الفصل الثاني والثلاثون: المدعوّون إلى الوليمة

الفصل الثاني والثلاثون
المدعوّون إلى الوليمة
14: 15- 24

أ- الخبر الامثالي
قيل أن السياق الاخباري لحياة يسوع يساعدنا على إلقاء الضوء على المضمون الأصلي لمثل المدعوين إلى الوليمة. ولكن لا ننسَ أن نصّ متّى أعيدت كتابته فلم يعد كما هو شاهداً لتقليد قديم جداً. ونسخة لوقا وإنجيل توما قد تصحّحتا بطريقة تختلف عمقاً، ولهذا فلا ننسبهما إلى يسوع. إذا أردنا أن يصل النصّ إلى رسالة يسوع، فالنصّ الذي عليه نرتكز هو الذي يخرج من النقد الأدبي. هل هذا ممكن؟ أجل، قد يكون العمل أقلّ صعوبة ممّا نتصوّر. لأن خطوط الخبر الكبرى أكيدة نسبياً ونحن نستطيع أن نبني عليها. وإن كان هناك بعض الأمور التي نتردّد فيها فهي ليست بالضرورية التي لا يُستغنى عنها. هذا يعني ان النصّ يستند إلى الخبر أكثر منه إلى نصّ محدّد تحديداً دقيقاً. ونذكر بإيجاز مسيرة الخبر.
• قدّم لنا صاحب المثل إنساناً أقام وليمة. لهذا يبدو أن المقدّمة لم تذكر المدعوين.
• يبدأ الخبر بحصر المعنى ساعة (إشارة إلى الوقت؟) أرسل هذا الرجل خادمه ليقول للمدعوين: تعالوا. كل شيء جاهز.
• لم يأتِ المدعوون، بل ذهبوا بدل ذلك إلى أشغالهم: واحد إلى حقله وآخر إلى تجارته.
• يفترض وَلْي الخبر أن الخادم عاد وأخبر سيّده.
• حينئذٍ غضب السيّد.
• وقال لعبده: إذهب إلى الطرق وآتِ بالذين تجدهم لكي يمتلئ بيتي.
• لأنه لا يذوق عشائي واحد من الذين كانوا مدعوّين.

1- بنية النصّ
ينقسم الخبر إلى لوحتين متوازيتين ومتعارضتين. وهذه بعض الملاحظات:
• الكلمات: في القسم الأول توجّه السيّد إلى المدعوّين (بواسطة عبده) ليقول لهم أن يأتوا. في القسم الثاني توجّه إلى العبد ليقول له بأن يذهب في طلب المدعوّين.
• التحرّكات: بدأ القسم الأول بإرسال الخادم وانتهى بعودته. ركّز على النداء المقبل وعلى واقع وهو أنّ المدعوّين ذهبوا إلى مكان آخر. أحيط بغضب السيّد وإعلانه ضدّ المدعوّين. أمّا القسم الثاني فمركّز على الأوامر التي أعطاها السيّد: أخرج وادخل.
• تميّز القسمان بالتعارض الذي يشير إلى المدعوّين الذين طلبوا إليهم أن يأتوا فلم يأتوا، واللامدعوّين الذين امتلأ البيت منهم. فالمدعوّون الذين ذهب العبد في طلبهم إلى بيوتهم (كانوا يستعدّون للخروج في الوقت الذي وصل) ينتمون طبعاً إلى مستوى السيّد الاجتماعي. أما اللامدعوّون الذين جمعوا على الطرقات فهم أشخاص من طبقة دنيا لم يفكر السيّد يوماً أن يدعوهم إلى وليمته.
نلاحظ أنّ التواصل بين قسمي الخبر يتأمّن بالإشارتين اللتين تحيطان بالأولى: غضب السيّد والإعلان الذي به استبعد المدعوّين.
ونلاحظ أيضاً أن بنية تعارضيّة مع ثلاثة أشخاص ليست نادرة في الأناجيل. نرى من جهة الشخص الرئيسي ثم مع ثانويين (أو مجموعة أشخاص) يتعارضون. البنية بقسمين واضحة في مثل الإبن الضال (15: 11- 24، 25- 32) ومثل عمّال الكرم (مت 20: 1-7، 8- 15) ومثل الفريسي والعشّار (8: 10- 12، 13- 14). نلاحظ بسهولة ان هذه البنية هي في خدمة تعارض بين اثنين.

2- مسيرة العمل الدراماتيكي
أولاً: اتخذت البنية شكل خبر فتوقّفت عند الوجهة الجامدة. فلا بدّ من الإهتمام الآن بالتحرّك الذي يميّز مضمون الخبر ويجعلنا ندرك جانبه الديناميكي. من السهل أن ندرك أن هذه الحركة تتوسّع في ثلاث مراحل توافق ثلاثة أوقات الرسمة الدراماتيكية. انها قصة رجل اتخذ مبادرة ففشل فتجاوز فشله.
* المبادرة الأولى مبادرتان: نعرف أولاً أنه قرّر أن يقيم وليمة (وقد يكون اتصل بالمدعوين). يبدأ الخبر ساعة يرسل خادمه ليقول للمدعوّين أن يأتوا.
* الفشل: لم يأتِ المدعوّون بل ذهبوا إلى انشغالاتهم الشخصية. يهتمّ المفسّرون بهؤلاء المدعوّين: الدوافع الحقيقية التي جعلتهم يرفضون، استعداداتهم الرديئة تجاه الذين دعاهم. وهذا سبب آخر لنقول إن الراوي لم يقل شيئاً من كل هذا (تكلّم متّى وحده عن إرادتهم الرديئة). لا يعطى أي حكم على موقف المدعوّين: لا يهتم الراوي بهؤلاء الأشخاص بل بربّ البيت وبالوضع الذي جعله فيه عائق الذين اتّكل عليهم. يبقى الخبر في النهاية خبر ربّ البيت.
* تعدّى السيّد فشله فاتخذ مبادرة ثانية. أو بالأحرى ميّز الخبر ردّتي فعل لدى هذا السيّد. أولاً: ردّة فعل عاطفية: غضب السيّد. ثانياً: ردّة فعلى عملية: أمر عبده بأن يدعو أول من يراهم. وينتهي الخبر بتفسيرين يتعلقان بكل من ردّتي الفعل، ولكن بترتيب معاكس: إذا كان على الخادم أن يأتي بمدعوّين آخرين، فلكي يمتلئ البيت. وان غضب السيّد هو الذي وجد تعبيره في حكم الإستبعاد الذي لفظ ضدّ المدعوّين.
ثانياً: لا يبدو من النافل أن نشدّد على الطريقة التي بها ركّزت هذه الدراما الصغيرة انتباه السامعين على الشخص الرئيسي وعلى تصرّفه.
* لم يقل الراوي شيئاً عن بواعث واستعدادات المدعوّين الذين تراجعوا، ولا عن بواعث واستعدادات الذين حلّوا محلّهم. إنه يعلمنا فقط عن استعدادات وبواعث ربّ الوليمة.
* بل إن الراوي يهتمّ باستعدادات السيّد في وقت واحد من الخبر. لا يقال شيء عن نيّة الذي ينظّم الوليمة. تحدّث بعضهم عن السخاء أو المنفعة الشخصية المحضة. هذا من عالم الخيال. أما نحن فلا نكتشفه بوضوح إلاّ حين يعرف أنّ المدعوّين تراجعوا فيغضب ويأمر خادمه بأن يذهب ويأتي بمن يحلىّ محلّهم.
* من الممكن أن نحدّد أيضاً المنعطف الحاسم الذي يبرزه الراوي: أمر السيّد العبدَ بأن يذهب إلى الطرقات ويدعو من يجدهم. يتركّز الخبر كلّه عند هذه المبادرة وهو يريد أن يشرحها ويبرّرها. تُفهم أولاً على انها ردّة فعل على تراجع المدعوّين الذين تحدّثنا عنهم في القسم الأول. وتفسّر انطلاقاً من حركة الغضب التي أحسّ بها السيّد. ترجمت في قرار الإستبعاد الذي أعلن ضدّ المدعوّين. وحدّد لنا الهدف من أجل تفسير هذا القرار المدهش: أراد المعلّم أن يمتلئ بيته.
* نرى الآن النقطة المحدّدة التي سعى الراوي إلى أن يجعل سامعيه يوافقونه فيها: سلوك السيّد الذي يسعى إلى تجاوز الفشل فيقرّر أن يقدّم وليمة إلى الطارئين. إنه يبني الخبر كلّه بالنسبة إلى هذا القرار ويعمل على جعله مقبولاً لدى السامعين.
* نفهم فى الوقت عينه أنّ الخبر ينتهي قبل أن تبدأ الوليمة. ليست الوليمة هي الأمر المهم في هذا الخبر، بل معرفة من يشارك، ولماذا كان المدعوّون اناساً لم يفكّر فيهم السيّد أولاً.

ب- وضع المثل في رسالة يسوع
بعد تفحّص أول للخبر الامثالي في ذاته، وقبل أن نطرح السؤال حول السبب الذي دفعه إلى روايته، نتعرّف إلى المناسبة التي وُلد فيها المثل. عملياً، نتعرّف إلى السامعين الذين ألف المثل لهم، ونوعية الأفكار التي في رؤوسهم والتي لا بدّ من تبديلها. بمختصر الكلام، نحاول أن نكتشف السياق الوجودي الذي يتيح لنا أن نحدّد بُعد المثل الأصلي والحقيقي.
1- ماذا تقول الدراسات
هناك مجموعتان. الأولى تجعل القسمة بين المدعوّين واللامدعوّين في داخل الشعب اليهودي. والثاني تجعل القسمة بين اليهود واللايهود.
أولاً: داخل العالم اليهودي
* تعارض سوسيولوجي: حلّ الشعب محلّ رؤساء اليهود. رفض رؤساء الأمّة اليهودية المملكة المسيحانية التي دعوا إليها، فاستبعدوا وحلّ محلّهم أشخاص من درجة دنيا لم ينتظروا طويلاً حتى يدخلوا.
وقال مارشال: فئتا المدعوّين ليستا الفريسيين من جهة والعشارين والخطأة من جهة ثانية، لا اليهود والوثنيين. فكل المدعوّين هم من مدينة واحدة. المدعوّون الأؤلون هم الأغنياء ومن طبقة ربّ البيت. والآخرون هم الوضعاء والفقراء الذين تجاوبوا مع دعوة الله أفضل من الأوّلين.
* إنّ عدداً كبيراً من الشرّاح يجعل التعارض على مستوى ديني: يمثّل المدعوّون الكتبة والفريسيين الذين يعملون بالشريعة ويعيشون بالتقوى. وحلّ محلّهم الخطأة والعشّارون. تحدّث بعضهم عن تهديد يرسله يسوع: إن لم تسمعوا سيأتي من يحلّ محلّكم. وأشار آخرون إلى الوضع الحاضر الذي يعيشه يسوع. من هم الذين حوله؟ العشّارون والخطأة الذين حلّوا محل النخبة الدينية. وفئة أخرى: دعا يسوع الجميع من دون تمييز، والمشاركة في المائدة هي استباق إلى المشاركة في الوليمة السماوية. فلا يُستبعد إلاّ من استبعد نفسه. ولكن يسوع يلاحظ أنّ المهمَلين هم الذين قبلوا الدعوة وجاؤوا.

ثانياً: بين يهود وغير يهود
يندّد المثل بموقف الشعب اليهودي كله لا بموقف جزء منه وحسب. أرسل إليهم يسوع تنبيهاً خطيراً: إن رفضوا تعليمه، سيستفيد غيرهم من الخلاص.
* هناك فئة أبقت على الغموض. لا يعرفون من حلّ محلّ إسرائيل. إذن، هم يتوقّفون عند التهديد ولا يقولون كيف يتحقق هذا التهديد.
* فئة ثانية تسفي اللامدعوّين: انهم الوثنيون الذين حلّوا محلّ إسرائيل الذي لم يؤمن. وهكذا يصبح المثل إعلاناً خفياً لا التباس فيه عن الرسالة لدى الوثنيين.

ثالثاً: خاتمة
ان السؤال حول هوية المدعوّين الأوّلين يتضمّن سؤالاً آخر: هل يوافق المدعوّون الآخرون واقعاً حاضراً في رأس السامعين، أم أنه واقع سيتتم في المستقبل؟ لهذا نبدأ بالسؤال الزمني: علاقة الخبر بالزمن الحاضر للراوي.
2- الزمن الحاضر
نعطي أولاً بعض النماذج من أمثال ذات نهاية مفتوحة. إن مثل الإبن الضال ينتهي في الحاضر: إن أورد الراوي تشكّيات الاكبر، واجهها بتحريض الأب الذي يشير إلى السامعين عبر الشخص الامثالي ويدعوهم إلى تبديل موقف تتعلّق به خاتمة الخبر التي لم تُروَ (15: 31- 32). ونجد النهج عينه في مثل عمّال الكرم حيث السؤال الأخير: "عينك شرّيرة لأني أنا صالح" (مت 20: 15). إنه يتوجّه من خلال عامل الساعة الأولى إلى محاور الراوي. لا يقول الخبر ما الذي كان جواب العامل لأن موقف المحاور الحقيقي هو الذي يقرّره.
إن نقطة الإنطلاق مع حاضر الراوي لا توجد بالضرورة في نهاية الخبر الامثالي. ففي مثل الزارع (مر 4: 3- 8) يتأخر الخبر مطوّلاً عند فشل يليه فشل ليأتي فجأة مع نجاح مدهش: إنّ تفسير أشكال الفشل يعكس الشعور الذي أعطاه الوضع الحاضر للسامعين. ولهذا جاء التأكيد الأخير ليعبّر عن ثقة الراوي بنهاية سعيدة في المستقبل. ونرى النهج عينه في مثل الزرع الذي ينبت وحده (مر 4: 26- 29): إنّ الزمن الحاضر يوافق هذه الفترة الطويلة التي فيها لا يعمل الفلاّح شيئاً لحقله. ولكن تأكّدوا انه سيعمل حين يحلّ وقت الحصاد. وتدلّ حبّة الخردل الصغيرة على عاطفة الضعف التي تشير إلى الزمن الحاضر. ومهما كان هذا الحاضر حقيراً فهو سيعطي نتائج هائلة (مر 4: 30- 32). في كل هذه الحالات يفسّر الحاضرُ الحقير بالنظر إلى الرباط الذي يوحّده بمستقبل باهر.
في المثلين الأولين، إتصل الخبر الامثالي بحاضر الراوي في النهاية. وهكذا نفهم ان الأمثال لم تبنَ كلها حسب النموذج عينه. ولا بدّ من العودة إلى مثل المدعوّين.

أولاً: الوضع الحاضر في الخبر
* زمن الأفعال. يُروى الخبر في الماضي. إذن، العمل هو ما يلفت انتباهنا.
* مشروع الوليمة سابق للعمل الدراماتيكي بحصر المعنى. ونقول الشيء عينه عن اختيار المدعوّين.
* وينتهي الخبر قبل أن تبدأ الوليمة التي هي مستقبل بالنسبة إلى العمل. وسعادة ملكوت الله التي تشير إليها الوليمة هي في المستقبل أيضاً بالنسبة إلى السامعين. هناك تفسير آخر (دود الإنكليزي) يقابل بين الوليمة وحاضر رسالة يسوع فيقول: إنّ المشاركة في المائدة مع يسوع هي علامة للمشاركة في الوليمة السماوية.
* لم تبدأ الوليمة، بل لم يمتلئ البيت بعد. هذا أقلّه الوضع عند لوقا حيث ينتهي الخبر ساعة يرسل السيّد عبده ليأتي بمن يحلّ محلّ المدعوّين الأوّلين "لكي يمتلئ بيتي" (آ 23)، كما قال. فالعلاقة وثيقة بين بيت مملوء وبداية الوليمة، ولهذا لن نفصل بين الصورتين. لا شكّ في أن متّى يعلن في نهاية آ 10 أن قاعة العرس امتلأت. ولكن هذا التأكيد يهيّئ بالأحرى الدرب لثوب العرس ولا يشكّل امتداداً لمثل المدعوّين.
* بين ماضي الوليمة (فكّر بها) والمدعوّين ومستقبل البيت المملوء والإحتفال بالوليمة، يتميّز الحاضر في انه الوقت الذي فيه "أعِدَّت" الوليمة (مت 22: 14: 17). هذا هو الواقع الذي يميّز الحاضر ويبدأ الأعمال التي يهتمّ بها الخبر.
* شدّدنا بين هذه الأعمال على أن الإنتباه يتركز على أعمال السيّد. يتّخذ مبادرة أولى فيرسل من يقول للمدعوّين بأن يأتوا. ويصل إلى الفشل. فيتّخذ مبادرة ثانية: يأمر عبده بأن يأتي بمدعوّين آخرين. وتبرز هذه المبادرة لا بطابع الحلّ غير المنتظر الذي وجده السيّد وحسب، بل بالإهتمام بتوضيح البواعث التي دفعته إلى اقتراح هذا الحلّ: ألهمته ثورة غضب هدفت إلى مَلء البيت مهما كلّف الأمر، فدلّت على استبعاد الذين دُعوا أولاً.
لا تردّد في ذلك: يتركّز الخبر على وضع غير عادي، وضع ينتج عن أوامر أعطاها سيّد للمجيء بمدعوّين إلى وليمة هيّئت لغيرهم. لا يعارض الخبر هذا الوضع غير العادي، بل هو يشرح السبب الذي دفع السيّد إلى مثل هذا التصرّف الغريب.

ثانياً: الوضع الحاضر في رسالة يسوع
إذا كان الخبر الامثالي يهتمّ كل هذا الإهتمام بوضع غير عادي، نظنّ أنه يريد أن يفسّر وضعاً آخر غير عادي، وضعاً يثير الدهشة عند الذين يوجّه إليهم الخبر. في الخبر الامثالي، هناك مدعوّون غير مختارين (كل الذين وُجدوا، كما تقول آ 9 و10 من متّى)، يأخذون محلّ الذين دُعوا في وليمة ستقدّم قريباً. فمن حلّ محلّ المدعوّين الأوّلين؟ نذكر هنا التفسيرين: تعارض داخل الشعب اليهودي، أو بين الشعب اليهودي والوثنيين.
* التفسير الثاني (يهود وغير يهود) يُستبعد، لأنه لا يوافق أي وضع حاضر في رسالة يسوع. لا شكّ في أنّ التقليد الإنجيلي احتفظ لنا بأخبار بعض الأشفية التي أنعم بها يسوع على غير اليهود. ولكن هذه وقائع شاذّة قدّمت على أنها كذلك ودون أن تطرح على بساط البحث الفكرة القائلة بأنّ رسالة يسوع تتوجّه إلى اليهود: لم يكن هناك وضع يبلبل معاصري يسوع وأبناء أمّته. ونعرف أيضاً الإعلان الذي فيه أنبأ يسوع بأن "كثيرين يأتون من المشرق والمغرب ويتكئون في وليمة الملكوت" واستبعد أبناء إبراهيم والأنبياء (مت 8: 11- 12؛ لو 13: 28- 29). إن إنباء من هذا النوع يتعلّق بالعالم المقبل يبقى موافقاً للتقليد النبوي وهو لا يكفي لخلق وضع حاضر يتطلّب تفسيراً. إذن، لا نجد في خلال حياة يسوع العامة ما يمسّ امتيازات الشعب اليهودي بالنسبة إلى الأمم الوثنية.
* يرتبط التفسير الأوّل بوضع تدلّ عليه رسالة يسوع. لا شكّ في أنّ هذه الرسالة وجدت لدى العشّارين والخطأة ترحيباً أدهش وشكّك النخبة الدينية في المجتمع اليهودي. وُصف يسوع بأنه "صديق العشّارين والخطأة" (مت 11: 9؛ لو 7: 34) بفم ممثّلي هذه النخبة فاستفاد من الظرف ليتحدّث عن هذا الوضع الذي يصدمهم. ولم تسِر تفاسيره كلها في الخطّ عشه.
من جهة بيّن أن رسالته تعني بصورة خاصة الخاطئين لأنهم يحتاجون إليها. نقرأ قولين عند مر 2: 17: "ليس الأصحاء هم الذين يحتاجون إلى طبيب بل المرضى. ما جئت لأدعو الأبرار بل الخطاة". ويفسّر يسوع انه من الطبيعي أن يحيط الله باعتناء خاص كل الذين يقلق على خلاصهم: هذا هو موضوع الخروف الضال والدرهم الضائع (15: 4- 10) والإبن الضال (15: 11- 32) وعمّال الكرم (مت 20: 1- 15).
من جهة ثانية، شدّد يسوع على مسؤولية سامعيه في الوضع الذي يندّدون به. ما أرادوا أن يتجاوبوا والنداء الذي وُجِّه إليهم في رسالته. أما الآخرون فرحّبوا به، مع أنهم في الظاهر لم يكونوا مهيّأين. وكانت رسالة يوحنا المعمدان قد دلّت على اختلاف المواقف: "كل الشعب الذي سمع، والعشّارون أنفسهم، برّروا الله فاعتمدوا بمعمودية يوحنا. وأمّا الفريسيون ومعلّمو الشريعة فرفضوا ما أراده الله لهم فلم يتعمّدوا على يده" (7: 29-30؛ رج مت 21: 32). ويجد هذا التوبيخ تطبيقاً له في مثل الإبنين المختلفين (مت 21: 28- 31): الذي يعمل إرادة أبيه ليس ذلك الذي يقول "نعم" باحترام ولا يتمّ العمل المطلوب، بل ذلك الذي يتمّ العمل فعلاً ولو قال في البداية "كلا".
هذا الوضع هو أيضاً ذلك الذي يوضح أفضل إيضاح خبر المدعوّين الذين لم يلبّوا النداء. لم يأتوا إلى الوليمة، فرأوا هذا النداء يتوجّه (وينجح) إلى اناس لم يكونوا مهيّأين لينعموا به. إنّ التعارض بين المدعوّين ومن حلّ محلّهم يوافق ذلك الموجود بين النخبة الدينية والذين يعتبرون رذالة العالم اليهودي. ولكن نحتاج أيضاً إلى اعتبارات أخرى لنتأكّد من هذه النتيجة: ما يتعلق بهوية السامعين.
3- السامعون الذين توجّه إليهم المثل
يقدّم لنا الخبر الامثالي أربعة أشخاص: إثنان في صيغة المفرد: السيّد وعبده. إثنان في صيغة الجمع: المدعوّون ومن حلّ محلّهم. من جهة العمل الدراماتيكي، العبد هو ظلّ سيّده، من ينفّذ أوامره ويعطيه المناسبة لأن يعبّر عمّا في قلبه. فحين يتوجّه إليه سيّد الوليمة بالكلام، فهو يدلّ على شخصيته المميّزة.
لا يدخل "الذين حلّوا محلّ الأوّلين" على المسرح. هم يُذكرون في خطبة السيّد. لا شخصية لهم. إنهم ما يقابل المدعوّين الأوّلين. لم يكونوا مدعوّين، وسيدلّون على شخصية المدعوّين.
فالمدعوّون وحدهم يلعبون دوراً حقيقياً تجاه دور السيّد. إنهم مَن تتوجّه إليهم مبادرة ربّ البيت، والذين يجعلون هذه المبادرة تفشل بسبب تراجعهم. هناك ثلاث إشارات تساعدنا على التعرّف إلى مَن وجّه إليهم المثل من خلاله هؤلاء المدعوّين. أولاً: الإسم المُعطى لهم. ثانياً: الأعمال التي يقومون بها. ثالثاً: التعارض مع الذين حلّوا محلّهم.
أولاً: المدعوّون
هذا هو اسمهم "كاكلامانوي" (مت 22: 3، 4، 8؛ لو 14: 17، 24). لقد أرسلت إليهم دعوة (لو 14: 16). هل هم اليهود بالنسبة إلى غير اليهود؟ هل هم جزء من اليهود تجاه جزء آخر؟ ثلاث ملاحظات تساعدنا على توضيح الموقف.
* تسمية المدعوّين ليست في المعنى الذي نجده عادة في اللغة الدينية. حين نقرأ في رؤ 19: 9: "طوبى للمدعوّين إلى وليمة عرس الحمل"، لا نفكر بأن هؤلاء المدعوّين قد لا يدخلون إلى الوليمة. ونقول الشيء عينه عن عب 9: 15: "المسيح هو وسيط ميثاق جديد لكي ينال المدعوّون الميراث الأبدي الذي وُعدوا به". وفي "لفيفة الحرب" في قمران نجد مدوّنة: "مدعوّو الله". إنهم في الوقت عينه المختارون، وهذا لا شكّ فيه.
في المثل الذي ندرس يختلف وضع المدعوّين: حسب لوقا لن يدخل أحد منهم إلى الوليمة. أمّا متّى فجعل عدداً قليلاً من المختارين تجاه عدد كبير من المدعوّين. وحين نشدّد على الفقرة القائلة بأنه لا يكفي بأن نُدعى إلى الوليمة لنكون بين المشاركين، نقابل بين المدعو والمشارك. هذا ما نجده في عبارة "أبناء الملكوت" التي تدلّ على المختارين في مت 13: 38 ولكنها في 8: 12 تنطبق على اليهود الذين استُبعدوا عن الملكوت الذي هُيّئ لهم.
* بما أنّ أمثال يسوع تتميّز عن أمثال الرابّانيين وأقدم التفاسير التي نجدها في التقليد المسيحي، يبدو أنّ الأسلوب الأفضل يدفعنا إلى الإبتعاد عن الإستعارة والمجاز.
* ففي تسمية "المدعويّن" يدلّ الفعل "كاليو" على دعوة سابقة (رج الإستعمال عينه في لو 7: 39؛ 14: 7، 8، 9، 12، 13، 16). أما في متّى فيرتبط هذا الفعل بالنداء الذي يدعو المدعوّين (مت 22: 3، 9. لا يستعمل لوقا الفعل في هذا المعنى). ولقد حاول الشرّاح أن يماثلوا بين هاتين "الدعوتين": فالثاني يقابل طبعاً رسالة يسوع، ويحدّد موقع الدعوة بحصر المعنى في الماضي من الزمن. إذن، نتذكّر في المثل أن على الخبر بمجمله أن يعود إلى واقع ديني، دون البحث عن تطبيق خاص على الألفاظ التي تؤلّف اللوحة.
* وتساءل: ما هي الأفكار التي تؤهّل المدعوّين للتنعّم بخيرات الخلاص، في فلسطين في القرن الأول؟ هناك جوابان.
- الجواب الأول: هناك اعتقاد عند الرابّانيين يقول: إن إسرائيل كله يخلص. هذا ما نجد في خلفية توسّع بولس في روم 9- 11 وهو يستند إلى وعي الوضع الذي يميّز إسرائيل الذي يرتبط بإبراهيم بالنسب وبالآباء بسبب استحقاقاتهم، الذي له الشريعة ويمارس الختان، علامة الميثاق. ثم إن الله لا يستطيع إلاّ أن يكون أميناً على مواعيده. جواب متفائل.
- الجواب الثاني: الأبرار وحدهم يشاركون في العالم الآتي. ولا يُقبل الخاطئون إلاّ إذا ارتدّوا. هذه النظرة نجدها في الأسفار الجليانية. ولها يشهد التقليد الإنجيلي. يكفينا أن نذكّر بتنبيهات يوحنا المعمدان ضدّ السراب القائل بأنه يكفي أن نكون أبناء إبراهيم لكي نخلص (مت 3: 7- 10؛ لو 3: 7- 9). وهناك تنبيهات يسوع حول الشروط اللازمة لكي نشارك في سعادة العالم الآتي (لو 13: 23- 30)، وكلماته التي تتحدّث عن الملكوت "المهيّا" للأبرار (مت 25: 40). في هذا الإطار، إن الإعلان "ما جئت لأدعو الأبرار بل الخطأة" (مر 2: 17) لا يفترض أن الأبرار يُستبعدون من الخلاص، بل يعلن أن برّهم يجعل منهم أشخاصاً قد تلقّوا الدعوة في الماضي.
إذن، تسمية المدعوّين تدلّ على واقع محدّد في المجال الديني. ولكن إن كان هناك من مقابلة، فسوف نرى في السياق الإنجيلي واليهودي أن هذه التسمية تنطبق على الأبرار، على اليهود الممارسين أكثر مما تطبّق على اليهود إجمالاً. لا يقول المثل فقط إنه يكفي أن يكون الإنسان يهودياً ليشارك في سعادة العالم الآتي. ويعني أيضاً: لا يكفي أن نعتد بالممارسات التي تميّز البار حسب الشريعة لكي نشارك في هذه الوليمة.

ثانياً: الأعمال التي تمنع المدعوّين من المجيء
حسب متّى: ذهب المدعوّون واحد إلى حقله والآخر إلى تجارته (آ 5). ويورد لوقا إعتذاراتهم: الأول إشترى حقلاً وعليه أن يذهب ليراه. الثاني إشترى خمسة أزواج من البقر وعليه أن يجرّبها. والثالث لا يقدر أن يجيء لأنه تزوّج (آ 18- 20). هناك شكّ بأن ينتمي الإعتذار الثالث إلى الخبر الأوّلاني. لا شيء في هذه الإعتذارات ما ينافي الأخلاق، كما أنّ لا شيء فيها يختصّ بأمور الديانة.
* لا شيء ينافي الأخلاق
تحدّث متّى عن إرادة سيّئة (آ 3)، عن لامبالاة (آ 5) من قبل المدعوّين: نرى هنا الإشارات الأخلاقية التي عوّدنا عليها الإنجيلي. وهذا سيظهر فيما بعد بالقول إنّ المدعوّين غير مستحقين (آ 8)، والملاحظة أنّ بين الذين حلّوا محلّهم هناك الأشرار والصالحون (آ 10). فينتج من الإعتذارات التي أوردها لوقا (وإنجيل متّى) أنّ للمدعوّين أشغالاً أهمّ من المشاركة في الوليمة. نظنّ أنّ الخبر الأوّلاني لم يقل اكثر من هذا، لم يتحدّث عن "رفض مليء بالإحتقار"، ولا عن كذب يختفي وراءه المدعوّون.
نلاحظ أنّ الراوي لا يحكم على الأعذار التي قدّمها المدعوّون. فالسبب واضح تماماً: إنه يريد أن يجعل السامعين يرون في سلوك المدعوّين صورة عن سلوكهم الخاص. فإن ندّد منذ الوهلة الأولى بسلوك المدعوّين، دفع السامعين لأن يبتعدوا عنه. ولكن هدف المثل هو أن يجعل السامعين يعون مسؤوليتهم.
نجد هنا أسلوباً أعطاه مثلُ العمّال في الكرم (مت 20: 1- 15) أوضح شكل له. يعمل الراوي بحيث يتضامن السامعون مع عمّال الساعة الأولى ويشاركونهم في احتجاجهم أمام سلوك ردت عمل لا يمكن إلاّ أن يكون ظالماً. حينئذٍ يستطيع جواب السيّد إلى العامل أن يصيب السامع ويجعله يفكر. فبقدر ما شاركوا غيظ العمّال الذين يمثلّونهم، بهذا القدر تصل إليهم الكلمة. ولا يختلف الأسلوب في مثل الإبن الضال (لو 15: 11- 32): يعبّر عن احتجاج البكر ضدّ ظلامة أبيه (آ 29- 30) بشكل يتعرّف فيه السامعون إلى عواطفهم الخاصة، وهكذا يفهمون أن جواب الاب يعنيهم (آ 31- 32). لا يصل المثل إلى هدفه إلاّ إذا نسينا تفاسير تسوّد وجه الإبن الطائع فتمنع السامع من أن يعي العلاقات العميقة التي تجمعه بهذا الشخص.
وحين نسوّد وجه المدعوّين، لن يصل الخبر إلى هدفه. ولهذا السبب يمتنع الراوي أن يندّد، قبل النهاية، بسلوك هؤلاء الأشخاص، ويجعلنا نفترض أن أعذارهم مقبولة. يجب أن يحسّ السامعون بنفوسهم قريبة من هؤلاء المدعوّين: بهذه الطريقة وحدها يصل إليهم المثل.
* لا طابع دينياً يرتبط بالأسباب التي منعت المدعوّين من الذهاب إلى الوليمة. نحن أمام حقل وبقر ومعاملات تجارية. إذن، لا شيء يدفعنا بأن نماثل المدعوّين مع يهود أو أعضاء من النخبة الدينية اليهودية تجاه العشّارين والخطأة. ولا فائدة من البحث عن انتمائهم الديني من خلال مشاغلهم. كان بالإمكان أن يعتذر مدعوّ لأنه ذاهب إلى الهيكل أو المجمع أو ليفي نذراً. ولكننا كنا حينذاك أمام انتقاد للممارسة الدينية. وهكذا يتوجّه التفسير إلى ما لا يوافق نيّة المثل.
فالخبر كما يظهر لا ينتقد هذا الشغل أو ذاك، بل أولوية هذه المشاغل على حساب دعوة لم يدرك الأشخاص أنها ملحّة، أنها لا تنتظر. إنّ تراجع المدعوّين خطير لا بسبب الأشغال التي يهتمّون بها، بل بسبب الساعة: من يتهرّب ساعة تكون الوليمة قد أعدَّت! يبدو المدعوّون غير واعين لما تطلبه منهم الساعة الحاضرة.
ومثل الإبنين (مت 21: 28- 31) قد يلقي ضوءاً على فكرتنا. يخبرنا أن الإبن الذي يحترم والده قال "نعم" ولكنه لم يتمّ العمل المطلوب. لماذا؟ لا يقول الراوي شيئاً، لأنه اعتبر ان هذا السبب لا أهميّة له من أجل حديثه. الشيء الوحيد الذي يهمه هو أن الإبن لم يعمل ما طُلِبَ منه. ونقول الشيء عينه عن مثل المدعوّين: لا يهتم بالأسباب التي منعت المدعوين من المجيء إلى الوليمة، بل في أنهم لم يجيئوا ساعة طلب منهم ذلك. لم يتّخذوا بالجدّية المطلوبة النداء الذي وُجِّه إليهم. نجد هنا التنبيه الذي وجّهه يسوع إلى الفريسيين وعلماء الشريعة حول موقفهم السلبي تجاه يوحنا المعمدان (مت 21: 32؛ لو 7: 29- 30) كما تجاه رسالته الخاصة.
ثالثاً: التعارض بين المدعوّين والذين حلّوا محلّهم
لا تُوضح طبيعةُ هذا التعارض، ولكن هناك إشارات عديدة تنير دربنا. أولاً: سمّي الأوّلون "مدعوّين". أما الفعل المستعمل في آ 9 من متّى (كاليو) فقد وضعه متى ليكون الوثنيون مدعوّين، هم أيضاً، شأنهم شأن اليهود. ولكن هذا حدث فيما بعد. ثانياً: هناك المدعوّون واللامدعوّون. لم يكن هناك اختيار بالنسبة إلى المدعوّين. جاء العبد بمن وجد. أمّا المدعوّون فقد كانوا موضوع اختيار خاص. ثالثاً: ذهب العبد إلى بيوت المدعوّين، ولكنه جمع الاخرين عن الطرقات. رابعاً: أشغال الأوّلين تدلّ على مستوى مالي رفيع (حقل، تجارة، خمسة أزواج بقر). أما الآخرون فهم فقراء.
ماذا يعني كل هذا؟ إنّ ربّ البيت الذي ينظّم الوليمة هو من مستوى اجتماعي رفيع وهو يدعو إلى مائدته أناساً من طبقته. وهكذا يتميّز الأوّلون عن الآخرين على مستوى الوضع الإجتماعي. فهؤلاء ليسوا مؤهّلين لأن يجلسوا إلى مائدة هذا الرجل الوجيه. وهكذا ننتقل من طبقة اجتماعية إلى طبقة أخرى.
يُحلّ ربُّ البيت محلّ هؤلاء المدعوّين المميزين اناساً من طبقة دنيا، أناساً يحسون تجاهه بعاطفة احتقار لا بدّ من أن تعود عليه: انه سيكتفي بضيوف لا يرفعون رأسه!
هذا الإحتقار متضمّن في المثل الذي ندرس. وهو يظهر بوضوح لدى عمّال الساعة الأولى الذين يتكلّمون عن رفاقهم أصحاب الساعة الاخيرة: "هؤلاء عملوا ساعة واحدة وقد ساويتهم بنا" (مت 20: 12)! ويظهر أيضاً في كلمات الاكبر عن أخيه الأصغر: "إبنك هذا (لا أخي) قد بدّد مالك مع الزواني" (لو 15: 30). وفي الطريقة التي بها يدلّ الفريسي على العشّار: "أشكرك يا الله لأني لست كسائر البشر ولا مثل هذا الفريسي" (الذي هو أقلّ من البشر) (18: 11). فلو أُعطي للمدعوّين مناسبة الكلام، لقالوا عن الذين حلّوا محلّهم ما يقوله الفريسيون وأصحابهم عن العشّارين والخطيئة، عن هذه السفالة التي لا تهتمّ بفرائض الشريعة (رج يو 7: 49)، بانتظار ما سيقوله اليهود. عن الوثنيين في فترة لاحقة.

رابعاً: خاتمة
* يتوجّه الخبر إلى ممثّلي النخبة الدينية في إسرائيل، إلى الفريسيين الذين يعون ما يفصلهم عن الخطأة، عن سفالة الشعب المختار.
* والوضع يقابل ذلك الذي تكوّن بحضور أشخاص حول يسوع: يتجنّبهم يهودي تقي. أمّا يسوع فيستقبلهم ويرحّب بهم. شكّ الفريسيون أمام هذا الوضع وانتقدوا يسوع. ولهذا، كان لا بدّ من شرح وتوضيح.
ج- مضمون المثل في حياة يسوع الرسولية
نتحدّث أولاً عن سلوك ربّ البيت، ثم عن سلوك الله، وأخيراً عن سلوك يسوع.
1- سلوك ربّ البيت
أولاً: الهدف الذي طلبه
هدف الدعوة إلى الفقراء والمشوّهين، ثم إلى التائهين في الطرقات هو أن يتمّ الإحتفال بالوليمة رغم غياب المدعوّين. هذا ما نقرأه في مت 22: 8: "الوليمة مهيّاة ولكن المدعوّين غير مستحقّين". ولكننا نحسّ أنّ التذكير بأن الوليمة مهيّاة (رج آ 4) (لا نجد ما يوازيه في لوقا) يشكّل وصلة تدوينية صارت ضرورية بعد حدث تدمير أورشليم (آ 6- 7). فإذا وضعنا هذا التقليد جانباً، لا نرى الخبر يتكلّم عن اهتمام ربّ البيت بأن يتمّ الإحتفال. ثم إن الخبر ينتهي قبل بداية الوليمة. إذن، لا نعطِ الإحتفال بالوليمة كل هذه الأهمية في المثل.
من هذا القبيل نرى تقارباً بين مثل المدعوّين ومثل العذارى العشر. حين وصل العريس، "دخلت معه المستعدات إلى مكان العرس وأُغلِقَ الباب" (مت 25: 10). إن الراوي أبقى السامع في الخارج برفقة المتأخّرات اللواتي يتوسّلن، ولكن عبثاً، بأن يُفتَح لهنّ الباب (آ 11- 12). أمّا هنا فلا ندخل إلى الوليمة التي هي بعد الخبر.
وفي المثل الذي يهمّنا، الهدف المباشر للإجراءات التي اتخذها ربّ البيت "هو أن يمتلئ بيتي" (لو 14: 23). "إمتلأت قاعة العرس" (مت 22: 10). لهذا لا بدّ من البحث عمّن يحالّون محلّهم. وحين يمتلئ المكان نستطيع أن نبدأ الإحتفال بالوليمة.

ثانياً: الغضب الذي شعر به
* إهتمّ الخبر بهذا الغضب الذي يحدّد (حسب لوقا) منعطفاً حاسماً في الخبر ويلوّن ولي الأحداث. أمّا عند متّى فالغضب يلعب دوراً عرضياً ويتوقّف عند دمار أورشليم.
لا نعرف شيئاً عن عواطف المدعوّين الذين اعتذروا، ولا عن عواطف الذين حلّوا محلّهم، ولا عن عواطف الخادم الذي ينفّذ المهمّات. لا نتعرّف إلاّ إلى غضب السيّد الذي يتصرّف بوحي من هذا الشعور.
كان بإمكان الخبر أن لا يشير إلى الغضب. رفض المدعوّون دعوته، فكان بإمكانه أن يفعل ما فعله العشّار ابن معيان. دعا وجهاء مدينته فلم يأتوا. قال: "ليأتِ الفقراء ويأكلوا لئلاّ يضيع شيء" (التلمود الفلسطيني). ولكن لماذا شدّد النصّ على الغضب؟
* لم توضح طبيعة هذا الغضب لا في هذا المثل ولا في مثلين إنجيليّين اخرين يذكران أيضاً هذا الغضب: ورد إلى السيّد خبر عن سلوك العبد الذي لا شفقة في قلبه "فاستشاط غضباً وسلّمه إلى الجلاّدين" (مت 18: 34). وحين عاد الإبن الأكبر وعرف بعودة أخيه "غضب وما أراد أن يدخل" (لو 15: 28). إنّ قرائن النصّ تفهمنا لماذا غضب الملك على عبده والبكر على أخيه الأصغر. وفي مثل الوليمة، سيفهمنا السياق لماذا غضب ربّ البيت على المدعوّين. وهذا ما نستنتجه من عدّة ملاحظات.
- غضب السيّد حين علم أنه لن يأتي أحد من المدعوّين. إذن الغضب هو نتيجة موقف المدعوّين.
- دفعه هذا الغضب إلى قول ضدّ هؤلاء المدعوّين: "لم يكونوا مستحقّين" (مت 22: 8). "لن يذوق عشائي أحد من أولئك المدعوّين" (لو 14: 24).
- وذكر الغضب يفسّر الإجراءات التي اتّخذها السيّد ليجد من يحل محلّ المدعوّين الأوّلين. وهذا ما نكتشفه في الخبر كما رواه لوقا: حين يرى المدعوّون أن غيرهم حلّ محلّهم يفهمون انهم استُبعدوا بطريقة نهائية. بهذه الطريقة عبّر لهم السيّد عن غضبه.

ثالثاً: خاتمة
السؤال الذي اهتمّ له الخبر الامثالي ليس أن نعرف لماذا لم يأتِ المدعوّون إلى العرس، ولا أن نفهم شيئاً عن استعداداتهم. ولا يهتمّ الراوي باستعدادات أولئك الذي حلّوا محلّهم وما صنعوه ليستحقّوا هذا الشرف الكبير. الإهتمام ينصبّ فقط على استعدادات السيّد تجاه تراجع مدعوّيه. فأمام مشهد غضبه، إتّخذ رفض المدعوّين لدعوته مدلولاً يحمل إليه الإغاظة، فصار غضبه ضدّ المدعوّين السبب لينال من حلّ محلّهم هذه النعمة. إذن المثل كله هو في إطار الغضب: عرض القسم الأول سببَ الغضب، والقسم الثاني نتيجته. إذن هناك دينونة وإعلان حكم.
2- سلوك الله
إن عدد الأمثال التي تشير إلى فكرة يسوع عن الله، ولا سيّما حين يكون تصرّفه موضوع جدال، تقدّم لنا نظرة أولى تدعونا إلى القول بأنّ سلوك الداعي إلى الوليمة يفهمنا سلوك الله كما تصوّره يسوع. ولكننا نمعن نظرنا في إشارتين نجدهما في هذا الخبر الامثالي: موضوع الوليمة، موضوع الغضب.
أولاً: الوليمة
إنّ العمل الذي يصوّر المثلُ مسيرته يتوجّه كله نحو طعام، يبقى في المستقبل بالنسبة إلى هذا العمل، وهو لا يصل إلى هدفه. إنّ هذا الطعام المقبل يشير إلى اكثر من وليمة عادية. ويظهر هذا البُعد الآخر خاصة في قول الإستبعاد الذي يصدره السيّد ضدّ المدعوّين (مت 22: 8؛ لو 14: 24). ولا بُعد لهذا القول إن لم نكن أمام طعام لا يرغب المدعوّون في المشاركة فيه. ولكن يصبح الأمر خطيراً بالنسبة إلى وليمة أخرى هي صورة عن الخلاص والسعادة في العالم الآتي.
هذا ما فهمه الإنجيليان. فعند لوقا يلي المثلُ وعداً موجّهاً إلى الذي يدعو إلى مائدته الفقراء والمساكين الذين لا يستطيعون أن يبادلوه الدعوة: "هنيئاً لك إذا فعلت لأنهم لا يقدرون أن يكافئوك فتُكافأ في قيامة الأبرار". ويتمّ الإنتقال إلى المثل بدهشة مدعوّ يعلن: "هنيئاً لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله" (آ 15). ستدلّ وليمة ربّ البيت، حسب يسوع، على من سينعم بالمشاركة في وليمة الملكوت. وتشير نهاية متّى (22: 11- 13) إلى الدينونة التي تستبعد من الملكوت أولئك الذين لا يستحقون أن يشاركوا في سعادته: فالأبرار وحدهم الذين يلبسون حلّة العرس ينعمون بالوليمة التي تتبع الدينونة الأخيرة.
إنّ هذا التوافق بين الإنجيليّين أمرٌ طبيعي: فالوليمة صورة معروفة عن سعادة نهاية الأزمنة، وسنجدها بصورة خاصة في قول ورد مرّات كثيرة وفيه ينبّه يسوع سامعيه بأن مكانهم في وليمة الآباء قد أخذه أناس أتوا من المشرق والمغرب (مت 8: 11- 12؛ لو 13: 28- 29). وتشكّل هذه الصورة خلفية مثل العذارى العشر (مت 25: 1- 12؛ رج لو 13: 25- 27). وإذا خرجنا من التقليد الإنجيلي، نتذكّر الوليمة الغنيّة التي هيّاها الربّ في أورشليم واجتذب إليها كل الشعوب (أش 25: 6- 8. هذا ما يُسمى رؤيا اشعيا الصغيرة).
وتُذكر الوليمة في مثل. فنحن نعرف أن يسوع أعلن مجيء ملكوت نهاية الأزمنة، وأن هذا الخبر احتفظ بالوليمة إلى الزمن المقبل (لم تتمّ أمامنا).
وتحدّث الشرّاح عن الوليمة المسيحانية. ولكن في هذه التسمية بعض الإلتباس. نتصوّر بسهولة أن يترأس الوليمة الاسكاتولوجية الملك المسيحاني، لا إبراهيم أو الآباء (رج لو 13: 28- 29= مت 8: 11- 12؛ لو 16: 22- 26 ووليمة الآخرة مع لعازر): ولكن دور رئيس المائدة لا يليق بالله. ولكن يبدو مستحيلاً أن يكون إبراهيم والمسيح هما سيّد الوليمة والذي يهيّئها ويقرّر وقت الإحتفال بها، ويختار المدعوّين إليها. هذا الدور يخصّ الله وحده.
بقدر ما تذكّرنا هذه الوليمة بالوليمة الاسكاتولوجية، فرئيس الوليمة يلعب دوراً يوافق دور اللّه، وسلوكه يلقي الضوء على سلوك لا يمكن أن يكون إلاّ سلوك الله.
ثانياً: الغضب
* في اللغة البيبلية تدلّ لفظة "الغضب" أول ما تدلت على صفة خاصة بالله. نجدها مرتبطة بالله 375 مرّة في التوراة العبرية و80 مرّة متعلّقة بالبشر. وتستعمل اللفظة اليونانية (أورغي) 200 مرّة عن الله و50 مرّة عن البشر. ولفظة "تيموس" 200 مرّة عن الله و70 مرّة عن البشر. في العهد الجديد، نجد النسبة 28 إلى 8 مع "أورغي". ونزيد أن هناك حديثاً عن الغضب في 16 موضعاً دون تحديد آخر (مت 3: 7؛ لو 3: 7؛ 21: 23). ليس من الضروري أن نقول إن الجملة تعني غضب الله، فالنصّ واضح: "من علّمكم أن تهربوا من الغضب الآتي"؟ أي غضب الله (لو 3: 7). وفي الأمثال لن ندهش حين نرى ملكاً يغضب (مت 18: 34؛ 22: 7) أو رجلاً عادياً (لو 14: 21)، ولو كانت استعداداتهما تجعلنا نفكّر باستعدادات الله.
ونزيد هنا ما يقابل الغضب من رحمة وحنان ورأفة، وهذه كلها صفات الله قبل أن تكون صفات البشر. وتجتمع مراراً ألفاظ الغضب والرحمة والحنان في المقطع الواحد من التوراة. هذا ما نجده في مثل العبد الذي لا شفقة في قلبه (مت 23:18- 24): أشمفق الملك على عبده وأعفاه من دين كبير جداً. ولكن هذا العبد الذي نعم بالرحمة لم يفهم أنّ عليه أن يُعامِل قريبه بالرحمة، لهذا جلب عليه غضب سيّده.
أما مثل الوليمة فلا يذكر إلاّ الغضب، لأنه يتطلّع إلى سلوك السيّد بالنسبة إلى مدعوّيه الذين هم أيضاً سامعو الخبر. ولكن يكفي أن نبدّل النظرة تبديلاً طفيفاً لتظهر الرحمة: من هذه الوجهة نرى سلوك السيّد تجاه مدعوّين دعوا إلى الوليمة بنعمة فريدة. رأى الراوي الغضب تجاه المدعوّين ولم يتوقّف عند الرحمة تجاه الذين حلّوا محلّهم.
كل هذا ياقابل وضعاً عاشه يسوع خلال رسالته: رفضت نخبة إسرائيل الدينية تعليمه، فتقبله العشّارون والخاطئون. فكان غضب الله ضدّ الفئة الأولى وهو علامة استبعاد قد يصبح نهائياً.
3- سلوك يسوع
ولكن يسوع لا يقول شيئاً من دون أن يتحدّث عن نفسه، دون أن يحدّد موقعه بالنسبة إلى الوضع الذي يراه، بالنسبة إلى الطريقة التي فيها يفكّر برسالته. قال فونك: يسوع هو جزء من المثل، لا على أنه شخص في المثل، بل على أنه يخلق الوضع الذي يصوّره المثل. يسوع ليس ذلك الغريب الذي يحمل إليّ رسالته، إنه لا ينفصل عن رسالته. وهكذا حين نفهم المثل نفهم يسوع نفسه.
لا شكّ في أنّ يسوع ليس ممثلاً بصورة مباشرة في المثل، ولكن الوضع الذي يرد فيه المثل هو رسالته. وسلوك الله الذي يلقي عليه المثل ضوءه هو السلوك الذي يجد شكله الملموس في سلوك يسوع.
أولاً: المثل ويسوع
نلاحظ أولاً أنّ يسوع لا يروي مثلاً ليحدّثنا مباشرة عن نفسه. وفي المثل الذي ندرس هناك ثلاثة أشخاص نهتمّ بهم: سيّد الوليمة، الإبن، الخادم.
* سمّاه لوقا "ربّ بيت" (14: 21)، فصار عند متى "الملك" (22: 2، 7، 11، 13). هو الشخص الرئيسي. وهو يساعد السامعين على اكتشاف سلوك الله.
* "الإبن" الذي يحتفل الملك المتاوي بوليمة العرس إكراماً له (22: 2) هو ولا شكّ "إبن" المثل السابق في الإنجيل الأول (مت 21: 37): أرسله صاحب الكرم إلى الكرامين الذين قتلوا في الماضي خدمه. هذا الإبن قتلوه هو أيضاً بعد أن رموه خارج الكرم (آ 39). لا شكّ في أن الإنجيلي ماثل بين هذا "الإبن" ويسوع. إذن، أدخل متّى في هذا المثل شخصاً يمثّل يسوع. ولكن من الواضح أن ذكر الإبن لا يعود إلى أصل الخبر بل إلى قلم متّى. ثم إن شخص الإبن لا يلعب دوراً في الخبر نفسه. إنه هنا ليبرز مستوى الوليمة التي يقدّمها الملك.
* يتحدّث متّى عن الخدم في صيغة الجمع (22: 3، 4، 6، 8، 10)، وهكذا لا يكون تماثل مع يسوع. أمّا لوقا فيتكلّم عن الخادم في صيغة المفرد (14: 17، 21، 22، 23)، وهذا ما يجعلنا نفكّر بشخص محدّد. إن رسالته توافق رسالة يسوع الذي أرسله الله ليدعو الناس إلى وليمة الملكوت.
ثانياً: الوضع الدي خلقته رسالة يسوع
* إن وضعاً جديداً يميّز الوقت الحاضر بالنسبة إلى الأزمنة السابقة: أُعلن عن الوليمة وأرسلت الدعوة. والآن كل شيء "مهيّأ" (مت 22: 4؛ لو 14: 17). تحدّد نسخة لوقا أن "ساعة الوليمة" دقّت، ان كل شيء مهيّأ "الآن". كل التهيّئات انتهت وجاء وقت الجلوس إلى المائدة.
هذا ما يقابل العبارة التي تُجمل تعليم يسوع: "صار ملكوت الله قريباً". إن الزمن الحاضر يتحدّد بالنسبة إلى زمن الوعد ويدشّن زمن التحقيق. لا شك في أنّ ملكوت الله لم يتجلَّ بعد وأن الإحتفال بالوليمة لم يبدأ. ولكن يبقى أننا دخلنا في المنعطف الحاسم في تاريخ الخلاص. لقد صرنا في المرحلة الأخيرة التي سيتنعّم فيها المختارون بالسعادة التي أُعلن عنها منذ زمان قديم.
فما هو الحدث الذي ينتج هذا الوضع الجديد فيجعلنا نعبر من زمن النقص إلى زمن التمام؟ هذا الحدث هو الرسالة التي نالها يسوع من الله. هنا نلمس لمس اليد وعي يسوع للطابع الاسكاتولوجي لرسالته: انه يعتبر خدمته كالحقبة التدشينية لملكوت الله. معه يدخل تاريخ البشر في "الأزمنة الأخيرة".
* ويجد هذا الوضع الجديد متطلّبة جديدة. ففي هذا الوقت المحدّد الذي فيه يُطلق النداءُ للمجيء إلى الوليمة (مت 22: 4؛ لو 14: 17) تتعلّق المشاركة الفعلية في الوليمة فقط بالجواب على هذا النداء. لا خلاص ممكناً الآن إلاّ إذا قبلنا تعليم يسوع، إذا آمنا به وبرسالته الإلهية، إذا عملنا ما يطلبه منا.
هذا يعني اننا إذا أردنا أن نخلص لا يكفي أن نقدر أن نسمّي نفوسنا أبناء إبراهيم، كالوارث الشرعي للمواعيد التي اعطيت للآباء، لا يكفي أن أعلن ممارستي لشريعة موسى ممارسة دقيقة. ما يُحسب له حساب الآن ليس الرباط الذي يربطنا بإبراهيم أو بموسى، بل الموقف الذي نتّخذه حيال يسوع. وهنا نفهم فكرة يسوع عن أهمية رسالته إلى البشر الذين أرسل إليهم.
* والجديد في الوضع يظهر في الوقائع: ليس البارزون هم الذين تجاوبوا مع النداء، بل العشّارون والخاطئون. إن الزمن الحاضر يتميّز بتبدّل يدلّ من جهة على محبّة الله ورحمته للخطأة، ومن جهة ثانية على غضبه ضدّ الذين يشكّلون نخبة شعبه الدينية، ضدّ ما يجعلهم عمياناً أمام علامات الزمن لأنهم يظنّون نفوسهم فوق الآخرين.
إذن هناك دينونة بدأت تتمّ بمناسبة رسالة يسوع: دينونة رحمة للبعض ودينونة لا رحمة فيها للآخرين وهي تتمّ الفصل الذي تجعله الدينونة الأخيرة نهائياً. في هذا المعنى أيضاً ترتدي رسالة يسوع بُعداً اسكاتولوجياً. فهو الذي يقرّر الدخول إلى الملكوت أو الإستبعاد منه.
هذا المثل لا يدّل فقط على فكرة يسوع حيال رسالته كنبي اسكاتولوجي، بل على فكرته حول علاقته مع الله. هذا ما سنتأمّل فيه.
ثالثاً: سلوك الله وسلوك يسوع
نستطيع أن نعالج المسألة من ثلاث زوايا: إن يسوع ينسب إلى الله خبرة صنعها بنفسه. إنه يفسّر سلوكه الخاص متحدّثاً عن سلوك الله. إنه ينبّه سامعيه بأن موقفهم تجاهه هو في الوقت عينه موقف تجاه الله.
* يفترض الخبر الامثالي خبرة معاشة: تقاطر الخطأة إلى يسوع أما الذين احترفوا درس الشريعة وممارستها، فظلّوا بعيدين أو قاوموا يسوع مقاومة واضحة. مثل هذا الوضع يشهد ضدّ يسوع في نظر الناس الذين يعتبرون نفوسهم شيئاً. يتحدّث يسوع عن هذا الوضع وكأنه اختبار ربّ بيت يوافق دورُه دورَ الله. والجواب إلى الذين ينتقدونه هو هنا: إنّ الخبرة المخيبة التي تعتبرونها خبرتي هي خبرة الله شخصياً. فالله هو الذي لا يجد جواباً لدى البشر الذين يسمّون نفوسهم أصدقاءه.
* يصوّر المثل عملاً أكثر منه خبرة: فربّ البيت اتخذ مبادرة الوليمة وإرسال الدعوات والطلب إلى المدعوين بأن يأتوا. ولكن لاقى الفشل لما تراجع المدعوّون. ولكنه صحّح الوضع حين أدخلَ مدعوّين جدداً. إن سلوك الشخص الرئيسي يقابل الصورة التي يتختلها سامعو المثل عن سلوك يسوع: لم ينجح لدى الناس الأتقياء فتطلّع إلى سفالة إسرائيل. ولكن من الواضح أنّ سلوك ربّ البيت هو صورة عن سلوك الله. فالله هو الذي اتخذ المبادرة بأن يدخل إلى وليمة الملكوت أولئك الذين حلّوا محلّ المدعوّين واحتلّوا أمكنة صارت فارغة.
فعبر المثل يتوضّح تصرّف يسوع نفسه الذي يضع النالس أمام تصرّف الله. في الواقع الملموس، عمل الله وعمل يسوع هما واحد. وسلوك يسوع هو الشكل الذي تتّخذه مبادرة الله في هذه الفترة، فترة تدشين الملكوت. وهذه المبادرة الإلهية تضفي على سلوك يسوع مدلوله الحقيقي.
ولكن المثل لا يهتمّ إلاّ بصورة غير مباشرة ببُعد سلوك يسوع. ولكنه يهتمّ بصورة مباشرة بإلقاء الضوء على البعد الحقيقي لموقف سامعيه. جُعل القسمُ الثاني كله في إطار غضب السيد، فبدا وكأنه تحذير وتهديد. فالموقف الذي يتخذه السامعون الآن تجاه يسوع هو الموقف الذي يتخذونه تجاه الله: فمَن رفض النداء الموجّه بواسطة يسوع تعرّض لغضبه هو. من هذه الوجهة أيضاً، لا يمكن أن نفصل يسوع عن الله ولا الله عن يسوع. فيسوع هو مرسل الله وبه يدعو الله الناس إلى الخلاص.
خاتمة
إدنّ رسالة يسوع وشخصه لا ينفصلان عن تعليمه. وتعليمه يدلّ على إله يعمل في الوقت الحاضر فيقدّم بواسطة ابنه الخلاص إلى البشر. فيا ليتهم يلبّون دعوته إلى الوليمة التي هيّأها لهم!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM