الفصل السابع والثلاثون: مثل الوكيل الخائن

الفصل السابع والثلاثون
مثل الوكيل الخائن
16: 1- 13

"إغتصاب أموال واحتيال، وأوراق مزوَّرة": هذا ما نجده من عنوان مثير لهذا الموضوع في الصُحف. وكنا ننتظر في الإنجيل أمثالاً تدعو إلى التقوى والفضيلة! وهذا ما يجعل الوعّاظ محرَجين أمام قصّة الوكيل الغشَّاش والخائن، الذي عرف كيف يدبِّر الأمور بطرق غير سليمة. أمّا لوقا الإنجيليّ فأتبَع هذا الخبر بأربعة أقوال أخلاقيّة، أربعة تطبيقات ملموسة على الحياة المسيحيّة. كل هذا يدلّ على أهميّة الخبر الذي ندرس. نتوقّف أولاً عند الخبر الذي يبدو تافهاً (آ 1- 7). ثم نعالج على التوالي العبر التي نستنتجها من هذا الخبر (آ 8، 9، 10- 12، 13).
1 - خبر اغتصاب أموال واحتيال
يبدأ الخبر فيصوّر لنا الواقع (آ 1- 2). أُتهم الوكيلُ بأنه يبدِّد أموال سيّده. لا يقول النصّ شيئاً عن نوعيّة هذا الإتّهام: إدارة سيّئة، وتهريب أموال؟ ولا يقول لنا أيضاً هل كانت هذه الاتّهامات مؤيَّدة ببراهين. كلّ هذا لا يهتم الراوي. فالشيء الوحيد الذي يجب أن نعرفه، هو أن الوكيل خسر ثقة معلّمه، فأحسّ أنه سيُعزل من وظيفته. هو لا يأمل أن يعود معلّمه عن قراره، فلم يبقَ له إلاّ أن يسلّم سجل الحسابات ويمضي.
إن هذا الوضع الجديد جعل الوكيل فجأة أمام المستقبل القاتم الذي ينتظره (آ 3- 4). بدأ يفكّر بصوت عالٍ ، شأنُه شأنُ الغنيّ الجاهَل (12: 17- 19) والابن الضالّ الذي بدّد أموال أبيه (15: 17- 19) والقاضي الظالم (18: 4- 5). أمامه طريقان لكي يكسب قوته: إما الفلاحةُ ونقبُ الأرض، وهذا عمل صعب، وإما الاستعطاء، وهذا عملٌ يُذلّ الإنسان ويَحُطّه. رفضَ هاتين الطريقتين، وفكّر بوسيلة تساعده على إيجاد اناس يستقبلونه عندهم يوم يُعزَل. لم يَقُل الراوي مضمون فكرته، ليبقى السامعُ متنبّهاً حتى النهاية. هذا ما فعله أيضاً في مثَل العَمَلة المرسَلين إلى الكرم: أمر صاحبُ الكرم وكيلَه أن يدفع للعملةَ أجرتهم دون أن يحدّد الكميّة التي تُعطى لكل فئة من الفئات (مت 20: 8). بهذه الطريقة، يَلفِتُ الإنجيليّ انتباهَنا إلى النقطة الأساسيّة في الخبر.
ونرى في آ 5- 7 كيف حقَّق الوكيلُ قراره الذي اتَّخذه في آ 4 ("عرفت ماذا أعمل"). دعا الوكيل مديوني سيّده وكان عددهم كبيراً. ولكن الراوي اكتفى بمثلَين. كان على المديون الأول مئة جرّة أو كيل أو بثّ (أي 30- 40 ليتراً) من القمح. كانت الصكوك في يد الوكيل، فدعا المديونين وطلب منهم أن يكتبوا صكاً آخر: خمسون جرّة بدل المئة، وثمانون كيساً بدل المئة. ما عفاهما منه يساوي لكل واحد 600 دينار، أي أجرة 600 يوم عمل. هذا يعني أننا أمام كميّة كبيرة من المال.
لم يذكر الخبرُ ردّةَ الفعل عند المديونين أمام هذا الأقتراح. لا شكّ في أن أحداً لم يتردّد تجاه هذا العطاء السخيّ، ولاسيّما وإن صكاً جديداً حلَّ محلَّ الصكّ القديم. واعتبر الوكيل أن هؤلاء الناس سيستقبلونه في بيوتهم (آ 4). صاروا مشاركين له في هذا "الغشّ". هو لا يخسر شيئاً إن افتُضح أمره، أمّا هم فيهمّهم أنْ لا يتكلّم أحد عنهم. وهكذا كنّا أمام عمليّة ابتزاز وتهديد.
لا شكّ في أننا أمام شخص قبيح جداً، ولكن الإنجيل يجعلُه لنا مثالاً. لهذا تبارى الشرّاح ليبيّضوا له صفحته. قابل كنوكس هذا الوكيل بالمُدين الذي لا رحمة في قلبه (مت 18: 23-25): ترك للآخرين ديونهم فاستحقّ أن يُتْرك له دينُه الثقيل. وقال الأب بوامار: إن المبلغ الموجود على الصكّ يتضمّن ما يحقّ لصاحب الأرض من دين، وما يحقّ للوكيل من "عَمالة". حين خفّض الوكيلُ المبلغ، تخلَّى عن أرباحه دون أن يمَسّ حقوق سيّده. هذا الإفتراض لا يتوافق مع النصّ الذي يتحدّث عن الذين "عليهم دينُ لسيّده"، عن مديوني سيده (آ5). ونهايةُ الخبر تدلّ على أن الوكيل يمارس سخاءً على حساب سيّده. إذن، لا نستطيع أن نتهرّب، وسلوكُ الوكيل سلوكُ محتالٍ لا ذمّةَ له ولا ضمير.
ونطرح سؤالاً أخيراَ قد لا نجد جواباً أكيداً عنه. هل اخترع يسوعُ هذا الخبر أم وجدَه بين الأخبار التي تتناقله "المحكمة"؟ إذا كان يسوع يتكلّم عنه، فسامِعوه يفترضون أنه يحكم باسم الأخلاقيات على من يسلك سلوك هذا الرجل. هذا ما حدث حين جاء من يُخبره عن مقتل الجليليّينٍ على يد هيرودس (13: 1، خلط دماءهم بذبائحهم). انتظروا تنديداً قاسيا بوحشيّة الحاكم. ولكن يسوع لم يأتِ إلى العالم ليؤكّد على أخلاقيات يقول بها الجميع. نحن إذن نكتشف طريقته في ما يستخرجه من حدَث من الأحداث ليقدِّم عِبرة عميقة ما كنا لننتظرها.
2- دعوة إلى الفطنة
هناك أسئلة عديدة يطرحها علينا هذا المثل، ولكنّ أصعبها والتي هي موضوع جدال كبير تتعلق بمعنى الكلمات الأولى في آ 8: "فمدح كيريوس (السيد، ربّنا) الوكيلَ الخائن (غير الأمين). فإذا كان الخبر يَعني سيّدَ الوكيل، فالملاحظة التي تَعنيه هي جزء من الخبر الذي جعله يسوع في مثل. ولكن، إذا عُدنا إلى مفردات لوقا، نعرف أن التسمية تدلّ عادة على "الرب" يسوع. حينئذ يكون الإنجيليّ قد بدأ يلخِّص بطريقته الخاصّة رأي يسوع في الشخص الذي روى صنيعه. هنا ينقسم الشرّاح فئتين. ثمّ لا تتحسن الحالة مع الذين يقترحون التمييز بين المعنى الأوَّل للجملة، وبين المعنى الذي اتخذته في الإطار الحالي: حينئذ يقوى الخلاف لأنّ التفاهم يزول حوله المعنى الأوّل لمفردة "كيريوس" (السيّد) كما يزول حول معناها على مستوى التدوين الإنجيليّ.
ولنبدأ ببعض ملاحظات: الأولى: كيف نفهم المديحَ الغريب الذي وجَّهه السيد إلى وكيله بعدَ أن عرف إحتياله عليه؟ الثانية: لم يكن لمدح السيّد من معنى لو لم يكن الوكيلُ من اللباقة، بحيث تجنّب أن يعرف السيدُ باحيتاله. الثالثة: لو كنّا أمام سيّد الوكيل، لكان من الضروريّ أن يذكر الخبر أنه أُعلم بالغشّ. مثلاً: "ولما أُعلم السيّد". الرابعة: لا نستطيع إن ننسب بقيّة الآية "لأن أبناء هذا العالم أكثر فطنة" إلى سيّد الوكيل. والرباط بين قسمَيْ الآية وثيق جدّاً، بحيث لا نرى كيف ننسب القسمَ الأوّل إلى السيد، والقسمَ الثاني إلى يسوع. وفي أيّ حال، لا شكّ في ما نقرأه في آ 9: إن يسوع هو الذي يستعمل العبارة "وأنا أقول لكم". ونحن نعلم أن لوقا ينتقل عادةً من كلام الغائب إلى قول المتكلّم (5: 14): "فأوصاه أن لا يقول لأحد". هذا هو كلام الغائب. "بل أمضِ وأر نفسك للكاهن". هذا هو قول المتكلم، رج أع 1: 4، 5؛ 23: 22؛ 25: 4- 5. السادسة والأخيرة: يجب أن نحسب حساب التوازي في لو 18: 6- 8 حيث نقرأ بعد مثل القاضي الظالم "ثم قال ربّنا (الرب): اسمعوا ما قال القاضي الظالم... أقول لكم: إنه ينتقم لهم سريعاً".
نحن هنا أمام عمل تدوينّي قام به لوقا الذي وجد بعد خبر الوكيل الخائن تطبيقاً من النمط العاديّ: "وأنتم أيضاً كونوا فطنين". ولكن بدا تطبيق آخر أكثر إقناعاً وهو الذي يورده في آ 9. ما أراد أن يلغي التطبيق الأوّل. ولكن حين أورده في كلام الغائب أخضعه بصورة من الصور إلى تطبيق آ 9. وهكذا، إذ أظهر أنه يفضّل التطبيق الثاني، أكّد على الطابع التقليديّ للتطبيق الأوّل الذي يشكّل في نظره إعتباراً بدائياً أورده "الربّ" يسوع.
إن الوجهة التي اتخذَتها آ 8 تتوافق توافقاَ تامّاَ مع اتّجاه الخبر السابق. فقد أعلمتنا آ 1- 2 بالوضع الحرج الذي وجد الوكيل نفسه فيه، ولكنهما لم تقولا لنا هل اقترف أخطاءً تستحقّ عزله. فاعتبارات هذا الرجل على مستقبله (آ 3) تشدّد على الطابع الدراماتيكي لوضعه. وتعلمنا آ 4 أنه وجد حلاً، دون أن تقول لنا بمَ يقوم هذا الحلّ. فما هي هذه الفكرة الرائعة التي ستؤمّن له مستقبله؟ لن نفهم إلاّ حينَ نراه يقوم بأعمال الغشّ. لا شكَّ في أن هذا الوكيل خائن وغيرُ أمين، هذا ما قالته آ 8. ولكن هذا لا يمنعنا أن نُقرّ بأنه وجد فكرة رائعة. وجد نفسه في وضع لا مخرجَ منه، فاكتشف الوسيلة التي تُخرجه، وهكذا بدا فطناً.
إذا كان منظار آ 8 يتوافُق مع منظار الخبر السابق، نستطيع القول إنه سابق للتدوين الإنجيليّ، بل هو يأتينا من صاحب الخبر، من يسوع نفسه. إن وضع الوكيل الخائن يَهُم يسوع، لأنه يعطيه المناسبة ليقدّم لا تعليماً باهتاً عن الأخلاق، بل نداءً إلى الفطنة على مثال هذا الرجل الذي جُعل في وضع حرج فاستفاد من الساعات القليلة الباقية له ليؤمّن مستقبله. فمن الواضح أن هذا الخبر يبدو تعبيراً عن تعليم يتميّز به يسوع. لنفكّر مثلاً في مثل التينة العقيمة: أُعطيت لها مُهلة أخيرة. إن كانت لا تثمر هذه المرة فهي ستقطَع لا مَحالة (13: 6-9). أو في مثل الخصمَين: أنت ذاهب في الطريق مع خصمك إلى القاضي. لا بدّ من إيجاد اتّفاق قبل أن تدخل قضيّتك في العالم القضائيّ المتشابك فتحمل إلِيك ما يزعجك ويضايقك (12: 58- 59). وهكذا توجَّه يسوع إلى شعب فضوليّ لا يعرف أن يتّخذ قراراً، فأفهمه خطورة وضعه. سلمه اللهُ مهمّة، ولا بد من إتخاذ موقف بالنسبة إلى هذا التعليم: قرِّروا حالاً ولا تنتظروا. قد يفوت الأوان. بهذا تتعلّق سعادتكم الأبديّة.
هذا هو معنى التفسير المتشائم الذي تزيده آ 8 ب تشاؤماً. كم من الفطنة عند أهل هذا العالم في تدبير أمورهم! عندما يكونون أمام مصالحهم الدنيئة يتّخذون كل الوسائل الناجعة، سواءٌ أكانت صالحةً أم سيّئة. لو كان عند أبناء النور هذا القَدْرُ من الفطنة والتقرير في ملاحقة أمورهم الخاصّة، في "طلب ملكوت الله وبرّه" (مت 6: 33)! وهكذا نرى الطابع النموذجيّ لسلوك الوكيل الخائن والذين يتشبّهون به. إنّ فطنتهم على مستواهم هي دافع للمسيحيين ليتشبّهوا به على مستواهم هم، أي على مستوى تحقيق التعليم الإنجيليّ.
3- دعوة إلى الصدَقة
توجّه خبرُ الوكيل الخائن لا إلى الشعب اللامبالي، بل إلى تلاميذ يسوع، بل إلى المسيحيّين الذين كتب لهم، فوجد في نظر الإنجيليّ خاتمته الحقيقيّة في إعلان آ 9. بدأت الآية بالعبارة "وأنا أقول لكم" فشدّدت على أهميّتها.
نلاحظ أولاً أن آ 9 هي ترسّم ونَسْخ آ 4. فكّر الوكيل بوضعه فقال: "عرفت ماذا أعمل، حتى إذا عزلني سيّدي عن الوكالة، أجد أناساً يقبلوني في بيوتهم". وأعلن يسوع بدوره: "إجعلوا لكم أصدقاء بالمال الباطل (مامون اديكياس أي الظلم) حتى إذا نفد، قبلوكم في المساكن (المظالّ) الأبديّة". طَرْحُ المشكلة هو هو: ماذا نعمل ليستقبلنا أصدقاؤنا حين نترك وضعنا الحاليّ؟ لا شك في أن وضع المسيحيّين لا يشبه وضع الوكيل: هو سيُعزل، أما هم فينفد مالهم. هنا مساكن يأمل الوكيل أن يجد فيها استقبالاً، وهناك مظالّ ابدية ننتظر أن نُستقبل فيها بحفاوة. وإذا عدنا إلى الوسيلة لنربح الأصدقاء الذين نحتاج إليهم، لا نجد أنّ آ 9 هي أوضح من آ 4. هي تقول فقط يجب إستعمال "مامون" (مال) الظلم، ولا تحدّد.
غير أن فكر لوقا واضحٌ جدّاً. فالتلميح إلى الوقت الذي فيه ينفد المال يستعمل فعلاً نادراً يذكرنا بالصفة المقابلة التي أدخلها لوقا في قول مت 6: 19- 20 وأعطاها الشكل التالي: "بيعوا ما تملكون (أملاككم) وتصدّقوا به (أعطوه صدقة، تصدّقوا بثمنه على الفقراء) واقتنوا لكم أموالاً (أكياساً) لا تبلى، وكنزاً في السماوات". فحسب الموضوع الحِكميّ التقليديّ (مز 49: 7- 9)، المال الذي نجمعه على الأرض ينفد (يتركنا، يهجرنا) في ساعة الموت. فلا بدّ في هذا الوقت من الإتّكال على كنز في السماء، أو من إيجاد أصدقاء في السماء يستقبلوننا في المنازل الأبديّة.
إن القول الوارد في 12: 33 يختم القسم الذي ينتمي إليه مَثَل الغنىّ الجاهل (آ 16- 21) الذي يقف على نقيضٍ مع الوكيل الفتن. لا شكّ في أن المُزارع الغنيّ يفكّر في المستقبل: سيهدم أهراءه ويبني "وسع منها ليضع غَلة تساعده على العيش الوفير خلال سنوات عديدة. غير أن هذا الرجل هو جاهل ( لا إدراك له) (آ 20). هو لم يَحسُب حِساب الموت فلم يفكر بتكوين كنز في السماء، مُشْركاً الفقراء في خيراته. لم يجد في ثروته وسيلة ليكون غنياً لدى الله (آ 21)، بل وسيلةً للتمتّع بالحب ة. هذا هو الغنى الذي يستحق اسم "مامون الظلم" (16: 9) والمال الذي نختصّ به نفوسَنا: منحنا الله إياه لكي نقتسمه مع غيرنا فاحتفظنا به لنفوسنا.
وإذا عُدنا إلى مثل الوكيل الفطن، نرى أن آ 9 تتكلّم لا عن كنز لا يفنى في السماء، بل عن أصدقاء سماويّين يقدرون أن يستقبلوا هناك من أحسن إليهم على الأرض. سنجد تأكيداً لهذه الصورة في القسم الثاني من ف 16. إن ف 16 يشكل وَحدةَ في فكر الإنجيليّ، وهذه الوَحدةُ تجد تعبيراً لها في الوَصْلة التدوينيّة في آ 14، التي تربط قسمي الفصل: "وكَان الفرّيسيون، وهم مِمّن يحبّون المال، يسمعون هذا كلّه ويهزأون به". هم يهزأون بالتعليم الذي أعطاه يسوع في آ 1-13 حوله استعمال المال بالوجه الصحيح. أجابهم يسوع إلى هُزئهم فروى خبر الرجل الغنيّ ولعازر الفقير، وحذّرهم من نتائج استعمال المال بالوجه السيّىء. توسّل الغني من اللهيب إلى إبراهيم ليرسل إليه لعازر مع نقطة من الماء على طرف إصبعه. هذا مستحيل. ولكن بعد قراءة آ 9 نفهم أن الأمور كانت جرت بطريقة مغايرة لو أن الغنيّ فكّر بأن يُعِين لعازر في تعاسته فيربح صداقته.
فالغني في 16: 19- 31 هو جاهلُ كالغني في 12: 16- 21، وسلوكُه يناقض سلوك الوكيل الفِطن الذي أعطتنا إيّاه آ 9 مثالاً ونموذجاً: فاستعجلوا قبل أن يفوت الأوان، واستعملوا بلباقة المال الذي بين أيديكم: أَعطُوا الفقراء فيفيدوكم ساعةَ لن تكون من قيمة للمال، ساعة يُفرض عليكم أن تتركوا هذا العالم. فالمال الذي نحتفظ به لنفوسنا سيكون لشقائنا وتعاستنا: إنه "مامون الظلم". ولكن إن أُعطي للفقراء، صار عُربون سعادة في المساكن الأبدية.
4- دعوة لأن نكون أهلاً للثقة
تؤلّف آ 10- 12 قولَين مكوّنين من شقَّين متوازيَين. الأول (آ 10)، هو مَثلٌ سائرٌ من النوع الحِكْميّ يعبّر فيَ إعلانَين متعارضين عن حقيقة اختبارية عامّة: "الأمين (من هو أهلٌ لثقة) في القليل هو أمين في الكثير، والظالم (الذي يُسيء الأمانة) في القليل هو ظالمٌ أيضاً في الكثير". والشقُّ الثاني (آ 11- 12)، يطبقّ هذا المبدأ على تلاميذ يسوع في منظار كَلّ هذا المقطع عن استعمال المال، وهو يبدو بشكل سؤالين متواَزيَين مترادفين: "فإنْ كنتم غير أمناء (غير أهل للأمانة) على مال الظلم (أو المالَ الباطل) فمن يأتمنكم على الخير الحقيقيّ؟ وإن كنتم غير أمناء على ما ليس لكم، فمن يعطيكم ما هو لكم "؟ من الواضح أن المثل السائر في آ 10 يتحمّل تطبيقاتٍ عديدة، ونحن نجد جوهره في مكان آخر وفي قرائن إنجيلية أخرى، هي قرائن مثَل الوزنات (مت 25: 21) أو مثل الأمناء أو الدنانير الذهبيّة (19: 17). ولكن من الواضح أيضاً أنه لا يَردُ هنا إلا بالنظر إلى النتائج التي نستخرجها في ما يخصّ المال. فلا نستطيع أن نفصل هذين الشقّين اللذَين يكّونان وَحْدة تخدُم فكرة واحدة، وتربطُهما الواحدُ بالآَخر رباطاً وثيقاً، مفردة "إذن " (أو إلفاء) الموضوعة في بداية الشِقّ الثاني.
وبصورة عمليّة، نستطيع أن نركّز انتباهنا على تفسير السؤالين في آ 11- 12. هذا التفسير هو موضوع جدال، أمّا الشروحُ المعروضة فتعود إلى ثلاثة أنماط رئيسيّة. الأوّل يرىَ في هذه الآية تشجيعاً على سلوك صادق ومستقيم في أمور الأرض، مع التأكيد بأننا ننال بهذه الطريقة (ليس فقط النجاح الأقتصاديّ بل أيضاً) التنعّم بخيرات السماء. هذا ما سُمّي البورجوازيّة البروتستانتيّة، وهو غريب عن روح الإنجيل وحَرْفه. النمط الثاني يتّخذ وُجهةً مشابهة، وقد سُمي التفسير الإكليروسيّ. كتب مونسنيور ديكان: "تحرِّض آ 11- 12 على إدارة خيرات الأرض إدارة حسنة، كشرط لإدارة الأمور الروحيّة". ويوضحُ هاوك: "لا نستطيع أن نسلّم إلى خُدّام الكنيسة الأردياء الذين ليسوا أمناء في مال الجماعة، لا نستطيع أن نسلمهم الحقيقة المسيحية". إن الأمانة في تدبير الخيرات المادّية، تُشكّل عند الذين يتسلّمون وظيفة إكليروسيّة كفالةَ أمانةٍ في تدبير أمور الدين. ليس هذا التفسيرُ كلّه واهناً بمعنى أنه يستند إلى اهتمام لوقاويّ بأن يشدّد على الذين يمارسون وظيفة الرئاسة في الكنيسة. ونستطيع أن نرى في 12: 42 أن مفردة "وكيل" أو قيّم (أوكونوموس) جديرة كلَّ الجدارةِ بان تدُلّ على هذه المسؤوليّة. ولكنَ هذه الملاحظة لا تتيح لنا أن نتحدّث عن الإهتمام عينه في 16: 10-12. فهذا الإهتمام لا يتوافق مع السِياق إلاّ في المعنى الطبيعيّ للمفردات المستعملة.
والنمط الثالث الذي نأخذ به يتوافق مع التفسير الأوّل ليقول إن الخيرات الموعود بها هي تلك التي سننالها في السماء. تعارض آ 11 الخيراتِ الماديّة فتتحدّث عن الخير "الحقّ"، تعارض هذه الخيرات، تعارض المالَ الذي ينفد في ساعة الموت. وهكذا نجد من جديد الكنزَ السماويّ الذي لا ينفد كما تقول 12: 33. فهذا الخير "الحق" يسمّى في آ 12 خيراً يخصّ أولئك الذين يمتلكونه. وهو يعارض الخيراتِ الزمنية، الخيرَ الذي يخصّ الآخرين، والذي نتصرف به في وقت محدود، ونتركه عند ساعة الموت. هذا الخير السماويِّ هو وديعة "يحفظها الله إلى ذلك اليوم" (2 تم 1: 12)، ويسلّمها إلى مختاريه يومَ يتركون هذه الأرض.
غير أن الحصول على هذا الخير السماويّ مرتبط بالأمانة التي نبرهن عنها في نطاق الخيرات الأرضيّة، تلك الخيراتِ التي لا قيمة حقيقيّة لها (آ 10)، تلك الخيراتِ التي نَسودُها حقاً (آ 12) فتصبح ظالمةً أو باطلةً بقدر ما نربطها بشخصنا (آ 11). إن الأمانة التي بها نكون أهلاً لثقة الذي سلّمنا خيراً من الخيرات، تتّخذ أشكالاً متنوّعة تتبع نيّة الذي سلّمنا هذا الخير: إذا كنا أمام وديعة، فلا بدّ من المحافظة عليها سليمة. وإن كنا أمام مال يجب أن نستثمره (19: 13)، نبذُلُ المستحيل لنزيد من قيمته. في مثل 12: 41- 46، الوكيل الأمين هو الذي يوزعّ بطريقة منظّمة لرفاقه حصّتهم من الطعام، والعبد الخائن (أو الرديء) هو الذي لا يقوم بهذا الواجب. هذا هو الإطار الذي تفرضه قرائن ف 16: فبين توصية آ 9 والتحذير الذي نجده في مثل لعازر والغني، تقوم الأمانة الوحيدة، التي بها تتضمّن آ 10- 12 أن نوزعّ "مامون الظلم" أو المال الباطل الذي بين أيدينا، أن نشرك فيه المحتاجين، أن لا نجعله أداة من أجل منافع شخصية. كم نحن بعيدون عن الحَثّ على ممارسة إدارة اقتصاديّة صالحة!
إذا كان هذا التفسير صحيحاً، يتوضّح أننا لن نرى تناقُضاَ بين وُجهة آ 10- 12 ووجهة آ 9، كما يفعل بعض الشرّاح. فإن آ 10- 12 تقول بصورة أخرى ما قالته آ 9: فالطريقة الفطنة والصادقة لاستعمال هذه الخيرات التي سُلِّمت إلينا والتي لا نستطيع اعتبارها ملكاً خاصاً بنا، هي الطريقة الوحيدة التي بها نجعل هذه الخيرات تفيد الفقراء الذين لأجلهم جُعلت في تصرّفنا. وهكذا يبقى لوقا منطقيّاً مع نفسه: فبعد أن يدعو المسيحيّين ليتحلوا بالفطنة، ها هو يطلب منهم أن يكونوا أهلاً للثقة التي أظهرها الله لهم حين جعل بين أيديهم خيراتِ الأرض.
5- الخِيارُ الذي لا بدَّ منه
والقولُ الذي يختتم المقطوعة التي ندرس، نقرأه أيضاً في إنجيل متّى الذي أدخله في خطبة الجبل (مت 6: 24).
بعد أن لاحظنا أن آ 10- 12 تتكون من قول عامّ وتطبيق هذا القول على طريقة استعمال المال، نلاحظ أيضاً أن آ 13 تتبع الخطّ عينه. نجد أوّلاً قولاً عامّاً يعبّر عن خِبرة ردّدها معلمو الحكمة في جملتين متوازيتين تقولان الشيء عينه. ثم يأتي التطبيق الموجَزُ الذي يتعارض وأسلوب الحكماءِ المُسْهب. هكذا يبرز هذا الأعلان الذي يبدو بشكل وصيّة وأمر.
لا يقول الحكيم إن العبد لا يمكنه أن يكون له "سيّدان" أو "ربّان". فهذا الوضع لم يكن نادراً، ولوقا نفسه يقدّم لنا نموذجاً في أع 16: 16، 19 (جارية بها روح عرّافة). نستطيع القول إننا لاحظنا في ذلك الوقت كيف أن العبد الموجود في هذه الحالة لا يمكنه أن يكون بين سيّدين. لا بدّ من أن يفضل واحداً على آخر، أن يخدُم الأوّل على حساب الثاني. هذا ما تعبّر عنه التضادّات: ابَغض وأَحبَّ، والى ونبذ (أو أجلَّ واحتقر أو لزم ورذل). نلاحظ أن القول يهتم باستعدادات العبد تجاه أسياده، وأنّ هذه الإستعدادات ترتبط بالخدمات التي يقدّمها إليهم: واحد يخدَمُ خدمةً كاملة، والآخر لا.
ويعلن التطبيق أن خدمة الله لا تتوافق وخدمةَ "مامون" أو المال. حين نكون أمام الله فكلمة "خدم" (أو عبد) تتخذ معنى خاصّاً: هي الخدمة (أو العبادة) التي تلزم الإنسان في أعمق اعماقه، والتي لا نستطيع أن نقدّمها إلى شخص آخر دون أدن نجدّف على الله ونَحُط من قيمتنا كبشر. ونلاحظ في الوقت عينه أننا ننتهك الأقداس حين نقابل بين عبادة الله وعبادة المال. لهذا السبب استعمل لوقا هنا وفي آ 9، 11 مفردة بربرية "مامون" (نعتبره ثابتاً، نثق به، نركُنُ إليه ونطمئنّ، نخضع له وننقاد. رج فعل أمن في العربية) غريبة على أُذن كاتب يونانيّ مثلِه. فإن استعمل "مامون" بدل "المال" فلكي يقول لنا: إن "مامون" صار اسم المال المؤلّه وهو المزاحمُ للإله الحقيقيّ لدى عُبّاد الأوثان الذين حصلوا عليه.
وهكذا نرى إلى أين يصل بنا هذا التعليم في استعمال المال. فالمسيحيّون الذين حصلوا عليه قد نالوٍه ليقاسموا المحتاجين إيّاه. فمن تعلّق به وتصرّف وكأنه يمتلك عليه حقّا مطلقًا، جعله وثناً وصنمًا يُعبد. وتجاوز حق الله الواحد، وهو حقُّ لا يتخلى عنه دون ان ينكر ذاته، دون أن يتخلّى عن محبّة الإنسان المخلوق حرّاً. أكبرُ عدوّ لحرّيتنا هو المال، هذا "المامون" الذي يريد أن ينتزعنا من الله ليخضعنا لإرادته. أجل، لا مساومةَ بينه وبين الله. "لا تستطيعون أن تعبدوا الله والمال".
خاتمة:
1- قد يخيبُ أمل عدد من القراء: يسمعون خبر الوكيل الخائن فينتظرون شجباً لهذا الشخص واعتباراً بسيطاً لكي نكون أمناء. إنهم يطلبون أن يقال لهم ما يثبّتهم أيضاً في رضاهم على نفسهم وعلى ضميرهم. إنهم مستعدّون أن يقولوا مع فريسيّ المثل: "أللهمَّ أشكرك لأني لست كباقي الناس الخطأة الفُجّار... ولا كهذا الوكيل" (رج 18: 11). لا شك في أنّ الإنجيل لا يوافق الغشّ، ولكنّ تعليمه ليس فقط تكراراً لأمور أخلاقية بدائية.
2- إن مثل الوكيل الخائن يقدم لنا تعليمين مميَّزين. التعليم الأول (آ 8) يشكّل نداءً لكي نعي متطلّبات الزمن الحاضر، وضرورةَ جواب مباشر لا رجوع عنه، لنداء نعمة الله. فعاقبة التأخر وخيمة. لا بدّ من اتخاَذ قرار، ويجب أن نتّخذه حالاَ. هذا هو تعليم يسوع الذي نستنتجه في آ 1-7. والتعليم الثاني نجده في آ 9.
3- يشدّد النصّ الحاليّ على آ 9 التي هي خاتمة الخبر السابق ونقطة انطلاق لاعتبارات لاحقة نجدها في الآيات التالية: المسألة الأولى: استعمال المال. ويحدَّد الموقف المسيحي في هذا المجال من دون التباس: يُستعمَل المال لمساعدة المحتاجين. فمن خزَنه حرمَ الفقراء ممّا يحقّ لهم وقاد نفسه إلى عبادة الأثان. فكم نحن بعيدون عن أخلاقية تعطي الطمأنينة لأناس "أراحوا ضميرهم ". فالإنجيل يُخرّب النظام الذي وضعناه لنفوسنا. يزرع في قلوبنا القلق. ونحن لا نطبّقه حرفياً كشريعة من شرائع موسى، نحن لا ننكر المشاكل الملموسة التي تجابهنا في حياتنا اليوميّة، ولكننا لا نخفي متطلّبات الإنجيل أو نخفّف من حدّتها، بل ننظر إلى الواقع بجِدّيّة، ونتعامل معه على ضوء كلمة الله التي هي سيف ذو حدّين يلجُ مَفرِق النفس والجسد، ويحكم على مقاصد القلب وأفكاره (عب 4: 12).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM