الفصل السادس والعشرون: حبّة الخردل والخمير في العجين

الفصل السادس والعشرون
حبّة الخردل والخمير في العجين
13: 18- 21

أ- مثل حبلأ الخردل
مع مثل الزرع الذي ينمو وحده (مر 4: 26- 29)، يطرح مثل حبّة الخردل عدداً من الأسئلة حول الأمثال التي تتحدّث عن النموّ. نحن أمام فكرة يسوع حول رسالته وعلاقتها بأحداث نهاية الأزمنة. ونحن أيضاً أمام نظرة حول ملكوت الله.
نبدأ أولاً فندرس المثل في الأشكال الثلاثة التي فيها وصل إلينا. نحاول أن نكتشف عناصر محدثة وعناصر تعود إلى يسوع. بعد هذا، نبحث عن هدف المثل، عن المعطية الرئيسية التي تدلّ على التعليم الديني الذي من أجله كُتب المثل. والقسم الثاني من عرضنا يحدّد هذا التعليم متسائلاً حول تطبيق المثل في إطار رسالة يسوع. والقسم الأخير يتوقّف عند التطبيقات الجديدة التي يدلّ عليها الإنجيليون الذين اهتموا بإعطاء القارئ المسيحي دروساً تتكيّف والوضع الذي فيه يعيشون.
1- النسخات الثلاث في الإناجيل
وصل إلينا مثل حبّة الخردل في ثلاثة أشكال مختلفة بعض الإختلاف. نلاحظ أولاً الفرق الكبير بين مرقس ولوقا. أمّا متّى فيقدّم نصّاً متوسطاً يتضمّن عناصر تدلّ. على ما في الإنجيلين الآخرين. نبدأ فنواجه نسخة مرقس مع نسخة لوقا.
أولاً: مرقس ولوقا
مر 4: 30- 32 لو 13: 18- 9 1
وقال وقال إذن
ماذا يشبه
ملكوت الله؟
بماذا نشبّه وبمَ أشبّهه؟
ملكوت الله؟
وبأي مثل نمثّله؟
إنه مثل حبهّ الخردل: إنه يشبه حبه خردل
أخذها إنسان
حين تزرع في الأرض وألقاها في بستانه
تكون أصغر جميع البذور
التي على الأرض.
فإذا زُرعت
طلعت فنمت
وصارت وصارت
أكبر من جميع البقول شجرة
ثم تفرع أغصاناً كبيرة
حتى إن طيور السماء وطيور السماء
تقدر أن تأوي أوت
إلى ظلّها. إلى ظلّها.

*- الفن الأدبي
في نسخة مرقس، يعلن المثل واقعاً من الخبرة اليومية: كيف تسير الأمور عادة؟ حين تزرع حبّة الخردل، ينتج عنها نبتة كبيرة. أما نسخة لوقا فتروي لنا خبر إنسان زرع يوماً حبّة خردل في بستانه فانتجت شجرة. واقع حدث مرّة من المرّات.
هل نستطيع أن نختار بين الشكل التصويري في نسخة مرقس والشكل الاخباري في نصّ لوقا؟ أيهما يعود إلى يسوع؟ إن يسوع استعمل هذين الشكلين في تعليمه. يبقى أن نبحث عن الرباط الوثيق الذي يجعله تقليد لوقا (يسنده متّى) بين مثل حبّة الخردل ومثل الخمير. إن مثل الخمير يروي ما فعلته إمرأة حين جعلت الخمير في ثلاثة أكياس من الدقيق: شكل المثل هو شكل خبر، مثلان يرويان بالشكل عينه وقد أثّر الواحد على الآخر. فإذا افترضنا أنّ المرجع الذي استعمله متّى ولوقا قد ضمّا هذين المثلين، نعتبر أنه تمّت عملية تماثل: تسلّم مثل حبّة الخردل شكله الاخباري من السياق العام. وهكذا بدا الشكل المرقسي التصويري أوّلانياً (سبق الشكل اللوقاوي). اما إذا كان المثلان قد شكّلا في البداية زوجاً من الأمثال متّحداً، نقول إن الشكل الاخباري سبق الشكل التصويري على مستوى حبّة الخردل كما على مستوى الخمير.
نحن نختار الفرضية الثانية: جاء الشكل الاخباري سابقاً للشكل التصويري. فهذان المثلان يرتبطان بمجموعة من النصوص الإنجيلية حيث نرى يسوع يلجأ إلى مثلين (أو صورتين) متكاملين ليعطي تعليماً واحداً. فمثل الرجل الذي أضاع خروفه ومثل المرأة التي فقدت درهمها (15: 4- 10) يشبهان مثل الخردل والخمير، لأنهما يضعان أمامنا رجلاً وإمرأة. في 14: 28- 32 نجد ملاّكاً يبني برجاً وملكاً يستعد للذهاب إلى الحرب: نحن هنا أمام الفكرة عينها. وفي مت 13: 44- 46 نجد ذاك الذي وجد كنزاً وذلك الذي اشترى لؤلؤة ثمينة. في لو 12: 24- 28 (رج لو 6: 26- 30)، تعطي الغربان والزنابق امثولة في الثقة لتلاميذ يسوع. وفي مت 7: 24- 27 (رج لو 6: 47- 49)، بنى رجلان بيتهما. واحد بناه على الصخر، وآخر على الرمل. وقال يسوع: لا نرقع ثوباً عتيقاً بقماشة جديدة، ولا نضع خمراً جديدة في زقاق بالية (مر 2: 21- 22 وز) رج أيضاً مت 7: 9 وز (رغيف، سمك)؛ 7: 16 وز (الشوك، العلّيق). وهناك مثل الزؤان والشبكة (مت 13: 24- 30، 47- 48. في الأصل كانا زوجاً). ومثل الصديق المزعج والأرملة المزعجة (11: 5- 8؛ 18: 1- 8: كانا معاً).
هكذا اعتاد يسوع أن يقدّم تعليمه في مثلين متكاملين. لهذا يبدو لنا الجمع بين مثلَي حبّة الخردل والخمير، أوّلانياً، وهو يعود إلى يسوع.
*- البنية
يُبرز نصّ مرقس التعارض بين حالة حبّة الخردل في نقطة الإنطلاق (كانت "أصغر من جميع البذور التي على الأرض")، وفي نقطة الوصول (صارت "أكبر من جميع البقول"). والتوازي في العبارات يبرز أيضاً هذا الواقع. وهناك صيغة الأفعال. في آ 31- 32، نجد عملاً يدوم لحظة، ونتيجة تمتدّ في الزمن: طلع الزرع، صار أكبر من كل البقول، أفرع أغصاناً كبيرة، استطاع طير السماء أن يأوي إلى ظلّه.
نصّ لوقا هو أقصر من نصّ مرقس، فلا يشدّد على التعارض. هو لا يذكر صغر الحبّة ولا كبر النبتة (صارت عنده "شجرة"). كل صيغ الفعل هي في الماضي: رجل أخذ حبّة خردل، رماها في بستانه. نمت الحبّة. صارت شجرة. إستظلّ فيها الطير. من البداية إلى النهاية، نحن في خطّ متواصل لا انقطاع فيه. لقد أراد أن يشدّد على ضرورة المسيرة التي انطلقت: رُمي الزرع في البستان، حصل النموّ، خرج منه شجرة نعجب بارتفاعها. إذن، لا نبحث عن الهدف في التعارض، بل في ضرورة حتميّة تجعل الحبّة تتحوّل إلى شجرة.
ماذا نقول عن الإختلافات بين هاتين النسختين؟ شدّد مرقس على الحالة الأولى والحالة الأخيرة. أمّا خبر لوقا فلا يقول إن الحبّة اختيرت من بين كل الحبوب. إنّ صغر هذه الحبّة صار مضرب مثل عند اليهود. هذا ما يلمّح إليه مت 17: 20 (لو 17: 6): "لو كان فيكم إيمان مثل حبّة الخردل". لا نتخيّل شيئاً أصغر منها. وقال الرابانيون: نقطة دم مثل حبّة الخردل (صغيرة). تحدّث لوقا عن الشجرة. أما مرقس فقال: أعظم من جميع البقول.
إن التعارض الذي قدّمه مرقس يقرّب بين مثل حبّة الخردل ومثل الزرع الذي ينمو من ذاته، ومثل الزارع. في هذا الشكل يتحدّد موقع المثل في إطار رسالة يسوع، والصعوبة التي تنتج من صغر هذه الرسالة الظاهرة إذا قابلناها مع التحوّلات الكونية التي يدلّ عليها مجيء ملكوت الله. أما نسخة لوقا فتركّز الإنتباه على نموّ النبتة: إنها توافق وضعاً ليس وضع البداية "الصغير"، بل وضع التفتّح الجميل: إنه يعكس مسيحيّة في ملء انتشارها.
ثانياً: متّى (13: 31- 32)
إن الفنّ الأدبي الذي أخذ به متّى هو الخبر: إنسان زرع حبّة خردل في حقله (قال لوقا: بستانه). تقول المشناة إن الخردل ينبت في الحقل لا في البستان. ولكن هل صحّح لوقا مرجعه؟ هو لا يستعمل في أي مكان آخر "كابوس" (بستان). فيبدو أنّ متّى أدخل كلمة "أغروس" في هذا الموضع وفي كل ف 13 (آ 24، 27، 36، 38، 44).
إتفق متّى مع لوقا حول الفنّ الأدبي. أما في البنية، فيتفّق مع مرقس فيبرز الصغر في نقطة الإنطلاق والكبر في نقطة الوصول. ويحدّد، شأنه شأن مرقس، أنّ حبّة الخردل هي "أصغر من كل البذور". وكتب أيضاً مثل مرقس أنّ هذه الحبّة صارت فيما بعد "أكبر البقول جميعاً". ولكنه زاد ملتقياً مع لوقا: حتى تصبح شجرة في أغصانها (قال مرقس: في ظلّها) تبيت الطيور.
التعارض هو هو بين مرقس ومتّى. ولكن الإنتقال لا يتمّ في النقطة عينها. عند مرقس تتعارض البذور مع كل ما يحصل فيما بعد (الحاضر الذي يمتدّ). أما متّى فكتب أن الرجل زرع حبّة الخردل، وان هذه الحبّة نمت (مثل لوقا). بعد هذا، يتابع متّى في الحاضر: صارت حبّة الخردل شجرة. جاء الطير وبات في أغصانها. إذن، هنا ينتمي النموّ إلى الماضي، شأنه شأن الزرع. والآن، صارت الحبّة شجرة. وضع متّى هو وضع لوقا، هو وضع الكنيسة في ملء انتشارها.
وأتبع متّى (مثل لوقا) مثل حبّة الخردل بمثل الخمير الذي جاء نصّه قريباً من نصّ لوقا: لقد اكتفى الإنجيليان بنسخ مرجعهما المشترك الذي غرفا منه. في مثل حبّة الخردل، قدّم متّى نصّاً يرتبط بمرقس ولوقا. هو يدمج مرقس مع المرجع الذي شارك فيه لوقا. وهذا ما نلاحظه في آ 32 حيث يصير الخردل اكبر البقول، ثم يصير شجرة.
إرتبط متّى بلوقا ومرقس، فجاءت شهادته ثانوية. أما لوقا فاحتفظ هنا بالشكل الاخباري للمثل، ومرقس بالشكل التصويري الذي يبرز تعارضاً سينطلق منه المثل ليجد تطبيقاً له.
2- معنى المثل في رسالة يسوع
إن هدف الخبر الامثالي هو في العلاقة بين صغر حبّة الخردل وكبر البقول. فنظنّ أن التعليم الذي نستخلصه يعني علاقة أخرى. نحن أمام مثل في شكل معادلة في أربعة عناصر: أ، ب، ج، د. عرفنا ما يدلّ عليه ج، د. يبقى علينا أن نعرف التطبيق في أ، ب. ونبدأ مع ب.
أولاً: النبتة الكبيرة التي يأوي إليها طير السماء
هذه هي الإشارة الأخيرة التي تلفت الإنتباه. إذ أراد المثل أن يصوّر عظمة نبتة الخردل، بيّن كيف أن الطيور تطلب مأوى "تحت ظلها" (مرقس)، "في أغصانها" (متّى، لوقا). من المعروف أن هذه النبتة تجتذب الطيور الذين يستطعمون حبّها، ولكننا أمام تضخيم حين نقول إن الطيور باتت تحت ظلّها، أو أقامت هناك (كاتاسكانوو).
نكتشف هنا صورة معروفة في التوراة، ندلّ بها على ملك عظيم يجعل شعبه في أمان. ففي مثل يوتام، قالت العلّيقة (التي تمثّل الملك أبيملك): "تعالوا وبيتوا في ظلّي" (قض 9: 15). وتحدّث مرا 4: 20 عن الملك صدقيا الذي أخذ أسيراً: "ملكنا الذي اختاره الرب، أوقعوه في حبائلهم، وهو الذي قلنا: في ظلّه نحيا بين الأمم". وصوّر با 1: 12 اليهود المنفيين وهم يرفعون الصلاة إلى الله: "لكي نعيش في ظلّ نبوكد نصّر، ملك بابل، وفي ظل إبنه بلطشصر". وصوّر حزقيال الفرعون، ملك مصر، بشكل أرزة عظيمة وقال: "في أغصانها عشّشت كل طيور السماء، وتحت فروعها وُلدت كل وحوش البرية، وفي ظلّها سكنت جميع الأمم العظيمة" (حز 31: 6).
ونجد في حز 17: 22- 23 وعداً بالإصلاح ينبئ بالمجد المقبل المحفوظ لإسرائيل: "فيأوي تحته كل طائر، وفي ظلّ أغصانه يأوي كل حيوان مجنّح". ونقرأ في دا 4: 9 عن حلم رأى فيه نبوكد نصّر شجرة عظيمة: "تحتها أوى حيوان البرّ، وفي أغصانها أقامت طيور السماء، ومنها تغذى كل ذي جسد"، هذه الشجرة تمثّل نبوكد نصّر (آ 18).
ونعود إلى مثل حبّة الخردل. فالعبارة المستعملة في مرقس (تحت ظلّه) ترد اكثر من عبارة متّى ولوقا (في أغصانها. تعود إلى دا 4: 18 في اليونانية، 4: 21). فالشجرة التي تعطي ظلاًّ للعصافير، هي صورة تقليدية تدلّ على الملك الذي يحمي عبيده بسلطانه. فالشجرة ترمز إلى الملك كما ترمز إلى مُلكه. وفي سياق كرازة يسوع، تدلّ الإشارة الأخيرة في المثل على المُلك الاسكاتولوجي الذي فيه يُظهر الله سلطانه فيحمي جميع البشر الذي كانوا جزءاً من ملكوت الله.
وهكذا تؤكّد الإشارة الأخيرة ما في المقدّمة من تعليم عن ملكوت الله. لقد تكلّم المثل عن الملكوت، لأنه ينتهي في ذكر وضع سيتحقّق حين يقيم الله ملكوته على الأرض.
إذن، وصلنا إلى العنصر الثاني في المعادلة: إنه يمثّل ملكوت الله في ملء تحقيقه الاسكاتولوجي. يبقى علينا أن نجد العنصر الأول.
ثانياً: أصغر كل البذور
إن قامة نبتة الخردل تبدو متواضعة، فلا تستطيع أن تدلّ على عظمة ملكوت الله. فإذا كان المثل قد قام بهذا الخيار، بدلاً من أن يلجأ إلى صورة "الأرز" التقليدية، فلكي يبرز حقارة نقطة الإنطلاق. فساعة أطلقت المسيرة التي تصل إلى المجيء المجيد لملكوت الله، نشهد حدثاً بسيطاً نكاد لا ندركه، فنشبّهه بحبّة الخردل الصغيرة.
حين أراد يسوع أن يدخل تعليمه في عقل سامعيه، إلتقى في العواطف والشعور التي اكتشفها فيهم: بعد أن بيّن لهم أنه يفهم صعوباتهم، إجتذبهم لكي يقدّروا الأمور حقّ قدرها. إذا كان الأمر هو هكذا هنا، فصغر حبّة الخردل يقابل لدى سامعي يسوع خيبة أمل أمام واقع "حقير". وهو كذلك إن قابلناه مع الصور العظيمة التي تدلّ عليها فكرة مجيء ملكوت الله. وهذا الواقع الذي يخيّب أمل المحيطين بيسوع هو الرسالة التي قام بها المخلّص خلال حياته على الأرض. معه صار ملكوت الله قريباً، ومع ذلك فهو لا يشبه إلاّ قليلاً القدرة والمجد اللذين يميّزان مثل هذا الحدث. لهذا أجاب يسوع: إن من هذه البداية "الحقيرة" يخرج الملكوت الاسكاتولوجي في كل بهائه، كما تخرج النبتة الكبيرة من حبّة الخردل الصغيرة.
نحن أمام ملكوت الله. نحن أمام الله بالذات. يعمل فيقيم أو يمارس ملكه. ويفسّر المثل أن الله لا يتصرّف من أجل إقامة ملكه بطريقة مغايرة لإنسان يرمي في الأرض حبّة خردل فيكون له نبتة ضخمة. إن رسالة يسوع لا تبدو بشكل مظاهري ساطع. ولكن هذا لا يمنع أن الله ينطلق منها لكي يدشّن المسيرة الاسكاتولوجية التي تصل إلى مجيء الملكوت. لقد بدأ تدخّل الله في نهاية الأزمنة. والحقارة الظاهرة لما يحدث الآن، لا تخفي الحقيقة الحاسمة: الله يعمل اليوم لكي يقيم مُلكه.
وننهي بملاحظة أخيرة. العلاقة بين شقّي المثل هي علاقة تعارض بين نقطة الإنطلاق (صغيرة) وبين نقطة الوصول (عظيمة جدّاً). ولكننا نخطئ إن حصرنا العلاقة في هذا التعارض. إن التعارض يرافق هوية هذا الملكوت وتواصله الحقيقي. هناك "وحدة عضوية" بين البداية والنهاية. إن النهاية متضمَّنة في البداية. والنهاية تخرج من البداية كالنبتة من الحبّة. هكذا ملكوت الله هو حاضرٌ الآن، بشكل سرّي وخفي في رسالة يسوع. فهو يخرج من رسالة يسوع في كل مجده وبهائه. من هنا وجب على معاصري يسوع أن يأخذوا بعين الإعتبار مدلول الرسالة التي أوكله بها الله. هي لا تعلن فقط الملكوت كشيء يختلف عنها. بل هي نفسها هذا الملكوت الذي يدخل منذ الآن في هذا العالم. وهكذا، فمن اتخذ موقفاً تجاه رسالة يسوع، يكون قد قبل أو رفض سلطان الله الاسكاتولوجي، يكون قد قرّر مصيره في العالم المقبل.
وهكذا نرى أن تعليم هذا المثل لا يعني فقط المستقبل. فهو لا يتوخّى أن يعلّمنا أن ملكوت الله سيأتي أكيداً أو سيأتي سريعاً، أو أن رسالة يسوع ستأتي بثمار عجيبة. بل يتوخّى أن يفهمنا المدلول الحاسم للزمن الحاضر، هذا الزمن الذي يتّخذ من رسالة يسوع قيمته الفريدة في تاريخ الخلاص. إن رسالة يسوع هذه قد دشّنت حقاً نهاية الأزمنة. وقد بدأ تدخّل الله الاسكاتولوجي فلا يبقى لنا إلاّ أن ننتظر لنرى نتائجه التي ستظهر.
هذا تعليم مهمّ لسامعي يسوع، شرط أن يفهموا كل أبعاده. ويبقى مهماً بالنسبة إلينا. لأنه إذا كان زمن رسالة يسوع يشكّل حقبة مميّزة، فهذا يعود إلى مهمّته الإلهية، وهي مهمّة ما زال يمارسها اليوم المسيحُ القائم من الموت. في هذه المهمة الفدائية، وفي النهاية، في شخصه وفي السيادة التي ارتداها، صار ملكوت الله قريباً من كل إنسان.
3- نظرة كل من الانجيليين الثلاثة
أو لاً: مرقس
أشار مرقس، حالاً بعد مثل حبّة الخردل، إلى أن يسوع كان يتحدّث بالأمثال ليعلن كلمة الله للجموع. "ولكنه كان يفسّر كل شيء لتلاميذه على انفراد" (4: 33- 34). لا نجد تفسير هذا المثل، ولكننا نظنّ انه إن كان مرقس لم بعطنا إياه، فلأنه اعتبر أن تفسير مثل الزارع يكفي (توسّع فيه مطؤلاً في آ 14- 20) ليدلّ القارئ على الخط الذي فيه يبحث عن معنى مثلَي الزرع (آ 26- 29، 30- 32) اللذين انضمّا إلى المثل الأول.
دلّت آ 14- 20 أولاً على أن الزرع الذي تحدّثنا عنه من قبل هو الكلمة، هو الرسالة الإنجيلية. والمدلول عينه يرتبط في هذا السياق بالزرع الذي ينبت من ذاته، وبحبّة الخردل التي هي أصغر جميع البذور التي على الأرض. إذن، نحن هنا (في رأي الإنجيلي) أمام مثل يدلّ على تعليم المسيح.
في آ 17، قد يكون مرقس زاد "الاضطهاد من أجل الكلمة". وسنجد تفاصيل مشابهة في 8: 35 و10: 29. هذا ما يدلّ على أنه منشغل بالاضطهاد الذي يصيب المسيحيين الصابرين حتى المنتهى. هل زاد أيضاً في آ 19 مختلف العوائق التي تهدّد الثبات؟ ربما. وقد فهم مثل الزارع بالنظر إلى الصعوبات التي تجابه الكنيسة في عصره. هذا ما يجعلنا نفترض أن مرقس نشر أمثال يسوع بالنظر إلى الوضع الذي يراه ساعة كان يؤلّف إنجيله.
هذه الملاحظات تكفي لكي نتصوّر المعنى الذي أعطاه لمثل حبّة الخردل. فهذه الحبّة التي تمثّل تعليم المسيح، كانت صغيرة حين زُرعت: إن وقت الزرع يقابل زمن رسالة يسوع. وبعد ذلك الوقت نمت الحبّة وصارت نبتة تفرض نفسها فتفرع أغصاناً يستظلّها طير السماء. نحسّ أننا هنا أمام صورة للإنتشار المسيحي في نهاية العصر الرسولي. فبدا المثل تأكيداً متفائلاً لقوّة التعليم الذي حمله يسوع إلى العالم. وهو سيتوسّع لا محالة.
ثانياً: لوقا
إن مثلَي حبّة الخردل والخمير في الإنجيل الثالث يشكّلان خاتمة حدث شفاء المرأة المحدودبة (13: 10- 17). حصل المشهد في المجمع يوم السبت، أبصر يسوع المرأة المسكينة فحرّرها من علّتها. فاحتجّ رئيس المجمع، ولكن جاءه جواب لاذع: "أيها المراؤون! كل واحد منكم يحلّ ثوره أو حماره ويقوده من المذود لكي يشرب". وتلاحظ آ 17 خزي خصوم يسوع وفرح الشعب "بجميع الخوارق التي كانت تجري على يده". وتتابع آ 18: "إذن قال". نحسّ كأن المثلين وسّعا النظرة إلى الأمور: فالغلبة التي أحرزها يسوع في المجمع صارت استباقاً لغلبة وُعد بها ملكوت الله، وما زالت الآن في بدايتها.
نلاحظ أنّ لوقا لم يحافظ على التعارض كما في مرقس. بدلاً من أن يقابل بين صغر نقطة الإنطلاق وكبر نقطة الوصول، أبرز الضرورة الحتمية لمسيرة النموّ التي تصل إلى شجرة يستظلّ فيها طير السماء. ولاحظنا في الوقت عينه أن جميع الأفعال هي في صيغة الماضي. فقامة الشجرة الباسقة تقابل وضعاً رآه الإنجيلي أمام عينه: فهو لا يتأمّل في التفتّح الاسكاتولوجي لملكوت الله في ظهوره المجيد، بل في الإنتشار العجيب للكرازة الإنجيلية التي تحقّقت مع الجيل الرسولي. فالإنسان الذي زرع حبّة الخردل هو المسيح. أعطى الإشارة بالإنطلاق لحركة لا شيء يوقف مسيرتها المنتصرة.
ثالثاً: متّى
وضع متّى مثلَي حبّة الخردل والخمير بين مثل الزؤان المزروع وسط الحنطة (13: 24- 30) وتفسير هذا المثل عينه (آ 36- 43). فإن كان معنى المثل (في سياق مرقس) يستنير بنور شرح مثل الزارع، فإن تفسير مثل الزؤان عند متّى هو الذي يقدّم لنا المفتاح. إذن، نعتبر أن الإنسان الذي زرع حبّة الخردل يمثّل "ابن الإنسان" (آ 37). والحقل الذي وضعت فيه هذه الحبّة هو العالم (آ 38). والنبتة التي تنمو فيه ترمز إلى ملكوت ابن الإنسان (آ 41). ونستطيع أن نواصل التفكير في الخط عينه: فالطيور التي تأوي إلى ظلّ الشجرة تدلّ على البشر الذين يدخلون في الكنيسة. ولكن اختلف مثل حبّة الخردل عن مثل الزؤان والشبكة (13: 48) والمدعوين إلى وليمة العرس (22: 10)، فلم يتكلّم عن أخيار وأشرار، ولم يقل إن هؤلاء سيُرذلون في الدينونة والإقامة النهائية لملكوت الله.
إنّ مثل حبّة الخردل لا يمدّ نظرته فيصل بنا إلى الدينونة. ففي نظر متّى، ينتمي الزرع ونموّ حبّة الخردل إلى الماضي. وقد وصلنا الآن إلى الوقت الذي فيه صارت النبتة شجرة يأتي طير السماء ويستظلّ في أغصانها. لا شكّ في الإنجيلي يفكّر في التوسّع الذي عرفته الكنيسة يوم دوّن إنجيله.
4- خاتمة
كان الهدف الأول لمثل حبّة الخردل أن يفهم سامعي يسوع الأهمية الحاسمة للزمان الذي فيه يعيشون: فرسالة يسوع، رغم ظاهرها البسيط، تكوّن المرحلة الأولى للتدخل الاسكاتولوجي الذي به يقيم الله ملكه على الأرض. وبحث الإنجيليون في المثل عن تعليم للزمن الذي يعيشون فيه، لزمن الكنيسة. وهكذا تحوّلت النظرة. فالزرع الذي حمله يسوع إلى العالم، لم يعد صغيراً كما كان في البداية. بل توسّع فما وقف بوجهه عائق، وصار نبتة كبيرة، صار شجرة يقدّم ظلّ الخلاص للذين يطلبون تحته مأوى. ونكتشف في وضعين مختلفين في هذا المثل أمثولة ثقة وطمأنينة: إن رسالة يسوع قد بدأت المرحلة النهائية في تاريخ الخلاص، ولا شيء يمكنه بعد اليوم أن يوقف نموّ العمل الذي بدأت به.
ب- مثل الخمير في العجين
بعد هذه الدراسة عن مثل حبّة الخردل، نزيد بضع ملاحظات حول مثل ارتبط به ارتباطاً وثيقاً في التقليد الأنجيلي. هو مثل الخمير في العجين. نجد هنا ذات الأسئلة حول النقد الأدبي وحوله التفسير. وهكذا نكتفي بأن نذكّر بمناسبة الحديث عن مثل الخمير، ما قلناه عن مثل حبّة الخردل.
1- النقد الأدبي
مت 13: 33 لو 13: 21- 22
وقال لهم وقال أيضاً
مثلاً آخر بمَ أشبّه
ملكوت السماوات ملكوت الله
يشبه خميراً يشبه خميراً
أخذته إمرأة أخذته إمرأة
وخبّأته وخبّأته
في ثلاثة أكيال من الدقيق في ثلاثة أكيال من الدقيق
حتى اختمر الجميع. حتى اختمر الجميع.
نصّان متشابهان تقريباً. ألغى متّى السؤال الأول (بمَ أشبّه ملكوت الله؟). واستعمل فعلاً مزيداً في "خبأ".
هذان المثلاًن ألّفا زوجاً. إنهما يقدّمان صورتين متكاملتين لتعليم واحد. وهذا نهج تربوي اكتشفناه مراراً عند يسوع.
دلّت المقابلة مع مرقس أن نسخة مثل حبّة الخردل التي استعادها لوقا واستعملها متّى قد اختُصِرَت. صارت ثانوية عند متى لأنها لا تذكر التعارض. نحن لا نفهم لماذا اختار يسوع حبّة الخردل إلا إذا انطلقنا من مرقس: إختار يسوع قصداً أصغر جميع البذور الذي يعطي أيضاً أكبر البقول.
إن مثل الخمير في وضعه الحالي لا يقدّم تعارضاً، شأنه شأن مثل حبّة الخردل في لوقا. فنتساءل: هل تمّ فيه التحوّل عينه الذي حصل لمثل حبّة الخردل؟ إذا عدنا إلى الطحين، يحدّد الخبرُ أننا أمام ثلاثة أكيال من الدقيق: وهذا يعني أننا أمام كمّية كبيرة جداً (40 ليتراً تقريباً). فالتعارض يفترض أنّ كمية قليلة من الخمير تكفي لكي تخمّر كل هذه الكمّية. الفكرة هي هنا ولكنها متخفّية. فلا بدّ من توضيحها. وهكذا برز القول المأثور: "قليل من الخمير يخمّر العجنة كلها" (1 كور 5: 6؛ غل 5: 9). وينتهي المثل بلفظة "كل" (اختمر كله) التي كانت واضحة لو قيل في البداية "بعض" الخمير. حين نفترض "البعض" نربط مثل الخمير بمثل حبّة الخردل كما بدت في إنجيل مرقس.
وهكذا نعتبر أنّ مثل الخمير، شأنه شأن مثل حبّة الخردل، أبرز رباطاً بين "صغر" الخمير وكميّة العجين الذي اختمر "كله".
2- الهدف الأول للمثل
كيف تطبّق المثل؟ هنا نتساءل: ما الذي يقابل عنصري العلاقة اللذين يبرزهما الخبر الامثالي؟
أولاً: أكيال الدقيق
إن الثلاثة أكيال من الدقيق تمثّل كمية كبيرة جداً. نجد مثالاً على ذلك في تك 18. إذ أراد إبراهيم أن يستقبل ضيوفه السماويين الثلاثة الذين استضافهم، فال لسارة أن تعجن ثلاثة أكيال من الدقيق (آ 6). وقدّم جدعون لملاك الرب خبزاً بدون خمير. قدّم له "ايفة" أي ثلاثة أكيال من دقيق (قض 6: 19). وهي الكمية عينها التي قدّمتها حنّة حين جاءت إلى معبد شيلو لتكرّس ابنها صموئيل للرب (1 صم 1: 24). هذا لا يعني أنّ هذه الكمية هي أمرٌ عادي. فهى ليست عادية أكثر من "مئة ضعف" حصدها اسحق فيٍ تلك السنة (تك 26: 12؛ رج مر 4: 8 وز). فالرقم الذي أمامنا ليس رقما نجده كل يوم. إنه رقم بيبلي يدلّ على واقع اسكاتولوجي. فاني سياق كرازة يسوع، نتطلّع بشكل طبيعي إلى ملء ملكوت الله في حالته النهائية.
ثانياً: كمّية الخمير
إنّ كمّية الخمير القليلة تكاد لا تُحسب بالنسبة إلى كمّية الطحين الكبيرة. إنها تدلّ على رسالة يسوع التي تبدو شيئاً بسيطاً بالنسبة إلى التحرّك الذي يدلّ عليه مجيء ملكوت الله. فرغم هذه المظاهر المخيّبة للآمال، فالرسالة التي أوكل بها الله يسوع تمثّل بداية تدخّل الله الذي يصل بنا لا محالة إلى تحوّل تامّ في العالم الحاضر، إلى تجديد كامل يفترض عبوراً من العالم الحالي إلى العالم المقبل. وإذ أراد الله أن يقيم ملكه على الأرض، فعل ما فعلته ربّة البيت هذه: أخفت في العجين كمّية قليلة من الخمير. ومن حدث بسيط مثّلته رسالة يسوع على الأرض خرج ملكوت الله في كل مجده. وهذا يدلّ على أنّ سامعي يسوع يجب أن يهتموا اهتماماً كبيراً بما يجري أمام عيونهم، بالتعليم الذي يدوّي في آذانهم. أجل، ملكوت الله هو هنا. فلا بدّ من اتخاذ القرار.
3- هدف الإنجيليين
إن صغر نقطة الإنطلاق لا تهم كرازة المسيحية. فهي تنظر بالأحرى مرتاحة إلى الوضع الحالي: إنتشر التعليم الإنجيلي انتشاراً عجيباً في العالم فدلّ على قدرة الخمير الذي أدخله فيه يسوع. هي قوّة فاعلة، ولا يقف شيء في وجهها. ونحن نستطيع منذ الآن أن نتأمّل في نتائجها. إنّ إعادة تفسير المثل بالنظر إلى انتشار الكنيسة يعطينا درساً يتأسّس على الثقة بالماضى، على اليقين أن يسوع حمل إلى العالم واقعاً لا بدّ أن يحوّله. يبقى الأساس الذي أعطاه المثل الأوّلاني إلى هذه الثقة، فوجّه الإنتباه نحو المستقبل، نحو الظهور المجيد لملكوت الله، نحو ظهور يجد كفالته في حضور هذا الملكوت الذي يفعل الآن وإن كان بطريقة سرية وخفية

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM