هذه "الذئاب الخاطفة" التي تقود التلاميذ إلى الجحود. مثل هذه الظروف التي تصل بنا إلى السقوط، أمرٌ لا بدّ منه في الحياة المسيحية بسبب الشيطان (رج 22: 3، يهوذا). فالويل للتلميذ الذي يقود أخاه إلى خيانة الرب. بعد هذا، يعلّمنا يسوع كيف نتعامل مع شخص خطىء إلينا أو خطىء بشكل عام. هنا نجد الإصلاح الاخوي الذي تحدّث عنه متّى، كما نعرف أن نغفر حالما يظهر الآخر علامات التوبة. أنا خاطىء غُفِرَ لي. فإن رفضت أن أغفر لأخي أغلقت نفسي على غفران الله. أمّا إذا غفرنا للناس زلاّتهم، يغفر لنا الآب السماوي زلاّتنا. وإذا كنا رحومين مع القريب، كان الله رحوماً معنا

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM