الفصل الثلاثون: شفاء يوم السبت

الفصل الثلاثون
شفاء يوم السبت
14: 1- 6

إن هذه القطعة التي ندرس تنتمي إلى "صعود يسوع إلى أورشليم" (9: 51- 19: 27). هذه القاطعة الطويلة هي خاصة بلوقا فى قسمها الاكبر. نجد فيها مواد مجموعة حول موضوع وُجد قبله أو ألّفه بيده. وهكذا نستطيع أن نكتشف تعليماً عن الصلاة (11: 1- 13) أو عن التجرّد والفقر (12: 13- 34) أو عن عودة الرب (12: 35- 39).
أمّا النصّ الذي ندرس فهو يفتتح جزءاً يتألّف من أربع مقطوعات تتأمّن وحدتها الأدبية بموضوع الطعام. دخل يسوع إلى بيت رجل فريسي يوم السبت ليأكل طعاماً، فاجترح هناك معجزة (14: 1- 6) ثم قدّم للمدعوين ثلاثة أمثال. مثل عن اختيار الأماكن (14: 7- 11)، مثل عن اختيار المدعوين (14: 22- 14)، مثل عن المدعوين الذين تهرّبوا من الدعوة (14: 15- 24).
الجوّ هو جوّ حرب في هذه المجموعة. فيسوع يقدّم تعليمه مفكّراً بالفريسيين الذين تعجّبوا حين رأوه يصنع معجزة يوم السبت.
أ- شفاء مستسقٍ يوم السبت (14: 1- 16)
1- خبر جدال يوم السبت
أورد لنا لوقا أربع مجادلات حول السبت. هناك مجادلتان تجدان ما يوازيهما عند متّى ومرقس: قطف السنابل (6: 1- 5؛ مت 12: 1- 8؛ مر 2: 23- 28) وشفاء الرجل اليابس اليد (6: 6- 11؛ مت 12: 9- 14؛ مر 3: 1- 6). وهناك مجادلتان خاصّتان بلوقا: شفاء المرأة المنحنية الظهر (13: 10- 17) وشفاء الرجل الذي تورّم جلده بالاستسقاء (14: 1-6). كتب لوقا إلى وثنيّين، لغتهم اللغة اليونانية وثقافتهم الثقافة اليونانية، كتب إلى أناس يهيمون بالحرية ونبل النفس، فعلّق أهمية خاصة على مثل هذه الأحداث التي فيها طالب الرب بقوّة وارتياح، طالب بأولوية الروح على حرف الشريعة.
أن تكون مثل هذه الأحداث تكاثرت خلال جولات يسوع الرسولية، فلا عجب في ذلك. فيسوع جاء ليكمّل الشريعة لا لينقضها. ولكن الإنسان يتكيّف سريعاً مع الإلغاء البسيط، ويفضّله على التطوّر نحو الأحسن. والحال، إذا عدنا إلى نظم إسرائيل كلها نجد أن السبت هو أقدسها في بداية العهد المسيحي.
فمنذ المنفى في القرن السادس ق. م. وساعة زال الإحتفال بسائر الأعياد بسبب دمار الهيكل، نمت أهمّية السبت. كان يوم راحة بسيط (أش 1: 13) فصار علامة تميّز العهد (الميثاق). ومع تكاثر وتحديد الفرائض المتعلّقة براحة السبت، صار السبت العلامة الفارقة في العالم اليهودي المنبعث من رماده. وعمل في فلسطين عزرا ونحميا بعد المنفى على جعل شعب الله أمّة مقدّسة، أي منفصلة عن سائر أمم العالم (نح 10: 29- 32). وما زال التشريع عن السبت يتوسّع على عتبة العهد الجديد، فوصل إلى درجة من الدقّة والقساوة، بحيث لم يعد يوم راحة وحسب، بل حملاً يسحق الإنسان.
ولهذا ثار يسوع على مثل هذا التجاوز الذي لم يترك للإنسان حرية ليتكرّس لخدمة الله. وفي الوقت ذاته أثار الدهشة ثم الغضب والحقد لدى الذين تسلّموا رسالة الحفاظ على نظم إسرائيل مهما كلّفهم ذلك من تضحيات.
إن أربعة أخبار الجدال التي أوردها لوقا هي عيّنات جانبية جعلت يسوع يواجه الفريسيين حوله مسألة السبت (رج أيضاً يو 5: 1- 9 والمخلّع؛ 9: 1- 41 والأعمى). حين نقرأ هذه الأخبار الأربعة الواحد بعد الآخر لا بد من أن يلفت انتباهنا التشابه في بنيتها الأدبية: نحن أمام أربعة مشاهد مقولبة قد تعكس رتابة ما عمله الفريسيون ليهاجموا يسوع، كما تدلّ على محيط الرسالة الذي تكوّن فيه التقليد الإنجيلي. إذن سنحاول أن ندرك واقع شفاء المستسقي على يد يسوع يوم سبت من خلال تعليم الجماعات المسيحية الأولى، وهذا التعليم شكّل أحد المراجع المميزة التي انتقى منها لوقا مواده.
2- طعام، يوم سبت، عند فريسي
"ودخل يوم السبت بيت أحد كبار الفريسيين ليتناول الطعام، وكانوا يراقبونه" (آ 1).
طعام، في يوم سبت، عند أحد الفريسيين. تلك هي الظروف الوحيدة الملموسة التي احتفظ بها لوقا أو مرجعه. ولكن كل واحد منها يلعب دوراً مهمّاً في هذا القسم من الإنجيل الثالث.
الطعام الذي دُعي إليه يسوع يشكّل خلفية المجموعة. ومن يقول "الطعام" في التوراة يدلّ على المشاركة والإتحاد والفرح. وإن كان ابن الله قبلَ أن يجلس إلى مائدة البشر، فلكي يستطيعوا أن ينعموا بصداقته. وستشدّد أمثال الوليمة (14: 7- 24) على التواضع والمحبة التي تملأ قلوب المدعوّين إلى هذه الأعياد البشرية وإلى الملكوت الذي ترمز إليه هذه الأعياد.
ويسوع مدعوّ عند وجيه من وجهاء الفريسيين، يحيط به أصدقاؤه. ففي مناسبتين أخريين قبل هذه، دُعي يسوع إلى دعوة مشابهة، كما يقول لوقا. في المرّة الأولى عند سمعان الفريسي (7: 36- 50) حيث أجبر يسوع على تذكير مضيفه بقواعد الضيافة وعوائدها، بعد أن دهش المضيف من موقف يسوع المتسامح تجاه امرأة خاطئة. وفي المرّة الثانية، أجاب على انتقادات فريسي آخر تعجّب لأنه لم يغتسل قبل الأكل. حينئذ أعلن يسوع كلماته القاسية: "الويل لكم، أيها الفريسيون" (1 1: 37- 54). وفي 14: 1- 6 الذي ندرسه، تبدو اللهجة أقلّ قساوة، ولكن المناخ ما زال متوتّراً. فالفريسيون لم يبدّلوا موقفهم، لأنهم "كانوا يراقبونه" كما قال لوقا (رج 6: 7 حيث نقرأ الكلمة عينها). إعتبروا نفوسهم المحامين عن النظام، فكانوا دوماً في موقف المراقبة. ولهذا لمل تكن دعوتهم إلى يسوع للطعام يوم السبت فعلة صداقة ومحبّة، بل فخا ينصبونه له.
3- أيحلّ الشفاء في السبت أم لا
أولاً: "وإذا مستسق واقف أمامه" (آ 2)
منذ البداية لعبت الظروف لصالح خصوم يسوع. دخل رجل مريض إلى قاعة الطعام. فهو متطفّل يحتمله الناس ولا يطردونه، شأنه شأن المرأة الخاطئة في 7: 36 ي. لكن حضوره خلق فجأة حالة من التوتّر لا يستطيع يسوع أن يتجاهلها. فالألم صلاة تصيبه في صميم قلبه وهو يستجيبها دائماً، ونكاد نقول خاصة في يوم السبت. وهذا أمر لا يستطيع خصومه أن يقبلوا به.
ثانياً: "فقال يسوع لمعلّمى الشريعة والفريسيين: أيحلّ الشفاء في السبت أم لا؟ فسكتوا" (آ 3- 4 أ)
إتّخذ يسوع حالاً المبادرة بهذا السؤال الأول. وليست هي المرّة الأولى يطرح فيها مثل هذا السؤال على الفريسيين. وهم يعرفون الخطر الذي يرافق الجواب: إن قالوا "نعم يحلّ الشفاء"، إتهمهم زملاؤهم بالسهولة والتراخي تجاه الشريعة. وإن قالوا: لا يحلّ الشفاء، "يظهرون حالاً في عيون الناس كأشخاص لا شفقة في قلوبهم". إذن، رفضوا أن يتّخذوا موقفاً. ظلّوا ساكتين. وهكذا حرموا من حق انتقاد يسوع فيما بعد.
ثالثاً: "حينئذ أخذ المريض وشفاه وصرفه" (آ 4 ب)
لم يتخوّف يسوع من صمتهم الذي يدلّ على سوء نيّتهم. ولما شفى الرجل صرفه. لم يعد له أي عمل في هذا الإجتماع.
رابعاً: ثم قال لهم: من منكم يقع ابنه أو ثوره في بئر يوم السبت ولا ينشله منها في الحال؟ فما قدروا أن يجاوبوه" (آ 5- 6)
وهذا السؤال الثاني الذي طرحه يسوع، ينقل المشكلة من عالم الشريعة إلى عالم الضمير والذوق السليم. على مستوى الشريعة، موقف يسوع واضح كل الوضوح: "جُعل السبت للإنسان، لا الإنسان للسبت" (مر 2: 27). فإذا أراد الفريسيون أن يأخذوا بهذا المبدأ الجديد في عيونهم، وجب عليهم أن يقبلوا أيضاً بأن ابن الإنسان هو "ربّ السبت" (6: 5).
وهل يستسلمون لبرهان يدلّ على الذوق السليم؟ البهيمة التي وقعت في البئر هي موضوع تمرين مدرسي، وقد فتحت الدرب أمام مناقشات نظرية عديدة. ولكن يسوع يواجه الخصوم بصورة مباشرة حسب عادته: "من منكم". والجواب واضح إلى درجة لا يحتاج بعدها الفريسيون أن يعبّروا عنه. فأقرّوا بالهزيمة: "ما قدروا أن يجاوبوه". وانتهى الخبر هنا.
إذا قابلنا هذا الخبر مع أخبار الجدال التي يوردها الإزائيون، نجد أننا أمام خبر تقليدي. فالتفاصيل الملموسة قليلة وهي لا تعطينا المعلومات الكثيرة: في سبت من السبوت (رج 6: 2، 7؛ 13: 14). رجل تورّم جلده بالإستسقاء (رج 6: 6؛ 13: 11 ). يمكن أن يكون حصل هذا في أي وقت وفي أي مكان. والسؤالان اللذان طرحهما يسوع ينتميان إلى مجموعة الجدالات حول السبت (رج 6: 9؛ 13: 15).
ولكن سائر الأخبار تنتهي بإعلان مبدأ يعطي السبت معناه الحقيقي (مر 2: 27). أو بملاحظة تدلّ على معارضة الفريسيين المتنامية (مت 12: 14؛ مر 3: 6؛ لو 6: 11). أما هنا فلا نجد شيئاً من هذا. كل هذا يُروى وكأن المعجزة والجدال الذي تبعها لم يكونا إلا تفاصيل تعلقت بموضوع يهمّ الإنجيلي وهو "الطعام" الذي سيتحدّث عنه في أمثال ثلاثة هي إختيار الاماكن، إختيار المدعوّين، وتلبية الدعوة إذا أردنا أن نعامل هذا "الداعي" العظيم بما يليق به.
ب- الإنجيل في حياتنا
يسير يسوع في المدن والقرى، في المجامع والبيوت، ليبشّر بتعليمه. هو لا يتحاشى دعوة خصومه ومقاوميه، لأنه جاء يحمل الخلاص إلى الجميع. والمضيف الذي دعاه هو من وجهاء الفريسيين، وقد يكون عضواً في مجلس أورشليم الأعلى (23: 13، 35؛ يو 3: 1). والبيت الذي دخل إليه يسوع تفوح منه رائحة التعبّد للشريعة والتقاليد الأخلاقية التي تمارس بدقة ما بعدها دقّة.
واليوم سبت... لقد اعتاد اليهود أن يدعوا أصدقاءهم إلى الولائم في ذلك اليوم. هم يأكلون مرّتين في كل يوم من أيام الأسبوع، أما في يوم السبت فيأكلون ثلاث مرّات. والطعام الرئيسي هو طعام الظهر الذي يلي حالاً الخدمة الليتورجية في المجمع. على الرجال في أيام العيد أن يأكلوا أو يشربوا أو يجلسوا أو يدرسوا (الشريعة).
كان السبت اليوم الذي فيه يتذكرون حسنات الله الكبيرة: عمل الخلق (خر 20: 8- 11)، التحرّر من عبودية مصر (تث 5: 12- 15). ويحيط بالسبت حالة العيد التي تنفجر من إيمان باختيار الله لشعب إسرائيل. "بارك الله السبت. ولكنه لم يكرّس إلاّ إسرائيل كشعب وأمّة تعيّد له في السبت. ولهذا الشعب وحده سمح بأن يأكل ويشرب ويعيّد السبت على الأرض. والعلي بارك هذا اليوم الذي خلقه ليباركه ويقدّسه ويمجّده أكثر من سائر الأيام" (كتاب اليوبيلات 2: 31 ي).
السبت هو علامة أمانة الله لعهده. فهو الذي يتيح لإسرائيل أن يعرف أن الله هو ربّه الذي يقدّسه (خر 31: 13). وكانوا يتصوّرون المجد الأزلي سبتاً لا نهاية له. والوليمة السبتية التي دُعي إليها يسوع في بيت الفريسي جُعلت هنا لتتذكّر مآثر الله ورجاء العالم الآتي والمشاركة في راحة الله السبتية.
ضيف الشرف في هذه الوليمة هو يسوع. دُعي بصفته معلّم الشريعة، رابي. كانوا قد اعتادوا أن يسمعوا معلّمي الشريعة المشهورين خلال الخدمة المقدّسة في المجمع، ويدعوهم لمقاسمتهم طعام الغداء.
كانت شهرة يسوع قد انتشرت في طوله البلاد وعرضها (7: 17)، فاعتبره الشعب نبيّاً عظيماً (7: 16). وطرح الفريسيون أيضاً السؤال ليعرفوا من هو (7: 39). كانوا يراقبونه على ضوء التقوى الفريسية. حكم عليه سمعان الفريسي بسبب علاقاته مع خاطئة (7: 36-50). وحكم عليه فريسي آخر (11: 37- 53) لأنه تهامل بالنسبة إلى فرائض الشريعة حول الطهارة. وحكموا عليه الآن بسبب تفسيره لشريعة السبت. والنتيجة: لا يمكن أن يكون نبيّاً. إنه لا يعلن كلام الله. جعل الفريسيون من تعليمهم وتفسيرهم للشريعة القاعدة التي بها تعرف مشيئة الله وكلمته. إذن، لا يتكلّم يسوع ولا يعمل باسم الله لأن ما يقوله ويعمله لا يوافق تعليمهم.
كان الداعي فريسيّاً من الفريسيّين الذين اهتمّ يسوع بهم ولم يقطع كل صلة معهم. عند متّى (ف 23) التوّيلات تجاههم هي حكم يدينهم. وعند لوقا (11: 42- 52) هي نداء إلى التوبة والإرتداد. حين استبعد الفريسيون الخطأة من جماعة الشعب، وحين مارسوا فرائض شريعة الطهارة ممارسة دقيقة، وحين اهتمّوا بتقديس الشعب، فقد كانوا يسعون ليقدّموا إلى الله شعباً مقدّساً. ظنّوا أن طريقة تفسيرهم للشريعة وتقاليدهم هي الطريق التي يريدها الله. واقتنعوا بذلك اقتناعاً مطلقاً بحيث اعتبروا أنّ الله لا يقدر أن يتّخذ سبيلاً آخر جديداً ليقدّس شعبه. بهذه الطريقة أغلقوا في وجههم الطريق الذي يجعلهم على خطى يسوع المبشّر بنظام الخلاص الجديد والاتي به إلينا.
وكان "ضيف" لم يدعَ إلى الوليمة، نطر من فوق "السياج" وهو يحاول أن يرى ضيف الشرف (رج 7: 37؛ 19: 3). دخل إلى البيت. حتى الفريسيون وعلماء الشريعة انزعجوا لأن كل مرض هو عقاب حياة لا أخلاقية. وقد كانوا يظنون أنهم يحدّدون بدقّة طبيعة الرذيلة الخفية في كل مرض من الأمراض. فالاستسقاء مثلاً هو علامة المجون وحياة الخلاعة. واتجهت الأنظار كلها إلى يسوع وإلى هذا الرجل، كما اتّجهت في وقت آخر إلى يسوع وهذه المرأة الخاطئة التي كانت تقبّل له قدميه.
وتصرّف يسوع. تصرّف كمن في يده ملء القدرة. هو الذي بادرهم إلى الكلام. سؤالهم سؤال طرحته المدارس منذ زمان بعيد ولكنها لم تجد الجواب الذي سيقدّمه يسوع: حين تكون حياة الإنسان في خطر، يُسمح بمساعدته على حساب راحة السبت. ولكن، إن لم يكن هناك خطر ننتظر نهاية السبت. والمستسقي ليس في حالة خطر الموت، إذن لينتظر. ولكن سؤال يسوع جاء بشكل تحدٍّ يدفعهم إلى مزيد من التفكير بالشريعة فلا يكتفون "بتقاليد الأقدمين" (مر 7: 5). يعتبر يسوع انه يقدر أن يفسر الشريعة كنبي باسم الله، بل هو يقدر أن يجدّد هذه الشريعة. قيل لكم، قالت لكم الشريعة، أما أنا فأقول لكم (مت 5: 17). سكت الفريسيون ولم يردوا على جواب يسوع. هم لا يريدون أن يبدّلوا شيئاً في تعليمهم. هم لا ينظرون إلى الإنسان بل إلى الشريعة. أمّا يسوع فيهمّه أولاً هذا الإنسان.
أخذ يسوع المستسقي، وضع يده عليه "ولم يتنجّس". شفاه وصرفه. الشفاء علامة. إنها تدلّ على أن الله مع يسوع وان يسوع يفعل بملء السلطان الذي قبله (أع 1: 38). ويشهد هذا الشفاء ان تفسيره لشريعة السبت انطلق من السلطان الذي منحه الله إياه. وهذا ما يثبت أن زمن الخلاص بدأ وأن راحة سبت الله بدأت تعمل والعالم يتجدّد. وما هذا الشفاء إلا دلالة على قرب الآيات الآتية.
ووجدت راحة السبت معناها الحقيقي، المعنى الذي أراده الله منذ الابتداء. شدّد علماء الشريعة على الجدال حول إرادة الله بالخلاص والحب اللذين هما الطابع الخاص بهذا اليوم. وجاء يسوع فملأ هذا النهار بالرحمة، بمحبّة الله. قُرّب إليه المستسقي فشفاه. لم يعد محور الحديث السبت، بل يسوع ربّ السبت، وهو الذي يعطي السبت معناه، بانتظار أن يأتي وقت يزول ويحل محلّه الأحد.
ودخل يسوع في طريقة جدالهم. إنطلق من ثور ننتشله بعد أن وقع في حفرة، من ابن وقع في بئر. إن الفريسيين يفسّرون الشريعة بطريقة بشريّة حين تكون مصالحهم مهدّدة. وهم في تفسيرهم لا يعطون "القريب" ما يعطونه لنفوسهم من مكاسب. ولكن يسوع طلب: "تحب قريبك مثل نفسك" (10: 27). فاللوم الذي يوجّهه يسوع إلى سمعان هو الذي يعمله في وضع هذا المستسقي: لا محبّة عندهم (7: 47). فالشريعة لا تضع حدوداً للمحبة ومحبّة الله لا تعرف حدوداً. وملكوت الله الذي يعلنه يسوع هو ملكوت رحمة الله.
لقد جعل يسوع راحة السبت في خدمة الإنسان (13: 15 ي). فالأعمال العجائبية التي أتمّها يسوع في ذلك اليوم دلّت على رضى الله تجاه خلائقه، على السلام والخلاص. والفرح الذي يملأ سبت نهاية الأزمنة هو تهليل البشر الذي ينبع من قلب مآثر الله وأعماله العظيمة. وان شفاء المستسقي يجعل من بيت هذا الفريسي قلب هذا الفرح، قلب هذا الخلاص. فأي شرف له، لو يفهم!
وإذا انتقلنا إلى الأحد. ففي قلب الأحد المسيحي نجد الخلاص الذي حمله يسوع المسيح بأقواله وأعماله، نجد أعظم ما قدّمته رحمته الإلهية والذي يتتم بصورة متواصلة خلال يوم الرب، عنيت به وليمة الافخارستيا. فبها نتحوّل، كما يتحوّل الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه، لندلّ بحياتنا وأعمالنا وأقوالنا على محبّة الله ورحمته.
إن طعام السبت في بيت فريسي ينقلنا إلى منظار أبعد من طعام كل يوم، وبالأحرى في منزل "مراقَب". إنه ينقلنا إلى طعام نهاية الأزمنة في "راحة الله السبتية" (عب 4: 9 ي). ولكن الطعام الذي يناله المسيحيون في يوم الرب يقع بين طعام اليهود وطعام يوم السبت وما يرافقه من فرح وابتهاج واهتمام بالضيف والغريب واليتيم، وطعام نهاية الأزمنة في ملكوت الله. فالرب حاضر وهو الذي يوزعّ عطايا خلاصه. وعدنا بأنه "لن يشرب بعد اليوم من عصير الكرمة حتى يجيء ملكوت الله" (22: 18). فقد جاءت ساعة آلامه وموته. ولكن بانتظار ذلك اليوم الذي ينقلنا إلى نهاية الأزمنة، أخذ خبزاً فكان جسده الذي يُبذل لأجلنا. أخذ كأساً فكان دمه من أجلنا. لم يعطنا الرب فقط شيئاً من مخلوقاته، بل أعطانا ابنه فلم يبقَ له شيءآخر يعطينا.
كان بإمكان هذا الفريسي أن يجعل من بيته موضعاً يحلّ فيه الخلاص، كما كان الأمر بالنسبة إلى زكا (19: 9). ولكنه تصرّف كالجراسيين: طلب من يسوع أن يترك دياره. سأل يسوع مرّة أولى فرفضوا أن يقدّموا جواباً. وسأل مرّة ثانية فما قدروا أن يجيبوا. أخذ الحوار منحى آخر بعد أن أخذ يسوع يرحّب بصورة عامة بالعشّارين والخطأة. وسيكون أحد تلاميذه واحداً منهم

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM