الفصل الثالث والثلاثون: متطلَّبات الحالةِ المسيحيّة

الفصل الثالث والثلاثون
متطلَّبات الحالةِ المسيحيّة
14: 25- 35

حين نقرأ هذه النصوص الكتابيّة، نتأمّل في متطلّبات مسيرتنا على خُطى الربّ يسوع. والنصّ الذي ندرسُ الآن يذكرنا بالشروط المفروضة على الذي يتوق إلى أن يحيا تلميذاً حقيقيّاً للمسيح.
وقبل أن نتعمّق بالتعليم الدينيّ الذي يقدّمه، نشير بإيجاز إلى الصعوبات النقديّة التي يواجهُها القارىء المتنبّه لدى قراءته هذا النصّ.
أ- على مستوى النقد الأدبيّ
يرى أكثر الشُرّاح في لو 9: 51- 19: 27 القسمَ المركِزيَّ في الإنجيل الثالث: إنه خبرُ سفرٍ طويل يقود يسوعَ من الجليل إلى السامرة، ويقدّم للكاتب مناسبة ليَجمع في إطار واحد ما تعلمه من مراجعه الخاصّة. في هذا القسم يحتل التلاميذ السبعون مكان الصدارة بجانب مجموعة الأثني عشر. ولهذا يسمّى "إنجيلَ التلاميذ".
فلا غرابة في الأمر إنْ توقّف الشرّاح، حتى الأقدمون منهم، عند الطابعَ الإصطلاحيّ لخبر السفر هذا. ثم، إن لوقا يعطي في هذا القسم الذي هو خاصٌّ به، كلَّ إمكاناته كمؤرخّ بفنّ المعلومات كما بترتيب الأحداث.
1- القرائن المباشرة (ف 14)
إن الطابع الإصطنايّ الذي يميّز القسم المركزيّ في الإنجيل الثالث، ينكشف بصورة خاصّة في هذه المقطوعة التي ندرس وفي قرائنها المباشرة. ففي ف 14 لا يجعل لوقا أيّ رباط بين تحريض آ 25- 33 وما سُمّي "حديث المائدة" الذي سبق هذا التحريض (رج آ 1، 7، 12، 15 التي تشكّل الإطار التدوينيّ). نحن هنا على التوالي أمام شفاء يوم السبت (آ 1-6)، أمام مثلٍ عن إختيار الأمكنة للجلوس إلى المائدة (آ 7- 11)، وتعليمٍ قصير حول اختيار مدعوّينا إلى مأدبة (آ 12- 14). هذا من جهة، ومن جهة ثانية، يصعب علينا أن نكتشف علاقة بين المقطوعة التي ندرس (آ 25- 33) والتنبيهِ إلى المِلح الذي يَفسُد فيصبح بلا طعم (آ 34- 35). لا شكّ في أنّ يسوع أشار مراراً إلى التشبيه بالملح الذي يرتبط ببعض العادات اليهوديّة: "الملحُ جيّد. ولكن إذا فَسَد الملح فبمَ تُرَدّ إليه المُلوحة" (آ 35)؟
2- بُنْية المقطوعة
ويبرز هذا الطابع الإصطناعيّ أمام أعيننا داخلَ هذه المقطوعة (آ 25- 33). نشعر وكأنّنا أمام عناصرَ استقلّت في الأصل، ثم تجمّعت الواحدُ بقرب الآخر لأنها تتعلّق بالموضوع الواحد.
نجد في آ 25 مقدّمة قصيرة دوّنَتها ولا شكّ يدُ لوقا. أمّا آ 26- 27 فنجدهما عند متّى في "الخُطبة الرسوليّة" (مت 10: 1- 43، رج خاصة آ 10، 37- 38)، وهما في محلّهما المنطقيّ لأنّ القرائن تعالج بصورة واضحة الإضطهاداتِ التي يتحمّلها التلاميذ من أجل المسيح.
وبعد هذا نقرأ مثلَين: مثلَ الرجل الذي يبني بُرجاً (آ 28- 30)، مثلَ الملك الذي فُرضت عليه الحرب (آ 31- 32). قد يكون يسوع قال هذين المثلين مرّاتٍ عديدة، ونحن لا نكتشف بسهولة تطبيقَهما الاصليّ. أمّا في نصّ لوقا فهما يحذّراننا من أن نعتنق حياة التلمذة ليسوع بالخِفّة والطيش، بل نجلس ونفكّر قبل أن نقرّر.
وهذا ما توضحه الخاتمة التي تبدو بشكل قول مأثور: "فكذلك كلُّ واحد منكم" (آ 33). إنّ هذا القول الموجَز الذى يفرِضُ على التلاميذ أن يتخلَّوا عن كلّ مُلك ومال، يعود إلى الألفاظ التي تعبّر عن فهم لتعليم يسوع استنتجه لوقا من التقليد الأوّلي. ولذلك، مع أنّ آ 33 تتجذّر، على ما يبدو، في التقليد السابق، فنحن سنكتشف تعليمها الدينيّ على ضوء التدوين اللوقاويّ.
3- هل مِن تماسكٍ تدوينيّ
بعد أن رأينا الطابع الإصطناعيّ للمقطوعة، هل نستغرب إن لم نجد فيها التناسق المطلوب؟ أوّلاً، في المثلين: يستطيع باني البرج والمَلِكُ الذاهب إلى الحرب أن يتخلّيا عن مشروعَيهما. أمّا التطبيق الأخلاقيّ في آ 33 فلا يترك لنا إمكانيّة الخيار: من أراد أن يكون تلميذَ المسيح من أجل الخلاص الأبديّ، فعليه أن يرتضي كلَّ التضحيات. ثانياً: إذا كانت آ 33 تفرض على تلميذ المسيح أن يتخلّى عن كل خيراته، أن يتخلّى عن كل ما يملك، فإن آ 26 تطلب منه حتى التخلّيَ عن عواطفه الشرعيّة (تعلّقه المحبّ بالآخرين) وعن حياته من أجل المسيح. عليه "أن يبغض أباه وأمّه وإمرأته". ثالثاً: تكلّم المثلان (آ 29- 32) عن الشروط التي يجب أن تتوافر لدى باني البُرج والمَلِك قبل أن يلتزم كلٌّ منهما بمشروعه. أمّا تطبيقُ آ 33 فيعني تلاميذ سبق لهم أن التزَموا. فانطلاقاً من هذه النقطة الأخيرة نفهم تبدّل المنظار الإنجيليّ. فالمثل يبقى تشبيهاً، وكلُّ تشبيه لا يَفي بكامل المُراد. إن الحقيقة تتعدّى الكلام لتصل إلى السير وراء المسيح، ولو أُجبر التلميذ أن "يَزهَد في جميع أعماله".
4- فرَضيه عمل
وهكذا نرى أن هذه المقطوعة تقدّم حقلاً مختاراً للنقد الأدبيّ. إلى أيّ حدّ نجد فيها كلمات المسيح نفسه؟ ما الذي جاء به التقليد، ما الذي جاءت به الجماعة المسيحيّة الأولى؟ ما هي العناصر التي دوّنها قلمُ لوقا؟ كلُّ هذه أسئلة تنتظر أجوبةً نهائيّة. يكفينا هنا أن نشير بإيجاز إلى خِياراتنا حول النِقاط المختلَف عليها.
تبدو آ 25 عملاً تدوينيًّا. جعلها لوقا كمقدّمة للمقطوعة.
أمّا آ 26- 27 اللتان نجدهما مع بعض اختلافات، لمحهما تعودان في جوهرهما إلى يسوع نفِسه (رج أيضاً لو 9: 23؛ مت 18: 24؛ مر 8: 34). ولكنّ آ 27 مطبوعة بصورة خاصّة بطابَع الجماعة المسيحيّة الأولى. فبعد مأساة يوم الجمعة العظيمة، شدّدت هذه الجماعةُ على "حمل الصليب"، بعد أحداث الفصح وحدَث موضوعَي "حملِ الصليب" و"السير وراء يسوع". وتدلّ آ 26- 27 أيضاً على يد لوقا. فالجملة في لوقا هي أطول ممّا في مت 10: 37. يزيد لوقا: "امرأته وإخوته وأخواته، بل نفسه (حياته)". ونفسّر هذه الزيادة بالميل التنسّكيّ الذي يميّز الإنجيل الثالث. قدّم متّى العبارة التقليديّة: "لا يستحقّني". فبدّلها لوقا وأعطاها بُعداً كنسيّاً: "لا يستطيع أن يكون لي تلميذاً". ومقابل هذا نحن نقدّر القديسَ لوقا المتضلّع من الأداب اليونانيّة لأنه احتفظ بالعبارة الأصليّة والاراميّة: "أبغَض أباه وأمه"، بينما خفّف متّى من حدّة الكلمة، وهو الذي يكتب إلى يهود صاروا مسيحيّين، فقال: "من أحبّ أباً أو أمّاً اكثر مني".
لا نعرف الظروف التي فيها تلفّظ يسوعُ نفسُه بهذين المثلين الخاصّين بلوقا (آ 29- 30، 31- 32) والمرتبطَين بالعالم الشرقّي عامّهً والفلسطينيّ خاصّة. ولكنّ لوقا أَقحَمهما في إطار التجرّد المطلوب من التلاميذ. أخيراً نحدّد موقع آ 33 على مستوى التدوين اللوقاويّ ("وكذلك..."). نحن نكتشف هنا يد لوقا الذي يشدّد أكثر من الإزائيَّين الأخَرَين على الفقر والتجرّد ("من لا يزهد في جميع أمواله"). ونعود من جديد إلى المنظار الكنسيّ: "لا يستطيع أن يكون لي تلميذاً".

ب- شرح المقطوعة: متطلّبات حالة التلمذة
1- المقدّمة (آ 25)
نحن في طريق من الطُرق. لا إشارةَ أخرى عن الزمان والمكان. الجموع تواكب يسوع، ترافقه. ويسوع هو موضوع إعجاب "الجموع الكبيرة" (التي تتساءل هل هو المسيح أم لا). إن "الجموع الكثيرة" ترمُز أيضاً إلى هؤلاء الناس العديدين الذين أُعجبوا بيسوع على مرّ العصور، وتأمّلوا بشخصه وحياته وتعليمه.
ولكنّ يسوع يقف على مسافة منها ويقدّم لها تنبيهاً وتحذيراً. في هذه المناسبة، نلاحظ التعارض الواضح بين "الجموع الكبيرة التي تسير برفقة يسوع" وفِعلة يسوع الذي "يلتفت" إليها. كم من هؤلاء المعجبين به الآن سيسيرون معه حتى النهاية؟ كم هو عدد الذين سيكونون بجانب المعلّم ساعة الفوضى العاقة والقريبة (رج مت 10: 36: "فأعداء الإنسان أهلُ بيته الخاص")؟ وهكذا تساعدنا هذه المقدّمة القصيرة على أن نتطرّق بقوّة إلى موضوع التجرّد.
2- التجرّد المُطْلق (آ 26- 27)
"من جاء إليّ...". ما حاول يسوع يوماً أن يحرّك عقليّاتٍ مهووسة تَضمن له النجاح. إذا شئنا أن نتبعه، يجب أن نريد ذلك بكامل وعينا: لا يكفينا تعلُّقٌ خارجيّ بشخصه، تعلّقٌ نزَواتيّ وعابر. فحالةُ التَلمذة تتطلّب التخلّيَ الداخليّ عن شخصنا، وعن كل ما نملك. وهذا المبدأ الذي أشار إليه لوقا في 9: 23 (رج ما يوازيه في مت آ 1: 24 ومر 8: 34) قد استعاده هنا وشدّد عليه.
فهذ الكلمات المُطْلقَة أوّلاً عن مهابة شخص يسوع، تُبرز في الوقت عينه كيف أن وضع تلميذ يسوع يختلف اختلافاً جَذرتا عن الوضع الذي تعرفه جماعات الرابانيّين.
أوّلاً: "أبغض"
لا شكّ في أن ثقل الجملة يكمُن في قوة تعبير فعل "أبغض" (ميساين). ما يَلفت النظر هو أن لوقا الذي تميّز إنجيله باتجاه تصوّف عميق، إحتفظ بهذه المفردة، بينما خفّفها متّى وهو المشدّد على الأخلاقيات، فكتب: "من أحبّ أباً أو أمّاً اكثر مني" (مت 10: 37). هل تهدف هذه المقارنة إلى أن تصدمنا؟ فالمعلم الذي فرض على التلميذ أن يحبّ حتى أعداءَه، يبدو هنا وكأنه يعارض نفسه بنفسه. ولكن يجب أن نتذكّر أن فعل "البغض" في العهد القديم ولاسيّمَا في الأدب الحِكميّ، لا يتضمّن رفضاً أنانيّاً لكل عِلاقة بشرية، بل ينزِع الطابع المُطلق عن أمور هذا العالم نزعاً إراديّاً (وهكذا نعيد تقييمه) فيجعلها تنتقل إلى المركز الثانى حين تكون مصالح الله في خطر. إن يسوع يفرض حبّاً مُطْلقاً (لا نسبياً) وصِدقاً كاملاً وتكريساً لشخصه من دون قيدٍ ولا شرط. هذا لا يعني إنكارَ العواطف الشرعيّة التي تربطنا بعائلتنا، أو محبّةَ حياتنا. ولكن يجب أن نُخضع كلّ شيء لمحبّتنا ليسوع. وعندما تتهدّد سلسلة القِيَم هذه، وحين يكون نزاعٌ بين العواطف البشرّية (حتى الشرعيّةِ منها) وخدمةِ المسيح، فلن يبقى موضع للتردّد: فخدمةُ المسيح ومحبّتُه تتغلبان على كلّ شيء فينا.
وجَذْريّة لوقا في تفسير متطلبات المسيح تُفهمنا لماذا توسّع الكاتب في لائحة العواطف التي يجب أن نتخفى عنها. يتحدّث مت 10: 37 فقط عن "الأب والأمّ والأخ والأخت" (يقول لوقا: الأبناء). يزيد لوقا "الزوجة الإخوة والأخوات والحياة (أو النفس)". لعبت المرأة دوراً هامّاً في لوقا، ولهذا زاد متأثرّاً بما في 18: 29 (ق مت 9: 29؛ مر 10: 19): "يبغض امرأته". هذا ما سُمّي الوجهَ الإنسانيّ في الإنجيل الثالث. ثم إن الكلمة اليونانيّة "بسيخي" التي تعني النفس والحياة تردُ مراراً عند لوقا (12: 23، 19: 24). ولهذا توسّع غيريغوريوس النازينزي في متطلّبة المسيح هذه فكتب: "لا يكفي أن نتخلى عمّا نملك، بل نتخلّى أيضاً عن نفوسِنا (عن ذواتنا)" (العظة 32/ 10).
حين يحدّثنا الإنجيل الثالث عن "بُغض الأب والأمّ والزوجة..."، فهو يشير إلى وضعٍ ملموس عاناه تلاميذ يسوع الأوّلون. فمن انضمّ إلى المسيح انعزل عن عائلته وصار منبوذاً في ذاك المحيط الفلسطينيّ. ولكن هذا كان أيضاً وضعَ المسيجيّين الأوّلين في زمن الإنجيليّ. ويبيّن لنا التاريخ على مرّ العصور، أن كلمات يسوع لاقت صدىً في حياة عدد كبير من المسيحيّين.
ثانياً: "حمل صليبه"
"من لا يحمِل صليبَه...". لقد اتّخذت العبارة معنى رمزيّاً في لغة التصوّف المسيحيّ في زمن آباء الكنيسة. فالصليب صار استعارة تدلّ على أحداث تُضايقنا في حياتنا، تقلقنا أو تؤلمنا. في هذا المنظار تعني عبارة "حمل صليبه"، الدخولَ في مخطَّط الله والقَبولَ بسخاء بهذه اللأحداث المؤلمة، وكأنّها أداة خلاصنا، وكأنها وسائلُ ترسلها العنايةُ من أجل تقدّم ملكوت الله. حين نَحمل صليبَنا بهذه الطريقة نتبع يسوع حقّاً.
ولكن هل نتوقّف عند المعنى الإستعاريّ ولا نتجاوزه؟ كلاّ. ففي زمن المسيح، حتى قبل آلامه، برزت شهادات تتيح لنا أن نفسّر "حملَ الصليب" بمعنى دقيق هو: أن يتخلّى الإنسان عن حياته، أن يكون مستعدّاً للموت، وفي النهاية أن يموت (رج 17: 33). في هذا المعنى الملموس تعني عبارة "حمل صليبه"، أن نكون في وضع نتحمّل فيه كلّ شيء من أجل المسيح، نتحمّل حتّى الموت. فعلى التلميذ الحقيقيّ أن يضع نفسه في وضع إنسانٍ حُكم عليه بالموت، فحمَلَ أداة تعذيبه وقتلِه. لا شكّ في أنه يجب أن نتوقّف عند الصليب، هذه العقوبةِ القصوى التي فرضها الرومان على العبيد، فعُرفت لدى أهل فلسطين في زمن يسوع. إن عبارة "حمل الصليب" تشير إلى صورة محدَّدة لسامعي يسوع (مثلاً في سنة 6 ب م صُلب مئات الأشخاص بعد ثورة شخص اسمُه يهوذا)، صورة مؤلمة يلمّح إليها يسوع بإيجاز حين يتحدّث عن الشروط المطلوبة لإتّباعه. ولكن كلمة المسيح "من لا يحمل صليبه" ستتخذ مدلولاً أكثر عمقاً في الزمن الذي يلي الفصح، أي بعد حدَث الجمعة العظيمة الدراماتيكيّ. هذه الكلمة دلت على صورة المسيح، رجلِ الآلام، الذي يسير وهو يتمايل تحت صليبه. إن كلمة يسوع هي نداء للمسيحيّين المعاصرين للوقا. ولنا نحن في القرن العشرين، هي نداء مؤثّر لكي نتبعه على طريق الجلجلة، لكي نشارك في صلبه وآلامه وموته.
ثالثاً: اتّباع يسوع
وتزيد آ 27 متطلَّبةً أخرى على متطلَّبة حمل الصليب: اتّباعَ يسوع والسير في خطاه. نلاحظ أنّ اللغتين العبرّيةَ والاراميّةَ لا تمتلكان مُفردة خاصّة تعني "اتّبع". ولهذا استعملتا عبارة "جاء وراء". وإذ يأخذ الشُرّاح بعين الإعتبار هذا الوضع الخاصّ، فهم يوافقون على القول إنّ عبارة "سار على خطى يسوع" (أو اتّبع يسوع) تستعمل عند الإزائيّين فتعني: كان تلميذ يسوع، محاش مع يسوع، شاركه في مصيره.
إن القول الوارد في آ 27 يدعونا إلى أن نمشي في خطى يسوع على الطريق التي تقود إلى الصليب. هاتان المتطلَّبتان تترافقان في التقليد الإزائيّ، فتلقي الواحدةُ الضوءَ على الأخرى. ونظنّ، كما قُلنا سابقاً، أنّ توحيد هذين الموضوعين، أي "اتّباع يسوع" و"حمل صليبه" تمّ بعد الفصح وبتأثير من الحدث المأساويّ الذي حصل يومَ الجمعة العظيمة. ومهما يكن من أمر، فلوقا يتوافق مع كلّ كتّاب المسيحيّه الأولى تقريباً (رج يو 15: 18- 20؛ روم 8: 17؛ 1 كور 1: 5؛ 4: 10- 12؛ 13: 14؛ غل 6: 17؛ فل 3: 10 ي؛ 2 تم 2: 12؛ 1 بط 2: 21) فيربط بصورة واضحة صليب المسيحيّ بشخص المسيح الذي حمل هو أيضاً صليبه ("حمل صليبه، تبعني، كان لي تلميذاً"). هناك مشاركة في الآلام بين المسيح والمؤمن، وهذه المشاركة هي عنصر يلازمُ حياة المسيحيّ. جوهر حالة التلمذة أن نشارَك يسوع في آلامه.
3- زَهدَ في جميع أمواله، تخلّى عن كلّ شيء له (آ 26- 33)
غير أنّ هذا التجرّد عن كلّ ما هو عزيز على قلبنا، حتى عن عواطف المودّة الشرعيّة (آ 26)، ومشاركةَ التلميذ في آلام المعلم (آ 27)، لا يكونان نتيجة مجهود فرديّ وعابر (أداة الوصل "غار": لأن أو الفاء تربط بين المثلين وما يسبقهما). فعلينا أن نذهب إلى حدود الجهاد، أن نستعدّ لنعطي ذواتِنا عطاءً تامّاً، أن نقبل بكل التضحيات التي تفرض علينا. ويجب خصوصاً أن نكون مستعدّين ("كذلك اذن..."، آ 33) لنتخلّى عن كلّ ما نملك من أجل المسيح.
أولاً: فكّرْ قبل أن تلتزم
من الصعب أن نحدّد بدقّة الدرسَ الذي أراده يسوع حين تلفّظ بهذين المثلين. ومهما يكن من أمر، ففي إطار لوقا الإصطناعيّ، هما يقدّمان تنبيهاً قاسياً ضدّ كل إلتزام سطحيّ. ولا جدوى في أن نتساءل: ماذا يعني البناءُ الغنيّ، وعلى ماذا يدلّ البُرج أو الملك؟ هذه التفاصيل وغيرُها، هي جزء من الإطار المثليّ التقديديّ. قال كالفيلد: إن باني البرج هو من صِغار المُزارعين. فأجاب بلومر، وهو على حقّ في ذلك: هذه التفاصيل هي جزء من بُنية الأمثال، وهي في حدّ ذاتها لا تعني شيئاً.
في المثل الأوّل، يتطلّب المشروع الذي قام به البناء تفكيراً وفطنة. "بدأ وجلس ليحسب النفقة". فالباني شأنُه شأنُ الملِك، يجدُ نفسَه أمام خِياريَن: إمّا أن يتخلّى وإمّا أن يرضى بالتضحياتَ الضرَوريّة. غير أن التطبيق الأخلاقيّ للمثل الأوّل، وإنْ لم يكن معلناً، فهو لا يترك أيّ مكان للخِيار: من أراد أن يكون تلميذ المسيح، فعليه أن يحسب حساب التضحيات المطلوبة منه، وأن يكون مستعدّاً لقبولها بقلب كبير.
في المثل الثاني نرى ملكاً. "يذهب لمحاربة ملِكٍ آخر" (آ 31). بدأ هو أيضاً وجلس وأخذ يفكّر: إن وجدَ نفسَه خاسراً، إن فُرض عليه أن يذهب بعشرة آلاف لملاقاة رجلٍ معه عشرون ألفاً (آ 31)، فتفرض عليه الحكمة عندئذٍ أن يمتنع عن الحرب. وقبل أن يجتاح العدوّ بلاده، يرسل إليه بَعثة. يوفد إليه سفارة (آ 32) للبدء بمحادثات من أجل السلام. مصلحتُه أن يسالمه، وَمهما كلّفه الأمر يتجنّب هزيمة نكراء. وها نحنٍ كما في وضع البناء أمام خِيارين. ولكن هل يترُك التطبيق الأخلاقيّ مكانا للإختيار؟
ثانياً: "فكذلك إذن..." (آ 33)
تشكّل آ 33 خاتمة للمثلين. كان يمكن أن يعبّر عنها بالشكل التالي: كما أنّ باني البُرج يقبل بكل النفقات الضروريّة لئلا يسخر الناس به، وكما أنّ الملك يبدأ بمحادثات سلام لئلاّ يصاب بهزيمة تامّة، هكذا على من يتوق أن يكون تلميذ المسيح أن يقبل بكلّ التضحيات المفروضة عليه لئلاّ يهلك. ولكنّ القارئ الواعي يُحسّ بتبدّل في النظرة. تداول الباني والملك ليعرفا هل يلتزمان أم لا. أمّا المسيحيّ الذي إليه يوجّه لوقا إنجيله، فقد سبق له والتزم في خدمة المسيح. لقد قلنا سابقاً: إن هذه الخاتمة ("من لا يتخلَ عن كل ما له لا يقدر أن يكون لي تلميذاً") قد استنتجها لوقا من تعليم يسوع ودوّنها بطريقته الخاصّة. نحن نعرف جَذريّة لوقا حين يتكلّم عن الفقر. في هذا الإطار نفهم في معنى مُطْلق العبارةَ التالية: من لا يتخلَّ عن كل خيراته (عن كل ما يملك) لا يقدر أن يكون تلميذي.
ثم إن الكلمات الأخيرة في آ 33 (لا يقدر أن يكون تلميذي) تستعيد حرفيّاً النهاية التي نقرأها في آ 26 وآ 27. حين دوّنها لوقا، لم يفكّر بالتحرّك الذي به نصير تلاميذ، بل بما يميّز وضع تلميذ المسيح الملتزم إلتزاماً كاملاً بخدمة هذا المعلّم. وإذ يوجِّه لوقا إنجيلَه، إلى الكنائس المسيحيّة في عصره، وبصورة أدقّ إلى تلك الخارجة من العالم الوثنيّ، فهو لا يقيم تمييزاً واضحاً بين تلاميذ المسيح المباشرين (70 تلميذاً) والمؤمنين العاديّين. هذا يتضمّن في روايته أنّ التجردَ المطلق يفرض نفسه فلا يميّز بين مجموعة الرسل وأولئك الذين يتوقون أن يعيشوا كتلاميذ المسيح في كلّ العصور.
2- الملح جيّد (آ 34- 35)
ولكن قد نُدعى إلى "الوليمة العظيمة"، فنرفض أن نعيش مع يسوع مصيره كنبيّ تجاهله شعبه. فهذا ما تشدّد عليه الآيتان الأخيرتان في ف 14، بفضل التشبيه مع الملح الذي خسر طعمه، خسر ملوحته. ففي مت 5: 13، يكشف هذا القول عن الدور الذي يلعبه الشاهد ليسوع والسائر في طريق التطويبات. إن لم يتجنّد بنفسه لهذا الدور، فلا يحلّ أحد مكانه.
ويأتي القول عن الملح في مر 9: 49- 50 في نهاية تعليم يسوع الأخلاقي، ليدل على التخلي (عن كل شيء) والتنقية الضروريين من أجل بناء جماعة تتألّف من تلاميذ يسوع، من تلاميذ يتقبّلون نداء يسوع.
الملح يعطي الطعام طعمه فلا يكون تافهاً وفاقد اللذة. والمفح يحفظ الأطعمة فيبعد عنها الفساد. إن لم يفعل التلميذ في العالم ما يفعله الملح في الطعام، فهو يستحقّ أن يطرح خارجاً لأن لا نفع منه.
وإذا عدنا إلى لو 14: 34- 35، نجد في قول يسوع دعوة إلى التلميذ الذي يدعوه يسوع إلى الوليمة، لكي يتعرّف إلى مسؤوليته. هل هو مستعدّ أن يقاسم المعلم مصيره؟
وتنتهي آ 35: "من له أذنان للسماع فليسمع". هنا نعود إلى 8: 18 ونتبصّر كيف نسمع. ما هو موقفنا تجاه دعوة يسوع إلينا لكي نزهد في جميع أموالنا؟ هذا هو الشرط الوحيد لكي نكون تلاميذ حقيقيين.
خاتمة
إن المقطوعة التي فسّرناها مليئة بالمسائل النقديّة والأدبيّة. ولكنّنا وجدنا فيها نداء مؤثراً لنأخذ على مَحْمَل الجدّ وضعَنا كتلاميذ للمسيح. لسنا أمام عواطف سهلة ولا أمام إلتزام نزَواتي، عابرٍ ومشروط؛ على تلميذِ المسيح أن يفرض على نفسه استسلاماً من دون قَيد ولا شرط. فكلّ المسيحيّين، أي كل الذين يرغبون في أن يكونوا تلاميذ المسيح، يَعُون تسلسل القِيَم، فيستعدّون للتخلّي عن كل عزيز على قلوبهم، ولو كانت أكثر العواطف شرعيّة، حين يكون المسيح، القيمةُ العظمى، في خطر (آ 26). ويرى لوقا صورة خاصّةً: إن وضع تلميذ المسيح يفرض عليه التخلّي عن كلّ ما يملك (آ 28- 33). فمن يسمع هذه الكلمة يتلقَّ نداء لكي يشارك المعلّم في ألمه: لقد التزم بأن يتبع يسوع في طريق الجلجلة وهو حاملٌ صليبه الخاصّ (آ 27). أجل، إننا لا نقدر أن نتطلع إلى الوضع المسيحيّ إلا في علاقة مع المسيح. "إن جاء أحد إليَّ، إن لم يبغض أباه... من لا يحمل صليبه ويتبعْني لا يقدر أن يكون لي تلميذاً".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM