الفصل السابع والعشرون: الباب الضيّق

الفصل السابع والعشرون
الباب الضيّق
13: 22- 35

نودّ الآن أن نتأمّل في مثل الباب الضيّق، ونحن نعتبره وحدةً عُضويّةً متميّزة عن غيرها. هذا يعني أننا نتطرّق إلى مسائل نقديّة وأدبيّة قبل أن نقوم بتفسير هذه المقطوعة.

أ- الوُجهة الأدبيّة والنقديّة.
1- القرائن
يقع مثلُ الباب المغلق في القسم المركزِّي من إنجيل لوقا، في سياق سَفرة يسوع الطويلة إلى أورشليم (9: 51، 18: 14). وقد جَمع فيه الكاتب بطريقة مصطنعة عدداً من المعاومات خاصًّا به. هذا يعني أنه لا يملك إطاراً محدّداً لهذه المعلومات التي تشكّل "إنجيل التلاميذ".
إن خبر السفر الطويل الذي يقود يسوع من الجليل إلى أورشليم، قد بُني حسب رَسمة تأليفيّة وضعها لوقا نفسُه. فكما أنّ 9: 51، 57؛ 10: 1، 38؛ 14: 25؛ 17: 11 تشكّل وصلات وضعها لوقا، هكذا نقول عن 13: 22 التي تساعد هي أيضاً على تركيب خبر السفر بصورة متتابعة.
والنداء الذي يوجَّه إلى أورشليم "يا أورشليم كم مرّةٍ أردت أن أجمع بينك"، يشكّل مفصلة خبر السفر كلّه. ترافقه مجموعتان من الأمثال (13: 18- 30 و 14: 7- 24) وشفاءان تمّا يوم السبت (13: 15 و14: 5). والمقطوعة التي ندرس تنتمي إلى مجموعة الأمثال الأولى.
ويكفي أن نتطلّع إلى المقاطع المتوازية في متّى لنلاحظ الطابع التأليفيّ لهذا المقطع الذي يشكّل فُسَيفساء من النصوص:
آ 24- مت 7: 13- 14 في خُطبة الجبل.
آ 25- مت 25: 10- 12 وخاتمة مثل العذارى العَشْر.
آ 26- 27- مت 7: 22- 23 في خطبة الجبل أيضاً.
آ 28- 29- مت 8: 11- 12 الذي يشكّل جزءاً من خبر شفاء خادم ضابط كفرناحوم.
آ 30- قول مأثور قد يتبدّل بتبدّل الظروف (مت 19: 30؛ 20: 16؛ مر 10: 30).
2- مثل الباب الضيّق
نحن لا نَدهَش إن اعتبر الشرحُ القديم هذا المقطع تجميعاً قام به لوقا، فنسب وحدته إلى تأليف الإنجيل الثالث. ولكن يبدو أنّ لوقا لم يضُمَّ هذه النُتَف المتفرّقة، بل وجدها قبله وأوردها كما اكتشفها.
يقول الشُرّاح اليوم إن المسيحيّين الأوّلين كيّفوا وفسّروا ونسّقوا أمثال يسوع حسب الحاجات الملموسة في جماعاتهم، وهكذا تكوّن مثَل الباب الضيّق من التنسيق بين صُوَر مختلفة. لقد وُلد مثل جديد كنتيجة الكرازة والصلاة والتعليم والعبادة في الجماعات المسيحيّة الأولى: تألّف كلُّه من أقوال يسوع، ولكن يسوع لم يقله كلَّه كما نقرأه والآن.
أن يكون لوقا وجد عناصره المختلفة ممزوجةً في وحدة عُضويّة، فهذا لم يمنعه من القيام ببعض التصحيحات: فعبقريّة لوقا الأدبيّة لا تنفصل عن أمانته الدقيقة للنصوص. مثلاً، إن عبارة "لا أعرف من أين أنتم" في آ 25 (رج آ 27؛ مت 7: 23) تدلّ على تدخّل الكاتب. ففعل "عرف" لا يمتلك عند لوقا غنى المعنى الذي نجده في الأدب الساميّ. قد يكون لوقا أوجز النص فأغفل مثلاً "يا رب، يا رب" كما نجد في مت 7: 12.
غير أن هذه التصحيحات التدوينيّة التي قام بها لوقا ظلّت ثانويّة في هذا المقطع، وقد حسبها الشُرّاح في الماضي مهمَّةً فاعتبروا أن لوقا ألَّف السؤال في آ 23 منطلقاً من مت 7: 14. ولكن يبدو أنه أخذ من التقليد السابق هذا السؤال كمقدّمة آ 25، كما أخذ عبارة ذلك المجهول الذي طلب من يسوع أن يتدخل في خلاف على ميراث (12: 13). ويعتبر بولتمان ان آ 25 هي عبارة انتقاليّة تدوينيّة. فنحن نستطيع بصعوبة أن ننسب إلى لوقا أسلوباً قديماً يستند إلى الكلمة العاكفة (هنا، كلمة تورا، الباب، التي تربط آ 24 وآ 25). ولهذا يبدو من المعقول أن الإنجيلىّ وجد هذا القول فتركه في مكانه. ويعتبر لوازي بدوره أن آ 28- 29 (رَذْلُ اليهود الذين لم يؤمنوا ونداء الوثنئين) حُفظتا بطريقة أفضل في مت 8: 11- 12، أي في خبر شفاء خادم الضابط في كفرناحوم. ففي نظره، قد حوَّر صاحب الإنجيل الثالث هاتين الآيتين وبدّل مكانهما بأمانة انزعج منها. ولكننا نظنّ أنّ لوقا احتفظ لهما بالموضع الذي كان لهما في التقليد السابق. فبما أنه يعرف ويروي حدث ضابط كفرناحوم (7: 1- 10)، فهو لم يأخذ منه هذا القول. فلو أغفله، لما كان منطقيّاً مع نفسه، ولا سيما وإن النصّ يتكلّم بوضوح عن دعوة الوثنيّين الذين حلوا محلّ اليهود في تدبير الخلاص، وهذا موضوع عزيز على قلب صاحب الإنجيل الثالث. أخيراً، إن ربط آ 30 أي خاتمة مثل الباب الضيّق، بنص آ 28- 29 يأتي في محلّه ويعود أيضاً إلى الوثائق التي استقى منها لوقا. فهذا القول يقدّم الخاتمة التي تتطلّبها مقطوعة تلتحم فيها كل العناصر إلتحاماً وثيقاً.
3- خاتمة
يشكّل مثل الباب الضيّق (13: 22- 30) وضعاً غريباً من أوضاع انتقال الموادّ الإنجيليّة في الجماعات المسيحيّة الأولى. نحن هنا أمام مثل جديد مبنيّ من عذة أقوال تلفّظ بها المسيح في ظروف مختلفة، فجاءت معزولة بعضُها عن بعض عند متّى. نظنّ أن لوقا استقى هذا المثل الجديد في وثائقه مكتفياً ببعض التصحيحات الجانبيّة.
لهذا لن نفسّر سلسلة من المقاطع المنفصلة، بل شرحاً إجماليّاً لمَثل يشكّل وحدة جديدة خرجت من عناصر كانت في الأصل مشتّتة.

ب- التفسير
1- سؤال مألوف (آ 22- 23)
"وسار في المدن والقرى، يعلّم وهو في طريقه إلى أورشليم". في هذه الآية الانتقالتة، يذكّرنا لوقا بخبر السفر (رج 9: 51، 57؛ 10: 1، 38) الذي يشرف على القسم المركزيّ من إنجيله، وستبدو أورشليم في الأفق في المقطوعة اللاحقة. إذن، لسنا أمام سفر خاصّ قام به يسوع نحو قلب الديانة اليهوديّة، قبل الفصح الأخير ببضعة أشهر وبمناسبة عيد التدشين (يو 10: 22 ي). فالتعليم والسير في الطريق هما أمران عبّر عنهما كلّ إنجيليّ بطريقته وحسبَ المناسبات (رج مثلاً عن تعليم يسوع في القرى، مت 9: 35؛ مر 6: 6).
"فقال له رجل (واحد): أقليل عدد الذين يخلصون" (آ 23)؟ نحن لا نعرف ذاك الذي طرح السؤال كما لا نعرف نواياه. ولكن كلماته تدلّ على احترامه لهذا المعلم الذي هو يسوع. مِثلُ هذا السؤال طُرح مراراً في ذلك الوقت أمام الإهتمامات اللاهوتيّة الراهنة: هل يكون هناك عدد كبير من المختارين؟ لقد ناقش مِثلَ هذا السؤال حلقاتُ الرابّانيّين وعلماء الشريعة (عز 7: 47، 51- 52؛ 8: 1- 3، 4؛ 9: 16). قد يكون هذا الرجل فكّر في معاصريه اليهود الذي لا يقبلون القول بأنّ الوثنيّين يشاركون في الحياة الأبديّة.
2- الباب الضيق صار الباب المقفل (آ 24- 25)
"أجاب يسوع: اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيّق. أقول لكم: كثير من الناس سيحاولون أن يدخلوا فلا يقدرون".
لم يصل إلى المتكلّم جوابٌ مباشر. فالسؤال النظريّ حول عدد المختارين الكثير أو القليل لا يعني كثيراً سلوكنا في الحياة. ولهذا يرفض يسوع أن يعطي جواباً على المستوى النظريّ. إنه يرفض أن يسير على خُطى المعلّمين العاديّين الذين يقدّمون افتراضات حول أسرار علم الله السابق. طُرح سؤالا فضوليّ في عالم الديانة، فقدّم يسوع تجاهه إعلانَ واجب عملي. فما يَهمّه هو أن نعرف ما يجب عمله لنكون بين المختارين. "إجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيّق": يجب أن نقوم بمجهود. إن الفعل اليونانيّ "أغونيزاستي" يذكّرنا بالألفاظ البولسيّة (1 كور 9: 25؛ كو 1: 29؛ 4: 12؛ 1 تم 4: 10؛ 6: 12؛ 2 تم 4: 7) ويتضمّن فكرة الحرب والقتال.
وحسب صورة مألوفة لدى اليهود في أيّام يسوع، تُشبَّه السعادة الأبدية، ومِنطقة الآخرة السريّة التي فيها سيعيش الأبرار بعد موتهم، تشبّه بغرفة تقام فيها وليمة. باب الدخول ضيّق. ونستطيع أن نتذكّر خرم الإبرة (18: 25؛ مت 19: 24؛ مر 10: 24). تشدّد الصورتان على المجهود (على الصراع) اللازم للدخول. لا مجال للتأخير. لا مجال للتردّد. فالبابُ الضيّق في آ 24 سيصبح في آ 25 الباب المغلق.
"وإذا قم ربّ البيت وأغلق الباب، فوقفتم أنتم في الخارج تدقّون الباب وتقولون: يا ربّ، يا ربّ إفتح لنا". وينساب الفكر من آ 24 إلى آ 25. فالمقابلة مع مت 25: 10- 12 تدلّ على أنّ رب البيت يمثّل هنا المسيح عينَه، وأننا أمام الوليمة المسيحانيّة. منذ الآن، الذين ظلّوا خارجاً، الذين تأخّروا، يمثّلون اليهود الذين سنتحدّث عنهم في الآيات اللاحقة، الذين لم يقبلوا المسيح، لم يستفيدوا من الظَرف المُعطى لهم ليدخلوا إلى الملكوت، إلى قاعة العرس. سيدقّون الباب، سينادون بإلحاح ربَّ البيت لكي يسمح لهم بالدخول: "يا ربّ، افتح لنا". ولكن من دون جدوى. سيجيبهم ربّ البيت: "لا أعرف من أين أنتم". فمن جهل أصل شخص دلّ على أنه لم يعرفه.
3- الضيق الذي يحسّ به المتأخرون (آ 26- 27)
"عندئذ تقولون". إن الذين في الخارج يوردون الألقاب التي تتيح لهم في ظنهم أن يدخلوا إلى قاعة العرس. فالمطالبون أو اليهود هم مواطنو ربّ البيت وألفاؤه: "أكلنا وشربنا أمامك" (معك). هذا يدلّ على الدالّة والحياة الحميمة التي يتضمّنها طعام مشترك. قد يكونون ظنّوا مثل رابي مئير: "من يُحسَب ابن العالم الآتي؟ ذلك الذي يسكن في أرض إسرائيل، يتكلّم اللغة المقدّسة، يتلو صباحاً ومساء صلاة شماع" (أي اسمع يا إسرائيل). ثم إن رب البيت، يسوع، قد علّم في شوارعهم (ساحاتهم). في مت 7: 23، يتوجّه السيّد إلى مسيحيّين غير مستحقّين، إلى أعضاء الجماعة الروحيّة التي ينتمي إليها. وهكذا يسير كل شيء في المجال الأدبيّ والأخلاقيّ. أمّا عند لوقا، فالمعارضون هم يهود، وعلاقاتهم مع السيّد هي علاقات اللحم والدم (رج 2 كور 5: 16).
ولكن هذا الواقع المحدّد يزيد خطورة مسؤوليّة اليهود ورؤسائهم. فماذا ينفع أن يكونوا عرفوا يسوع بصورة حميمة، أن يكونوا سمعوا عرض تعليمه إذا لم يمارسوا هذا التعليم. فإذا أرادوا أن يكونوا تلاميذه، لا يكفي أن يكونوا قد سمعوا المعلّم. يجب أن تطابق حياتُهم تعليمَه، أن يقبلوا بالمسيح في أعمالهم وتصرّفاتهم. ولهذا يصبح سيّد هذا المثل الديانَ الذي يعلن الحكم النهائيّ بالنبذ والرَذْل، على مثال ما نقرأ في مز 6: 9: "لا أعرف من أين أنتم. أُبعدوا عنّي يا كل فاعلي الإثم" (رج 12: 8، 9).
4- رذلُ اليهود اللامؤمنين ودعوة الوثنيّين (آ 28- 29)
أمام باب القصر "هناك يكون البكاء وصريف الأسنان". إنّ يأس المتأخرين الذين جعلهم حُكم الطرد من المنبوذين الهالكين، تصوّره عبارة مقولبة نجدها عند أخنوخ وهي ترتبط عادةً بالإسكاتولوجيا النهائيّة (لا يستعملها لوقا إلاّ في هذا المكان، رج مت 8: 12؛ 13: 42، 50؛ 22: 13؛ 24: 51؛ 25: 30). ففي هذا المشهد الإحتفاليّ، يتّخذ الاسم اليونانيّ "بروغموس" كلّ قمّته التصويريّة: صرف بأسنانه من الغضب أو صرَّ بأسنانه من الرعب. وحالة "الهالكين" هي أهلٌ للرثاء بحيث يقابلون وضعهم الميؤوس منه بالمصير السعيد المحفوظ لآبائهم، قدّيسي الأمّة: "حين ترون إبراهيم وإسحق ويعقوب والأنبياء كلّهم في ملكوت الله، وأنتم في الخارج مطرودون".
وهناك شعور آخر مُذِّل وثقيل يُحسّ به الذين يجدون نفوسهم أمام الباب فلا يقدرون أن يشاركوا في الوليمة: ينظرون إلى داخل القصر هؤلاء الجالسين إلى المائدة في ملكوت الله: أناسٌ جاؤوا من أقطار الكون الأربعة، "من المشرف والمغرب، من الشمال والجنوب". ويُطرَح السؤال طبعاً: من هم هؤلاءِ الناس؟ ليسوا فقط يهودَ الشَتات الذين سيشاركون في ملكوت الله (أش 43: 1 ي). يدلّ هذا الكلام أوّلَ ما يدلّ على الوثنيّين كما في النصّ الموازي (مت 8: 11- 12) في شفاء خادم ضابط كفرناحوم.
وهكذا تنقلب الأمور. ما ترجّاه اليهود واستشفّه إسرائيل من أنه سيسبق العالم الوثنيّ في معرفة الله وخدمته، لأن "الخلاص يأتي من اليهود" (يو 4: 22) لم يتمّ. دُعي إسرائيل إلى معرفة الله الحقيقي وفُضِّل على سائر الشعوب: "علَّمت في ساحاتنا" (آ 26). كان إسرائيل موضوع المواعيد المسيحيّة، بل موضوع تتميمها أيضاً في شخص المسيح. وإن حياة المسيح (الماسيا) كلّها تبقى شهادة ساطعة لمحبّة الله الخاصّة تجاه هذا الشعب: "أكلنا وشربنا تحت نظرك" (معك) (آ 26). ورغم هذا الإهتمام الإلهيّ الذي لم ينقطع، ورغم حضور المسيح الملموس في وسطه، لن يخلص كل إسرائيل: أمّا الوثنيّون فسوف يُقبلون في ملكوت الله.
5- يصير الأؤلون آخرين والآخرون أوّلين (آ 30)
هذا القول المألوف، هذا المثل الذي لا نعرف رباطه الأولانيّ بالتقليد، يشكّل الخاتمة التي يتطلّبها مثلُ الباب الضيّق.
نحن نشهد هنا إنقلاباً حقيقيًّا في الأولويّات والتصدّرات. يقابل يسوع مُجملَ اليهود، خصوصاً منذ مجيئه، بمجمل الوثنيّين. وحين يتأمّل في هاتين المجموعتين، يعلن أنه سيكون وثنيّون (آخرون) سيَخْلصون قبل اليهود (الأوّلون). وفي أعمال الرسل (13: 46- 48؛ 28: 25- 28) سيُبرز القديس بولس التعليم عينه: إن مجمل الأمم الوثنيّة ستسبق مجموعة شعب إسرائيل في ملكوت الله.
غير أن الفئات ليست واضحة بصورة مُطْلقة في قول الإنجيل. فلا نستطيع أن نقرأ القول بصورة حرفيّة ونطبّقه بدون تمييز على كل الأشخاص، كما لو أن كل الذين تلقّوا أوّلاً نداء الله سيحتلّون المقعد في الملكوت. نلاحظ أوّلاً غياب أل التعريف: أوّلون يصيرون آخرين؛ آخرون يصيرون أوّلين. وأنتم، أي اليهود المتأخرون الذين ظلّوا أمام الباب المغلق، سترون إبراهيم وإسحق ويعقوب، أي نخبة الأمّة اليهوديّة، في ملكوت الله (آ 28).
من الواضح أننا هنا في عالم الإسكاتولوجيا، في عالم الآخرة: ففي الدينونة الأخيرة يُرذَل الذين رفضوا التوبة مهما كان أصلهم، ويُقبَل في ملكوت الله أناسٌ جديرون بالآباء والأنبياء.
وبعد أن نأخذ بالمعنى الإسكاتولوجيّ نعيد مثلَ الباب الضيّق إلى إطاره الحقيقيّ، إطار الأزمنة المسيحانيّة وملكوت الله الذي حمله المسيح وبشّر به اليهود الذين وجدوا نفوسهم خارجاً لعدم إيمانهم. أمّا الوثنيّون فدخلوا إليه من كل جهات الأرض. إن مجيء المسيح يُحدث إنقلاباً بأمكنة الصدارة في تدبير الخلاص. لن نتكلّم بصورة مطلقة ولكننا نقول: هناك آخرون (وثنيّون) سيكونون أوّلين. وهناك أوّلون (يهود) سيكونون آخِرين.

ج- خاتمة
إن مثل الباب الضيّق كما نقرأه في إنجيل لوقا يَلفت انتباهنا بصورة خاصّة. دلّت إشارات عديدة على أن الكنيسة المسيحيّة الأولى مالت إلى توسيع تفسير الأمثال الخاصّة باليهود. أمّا هنا فالعكس هو الظاهر. ومهما يكن من أمر، فهذا المثل يبيّن أن الانشداد ظلّ واقعياً بين اليهود والوثنيّين في الكنائس المسيحيّة الأولى. وهكذا نكتشف وجهة خاصّة من الحياة المسيحيّة في القرن الأوّل.
لا حاجة إلى القلق من مسألة نظريّة لا تصِل بنا إلى الحياة العمليّة. لا حاجةَ للتساؤل عن قِلّة أو كثرة عدد المختارين. فعلى اليهود بالأحرى أن يسعوا ليكونوا من المختارين. فالحرب والجهاد، وهو جهادٌ مُلحٌّ لا ينتظر أيّ تأخير، يُفرضان علينا. فخلاص أبناء إبراهيم ليس مؤكّداً بصورة مسبّقة كما ظنّت حلقاتُ الرابّانيّين في زمن يسوع. فالقَبول "العلميّ" للمسيح، والأمانة الدقيقة لتعليمه، وإيمان يترجَم عملاً في الحياة، كل هذا يرسم الطريق الاكيدة وإن قاسية وهي تقود جميع الناس إلى الخلاص.
إن المصير المأساويّ لليهود المطرودين من قاعة الوليمة، يشكّل تنبيهاً جدِّياً لجميع البشر في كل الأزمنة. فلنخَفْ من أن يصبح الباب الضيّق باباً مقفلاً بوجهنا. ففي أيّامنا هذه، لم يزل المسيح يدعونا وينادينا ويطلب منّا أن نتخذ موقفاً. بيننا أيضاً "آخرون سيكونون أؤلين، وأوّلون سيكونون آخِرين". ونحن المسيحيّين القريبين من المسيح، أكلنا وشربنا معك، علّمت في ساحاتنا، فيبقى مثَلُ الباب الضيّق نداء مؤثّراً لكي نختار المسيح، لكي نضع تعليمه موضع العمل في حياتنا، لكي نجعل سلوكنا يوافق أقواله. بالنسبة إلينا، لا وقت نضيعه، وكل تأخر يُهدِّد مصيرنا الأبديّ. "إجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيّق. أقول لكم: كثير من الناس سيحاولون أن يدخلوا فلا يقدرون"

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM