الفصل الثامن والثلاثون: الشريعة والملكوت

الفصل الثامن والثلاثون
الشريعة والملكوت
16 : 14- 18

يتضمّن لو 16 في جوهره مثلين (16: 1-9؛ 16: 19- 31) يفصل بينهما خطبة لا تتألّف من أمثال، بل من أقوال. فالقسم الأول من هذه الخطبة (16: 10- 13) يقع في امتداد المثل الأول، مثل الوكيل الخائن (16: 1- 9). أما القسم الثاني من الخطبة (16: 14- 18) فهو مقطوعة إنتقالية تختتم المثل الأول وتفتتح المثل الثاني الذي هو مثل لعازر والغني (16: 19- 31). نستطيع أن نُعَنْوِن القسم الأول: نظرة الإنجيل إلى الغِنى. والقسم الثاني: عبور من الشَريعة القديمة إلى عالم الإنجيل.
أ- قراءة إجمالية
تبدّل السامعون، فعاد الفريسيّون إلى المسرح. غير أنّ لوقا ربط هذا المشهد بدقّة بالمشهد السابق فقال: كانوا كلّهم يسمعون هذا الكلام. إن تعليم يسوع حول الإستعمال الحكيم للمال قد توجّه إلى التلاميذ، ولكنه لم يكن مخفيّاً عن الآخرين. فالكلمة الأخيرة حول استحالة "التعبّد" للّه والمال معاً، جعلت الفريسيين (إجمالاً، وليس فقط بعض منهم) ينتقلون من الدمدمة والتذمّر، إلى الهزء والتعيير. ظنّوا أنّ المال هو علامة رضى الله الذي يجازيهم ببرّهم. فالإنسان البار يجد مجازاته على هذه الأرض مالاً وفيراً وأبناء عديدين وعمراً طويلاً مع صحّة جيّدة.
كان الفريسيون من محبّي المال، فلهذا لا يستطيعون أن يخدموا الله (آ 13). لا شكّ في أنّ بعض الفريسيّين لم يكونوا من الأغنياء. ولكن لوقا استعمل الأفعال في صيغة الماضي فدلّ على وضع ما زال يتكرّر. وهكذا صار الفريسيّ نموذج الإنسان الذي يغلقه الغنى على تعليم الإنجيل.
وجاء جواب المعلّم في ثلاث مراحل: شجب البرّ الكاذب عند خصومه (آ 15). تلفّظ بثلاثة أقوال حول الشريعة (آ 16- 18). ثم روى مثلاً طويلاً عنوانه الغني ولعازر (آ 19-31). ندرس في هذا الفصل آ 14- 18 ونترك إلى فصل لاحق هذا المثل النموذجي الذي أدخلتنا فيه آ 14- 15 مع التشديد على حبّ المال.
الكلمة الأولى التي تلفّظ بها يسوع (آ 15) تردّ على الفريسيين وتدخلنا في المثل الذي يلي: لا تظنّوا أن غناكم يدلّ على استقامة تصرّفكم. فأنتم لا تملكون من البرّ إلاّ الظاهر والخارج. والغِنى لا قيمة له في حدّ ذاته، لأنه لا يدلّ مطلقاً على رضى الله عن مالكه. بل هناك أكثر من هذا: لقد تسجّل ناموس انقلاب الأوضاع في مخطّط الخلاص. رفض الغني أن يخضع ذاته له خلال حياته، فأجبر على ذلك في مماته.
وترد أقوال تواجه المسألة التي تطرح قيمة الشريعة والأنبياء في التدبير المسيحي. لا ننسى أنّ التوراة تتألّف من ثلاثة أجزاء: الشريعة (تورة في العبرية)، الأنبياء (نبييم في العبرية أو النبيّين)، الكتب (كتوبيم في العبرية). ذكر النص الجزئين الأولين، فكأنه ذكر التوراة كلها. سيُذكر موسى والأنبياء في مثل لعازر والغني (آ 29- 31) فيدلّون على كلام الله الذي نستمع إليه فنفهم معنى الحياة والموت.
نحن أمام جدال قصير بين يسوع والفريسيين. في قول أول (آ 16) قسّم يسوع تاريخ الخلاص إلى حقبتين كبيرتين. وكان يوحنا المعمدان صورة تصل العالم القديم بالعالم الجديد (رج 3: 20- 21). إنّ اجتياح الله للتاريخ يطرح علينا سؤالاً ملحّاً: علينا أن نتّخذ قراراً يتعلّق بالمال (آ 13) لا سيما وأنّ الملكوت أدخل إلى عالم الناس انقلاب الأوضاع (آ 15 ب: الرفيع عند الناس رجس عند الله). فمن إعلان الملكوت والكرازة بتعليم المسيح، تفجّرت دعوة ملحّة تتوجّه إلى كل إنسان. قد نفهم هذه الآية بأنّ الله يكره بحنانه كل إنسان لكي يدخل إلى الملكوت (14: 23: أخرج إلى الطرق واضطرّ الناس إلى الدخول). ونفهمها بأن كل واحد منا يستعمل كل قواه لكي يتجاوب مع الدعوة للدخول إلى الملكوت (أع 13: 48).
ويرد قول ثانٍ يحدّد العلاقة الموجودة بين الناموس (الشريعة) والملكوت (آ 17). لا نظنّ أنّ هجمة العهد الجديد تلغي العهد القديم. فكرازة الملكوت بفم يسوع توافق إرادة الله كما ظهرت في شريعة موسى. فمنذ سيناء ينتظر الله من الغني تصرّفاً محدّداً تجاه الفقراء، وهو لن يتراجع قيد أنملة. فمشيئته ثابتة أين منها ثبوت الأرض والجبال. هذا القول يهيىّء نهاية مثل لعازر والغني. لو سمع الغني كلام سفر اللاويين: "إذ حصدتم حصيد أرضكم أتركوا منه للفقير والغريب. لا تسرقوا، ولا تغدروا، لا تحتفظوا بأجرة الأجير عندكم إلى الغد" (لا 19: 9 ي). لو سمع سفر التثنية (24: 14 ي) وما يفرض على المؤمن من تصرّف تجاه الغريب واليتيم والأرملة، لما وصلت به الأمور إلى حافة الهلاك. نسي ولم يتذكّر، فنساه الله ولم يعرفه (رج مت 25: 41 ي).
والقول الأخير يشجب تصرّف الرجل الذي يطلّق إمرأته ويتزوّج غيرها. كما يشجب زواج إمرأة طلّقها زوجها. لقد أكّد يسوع أن هذه الممارسات، وإن سمحت بها شريعة موسى (تث 24: 1- 4) هي مساوية للزنى. هي عمل تأباه الشريعة (خر 20: 14). وإذ قال يسوع هذا لم يعط شريعة جديدة، كما لم يعط شريعة جديدة حول التعامل مع المال. إنهَ تجاوز مستوى الشريعة فأكّد أَنّ الزواج يخلق بين الرجل والمرأة وحدة لا تستطيع الشريعة أن تلغيها، ولا أن تحافظ عليها كل المحافظة. وتجاه التساهل الذي عرفه العالم الوثني (وعالمنا) تجاه أمور الجنس، إحتفظت الشريعة التي تمنع الطلاق بكل قيمتها.
حين كان الرجل يطلّق إمرأته كان يدفع لها بعض المال كتعويض ومساعدة. وهكذا يستطيع الإنسان أن "يرتاح" من زوجته لقاء المال. ففي هذا الفصل الانجيلي الذي يعالج موقف الناس تجاه ما يملكون، ذكّرنا القدّيس لوقا أن الرباط الزوجي ليس شيئاً يُشترى ويُباع. وكذلك الطلاق. وأن المرأة ليست شيئاً يتمّ حوله التبادل التجاري. فمع المسيح صارت المرأة مساوية للرجل. لم يعد هناك الرجل من جهة، والمرأة من جهة ثانية. صارا واحداً في المسيح بعد أن لبسا المسيح.
ب- قراءة تفصيلية
1- جشع الفريسيين (16: 14- 15)
"سمعوا كل هذا". خصوصاً الكلمات التي تدلّ على عدم توافق بين خدمة الله ومامون (أي المال الذي يؤمّن لنا حياتنا). ويتضمّن هذا الكلام تساؤل الفريسيّين: لماذا لا يتوافقان؟ هناك نصوص تقول إنه "حتى الفريسيين" سمعوا هذا. وهكذا يبدو التعارض واضحاً بينهم وبين التلاميذ.
"كانوا محبّي الفضة". إستعمل لوقا فعل كان مع اسم الفاعل ليدلّ على صفة ملازمة لهم. رج 11: 13 (كنتم عارفين)؛ 23: 50؛ أع2: 30؛ 3: 2؛ 16: 20، 37؛ 17: 24، 29؛ 22: 3؛ 27: 12؛ رج 20: 47. تبدّل السامعون، ولكن لم يتبذل الموضوع. منذ 16: 1 نحن في موضوع واحد مع بعض الإختلافات.
ظنّ مانسون أنَّ آ 15 لم توجّه أصلاً إلى الفريسيين، بل إلى الصادوقيّين الذيم لم يهتمّوا "بكنز السماء" (12: 33)، لأنهم لا يؤمنون بالقيامة (أع 23: 8). ولأن اسمهم يرتبط بالجذر "ص دق" فيدلّ على تقدير الناس لهم. نحن هنا أمام تنظير. ثم إنّ علاقة التقوى الفريسية بالبرّ (والصدق) لم تكن مجهولة.
"توهمون الناس" (آ 15). تبرّرون موقفكم في نظر الناس. تحاولون أن تحافظوا على صورة من البرّ أمام الناس (رج 10: 29؛ 18: 9، 14؛ 20: 20). تتضمّن كلمات يسوع إشارة إلى أنّ موقف الفريسيّين من المال يتجذّر عميقاً، مع بحثهم عن صورة للبرّ تعطيهم إسماً بين الناس.
"الله يعرف قلوبكم"، يعرف ما في قلوبكم، ما في دواخلكم. القلب هو مركز الفكر والرغبات، رج 1: 51؛ 3: 15؛ 5: 22؛ 10: 27، الله عالم بالقلوب. رج أع 1: 24؛ 15: 8؛ رج 8: 21. وهذه الميزة الخاصة بالله نجدها في عدد من نصوص العهد القديم (1 صم 16: 7؛ 1 مل 16: 7؛ 1 أخ 28: 9؛ مز 7: 10؛ أم 21: 2؛ 24: 12).
"الرفيع عند الناس". هو المال والتعلّق به (هذا حسب السياق). هذا ما يركض الناس وراءه عادة. توجّه هذا الكلام إلى الفريسيين فكان صدى لما في 11: 42- 44: الويل لكم أيها الفريسيون...
2- قولان حول الشريعة (16: 16- 17)
"إلى يوحنا". حتى يوحنا ضمناً. لقد كان واعظاً ومصلحاً يهودياً. والعهد الجديد لا يبدأ معه، بل مع يسوع. غير أنّ يوحنا كان أعظم من نبي (7: 26). فمع ظهوره (3: 1- 17) تدشّنت حقبة جديدة في تاريخ الخلاص. هنا نتذكّر كلمة "أرضي" في لوقا (1: 3؛ 3: 23؛ رج أع 1: 22).
"الناموس والأنبياء". هذه طريقة موجزة للحديث عن كرازة العهد القديم. إذا وضعنا جانباً مقدّمة إبن سيراخ، لا نجد هذه العبارة في التوراة ولا في الآداب الرابانية (نجدها في الأدب القمراني، مثلاً المغارة الأولى). في هذا التفصيل، إحتفظ لوقا بالترتيب الأصلي لأن الشريعة (أو موسى) تمرّ أمام الأنبياء (16: 29، 31؛ أع 13: 15؛ 24: 14؛ 28: 23؛ رج يو 1: 45؛ روم 3: 21). وهناك العكس في أع 26: 22: الأنبياء وموسى؛ رج مت 5: 17؛ 7: 12؛ 22: 40 الذي احتفظ بترتيب لوقا إلاّ في مت 11: 13 حيث نقرأ: فجميع الأنبياء والناموس. نحن هنا في جزئي التوراة العبرية. والجزء الثالث قد يكون المزامير (24: 44).
"ومنذئذ، ومنذ ذلك الوقت". أي منذ ظهور يوحنا في 3: 1-17، حتى وإن لم يصوّر لوقا يوحنا كمبشّر بالملكوت. بالنسبة إلى ملكوت الله، رج4: 43؛ 8: 1؛ أع 8: 12.
"يبشّر بملكوت الله". بواسطة يسوع، وبواسطة تلاميذه. رج 9: 2؛ 10: 9. بُشر وما زال يُبشّر به الآن في زمن لوقا. تفرّد لوقا فربط فعل "انجل" أوانغليزستاي" بملكوت الله.
"كل واحد يكره على الدخول إليه". هو طلب. هو دعوة ملحاحة من قِبَل المبشّر بالملكوت. نقرأ في مت 11: 12: "المغتصبون يأخذونه عنوة".
"السماء والأرض". رج 10: 21؛ 21: 33؛ رج أع 17: 24. هذا ما يدلّ على الكون المخلوق كله. رج أش 51: 6؛ أي 14: 12، رج أيضاً لو 12: 56؛ أع 4: 24؛ 14: 15؛ 17: 24. ستزول السماء والأرض لأنهما تتضمّنان المادة والفساد.
إنّ كرازة الملكوت واقع أكثر دواماً من السماء والأرض، وهي امتداد لما في الشريعة.
3- قول حول الطلاق (16: 18)
"كل من طلّق". حُفظ قول يسوع في الأناجيل الإزائية. إستعمل "ابولياين" (طلّق) في مر 10: 11؛ مت 5: 32؛ 19: 9. واستعمل أيضاً في مت 1: 19 مع قرار يوسف بأن "يطلّق" مريم لأنه ظّنها "خائنة" (هذا هو المعنى الأول. وهناك المعنى الروحي: أراد أن يتركها لأنه يخاف أمام قداسة من تحمله في أحشائها).
"وتزوّج أخرى". هناك فعل "غاماين". ونجد في البازي "لاباين" أخذ (إمرأة)، كما يُقال في اللغات السامية. "فقد زنى". هذا ما يحيلنا إلى خر 20: 14؛ تث 5: 18؛ رج لا 20: 10؛ تث 22: 22.
"ومن تزوّج إمرأة طلّقها زوجها". هناك مخطوطات (البازي وغيره) تهمل "زوجها". ولكن المعنى لا يتبدّل إطلاقاً.
ج- تفسير النصّ
نجد صعوبة كبيرة في ربط المقطوعة (16: 14- 18) ولا سيّما آ 16- 18 بالسياق السابق أو اللاحق الذي يعالج مسألة الغِنى. ولكن أترى الإنجيلي لم يهتمّ بعلاقة هذه الآيات بموقعها في النصّ؟ لا شكّ في أن هناك نيّة لاهوتية حاول لوقا أن يعبّر عنها.
حسب 16: 1، توجّه مثل الوكيل الخائن والتعليم الذي تبعه (16: 10- 13) إلى التلاميذ. ولكن الفريسيين كانوا هنا وكانوا يسمعون. وكانوا "أصدقاء (محبّي) المالي" (آ 14). يعيشون في البذخ والرخاء وينعمون بصيت طيّب يستفيدون منه ويبرزونه. وظنّوا أنه يحق لهم أن ينظروا إلى الناصري من عليائهم. إنه لا يملك شيئاً، لا المال ولا العلم (لم يدرس عند الرابانيين). والكتب المقدّسة أما تعتبر الغِنى بركة من الله؟ لهذا، هزأ الفريسيون من نظرة يسوع إلى المال والغِنى. فقدّم لهم يسوع جواباَ متشعّباً سنحاول أن ندرسه آية آية.
1- توهمون الناس (آ 15)
إنّ الغِنى والصيت الحسن الذي نكتسبه لدى الناس، ليسا إلاّ واجهة لا قوام لها في نظر الله الذي لا يحكم كما يحكم الناس، بل ينظر إلى القلوب. والخطأ الديني لدى الفريسيين الذين يعتبرون نفوسهم القوّاد الروحيين للشعب، فهو أنهم يتعلّقون بما يراه الله بلا قيمة، ويستندون إلى هذه التفاهة ليعتدون ببرّهم. إن معرفة الله للقلوب موضوع يرد مراراً في الكتاب المقدّس. رج إر 11: 20: "يا ربّنا القدير الذي يحكم بالعدل ويفحص المشاعر والأفكار" (فاحص القلوب، أي مركز المعرفة، والكلى أي مركز الإحساس). رج 17: 10؛ 20: 12؛ 1 مل 8: 39... ويشدّد الكتاب أيضاً على كره الله لما يراه الناس "عظيماً"، وعلى إذلاله للمتكبّرين. "هكذا انحطّ مقام البشر وسقطوا... عيونهم المتشامخة انخفضت، وانحطّت مكانتهم الرفيعة... تكون قدرة الرب على كل مستكبر متعالٍ وكل مترفّع فينحطّ" (أش 2: 7- 12؛ رج أم 15: 25؛ سي 10: 13- 18؛ لو 1: 51).
2- بقي الناموس (آ 16)
لا نستطيع بعد اليوم أن نعتبر كل شيء (ولا سيما الغِنى) من زاوية الشريعة الموسوية. فالشريعة والأنبياء ظلاّ إلى يوحنا ضمناً (فيوحنا يبقى في العهد القديم حسب الأزمنة الثلاثة في مؤلّف لوقا، في لو وأع). لقد تجاوزنا منذ الآن التدبير القديم. ويجب علينا أن نقرّر كل شيء من زاوية ملكوت الله الذي جاء به يسوع. فإذا أردنا أن ندخل هذا الملكوت، يجب أن نجتهد، أن نكون قاسين على ذواتنا، عنيفين على نفوسنا. هذا ما يشير إلى التجرّد الجذري الذي يطلبه الإنجيل. وهكذا يجتذب يسوع الفريسيين بعيداً عن بركات الغِنى التي حلموا بها. لقد قلب آمالهم وبدّد نظرتهم إلى الشريعة.
3- زوال السماء (آ 17)
إن الشريعة القديمة التي أرادها الله، لا يمكن أن تزول بفعل التدبير الجديد لملكوت الله. هذه الآية اللوقاوية تجد ما يقابلها في مت 5: 18 (الخطبة على الجبل) الذي يرينا كيف نفهمها. إن الشريعة الجديدة التي حملها يسوع "تتم" سمات الشريعة القديمة، كما تتم النبوءات. وهذا يعني أنّ يسوع حين حوّلها، حقّق هدفها العميق. فينتج عن ذلك بصورة خفيّة، إستعداد لنهاية مثل لعازر والغني: فالتعليم عن الغِنى قد هيّأه حقاً موسى والأنبياء. فقد كانوا كافيين لينيروا الغني حول الواجبات التي يفرضها عليه غناه.
4- من طلّق إمرأته (آ 18)
وكيف نفسّر في مثل هذا السياق منع الطلاق الذي نقرأه أيضاً في مت 5: 32 و19: 9 ومر 10: 11- 12؛ لم نكن ننتظر الإشارة إلى الطلاق في هذا الموضع. لهذا فهم بعض الشرّاح الآية في معنى إستعاري. فقد رأى جوليشر أنّ الإنجيل والشريعة مرتبطان إرتباطاً وثيقاً. فمن أخذ الشريعة وحدها أو الإنجيل وحده، فصل ما ربطه الله برباط لا يحلّ، واقترف الزنى على المستوى الروحي. وحسب وايس، من طلّق الشريعة لكي يثّحد بالإنجيل وحده، يقترف زنى، وكذلك من يتوقّف عند الشريعة القديمة بعد أن طلّقها الله. مثل هذه التفاسير مصطنعة وهي تمزّق النصّ ولا توضّحه. فإذا كانت إستعارة زواج الله مع شعبه موضوعاً معروفاً لدى الأنبياء، فهي لا تبرّر زواجاً رمزياً مع الإنجيل أو مع الشريعة.
إعتبر بعضهم أنّ منع الطلاق هو انقطاع واضح بين يسوع وشريعة موسى. واعتبر آخرون (وهذا أفضل) أن شجب الطلاق وتقديس الزواج اللذين أدخلهما الإنجيل، هما مثلان واضحان عن الطريقة التي بها ألغى يسوع الشريعة الموسوية وتجاوزها. لقد حقّق قصدها القديم الذي يوافق نيّة الخالق التي يعبّر عنها تك 2: 24. إنّ الإصلاح الذي قام به يسوع في فهم الغنى واستعمال أموال هذا العالم، لا يقلّ أهمية عن الإصلاح الذي حمله إلى مؤسّسة الزواج.
ونظن أنّه من الممكن أن نربط هذا المقطع بسياقه برباط أدق وأعمق، برباط ظلّ خفيّاً ونحن نحاول أن نكتشفه. نلاحظ أنه بعد ف 15 المخصّص للحديث عن رحمة الله، تسيطر على ف 16 مجموعة متطلّبات المشاركة الأخوية كما يفهمها يسوع: هناك شجب قاس لتجاوزات المحبّة تجاه القريب، وهذا الشجب (بعد مثل لعازر والغني الرديء) هو امتداد لبداية ف 17 (آ1-3) مع التنديد بالشكوك. أما نستطيع أن نفترض في هذه الظروف أنّ الإنجيلي رأى في الطلاق إساءة خطيرة للمحبة الأخوية. فالاتحاد الحقيقي بين زوجين هو تبادل في الحب وتشارك. لهذا فهو يتضمّن متطلّبات كبيرة على مستوى المحبّة الأخوية بين الزوجين (وهي تتعلّق بالزوجين). هناك ذات العلاقة بين منع الطلاق في 16: 18 ومثل الغني الرديء، كما بين الغني الرديء والتحذير من الشكوك أو طلب الإصلاح الأخوي والفران (17: 1- 4).
بعد هذا نلاحظ حالاً أنّ لوقا ربط موضوع الإيمان (في 17: 5- 6) بموضوع الخدمة المجرّدة (17: 7- 10). بعد أن استنار 16: 18 بقرائنه السابقة واللاحقة، وجدنا فيه صورة غير منتظرة عن حقيقة رئيسية أعلنها يسوع في مت 22: 40: "بهاتين الوصيّتين (محبّة الله ومحبّه القريب) ترتبط كل الشريعة والأنبياء" (رج مر 12: 31؛ روم 13: 8- 10؛ غل 5: 14).
خاتمة
إمّا أن نكون وكلاء أمناء لله، وإمّا نكون ملاّكين متعلّقين بالمال وخائنين لله. لا نستطيع أن نلعب "على الحبلين"، أن نكون مع المسيح وضدّ المسيح. الأمانة لله تعني التخلّي عن صفة الملاّك والتعامل مع المال بحسب الله. وإلاّ رذلنا ذاك الذي جعلنا وكلاء له، وأنكرنا الآب، ورفضنا أن نكون أبناءه وسط إخوتنا. فانبرى محبّو المال يهزأون بمثل هذا الكلام. لم يزالوا في العهد القديم، ولم ينتقلوا بعد إلى منطق الإنجيل. في الواقع، ليسوا خائنين فقط على مستوى المال، بل على مستوى العهد الذي قطعه الله مجّاناً مع شعبه. وضعوا يدهم على الشريعة واستغلّوها ليبرّروا نفوسهم أمام الناس. طنّوا أنها تعطيهم حقوقاً على الله، أنها تتيح لهم أن يدينوا الآخرين، أن يشيّدوا الحواجز بين البشر. فالشريعة، شأنها شأن المالي، لا تعطي حقاً لأحد. إننا نعيشها كشهادة وتعبير عن نعمة وعطاء مجّاني. فالله في النهاية هو الذي يعرف القلوب

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM