الفصل السادس والثلاثون: الإبن الشاطر

الفصل السادس والثلاثون
الإبن الشاطر
15: 11- 32

هذا المثل هو أكثرُ الأمثال المعروفة والأعزُّ إلى قلب المسيحيين. لم يكشف يسوع في أي مكان آخر كما كشف هنا بطريقة دراماتيكيّة ومؤثّرة كنوز حنان الله الآب تجاه أبنائه الضالّين. لم يصل الأنبياء يوماً إلى هذا العمق المرتبط بأبسط الوسائل. مثلاً، تحدّث هوشع عن حب الله لزوجته (أي شعبه) الخائنة قالت: "نعم، إن أمّهم زنَت، والتي حبلت بهم تسربلت بالعار. قالت: أنطلق في آثار عشّاقي (أي الآلهةِ الوثنيّة وبصورة خاصّة بعل، إلهِ المطر) الذين يعطونني خبزي ومائي وصوفي وكتّاني وخبزي وشرابي. لذلك، هاءنذا أُغلِق طريقها بالشوك، وأبني فيه حائطاً فلا تجد سبيلها. تلاحق عشّاقها فلا تدركهم وتطلبهم فلا تجدهم. حينئذِ تقول: حينذاك أرجع إلى زوجي الأوّل، لأني كنت حينذاك أسعد من الآن " (هو 7:2-9).
وتحدّث إرميا عن شعور الله الشَغوف تجاه أفرائيم المتمرّد الذي ذهب إلى المنفى: "سمعتُ أفرائيم (أي شعب الشمال أو مملكة إسرائيل) ينتحب. قال: أدّبتني فتأدّبت كالعجل الغير المروَّض. أرجعني فأرجع، فإنك أنت الرب إلهي. أجل، بعد أن ملت عنك ندمت. فهمتُ وقرعتُ صدري. إلتحفت بالخزي والخجل، وحملت في نفسي عار صبائي. (أجاب الرب): أليس أفرائيم إبناً لي عزيزاً، ولداً أفضلّه؟! فإني بعد كل تهديد له أتذكّره (لا أريد أن أنساه) وتحرّكت أحشائي له، وفاضت رحمتي من أجله " (إر 31: 18- 20).
إنّ فحصاً مدقَّقاً للمثل يتيح لنا أن نبرز صحَّة الأمور المأخوذة من الحياة، ودقّةَ التحاليل السيكولوجية. ولكن، إن شدّدنا على الفنّ الذي يُشهد له، نكاد ننسى التعليم الدينيّ الذي يقدّمه لنا. لهذا سنركّز كلامنا على هذا التعليم. نبدأ بنظرة إجماليّة إلى قرائن المثل وبُنْيته. ثم نتوقف عند صورة كل من الإبنين، ذلك الذي عاد إلى أبيه، وذاك الذي لم يترك يوماً أباه. ونحاول في النهاية أن ندرك البُعد الملموس للمثل، ونربطه بعمل يسوع الرسوليّ.
أ- المثل في إطاره الإنجيليّ
أ- بنية ف 15
يشكّل ف 15 وحدة متكاملة. هناك مقدّمة تفصله عن ف 14، وانتقالة في 16: 1 تدلّ على أننا نمضي إلى شيء آخر. وإذا ألقينا نظرة إلى المضمون، نكتشف الإشارات الأدبيّة: فالأمثال الثلاثة الواردة في ف 15 تتقارب فتختلف عن التعاليم المذكورة في الفُصول اللاحقة. وإليك المقدّمة الإنجيليّة: "وكان جُباة الضرائب والخاطئون يَدنون من يسوع ليسمعوه. فقال الفريسيّون ومعلّمو الشريعة متذمّرين: هذا الرجل يرحّب بالخاطئين ويأكل معهم" (15: 1- 2).
أجاب يسوع على هذا الإنتقاد، فروى مَثل الخروف الضالّ (آ 3- 7) وربطه بمثَل الدرهم الضائع (آ 8- 10). ويبدأ في آ 11 الإبنُ الشاطر بوَصلة بسيطة: "وقال أيضاً". لا شك في أن آ 1- 3 تعني في نظر الإنجيليّ الفصل كلّه: فالأمثال الثلاثة تتوجّه إلى الكتبة والفريسيّين، وتحاول أن تفسّر سلوك يسِوع. ونحن نجد بناءً مشابهاً في 13: 1- 9 حيث النداء إلى التوبة موضَّحٌ أوّلاً بتشبيهين قصيرين (الجليليون الذين قتلهم بيلاطس، والثمانيةَ عشرَ شخصا ًالذين سقط عليهم البرج وقتلهم) ثم بمثل موسَّع هو مثلُ التينةِ العقيمة.
إن المثلين اللذين يبدأان ف 15 يتوازيان موازاةً وثيقة. ونلاحظ بصورة خاصّة ردّةً تتكرّر في خاتمتهما: "إفرحوا معي، لأني وجدت خروفي الذي كان ضالاًّ" (آ 6). "إفرحن معي، لأني وجدت درهمي الذي كان ضائعاَ" (آ 9).
يُقسَم مثلُ الإبن الشاطر إلى قسمين بواسطة ردّة مشابهة في آخر كل قسم: "فنأكل وننعم، لأن إبني هذا كان مَيْتاً فعاش وضالاًّ فوُجد" (آ 24). "فعلينا أن ننعم ونفرح، لأن أخاك هذا كان ميتاً فعاش وضالاً فوُجد" (آ 32). هذه الردّة التي تتكرّر تؤمّن تماسك الفصل كلّه، وتدعونا إلى القول إننا سنجد العِبرة نفسها منذ البداية إلى النهاية.
أحب يسوع أن يقدّم تعليمه، فلجأ إلى صورتين متكاملتين. هكذا فعل مع الفلاّح الذي زرع حبّة الخردل، والمرأة التي جعلت الخمير في العجين (مت 13: 31- 33)، ومع المُياوِم الذي اكتشفَ كنزاً، والتاجر الذي يطلب الجواهر الثمينة (مت 13: 44-46)، ومع الملاّك الصغير الذي يبني برجاً في كرمه، والملِك الذاهب إلى الحرب (14: 28- 32)، ومع الرجل الذي يوقظه في نصف الليل طالبٌ مزعج، والقاضي الذي تُقلقه أرملة عنيدة (11: 5-8؛ 18: 1-8). نحن في الأسلوب ذاتِه مع ف 15 و 13: 1-9: مقابلتان توأمان يزاد عليهما مثَل موسَّع يتألَّف من لَوحتين متكاملتين.
2- بُنْية المثل
"كان لرجل إبنان" (آ 11).
هذا هو العنوان. ويروي المثلُ سلوك هذا الرجل تجاه ابنه الأصغر أوّلاً (آ 12- 24) ثم تجاه ابنه الأكبر (آ 25- 32). وينتهي كلٌّ من القسمين بكلام الأب (آ 22- 24 وآ 31- 32)، وفيه سنبحث عن العِبرة التي في المثل. ومن الواضح أن الدور الرئيسيّ يلعبه الأب لا الإبن الشاطر، كما أن انتباهنا توقّف في المثلين السابقين على سلوك الراعي وربّة البيت، لا على الخروف الضالّ والدرهم الضائع. فالإبن الشاطر والإبن الأكبر يُتيحان للأب أن يعبّر عن عواطف قلبه.
ونجد بين قسمَي المثل تعارُضاً يساعدنا على إدراك العِبرة المقدّمة لنا. حين يقدّم يسوع أمثاله يقدّمها بشكلِ نَقيضة: مثلُ الإبن الذي يقول نعم والإبن الذي يقول لا (مت 21: 28- 31)؛ مثلُ الفريسيّ والعشّار (18: 9- 14)، مثلُ المديونين (7: 41- 43)؛ مثل العذارى الحكيمات والعذارى الجاهلات (مت 25: 1- 12). لا ليس القسم الثاني من الخبر زائداً وغيرَ ضروري، كما قال بعض الشُرّاح، بل هو يُبرز تعليمَ المثل وتطبيقَه المباشر.
إذاً، الأب هو الشخص المركزيّ، وسلوكُه وأقواله تحدّد العِبرة التي أراد يسوع أن يعطيَنا. أما الإبن الأكبر، فيمثّل السامعين الذين يتوجّه إليهم المثل. أمّا الإبن الشاطر فيقدّم المناسبة لهذا التعليم. نلاحظ أن الأب لا يوجّه كلامه إلى الإبن الشاطر، بل إلى عبيده (آ 24). أمّا دعوته إلى الإبن الأكبر فتشكّل خاتمة الخبر (آ 32. قال في المرّة الأولى: "إبني". وفي المرّة الثانية: "أخاك". أجل يُحفَظ العنصرُ الأهمّ إلى آخر الخبر).
ب- صورة الإبنين
1- الابن الأكبر (آ 25- 28)
هذه الآيات هي مقدّمةٌ تحدّد موقع الحوار الذي فيه ستنكشف العواطف العميقة لدى الشخصين. كان الأب قد أسرع إلى لقاء الإبن الشاطر، وها هو الآن يترك الوليمة ويخرج من البيت ليهدّىء غضب ابنه البكر. أمّا هذا فأخذ يحتج احتجاجاً يدلّ على ما في قلبه من مرارة: "كم لي من السنين في خدمتك (وأنا عابدٌ لك...)" (آ 29- 30).
تصدُمنا قساوةُ لهجته. ولكن قرائن المثل تدلّ كلى أن لاحتجاجه أساساً. هنا نذكر احتجاجات عمّال الساعة الأولى: "إن هؤلاء الآخرين عملوا ساعة واحدة، فساويتَهم بنا نحن الذين حملنا عِبءْ النهار وحرّه" (صت 20: 12). حين عبّر يسوع عن هذه الشكاوى بهذه الصورة القاطعة، أوضحَ اعتراضاً لدى سامعيه الذين اعتبروا نفوسهم مظلومين. بيّن لهم أنه يفهمهم، فدخل في وُجهة نظرهم ليكون لجوابه الوقعُ المطلوب.
بدأ الإبن الأكبر يرسم صورته هو: "كم لي من السنين في خدمتك، ولم أتعدَّ قطّ أمراً من أوامرك".ظلّ على أمانته السنينَ العديدة. هذا ما يجعله قريباً من عمّال الساعة الأولى الذين "حملوا عبء النهار وحرَّه". أمانة متواصلة في "الخدمة". وفعل "دولاوو" يُستعمَل للحديث عن عبادة الله. وتتميّز هذه الأمانة بالإعتناء بأن لا تتعدّى وصيّة من الوصايا. هذا الكلام يصوّر أمانة البكر لأبيه في أسلوب يحدّد المثالَ الدينيّ لدى الكتبة والفريستين، مثالَ الخضوع الدائم لوصايا الشريعة، والإهتمامَ بأن لا يتعدّوا أقلَّ الفرائض أهمّيةَ.
ويمكننا أيضاً أن نقابل بين لغة البكر ولغة الفريسيّ في مثل الفريسيّ والعشّار (18: 10- 14). يتشابه الشخَصان في الطريقة التي بها يبسُطان استحقاقاتهما وأمانتهما، والتي بها ينفصلان الواحدُ عن الآخر. ينفصل الإبن الأكبر عن "إبنك هذا" (مع الإحتقار)، وينفصل الفريسيّ عن "هذا العشّار".
إذن، يبدو أنّ المثل يتوجّه إلى أناس يعتبرون نفوسهم خدّاماً صالحين لله، ومهتمّين بأن لا يتجاوزوا وصاياه. وهؤلاء الناس يشكّكون بما يحسبونه ظُلامةً تصيبهم وتُمَسّ حقوقهم. ما يصدُمهم ليس تصرُّفَ إنسان خَاطىء، كالإبن الشاطر (ف 15) أو كالعشّار (ف 18). إنهم يحتقرون الخطيئة، والإبنُ الأكبرُ لا يرضى أن يسمّى الإبنُ الشاطر أخاه بل يقول لأبيه: إبنُك أنت. ما يصدُمهم هو موقف يسوع الذي هو موقف الله نفسِه وهو موقفا يعتبرونه مزعزِعاً للديانة.
إن جواب الأب إلى إبنه الأكبر، هو في الوقت عينه جوابُ يسوع إلى سامعي المثل: "يا ابني، أنت معي في كل حين. وكلُّ ما هو لي هو لك. فعلينا أن ننعم ونفرح، لأن أخاك هذا كان مَيْتاً فعاش وضالاً فوُجد" (آ 31- 32).
لا يقول الأب "يا إبني (أويوس) "بل يا ولدي" (تكنون) فيدلُّ على عاطفته العميقة. أظهر حنانه للإبن الضالّ، وها هو يظهر حنانه للإبن المتمرّد. يَشرح له أن لا سبيل إلى الإحتجاج، وأبوه ما أساء إليه يوماً: "أنت معي في كل حين، وكلّ ما هو لي هو لك". هذا ما قاله صاحب الكرم لعمّال الساعة الأولى بلهجة أخرى وبالنظر إلى وَضع مختلف (مت 20: 13-15). لا، لم تُمَسّ العدالةُ لا هنا ولا هناك.
ثم يكرّر الإبن ما قاله لعبيده في آ 24. ولكن بدلَ أن يقول: "إبني هذا الذي كان مائتاً"، صحَّح بلطافة ما قاله الإبن الأكبر الذي استعمل العبارة عينَها "إبنُك هذا" (آ 30)، فقال: "إن أخاك هذا". إذا كان الأب سعيداً بلقاء ابنه، فعلى الإبن أن يكون سعيداً بلقاء أخيه. وحثّ الأبُ ابنه ولم يجرَحْه، ولم يعنّفه، بل أراد أن يؤثّر على عواطف قلبه، ونحن نكتشف هنا طريقة يسوع لكي يربح سامعيه ويقرّبهم إلى فرح الله.
و ينتهي القسم الثاني من المثل بهذا التحريض. أمّا القسم الأوّل فزاد خاتمةً قصيرة: "وبدأوا ينعمون (يفرحون)" (آ 24). كنا ننتظر هنا كلمة تقول لنا إن البكر اقتنع بكلام أبيه. غير أن المثل انتهى بنداء ولم يقُل لنا شيئاً عن الجواب إلى هذا النداء. لا ننسى أن النداء يتوجّه في الواقع إلى سامعي المثل وهم سيعطون الجواب إذا شاؤوا. أجل، توجّه يسوع إلى الكتبة والفريسيّين وانتظر منهم الجواب (وهو ينتظره منا). هو لا يجادلهم، بل يحاول أن يقنعهم ويؤثّر على قلوبهم.
2- الإبن الأصغر (آ 12- 15)
يعلّمنا هذا الخبر، ببعض لمَسات قصيرة، ما يجب أن نَعلَمه من مغامرات الإبن الأصغر، فيساعدنا على تقييم الأحداث التي رافقت رجوعه. لن نتوقّف عند هذه المقدّمة التي تلخّص الأمور بإيجاز: طلب الإبن الأصغر "نصيبَه من البيت". "سافر إلى بلد بعيد". "بدَّد ماله". أحسّ بالضيق. وانتهى به الأمر "إلى مزرعة يرعى فيها الخنازير": إلى هذا الدرك من الذُلّ والحقارة وصل هذا اليهوديّ. وحين روى يسوع مثل هذا الخبر للفريسيّين أراد أن يثير القرَف عندهم أمام وضع يتعارض تعارضاً كلّياً مع مثالِ الطهارة الطقسيّة التي يطلبون.
وبعد آ 16 نترك الخارج وندخل إلى قلب الإبن الشاطر فنرى ما يحدث فيه: "كان يشتهي أن يملأ بطنه..." (آ 16- 19). تألّم الشاب من الجوع، وحسَدَ الخنازير التي يرعاها: هناك من يهتمّ بالخنازير، ولكن ليس من يهتمّ به، من يهتمّ بأن يؤمّن له الضروريّ من أجل حياته. وإذ كان في الضيق، فكَّر في الخبز الذي في بيته، والذي يأكل منه العمّال قدر حاجتهم. تذكر فقرّر: سيعود إلى البيت، بدل أن يموت جوعاً. إذن، ما دفعه إلى العودة ليس التفكيرَ بحبّ أبيه، ولا الندامةَ على ما فعل، بل الحاجةُ إلى الطعام. هي صورة بعيدة كلَّ البعدِ عن المِثاليّة. إن يسوع يرى هذا الإبن بعيون سامعيه فلا يعطيه عواطف سامية.
غير أن هناك الإقرارَ الذي نقرأه في آ 18-19 ويتكرّر في آ 21: "يا أبت، خطئت في السماء وأمامك، ولستُ أهلاً لأن أُدعى لك إبناً". هذا الإعتراف يذكّرنا بموقف العشّار الذي ما كان يتجاسر أن يرفع حتى عينَيه إلى السماء، بل كان يقرَع صدرَه ويقول: "اللهمَّ ارحمني أنا الخاطئ" (18: 13). ولكن السامع الذي سمع تفكّرات الإبن الشاطر، يعرف أنّ هذا الشاب يهتمّ بالخبز الذي سيأكله لا بالخطيئة التي اقترفها. لهذا هيّا خطاباً يليّن به قلب أبيه ليعطيه ما يشتهي، أي قسماً من هذا الخبز الذي يوزعَّ بوفرة على العمّال.
نحن نبتعد عن مِنظار المثل إذا صوَّرنا الإبنَ الشاطر وكأنه مثال التوبة الحقيقية والصادقة. توجَّه المثل إلى سامعين توافقُ عواطفُهم عواطفَ الإبن الأكبر، فصوّر الأصغر كما يراه الأكبر وكما يفِكِّر به السامعون. أخذ يسوع بوُجْهتهم، فلم يقدّم لهم الإبنَ الشاطر كنموذج ومثال. ما يَهُمّه أن يفهمهم، هو حبُّ الأب لإبنه ولو كان حقيراً وساقطاً. ويبيّن يسوع أن الإبن الأصغر لم يستحقَّ هذا الحبّ بتوبة مثاليّة. سيقول الأب نفسُه في آ 24 وآ 32 سببَ مغفرته لإبنه وفرحِه بعودته: هو لا يتكلّم عن توبة ذلك العائد وندامته، ولكنه يقول إن هذا الإبن ظلَّ ابنَه رغم ضلاله وضَياعه. هو لا يريد أن يعرف إلاّ شيئاً واحداً: عاد ابنُه، وما همَّته الأسباب التي دفعته إلى العودة. إبنه هو هنا، وقد وثق بأبيه ثقةً دفعته إلى أن يعود إليه رغم حقارته. أنجل لا يتأسّس الغفران على عواطف الإبن، بل على محبّة الأب تجاه ذلك الذي بقي ابنه رغم كلّ شيء.
من يمثِّل الإبن الشاطر؟ قال بعض الشُرّاح: إنه يمثّل الوثنيّين، بينما البكر يمثّل الشعب اليهوديّ. يبدو أن لا أساس لهذا التفسير في نصٍّ لا يتحدّث عن امتيازات ومواعيد نالها شعبُ الله في العهد القد.بم. نحن بالأحرى أمام رجل يعتبر نفسه بارّاً، لأنه أمين للربّ، حافظ لوصايا شريعته، ولهذا فهو يحتقر الخطأة. إذن، الإبنُ الشاطر يمثلّ الخطأة أو من يعتبرهم الفريسيّون خطأة، لأنهم لا يحافظون بدقّة على متطلَّبات الشريعة.
أجل، توجَّه هذا المثل إلى الفريسيّين والكتبة فبرَّر موقف يسوع الذي يرحّب بالعشّارين والخاطيئن، وأظهر أن ما يؤسّس هذا الموقف ليس استعداداتِ قلبِ هؤلاء الناس، بل عواطفُ الله تجاهَهم.
ج- المثل في رسالة يسوع
يقول لنا لوقا إن هدف المثل هو شرح الموقف الذي اتّخذه يسوع تجاه الخطأة. هذا ما يقودُنا إلى التكلّم عن محبّه الله للخطأة.
1- الأب
لقد لاحظنا كلماتِ الإبن الأكبر: "كم لي من السنين أتعبّد لك ولم أتعدَّ قط أمراً من أوامرك" (آ 29)؟ هذه الكلمات التي تميّز موقف الفريسيّين الدينيّ، تدعونا إلى أن نرى الله من خلال أب هذين الإبنين. أجل إنّ هدف كل الأمثال، سواءٌ أكانت أمثال يسوع أم أمثال الرابانيّين، هو أن يفهمنا طريقة تصرّف الله. فالتطبيق على الله واضحٌ في مثل الراعي الذي بحث عن خروفه، والمرأةِ التي أضاعت درهمها (آ 4- 10)، كما في أمثال الصَديق المزعج (11: 5- 10)، والقاضي الظالم (18: 1- 8)، وصاحب الكرم (التينة العقيمة، 13: 6- 9؛ الكرّامون القتَلة، 20: 9- 19؛ اَلعمَّال في الكرم، مت 20: 1- 15) والداعي إلى الوليمة (14: 16- 24). ونقول الشيء عينَه عن الزارع (8: 5-15)، عن الذي ألقى في بستانه حبّةَ خردل (13: 18-19)، وعن المرأة التي طمَرت خميرتها "في ثلاثة أكياس طحين " (13: 20- 21).
ذَهِلَ سامعو يسوع أمام هذا الأب الشيخ الذي أسرع (ركض) إلى لقاء إبنه، والذي عبَّر عن فرحته بالأوامر التي أرسلها وطلب أن تُنفَّذ بسرعة (أسرعوا، آ 22). عاد الإبن المحبوب، وهذا كلّ ما يهُمّ الأب. ونحن سنجد في هذا الحبّ الأبويّ السببَ لإعادة اعتبار الإبن. وهدْا الحبّ يدلُّنا على حنان الله الفيَّاض تجاه أبنائه الصالحين، والفرحة الذي يملأ قلبه حين يعود خاطىء إليه. يظهر هدَا الحبّ بعاطفة رقّة وشفقة وحنان. تحرّكت أحشاؤه كما تتحرّك أحشاءُ أمّ تجاه إبنها.
وحدَّث الأبُ ابنَه البكر (آ 31). يجب أن لا يعتبر نفسه مظلوماً: أبوه يحبُّه كما يحبُّ أخاه، وما يملكه هو يملكُه إبنه معه: كل ما هو لي هو لك. بعد هذا لا يبقى له إلاّ أن يفرح فرحَ أبيه بعد عودة أخيه. بهذا التحريض الأخير يرتبط تعليم المثل ارتباطاً مباشراً، والتفاصيلُ تساعدنا على فهم هذا التعليم. ليس الأب هو الله الآب، ولكن عواطفَه تدلُّنا على عواطفِ الله التي يجب على السامعين أن يلتصقوا بها.
2- كَشْفٌ عن رحمة الله
إن رحمة الله تجاه الخطأة تشكّك الفريسيّين، فتبدو وكأنها تمَسُّ حقوقهم المكتسبة، وهم الأبرار أمام الله. هذا ما يفترضه المثل. فلنحاول أن نحدّد مناسبة هذا التشكّك ونتساءلْ كيف أظهر الله رحمته.
ظنّ البعض أن تعليم يسوع أثار الشكّ لدى الفريسيّين. حين أعلن حزقيال أنه يكفي للخاطىء أن يتوب لتُغفَر له كلّ خطاياه، إحتجّ السامعون: "ليس سلوكُ الله بعادل" (حز 18: 25-29). أيكون يسوع قال كلاماً مماثلاَ لكلام حزقيال، فكانت ردّة الفعل عند الفريسيّين كما عند سامعي حزقيال؟ الجواب هو لا. ونحن نستبعد هذا التفسير لأننا أمام تعليم تقليديّ لا يُزعج أحداً. ثم إن المثل لا يصوّر التوبة الصادقة والكاملة التي تساعدنا على تصوّر هذا التعليم. نحسّ ونحن نقرأ المثل أنّ كل ما أراده الإبن الشاطر هو أن يجد خبزاً يأكله.
أما لوقا فيقدّم تفسيراً آخر: تذمّر الفريسيّون حين رأوا يسوع "يرحّب بالخاطئين ويأكل معهم" (آ 2). تُذكِّرُنا هذه الكلمات بوليمة لاوي (رج مر 2: 16). ولكننا نعرف أنّ يسوع اتّخذ مواقف مماثلة في ظروف أخرى. مثلاً، حين قبل دعوة زكّا (19: 7) أو حين استقبل الخاطئة التي جاءت إليه في بيت سمعان الفرّيسيّ (7: 39) وسيدخل يسوع إلى السماء برفقة اللص (23: 43). وكانت المناسبات من هذا النوع عديدة بحيث سمَّاه المتقيّدون بالأصول: "هوذا رجل أكول، شارب خمر، صَديقُ العشّارين والخطأة" (7: 34).
ويتثبّت شرح القديس لوقا هذا بالمكان الكبير الذي تحتلّه المأدبة في حفلة استقبال الإبن الشاطر (آ 23-27، 29- 30، 32). ولكنّ هناك اعتراضاً: تحدّثَ النقّاد عن تنازل يسوع تجاه الخطأة. أمّا المثلُ فتحدّث عن حبّ الله لهم. هنا، نفهم أنّ يسوع يتكلّم لا عن نفسه، بل عن الله. هو لا يفسّر أسباب سلوكه بل يصوّر سلوك الله. لاموه على تقرّبه من الخطأة، فأفهمهم أنّ الله يرى في الخاطىء إبناً عزيزاً على قلبه. لو كان ثَمَّةَ شخصٌ غيرُ يسوع، لشدّد على الذهاب إلى الخطأة ودعوتهم إلى التوبة والرجوع إلى السبيل القويم. ولكنّ يسوع يرفع المسألة إلى المستوى اللاهَوتيّ. فالذين لاموه، كشف لهم حنان الله تجاه أبنائه الضَالّين. جاء جواب يسوع لهم غيرَ مباشر، ولكنّ جوابه أصابهم في الصميم. كيف ينتقدون سلوكه الذي هو انعكاس لسلوك الله؟ فهم حين يلومون يسوع، إنما يلومون الله نفسَه.
ونتوقّف أيضاً عند أسلوب يسوع حين يتكلّم عن الله، وكأنه يتكلّم عن نفسه. وهذا ما نشهده أيضاً في مثل الزارع (8: 5- 15)، والرجل الذي ألقى في الأرض حبّة الخردل، والمرأة التي طمَرت خميرها في العجين (13: 8- 12). كل هذا صورٌ تدلُّ على طريقة الله في إقامة ملكه، كما تدلّ على أن رسالة يسوع، مهما كانت وضيعةً، هي المرحلة الأولى في إقامة هذا الملكوت. إنّ يسوع يعرف أن الله يفعل في العالم بواسطة رسالته، وأنّ الله يبدأ المسيرة التي سيخرج منها العالم جديداً فينتقل من حال إلى حال.
وإذا عدنا إلى أمثال الرحمة الثلاثة (ف 15)، نجد أننا لسنا، بطريقة مباشرة، أمام مجيء الملكوت، بل أمام ميزة من ميزاته الرئيسيّة. عرفنا خصوصاً بواسطة أشعيا (ف 61 مثلاً) أنّ نهاية الأزمنة ستشهد حنان الله على المساكين (الذين سيبشَرون)، على الفقراء، على المتألّمين. يرى يسوع هنا تحقيق برنامجه (7: 22). وعناية الله (أو حنانه) هذه تصل إلى الضالين والخاطئين، ويسوع يكشف هذه العناية كعلامة لمجيء الملكوت.
وحين يرحّب يسوع بالخاطئين، يدلّ على الله نفسه الذي يكشف عن حبّه لأبنائه المساكين، عن رغبته في أن يغفر لهم، عن إرادته بأن يُدخلهم إلى هذا الملكوت الذي تصوِّرُه مأدُبَةُ مثلِ الإبنِ الشاطر.
إنّ مثلَ الأب المحبّ يكشف لنا حنان الله على الخاطئين. ولكنّ هذا الكَشف يتمّ بمناسبة سلوك يدلّ به يسوع على هذا الحنان. وهو لا يكشف لنا قلبَ الله دون أن يُسلّمنا سرَّ رسالة يسوع. فقبل أن يحدّثنا يسوع عن حبّ الله، عاش هذا الحبّ إلى درجة جعلت كلّ سلوكه يستلهم هذا الحبّ. وليس وجوده على الأرض إلاّ شهادةً لحب الله الرحيم، بل ليس موته على الصليب إلاّ شهادةً لهذا الحبّ: لقد أحبّ الله العالم فضحّى بابنه الوحيد (يو 3: 16) ليخلّص أبناءه الذين سقطوا في عبوديّة الخطيئة (رخو روم 8: 32).
حين نقرأ مثل الإبن الشاطر، لا نستطيع أن نفصِل حبّ الله الذي يتكلّم عنه، عن موقف يسوع تجاه الخطأة. وحين عرَّفنا يسوعُ بعواطف الله، كشف لنا في الوقت نفسِه عن سّر حياته وموته.
د- خاتمة
حين دوَّن لوقا مقدّمة ف 15 (آ 1- 2)، دلَّ قارئَه على مناسبة المثل، ووجّهنا في الطريق الصحيح لنفسّر الخبر. ودراسةُ المثل أتاحت لنا أن نلاحظ أن هذه الإشارة توافق المضمون. فالتعليم الذي أعطاه يسوعُ للفريسيّين هو ذاته الذي حملته الكرازة الرسوليّة إلى المسيحيّين الأوّلين. أجل، الأمثولةُ الموجَّهة إلى الفريسيّين لا تزال تتوجّه إلينا، وهي تبدو في لوحتين متعارضتين ومتكاملتين. الأمثولةُ أمثولتان.
1- الأمثولة الأولى: ثقةٌ واتّكال
كشف لنا المثَلُ حنانَ الله الذي لا يقاس تجاه الخطأة. وإن ضلُّوا، فهو لا يزال يعتبرهم أبناءه ويحبّهم حبّاً نجد تعبيراً ضئيلاً عنه في حبّ الوالدين لأبنائهم مهما كانت حياتُهم رديئة. هذا يبيّن لنا أنّ علينا أن نذهب إلى الله بثقة ونحن واعون لشقائنا وحقارتنا وخطيئتنا. فالخطيئة لا تقف حاجزاً بيننا وبين الله. بل إنّ الحب يصبح قلقاً شبيهاً بقَلقِ الوالدين أمام ابنهما المريض المُشرِف على الموت.
ولا يكشف هذا المثل عواطفَ الله إلاّ من خلال عواطف يسوع، من خلال حبّه الرقيق، الذي جعله يذهب إلى الخطأة، والذي قاده في النهاية إلى الصليب. الفداء هو سرُّ المحبّة، محبّة الله للبشر الضالين والخطأة غيرِ المستحقّين. قَبِل يسوع أن يُسمّى "صديقَ العشّارين والخطأة". فلماذا نخاف؟ إنه حقاً صديقُنا.
2- الأمثولة الثانية: تحذير وتنبيه
توجّهَ المثلُ إلى الفريسيين، فحذَّرهم من موقف يشبهُ موقفُ الإبن البكر. ويُخطيءُ المسيحيون إن ظنّوا أنّ هذه الأمثولة لا تعنيهم. فإذا كان الإبنان في المثل متقاربَين، فالأخطاء التي تميّزهما تستطيع أن توجد في قلب كلٍّ منا. لقد أعلنَ المسيح لرئيس الجماعة المسيحيّة في سفر الرؤيا (2: 2- 4): "أنا عالم بأعمالك وجُهدل وصبرك، وأنك لا تُطيق احتمال الأشرار... صبرتَ وتألّمتَ من أجل اسمي ولم تَكِلّ. ولكن لي عليك أنك تركْتَ محبّتك الأولى".
يتميّزُ الإبن الأكبر بطاعة لا عيبَ فيها، بطاعة جعلَت منه الخادمَ الأمين لأبيه والمُخلصَ لمصالح أبيه؟ ولكن ينقصه شيءٌ واحد: إنه لا يُحبّ، لا يحبّ أخاه. وإن عودة أخيه دلّت على أن قلبَه يابسٌ رغم مظاهر الأمانة الثابتة. وهو لا يحبُّ والدَه نفسَه فلا يشاركُه في فرحته. نقَصَ الحبُّ من قلبه، فجعل نفسَه خارجَ الوليمة المسيحانيّة.
فعلى المسيحيّ أن يعرف أنه يستحيل عليه أن يحبَّ إن كان لا يحبّ أخاه (1 يو 4: 20- 21)، إن كان لا يشاركُ الله في حبّه لإخوته. أن يكون هذا الأخ خاطئاً (أو هو لا يقاسمنا وُجْهة نظرنا)، فهذا لا يبدّل الأمور. إنه يبقى في نظر الله إبناً محبوباً. لا نستطيع أن نحبّ الله إن كنّا لا نحبّ أبناءه، وفي الدرجة الأولى الضالّين والتعساء والخطأة، وحبُّنا لهم يدلّ على حبِّنا لله.
ولقد جاء يسوع المسيح يشهد لحبِّ الله للخاطئين. شهدَ بتعليمه، وشهد أيضاً بكلّ سلوكه وخصوصاً بموته. فلا يمكن أن نكَون تلاميذَ المسيح دون أن نشهد لحبّ الله للخطأة الذين ابتعدوا عنه، والذين لا يزال يدعوهم إلى مأدبة الخلاص

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM