الفصل الخامس والثلاثون: الخروف الضائع والدرهم المفقود

الفصل الخامس والثلاثون
الخروف الضائع والدرهم المفقود
15: 1- 10

أ- مقدمة
سعى يسوع خلال حياته العامة أن يهيىّء البشر إلى رحمة الله تجاه الخطأة في مواقفه وأقواله. هذا ما تعلمنا به الأناجيل ولا سيما الإنجيل الثالث الذي يظهر فيه لوقا "كاتباً يحدّثنا عن حنان المسيح ولطفه. إنه ذلك الذي يشدّد على شفقة المخلص على الفقراء والمساكين" (1: 5 ي؛ 6: 20 ي؛ 10: 31 ي). كما يبدي اعتباره للنساء اللواتي كن محتقرات في أيّامه، وغفرانه للضالين من أي نوع كانوا (7: 36 ي؛ 15: 1 ي؛ 19: 1 ي). إنه يريد أن يعلم قرّاءه في الكنائس البولسية الثقة برحمة الله. هو يعرف أن معظمهم ينتمون إلى الطبقات الإجتماعية المعدمة (1 كور 1: 25 ي). ويعرف أنهم ارتدوا مباشرة من العالم الوثني، وأن العناصر المتهودة تحاول أن تبلبل إيمانهم. من أجل هذا كتب إليهم فيما كتب مثل الخروف الضال والدرهم المفقود لينشد رحمة الله إلى جيل وجيل أمام الذين يتقونه.
ب- الظروف التاريخية
نحن نجهل كل شيء عن ظروف الزمان والمكان التي فيها قدّم يسوع هذين المثلين. فلا النص ولا السياق يعلماننا بأي شيء في هذا الموضوع. وكان إفتراض يقول إن يسوع ضرب هذين المثلين في نهاية رسالته العامة. في اليهودية أو بيريه، قرب إحدى المدن. لا شك في أن لوقا يضم هذه الأمثال في وسط إنجيله الذي يتخذ شكل صعود إلى أورشليم (9: 51؛ 13: 22؛ 17: 11). ولكننا نعلم أن هذه المسيرة نحو المدينة المقدسة، وهو المكان الذي فيه يتمّ الخلاص، والذي منه يمتد إلى العالم، هذه المسيرة هي في نظره مسيرة لاهوتية.
ولكن لوقا يقدّم لنا السياق المباشر لهذين المثلين بطريقة موجزة جدّاً: "وكان العشارون والخطأة يدنون من يسوع ليسمعوه. فقال الفريسيون ومعلمو الشريعة متذمّرين: هذا الرجل يرحّب بالخاطئين ويأكل معهم" (15: 1- 2).
في العالم اليهودي في بداية المسيحية، وبتأثير من الكتبة والمعلّمين من الشيعة الفريسية الذين أثقلوا الشريعة الموسوية بعدد كبير من الممنوعات التفصيلية، بل عظّموا هذه الممنوعات بحيث تفوّقت على الشريعة نفسها (مت 7: 6- 8؛ لو 11: 38 ي)، في ذلك المحيط أضاع الناس المعنى الحقيقي للبار والخاطىء. فالأبرار هم الذين يعرفون الشريعة كما يعرفها الفريسيون ويعملون بها. وأهم الشرائع هي: راحة السبت، الطهارة بحسب الشريعة، دفع العشور. فإن اخطأ الأبرار تكون خطاياهم "ديونا" (حبوت) وتُغفر بسرعة بسبب ممارساتهم العديدة. وهكذا لا ينقضي وقت إلاّ ويصبح الله مديناً لهم (لو 18: 9 ي). أمّا سائر الناس فكانوا خاطئين، أي مذنبين اقترفوا خطايا ملموسة وظاهرة وثابتة. هناك أولاً الوثنيون (غوييم) والمنشقون (السامرين) الذين جهلوا الشريعة الموسوية أو لم يقبلوها كلها فما استطاعوا ان يعيشوا حياة مقدّسة (مت 18: 17؛ يو 4: 9). ثم هناك اليهود الذين يسلكون سلوكاً لا أخلاقياً كالزناة والقاتلين والسارقين (لو 18: 11). وأخيراً هناك شعب الأرض، أغنياء أو فقراء، الذين لا يهتمون بالممارسات الفريسية، ولا سيّما هؤلاء الذين يمارسون مهناً منحطة مثل العشارين (يأخذون العشر، يجمعون الضرائب) والرعاة والدباغين.
والفئة التي تعتبر نفسها من الأبرار لا تقيم مع الذين تعلنهم خاطئين إلاّ علاقات دنيوية محضة. كانت تخاف أن تتنجّس بأي إتصال يتضمّن ما هو مقدس. كانت تمتنع عن الأكل معهم، لأنها تعتبر أن مباركة الأكل في بداية الطعام ونهايته تعطيه وجهاً قدسياً. وهذا الإبتعاد كان قوياً إلى حد ان الجماعات المسيحية الأولى المطعّمة بعناصر فريسية، ستجد صعوبة في التخلّي عن هذه العوائد (أع 15: 14، 28؛ 15: 1 ي، 21: 17 ي؛ فل 3: 1 ي؛ 2 كور 10- 11؛ غل 2: 4 ي). لهذا شدّد التعليم الإنجيلي على موقف المخلّص الشخصيّ تجاه الخطأة.
إن يسوع لا يقبل بالنظرة الفريسية في مجال العلاقات الإجتماعية والدينية. فهو يرحّب بالعشّارين الخاطئين الذين يريدون أن يسمعوا تعليمه (لو 15: 1)، بل يستقبلهم في بيت يلجأ إليه ويجلس معهم إلى المائدة (لو 15: 2؛ مر 2: 15). وهذا الموقف الذي هو تعليم عملي أثار تذمّرات فئة "الأبرار" الذين يراقبون يسوع ولا يستطيعون أن يوفقوا مثل هذه المعاشرات مع مناداته بأنه مرسل الله (رج لو 4: 18 ي؛ 7: 39).
فقدّم مثلاً الخروف الضال والدرهم المفقود الجواب على هذه الانتقادات (15: 3- 15). كشف فيهما المخلّص على ان اهتمامه "بالضالين" يلتقي بإهتمام الله نفسه وبالتالي لا يقبل إنتقاداً. هو لا يتأخّر هذه المرّة في التشديد على رياء خصومه الذين يكتفون بقداسة "سطحية" لا تستطيع أن تخلّصهم (لو 11: 39 ي؛ 18: 14؛ مت 5: 20؛ 6: 2 ي؛ 23: 13 ي). ولا يضيع وقته في تبرئة محيطه المؤقّت: فالعشّارون لم يكونوا بريئين من كل ظلم (3: 12 ي؛ 19: 8)، وعامّة الشعب كانوا يستحقّون لقب الخاطئين (7: 29، 37).
وتحدّثنا الأناجيل في مواضع أخرى عن أوضاع مشابهة تذكّرنا بالظرف المباشر لهذين المثلين، لا سيما بمناسبة دعوة لاوي، ومتّى، وارتداد زكا. في هذه الظروف، جلس يسوع الى المائدة مع العشّارين فانتقده الفريسيون لأنه يأكل مع العشّارين والخاطئين (5: 29- 30 وز؛ 19: 5-7؛ رج 7: 34 وز). هل نستنتج أن لوقا دوّن هذه المقدّمة (15: 1- 2) مستلهماً أحد هذه الظروف وبالأخص الوليمة في بيت لاوي (5: 29- 30)؟ هذا ما أشار إليه بعض الشرّاح واستنتج أن الأداة "أوتي " في 15: 2 تدل على الإستفهام كما نجده في مر 2: 16: "لماذا يرحّب هذا الرجل بالخاطئين ويأكل معهم"؟ ليس الأمر بمستحيل. ولكننا نتساءل حينئذ لماذا لم يستلهم لوقا تعبيره السابق (لو 5: 30 ب) لا تعبير مرقس (2: 16). ونلاحظ في مجال آخر أن علاقات يسوع كانت موضع إنتقاد خلال حياته العامة بشكل أو بآخر (رج لو 19: 7).
واختلفت الانتقادات كما اختلفت الأجوبة. نشير في وليمة لاوي انه دلّ على شرعيّة موقفه فأبرز حاجة القريب إليه: حضور الطبيب بقرب المرضى الروحيين، والذهاب إليهم لدعوتهم إلى التوبة. قال: "ليس الأصحاء بحاجة إلى طبيب بل المرضى. ما جئت لادعو الأبرار إلى التوبة، بل الخطأة" (5: 31- 32). والألفاظ التي يستعملها خلال وليمة زكا تدلّ دلالة أوضح على مضمون أمثال الرحمة هذه: "جاء ابن الإنسان ليطلب ويخلص ما هلك" (19: 10). ونحن نعرف أن صورة الخطأة الضالين الذين يشبّهون بخراف ضائعة، كانت قريبة من المخلّص ( مت 10: 6؛ 15: 24) كما كانت قريبة من الأنبياء (إر 50: 6، 17؛ حز 34: 4؛ أش 40: 11).
وبمختصر الكلام، إن الظرف الذي قيل فيه هذان المثلان لا يختلف عن ظروف أخرى مشابهة.
ج- مثلاًن توأمان
وضع مثل الخروف الضائع بقرب مثل الدرهم المفقود في موازاة تامة من أجل هدف تعليمي، وربطا بأداة عطف: "أو". ويبدو تماثل الشكل الأدبي والمعنى واضحا حين نضع المثل تجاه الآخر.
أي رجل منكم أية امرأة
له مئة خروف لها عشرة دراهم
فأضاع واحد منها فأضاعت درهما واحداً
لا يترك... لا تشعل...
الى أن يجده إلى أن تجده
فإذا وجده فإذا وجدته
يدعو أصدقاءه تدعو صديقاتها
وجيرانه وجاراتها
ويقول لهم وتقول لهن
افرحوا معي افرحن معي
لأني وجدت لأني وجدت
خروفي الضائع الدرهم الذي أضعته
أقول لكم: هكذا يكون أقول لكن: هكذا يكون
الفرح الكثير فرح
في السماء عند ملائكة الله
لخاطىء يتوب لخاطىء يتوب
أسلوب تربوي لدى يسوع. يقول مثلين فيشدّد في الثاني على ما قاله في الأول. وإليك بعض الأمثال: الأثواب المرقعة والزقاق البالية (مر 2: 21- 22). المملكة والبيت المنقسمان (مر 3: 24-25). ملح الأرض ونور العالم (مت 5: 13 ي). زنابق الحقل وطيور السماء (مت 6: 26 ي). البيت المبني على الصخر والبيت المبني على الرمل (مت 7: 24 ي). حبة الخردل والخميرة (مت 13: 31 ي). الكنز والدرة (مت 13: 44 ي). بناء برج والذهاب إلى حرب (لو 14: 28 ي). وفي المثلين اللذين ندرس نجد تعارضاً طبيعياً بين رجل وامرأة، وهذه علامة من علامات لوقا.
حين يقدّم متّى مثل الخروف الضال (18: 12- 14) ويغفل المثل التوأم، مثل الدرهم المفقود، فقد لا يكون احتفظ بالسياق المباشر. وسنرى أنه سيستعيده في الخطبة الرابعة في إنجيله هي الخطبة الكنسية (18: 1- 35). ثم إنه يكتشف أمثولة غير أمثولة لوقا: واجب السهر على خلاص آخر مؤمن في الجماعة. هناك من قال إن يسوع استعمل على دفعتين المثل عينه ليدلّ على تبدّل طفيف في فكره. بل يبدو من المعقول أن إنجيل متّى كيَّف المثل الأولاني على حاجات المسيحيين الذين وجّه إليهم، مع أنه لم يقم بتصليحات قام بها لوقا في إنجيله.
د- مثل الخروف الضائع (15: 3- 7)
1- صورة ولوحة (15: 3- 6)
يصوّر المثل مشهداً من حياة الرعاية كما يعرفها السامعون. فمشهد الرعاة الذين يقودون قطعانهم إلى المرعى أمر معروف في الشرق. وقد استعمل العهد القديم مراراً موضوع الحياة الرعائية ليدلّ على علاقات ألله بشعبه (مز 23: 1 ي؛ 80: 2؛ حز 34: 1 ي؛ إر 50: 6، 17؛ أش 40: 11). سار يسوع مع هذه العقلية البسيطة وجعلهم يدركون فكره.
يبدأ المثل باستفهام (رج 11: 5؛ 14: 28، 31) فيدخل السامع في اللعبة. قال: "من منكم له مئة خروف فأضاع واحداً منها لا يترك... ويركض وراء الضائع حتى يجده "؟ كان بإمكانه أن يقول أيضاً بطريقة مشابهة ولكن بشكل لا يجتذب الإنتباه: لنتخيّل شخصاً له مئة خروف... فالرقم العالي (رج 1صم 25: 2)، رقم مئة، يتيح له أن يميّز بين نوعين من الخراف، وهكذا يبرز تعلّق الراعي العميق بأي عنصر من قطيعه.
ان ضياع خروف ليس بالأمر الغريب في هذه الجبال (مت 18: 12) الوعرة. ثم لا نفهم بشكل مطلق التخلّي عن 99 خروفاً ما زالت مجتمعة والذهاب في طلب الخروف الضائع. نحن هنا أمام إيجاز أدبي هدفه أن يبرز تعلّق الراعي بكل من خرافه، وهو تعلّق يشدّد عليه الإستمرار في البحث والفرح حين يجده.
كدّس يسوع التفاصيل التي تدلّ على فرح الراعي كما سيكثر من مظاهر الحنان التي بها يعبّر الأب عن عاطفته في عودة الابن الضال (15: 20 ي). قال: "حين يجد الراعي خروفه يحمله على كتفيه فرحاً. وإذ يعود إلى بيته يدعو الأصدقاء والجيران ليقول لهم: افرحوا معي لأني وجدت خروفي الضائع ". قد نظنّ أن هذا التفصيل أو ذاك يتعدّى واقع حياة الراعي، مع العلم أننا رأينا كلّنا راعياً يحمل على كتفه خروفاً صغيراً، مع العلم ان الناس يخبرون جيرانهم بأفراح الحياة وأحزانها. ولكن يبقى أن هذه التفاصيل تهيّىء الدرب لعبرة المثل (15: 7) فتصوّر لنا بملامح بشرية سلوك الله نفسه. وإننا نجد الصور في الدياميس أو على القبور، وهي تمثّل المخلّص بشكل راعٍ صالح يحمل خروفاً رمزياً على كتفيه.
2- تطبيق تعليمي أو العبرة من المثل (15: 7)
قد أحلّ يسوع في تطبيق الصورة كلمة سماء محل راعٍ ، وخاطىء محل خروف، حاجة
توبة الخاطىء وتوبته محل ضياع الخروف وإرجاعه، وفرح السماء محل فرح الراعي.
الأداة "اوتوس" = هكذا التي تبدأ التطبيق، تدلنا على أننا أمام مثل حقيقي (15: 3) وتعوّض نقص الأداة المقابلة في بداية الصورة المقترحة (آ 4 أ). حين استعمل يسوع هذه الاداة أقام موازاة حقيقية بين الوضعين: المتخيَّل (آ 4- 6) والحقيقي (آ 7). لا شك في أن الموازاة ليست تامة، لأنه لم يذكر في الوضع الحقيقي ما فعله "الله " لإرجاع التائب، وبما أنه توجد مقابلة لم يُسمع بها (في ألفاظ مجرّدة) بين فرح يمنحه رجوع الخاطىء وفرح تعطيه أمانة تسعة وتسعين باراً. ولكن الاختلافات هي في الظاهر أكثر منه في الواقع.
لنعرف أولاً أن السماء التي تفرح هي الله. هذه اللفظة التي نجدها مراراً في معنى استعاري في الأناجيل والآداب الرابّانية (15: 18؛ مت 3: 2؛ 4: 17؛ 5: 12، 35...) تستعمل لتدلّ على تسامي الله فوق هذا العالم، وبالتالي على الطابع الفريد لطبيعته التي لا يشارك فيها شيء ممّا على الأرض. وفي المثل التوأم، مثل الدرهم المفقود، يحلّ ملائكة الله محل السماء خوفاً من صورة انتروبومورفية تشبيهية، لا من أجل إشراك البلاط السماوي في فرح الله.
إذن الله يفرح بعودة خاطىء تائب كما يفرح الراعي باستعادة خروفه الضال. وفرحه بعودته يدلّ على انه لم ينسَ الخاطىء بل اهتمّ به دوماً. لا شكّ في أنه لا يقول إنه ذهب يبحث عنه كما جرى الراعي وراء خروفه، ولكن كيف نتصوّر أن يكون فعل أقلّ من الراعي من أجل كائن عزيز على قلبه. هل هناك حاجة إلى تفصيل هذا البحث المعروف؟ وهل كان يستطيع يسوع أن يدلّ على عنايته الشرعية بالخاطئين (15: 1- 22) لو لم يكن الله الآب يلاحقهم بنعمته وحنانه؟ وإلاّ أين كان التعارض بين موقف الله وموقف الفريسيين، إذا ظلّ الله بعيداً مثلهم عن الخاطىء واكتفى بأن ينتظر عودته؟
وبعد أن لاحظنا التناسق بين الصورة الأمثالية وتطبيقها، يبقى أن نفسّر في الخطّ عينه هذه الفرحة العظيمة التي يحصل عليها الله بتوبة الخاطىء. نحن في الجهتين أمام فرح واحد. ولكن بدا فرح الله بكلمات مجرّدة: "سيكون فرح في السماء بخاطىء يتوب أكثر...". أما فرح الراعي فيعبّر عنه بكلمات ملموسة وهو ينفجر بأعمال وحركات: "حمل خروفه على كتفيه فرحاً وعاد إلى بيته ودعا أصدقاءه وجيرانه وقال لهم: افرحوا معي". كيف نشكّ في هذا الموضوع إذا تذكّرنا أن النص الموازي في مت 18: 13، يطبّق على الراعي، الذي يجد خروفه، عبارة مجرّدة استعملها لوقا ليتحدّث عن فرح الله العظيم بعودة الخاطىء؟ هذه الملاحظة تفرض علينا أن نفهم فرح الله بالنظر إلى فرح الراعي.
في نظر هذا الراعي تتساوى الخراف كلّها. فضياع أو استعادة أي منها كان قد دفعه للتعبير عن العوِاطف نفسها. لهذا يجب أن نعتقد أن امتلاك التسعة وتسعين خروفاً أمينا إمتلاكاً مطمئناً يمنحه ارتياحاً عميقاً يوازي بنسبة أكبر إستعادة الخورف المئة الذي ضاع. وحين يحمله على كتفيه ويدعو الجيران كلهم، تتفجّر فيه في وقت محدّد عاطفة يحس بها بصورة عادية. إن شعوره الذي أدركه الجميع هو ردّة فعل مباشرة على خوف سابق واسمه الفرح، أما عواطفه العادية فهي سلام وسعادة واطمئنان مع التسعة والتسعين الحاضرة.
هذه السيكولوجيا الشعبية تطبّق على الله نفسه. من الأكيد أنها تطبق عن طريق القياس، لأن الله روح (يو 4: 24). وقد توخّى المثل أن يفهمنا ملء غفران يُمنح لخاطىء تائب وعودته التامة الى صداقة الله، وحنان الله الأبوي الذي يُغدق عليه. ويريد أيضاً أن يبرهن لنا كم يجب أن نعاشر الخطأة والضالين على مثال يسوع لنثير فيها التوبة فنتيح لله أن يحبهم كما يشاء.
لن نقول كما قال بعضهم إن يسوع أراد أن يفهمنا أن الخاطىء التائب هو موضوع حب إلهي أكثر من "الأمين" أو هو أحقّ بهذا الحب من البار الذي يحتاج إلى التوبة، كأن هناك أحداً لا يحتاج إلى توبة: نكون معارضين لهذه السيكولوجيا الشعبية التي نجدها في صورة المثل، فنمزج الفرح والحب الحقيقي. ولا نظن أن يسوع حين تكلّم عن التسعة وتسعين باراً الذين لا يحتاجون إلى توبة أراد أن يسخر من الذي يعتقدون نفوسهم أبراراً كالفريسيين والكتبة: فكأني بنا نزيد على نص المثل الذي يقابل بصراحة بين أمناء حقيقيين وضالين حقيقيين (خراف وأناس). ولكن قد يكون الأمر صحيحاً إذا عدنا إلى مثل الإبن الضال (15: 25- 32) حيث الإبن الأكبر الذي يعتبر نفسه باراً يمثّل الفريسيين.
وبمختصر الكلام، إن مثل الخروف الضال في نص لوقا يعلمنا أساساً أن الله يتصرّف تجاه كل خاطىء مثل راع صالح تجاه كل خروف من قطيعه. هو لا يتركه لمصيره التعيس، بل يطلبه باستمرار بنعمته وحنانه ويحاول ان يعود به من ضياعه، ولن يرتاح إلاّ حين يعيد إليه كل صداقته ويدخله في جماعة الأبرار. وهكذا يبدو المثل إمتداداً لتعليم نصوص الأنبياء حول محبة الله ورحمته، إمتداداً يصل إلى كماله. وهذا ما يجب أن يشجّعنا في عمل الرسالة. نعرف منذ الآن حين نقترب من الخطأة وحتى أبعدهم، أن الله يعمل فيهم وأن الأمور تهيّأت من أجل قبول كلمة الله (رج روم 2: 1- 2). وأننا إن اقتربنا من الخطأة اقتدينا بالله وتجاوبنا مع رغبة حبّه. لقد أخطأ الكتبة والفريسيون حين تحاشوا الاتصال بالخطأة ساعة كان باستطاعتهم أن يقودوهم إلى الله.
وبكلمة أخرى، يكشف لنا المثل عن الحبّ الفريد الذي يشعر به الله تجاه كل إنسان. وهذا الحب يتسجّل في إرسال ابنه الوحيد لخلاص العالم (رج يو 3: 16؛ 10: 1 ي؛ 14: 13؛ ت 23: 28، 39؛ روم 3: 21؛ 5: 6 ي).
ونلاحظ أيضاً أن فكرة التوبة والارتداد لدى الخاطىء أو تبدلّ عقليته وسلوكه واضحة في تطبيق المثل (15: 7). هي ما زيدت فيما بعد، لأنه لا بد منها ليظهر المعنى في التطبيق. فيسوع لا يمكنه أن يصادق الخطيئة التي تتضمّن ثورة مفتوحة على الله وإنقطاعاً عقوقاً عنه ورفضاً لحنانه. إن الله لا يفرح إلاّ إذا رأى الخاطىء قد تاب واهتم بالعودة إلى من هو ينبوع الحياة. فبعد الأنبياء الذين أخضعوا غفران الله لتبدّل سلوك الأشرار، جعل يسوع من التوبة والإرتداد شرطاً أساسياً للوصول إلى الملكوت (مر 1: 15؛ لو 13: 3- 4؛ 19: 4- 5؛ 23: 28). فإن غابت هذه الفكرة من نصّ متى (18: 13) الموازي لنصّ لوقا، فلأن تطبيق المثل تبدّل حين تكتف مع سياق مختلف، لا لأن هذا التطبيق سبق ذلك الموجود في لوقا. فإن كان الإنجيل الثالث أدخل مدلول التوبة إلى حدث الوليمة عند لاوي (5: 32)، فهذا لا يعني أنه أدخله هنا في غير محله. فهو حين تحدّث عن لاوي أوضح فكرة متّى ومرقس (مر 2: 17- مت 9: 17).
ونلاحظ أخيراً أن يسوع حين تكلّم عن الأبرار الذين لا يحتاجون إلى التوبة (15: 7 ب)، ما أراد أن يؤكّد إمكانية الحياة دون أن نقترف خطيئة (يع 3: 2؛ 1يو 1: 8). إنه يتحدّث هنا فقط عن عودة الذين انفصلوا عن الله فلم يعودوا يعيشون في قطيعه. وهذا ما يشدّد عليه مثل الإبن الضال (15: 13).
3- مقابلة مع مثل مت 18: 12- 14
يبدأ متّى كما يبدأ لوقا بسؤاله بلاغي. يبدأ المثل: "ما قولكم"؟ جُعل المشهد على الجبال لا في البرّية فدلّ بالأحرى على منطقة المراعي الفلسطينية. ثمّ إن تعابير الفرح عند لوقا أكثر اتساعاً منه عند متّى. "وإذا وجده، ألا يفرح به"؟
ويختلف السياق والتطبيق عما نجد في لوقا. يقع المثل وسط خطبة تتوجه إلى التلاميذ (مت 18: 1 ي). وقبل أن يصل يسوع إلى المثل بحصر المعنى، وهو يشير إلى التلاميذ لا إلى الكتبة والفريسيّين، يقدّم عدة بواعث تدفعنا إلى الإهتمام "بالصغار" (صغار القوم) الذين يؤمنون به (مت 18: 6) أي أضعف تلاميذه الذين لم يتعلّموا، ولهذا يتشكّكون بسهولة. وأحد هذه البواعث، وهو يسبق المثل حالاً، هو أن الله يوكل ملائكته بالمحافظة على هؤلاء الصغار (مت 18: 10)، وهكذا يدلّ على عظيم اهتمامه بهم. والباعث المعطى في آ 11 يقوّي الاعتبارات السابقة: يُزاد على اهتمام الأب تضحية الابن الذي تجسّد ليخلص صغار القوم من الهلاك. إن آ 14 غائبة عن بعض المخطوطات (الفاتيكاني، السينائي). ويُعتبر انها جعلت هنا بتأثير من لو 19: 10. ولكن الصورة الأمثالية (مت 18: 12-13) وتطبيقها (آ 14) تمثلان الباعث الأخير الذي يدفعنا إلى الإهتمام بالصغار: فالله يتصرّف على مثال الراعي الذي يبحث عن خروفه الضال ولا يرضى أن يبقى ضائعاً. والله لا يريد أن يهلك أحد من هؤلاء الصغار.
هناك تناسق أساسي بين المثل وقرائنه كما بين صورة المثل وإطارها، ولكن هذا التناسق ليس تاماً في لوقا، لأن فرح الراعي (آ 13) لا يُذكر في التطبيق (آ 14)، ولأن إرادة الله الخلاصية تبدو سلبية تجاه بحث الراعي والذهاب وراء خروفه. إستعمل الإنجيليان مرجعاً واحداً خرج من تعليمين مختلفين في الجماعات المسيحية الأولى فكيّفه كلّ منهما مع إنجيله.
والأمثولة في متّى؟ يُطلب من التلاميذ أن يهتموا بخلاص الضعيف، إذا أرادوا أن يكونوا أمناء لإرادة الله الخلاصية. ويبقى الواجب حاضراً سواء نجح الراعي في إستعادة خروفه أو لم ينجح.
هـ- مثل الدرهم المفقود (15: 8- 10)
1- الصورة واللوحة (15: 8- 9).
صوّر يسوع مشهداً من داخل البيت لسامعين بينهم نساء عديدات. وتأتي أداة "أو" فتربط هذا المثل بسابقه رباطاً وثيقاً فتدلّ على أننا أمام وجهتين لفكرة واحدة.
نحن في بيت فلسطيني مؤلّف من غرفة واحدة قليلة الإرتفاع مع أرضية من تراب. لا تملك هذه المرأة الفقيرة، إلاّ عشرة دراهم (كما سمّاها أهل اليونان، أو ربع شاقل عند اليهود). وأضاعت المرأة عشر ثروتها، وهي خسارة أعظم من خسارة خروف من مئة. لهذا نفهم خوف المرأة ودقّة عملها في البحث عما فقدت: غرفة مظلمة لا يصل إليها النور الخارجي، وهذا ما يبرّر إشعال السراج. وطبيعة الأرض دفعتها إلى إستعمال المكنسة. وعليها أن تحرّك الحصيرة والأواني علّها تجد "كنزها".
وحين وجدت درهمها لم تستطع أن تحتفظ بفرحها لنفسها. فعلت كما فعل الراعي بعد أن وجد خروفه الضالة، نقلت سعادتها إلى جيرانها (9:15).
2- التطبيق العملي (15: 10)
ويبدأ التطبيق التعليمي بأداة "هكذا" (هوتوس) كما في مثل الخروف الضائع. إذن يقيم يسوع موازاة حقيقية بين الصورة الموسّعة والواقع الذي يمثّل.
للوهلة الأولى أن هناك اختلافاً كبيراً بين هذا التطبيق وتطبيق مثل الخروف الضال. لا نشعر هنا بفرح عظيم بل فقط بفرٍح. وبدل السماء نجد ملائكة الله الذين يفرحون، والتسعة والتسعون باراً غابوا من عدد كبير من المخطوطات.
في الواقع، إختلافات ظاهرة أكثر منها حقيقيّة. لقد لاحظنا في تطبيق المثل المسابق الفرحة العظمى التي يحسّ بها الله أمام خاطىء يعود. هي تعبير عمّا يحسّ به بصورة عادية وليست برهاناً حقيقيًّا عن هذه العاطفة. ونعرف أنّ الكتب كانت تستعمل عبارات عديدة لتتحاشى أن تتلفّظ باسم الله. فعبارة أمام ملائكة الله تعني أمام الله، أمام دينونة الله.
إذن، أمثولة الدرهم المفقود هي أمثولة الخروف الضائع. وهي لا تتضمّن فقط فرح الله حين عودة الخاطىء التائب، بل محاولاته المتعدّدة من أجل هذه العودة. يصوّر مثل الخروف فرحة الراعي باستعادة خروفه، ومثل الدرهم إهتمام المرأة وما عملته من أجل إستعادة درهمها. صورتان متكاملتان تدل الأولى على ما يعمله الله ليرد خاطئاً الى التوبة، وتدلّ الثانية على عظيم فرحه عندما يعود هذا التائب إليه قائلاً: "أخطأت إلى السماء وإليك" (15: 18). فيكون جواب الأب عناقاً وقبلة وعيداً لا ينتهي

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM