الفصل الرابع والعشرون: المهلة الأخيرة للتوبة

الفصل الرابع والعشرون
المهلة الأخيرة للتوبة
13: 1- 9

إن الوحدتين الأخيرتين اللتين تبدأان ف 13 في إنجيل لوقا، واللتين لا تجدان ما يوازيهما في سائر الأناجيل، تتضمّنان نداء ملحّاً إلى التوبة.
أ- درس نستخلصه من الأحداث (آ 1- 5)
يروي لوقا في هذه الآيات الخمس الأولى من المقطوعة أن يسوع إستفاد من واقعين محلّيين حصلا للناس، فحرّض سامعيه على التوبة. الواقع الأول: ذبح الجليليين على يد بيلاطس. أوصله إليه "بعض" الناس فحصلوا حالاً بشكل نداء إلى التوبة، على الأمثولة التي نستخرجها من الأحداث. الواقع الثاني: سقوط البرج في سلوام. يبدو أن يسوع عرف به منذ زمان بعيد، ولكنه ما زال ماثلاً أمام الأذهان بحيث استفاد منه يسوع ليقدّم درساً لسامعيه.
إعتبر بعضهم أنّ يسوع لم يتلفّظ في المناسبة نفسها بالقولين المذكورين في آ 1- 3 ثم آ 4- 5. فلا يُعقل أنه حصل على المعلومتين في الوقت عينه. ولكن النصّ لا يشير إلى أن المعلومات جاءت في الوقت عينه. ثم، ماذا يمنع أن يكون الخبر الأول قد ذكر يسوع بالخبر الثاني في عملية توارد أفكار.
يمكننا أن نتوقّف فنتأمّل في الحسّ التربوي عند يسوع: يعرف أن ينطلق من واقع حياتي فيقدّم لسامعيه تعليم الحياة.
كيف يبدو هذان الحدثان في الخبر وفي نسيج الإنجيل الثالث؟ نجيب أولاً على هذا السؤال في ثلاثة مقاطع، ثم نقدّم في المقطع الأخير شرحاً موجزاً للنمق.
1- ضوء من العالم الفلسطيني
لا نعرف هذين الواقعين في أي مرجع آخر، ما عدا في الإنجيل. ولكن الخبر الأول يبدو معقولا وهو يوافق كل الموافقة ما يقول لنا المؤرخّ يوسيفوس عن بيلاطس وقمعه ثورات البلاد في بحر من الدم. فالجليليون الذين "مزج دمهم بدم ذبائحهم"، قد يكونون من الغيورين الذين جاؤوا الى الهيكل في عيد الفصح: نما حزبهم في الجليل، وقدّمت مناسبات الحجّ لتحرّكهم المسيحاني المشبوه المناسبة للوصول الى المدينة المقدّسة.
أما حدث برج سلوام الذي سقط فسبّب سقوطه مقتل 18 شخصاً في ضاحية معروفة من ضواحي أورشليم، فهو واقع عرفه الناس وما زالوا يتذكرونه. إنّ هذه المحلّيات المختلفة، لا يمكن أن يستنبطها كاتب عاش خارج فلسطين وبعد دمار أورشليم. وكل هذا يشير إلى أن يسوع استعملها استعمالاً عملياً ليحضّ يهود زمانه على التوبة، وإلى أن الجماعة المسيحية الأولى احتفظت بهذا التنبيه لأنه ما زال يتوخه إليها الآن.
2- المحيط الحياتي الأصلي
جعل لوقا هذا التنبيه والمثل الذي يليه في قسم كبير خاص به (9: 51- 19: 27)، في إطار صعود يسوع الأخير إلى أورشليم. أما إطار هذه المقطوعة بهدفها التعليمي، فهو إطار مصطنع: إنه يضمّ بعض الأمور التي تعود بنا إلى الجليل، مثل توبيخ مدن الجليل (10: 13-15)، كما يضمّ أخرى تنقلنا مسبقاً إلى المدينة المقدّسة (13: 34- 35: يا أورشليم، يا أورشليم). إذن لا نستطيع أن نحدّد موقع هذه المقطوعة في الزمان وفي المكان.
وماذا في المضمون؟ نحن أمام نداء إلى التوبة. وهذا الموضوع يميّز الطبقة الأولى في كرازة يسوع. إذن، موقع هذه المقطوعة يحدّد بالأحرى في بداية رسالة يسوع. من جهة أخرى، نحن في الجليل الذي كان المسرح الرئيسي لنشاطه الأول، وهذا ما يتوافق مع ذكر الجليليين في آ 1- 2، في الحدث الذي أخبر به يسوع. لهذا ظنّ عدد من الشرّاح أننا هنا أمام نموذج من كرازة يسوع الأولى في الجليل. وزاد بعضهم: إن هذه الأقوال السابقة للفصح قد استعملها التلاميذ الذين أرسلهم يسوع أمامه في الجليل.
ولكن بيلاطس قام بهذه المجزرة الشرسة في أورشليم. وبقرب أورشليم حصل سقوط برج سلوام. ويؤكّد يوحنا (7: 14) بعض معطيات الإزائيين (13: 34- 25؛ مت 26: 57) فيثبت أن يسوع ينتظر نهاية حياته ليصعد إلى أورشليم ويعظ فيها. إذن، نستنتج أن المقطوعة التي ندرس تقع، على ما يبدو، في المرحلة الأولى من رسالة يسوع. ولكننا لا نعرف المكان الذي تمّ فيه هذا الحوار.
ومهما يكن من أمر الزمان والمكان، فالدعوة الى التوبة في منظار الدينونة الإسكاتولوجية القريبة، هي ولا شك موضوع أساسي في تعليم يسوع. فمنذ بداية حياته العامة، استعاد نداء يوحنا المعمدان (مت 3: 2 وز) فأعلن: "تمّ الزمان واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل" (مر 1: 15). وأكثرَ من المعجزات ليأتي بأهل الجليل إلى التوبة (مت 11: 20- 24)، وهي مسيرة صعبة في إيمان ومحبّة لا يدركان الله دون التوجّه إلى يسوع (مت 10: 37- 39). ونبّه الجموع أنه سيحكم عليها في يوم الدينونة إن لم تتب توبة تشبه توبة سامعي يونان (11: 32). وهذا الدرس الذي استخرجه من مصير الجليليين الذين ذبحهم بيلاطس أو أولئك الذين سحقهم البرج، يتوافق كل الموافقة مع كرازته العامة حول التوبة والإرتداد إلى الله.
3- السياق السابق لإنجيل الثالث
في آ 1، يلحم لوقا هذه المقطوعة بما سبق بعبارة: "وفي ذلك الوقت عينه". إهتم بأن يرتّب إنجيله، فأحبّ هذا النوع من الرباطات الكرونولوجية أو الجغرافية، مع ما فيها من استنباط لا بعد موضوعياً له، وجعله هنا ليبرز تشابهاً بين العناصر المرتبطة بعضها ببعض. وفي الواقع، إن مختلف المقطوعات التي تتوالى بعد 12: 35 تجعلنا نحسّ اننا أمام مجموعة متماسكة.
فكما ينتظر الخدم (العبيد) سيّدهم (12: 35- 38)، وكما يخاف ربّ البيت اللصوص (آ 39- 40)، وكما ينتظر الوكيل عودة سيّده في أي وقت من النهار أو الليل (آ 41- 48)، هكذا يجب أن نسهر ونكون مستعدّين لكي نؤدّي الحساب. لقد جاء يسوع على الأرض يلقي نار الدينونة والتطهير (آ 49- 50): يجب أن نتخذ موقفاً منه، نكون معه ولو دفعنا الثمن خلافاً داخل الأسرة (آ 51- 53). فالساعة خطيرة (آ 54- 56) والوقت يدهم الذين سيدينهم الله كما يدهم الذي يجب أن يعجّل فيتصالح مع خصمه ليتجنّب دعوى تضرّ بمصالحه (آ 57-59). هذا الوقت الذي لا ينتظر، هو وقت التوبة والشرط الضروري لكي لا تنتهي دينونة الله بحكمة لا استئناف فيه (13: 1- 9). وهكذا، فكل السياق السابق يلقي ضوءاً على هذه النبوءة التي تحمل تهديداً لنا. فلنتفحّصها.
4- تفسير أقوال يسوع (آ 2- 5)
إن الحدثين اللذين يستخرج منهما يسوع تنبيهاً يُذكران الواحد بعد الآخر في جملة استفهاميّة. وفي كل مرّة يأتي جواب سلبي فيبدأ عبارة تعارضية (آ 3 وآ 5): "أتظنّون أن..؟ أقول لكم: كلا. ولكن إن كنتم لا تتوبون فستهلكون كلّكم مثلهم". هذه البنية باستفهام وتواز وتعارض وردة، تدل على محيط يسيطر عليه المرجع الشفهي ويساعد على عمل الذاكرة.
فمن خلال تناقض التعابير، يريد يسوع أن يدخل. إلى أذهاننا تعليمه فنستطيع أن نفصّله كما يلي:
أولاً: ليس الشقاء الأرضي دائماً عاقبة الخطيئة (آ 2، 13، 4- 5 أ)
في أيام يسوع، ورغم احتجاجات قديمة من قبل أيوب وحكيم سفر الجامعة، ما زالت العقلية الشعبية تربط بين الشقاء الأرضي والخطيئة. حين مرّ التلاميذ بجانب المولود أعمى سألوا يسوع: "رابي، من أخطأ هذا الرجل أم والداه" (يو 9: 2)؟ أجابهم يسوع: "هذا الرجل لم يخطىء، لا هو ولا والداه" (آ 3). وفي المقطوعة التي ندرس أيضاً، يرفض يسوع بعبارة سلبية اعتقاداً قديماً عن المجازاة على هذه الأرض، مجازاة تتمّ بصورة آلية ولا يفهمها البشر، مجازاة فردية وجماعية: "أقول لكم: كلا". فالجليليون الذين قتلهم بيلاطس لم يخطأوا أكثر من سائر الجليليين. وضحايا حادث سلوام لم يذنبوا أكثر من سائر سكان أورشليم. فالمصيبة ليست علامة الخطيئة لأن عدداً من الناس أخطأوا كما أخطأ هؤلاء الضحايا. كانوا من المجموعة البشرية الواحدة ومع ذلك لم يصابوا بأذى.
إن هذا الإعلان يكفي ليجعلنا نرذل إعتبارات لا تمتّ إلى المسيحية بشيء. إعتبارات نسمعها لدى الناس الذين يعتبرون الله سبب الأمراض والافات التي تصيب الأفراد والجماعات. الشرّ يبقى شكّاً وعثاراً لكل واحد لم يكتشف سرّ الصليب. ولكن لا يحقّ لأحد أن يجعل منه عقاباً يرسله الله. أما القديسون الذين نالوا وحياً واضحاً، فسرّهم يبقى في قلب الله، كما حدث للطوباوية رفقة، الراهبة اللبنانية.
ثانياً: "إن كنتم لا تتوبون، فستهلكون كفكم مثلهم" (آ 3 ب، 5 ب)
وتجاه الإعلان السلبي الذي يرد بصورة احتفالية (أقول لكم) تأتي ردّة تتضمّن تهديداً بالهلاك ضدّ الذين لا يتوبون. هذا ما أرادت أن تشدّد عليه المقطوعة، لأن هذا التهديد يأتي في الخاتمة ويتكرّر على دفعتين. أترى يسوع رفض أن يناسب بين الشقاء والخطيئة ليبرز بصورة أوضح شواذاً يرتبط بالشريعة القديمة عن المجازاة الجماعية على الأرض؟
نستطيع أن نتجنّب كل صعوبة على هذا المستوى إن نحن قلنا إن يسوع ينتقل من خطر موت زمني (موت الجسد) إلى موت أبدي. نحن لا ننكر أننا قد نكون هنا أمام فكر لوقا، إلا اننا نتردّد في قبوله بالنسبة إلى يسوع وبالنسبة إلى مرجع لوقا، وذلك بسبب تلميحات مثل التينة إلى مصير إسرائيل. ولأن الأداة "كذلك، مثل" تفترض طبعاً شقاء مثل الشقاء السابق، فالفكرة القائلة بأن إسرائيل كأمّة بشرية تسير إلى دمارها إن لم ترجع إلى صوت يسوع، ليست بمستبعدة من فكر المعلّم. ولكن العقاب الزمني الذي به يهدّد يسوع شعب الله لا يجب أن يدخل إلاّ كمقدمة للدينونة الشاملة في نهاية الأزمنة. هذه الدينونة تصيب صور وصيدون وسدوم ونينوى، ولكنها لن تكون قاسية بقدر تلك التي تصيب مواطني الرب وأبناء بلدته (10: 12- 15؛ 11: 31- 32؛ رج 17: 26- 30). وما يؤكّد هذا التفسير هو السياق الموجّه منذ 12: 35 نحو اقتراب الدينونة. ولكنه يصل بنا مع ذلك إلى مثل التينة فيصوّر دراما إسرائيل التاريخية (في فكر يسوع) كعلامة تستبق الدينونة الأخيرة.
هذا ما نراه عند لوقا في أماكن عديدة. ففي 19: 27 نقرأ: "أما أعدائي الذين لا يريدون أن أملك عليهم، فجيئوا بهم إلى هنا واقتلوهم أمامي". نحن هنا أمام خاتمة قاسية تدلّ على رذل بني إسرائيل من وليمة الملكوت (13: 28- 29؛ 14: 24). أما الصورة الخارجية التي تدلّ على هذه الدينونة، فهي ما صنعه أرخيلاوس ضدّ خصوم رفضوا أن يتولّى الملك. وهذا ما يدلّ على قساوة الدينونة التي تصيب إسرائيل الذي لم يؤمن. دمار أورشليم (19: 43- 44؛ 21: 20- 24) هو أيضاً صورة مسبقة عن دينونة إسرائيل وبالتالي عن دينونة العالم. وهكذا نقول عن المقطوعة التي ندرس: ما أصاب الجليليين وضحايا سلوام هو رمز عن الدينونة التي تصيب الخاطئين الذين لا يؤمنون.
إن فكرة الدينونة تساعدنا حتى نرى الخلاص كأنه وعد. قد تتنوعّ الصور المأخوذة من التقليد. قد تُوجد فكرة الذنب والعقاب كما في العهد القديم، وكما في لو 13: 1 ي. ولكن فكرة الدينونة في الآخرة هي التي تسيطر. إن تاريخ العالم ليس دينونة العالم. فدينونة العالم هي بالحري نهاية العالم.
والمثل (13: 6- 9) كما سنرى يجعلنا نرى تهديد تدخّل عقابي من قِبَل الله، نجد صورته في صاحب الكرمة. فكل شيء يتّسم بسمة العناية الإلهية في التاريخ البشري، وبالأخص في تاريخ إسرائيل. ولكن الردة في آ 3 وآ 5 تكتفي بأن تؤكّد أن عدم التوبة يقود إلى الموت، دون أن تدل على أن الله هو صاحب هذا الشقاء. إن الله لا يقدّم إلاّ الحياة وهو لا يصنع إلاّ الخير. ولكن الناس والشعوب يستطيعون أن يقبلوا خلاصهم أو يرفضوه. "يا أورشليم، يا أورشليم، كم مرّة أردت أن أجمع بنيك... فما أردتم" (13: 34).
ثالثاً: البعد المرتبط بهذين القولين
نستطيع الآن أن نفهم المعنى العميق لقولَيْ يسوع مع الأخذ بعين الإعتبار بمناخ الإنشداد والمفارقة بين السؤال والردة التي تتضمّن الجواب، وذلك في آ 1- 3 ثم آ 4- 5. لقد انتهينا من نظرية المجازاة القديمة، ولكن التهديد ما زال قائماً في هذه الساعة الحاسمة وأكثر من أي وقت مضى، على الجميع وعلى كل واحد منا. وأعلن يسوع: كلا. إن الرجال الذين قتلهم جنود بيلاطس أو سقوط البرج، لم يكونوا خاطئين أكثر من الآخرين. ولكنهم كانوا خاطئين، وكل انسان على الأرض خاطئ. فعلى الضربات التي كانوا ضحيّتها أن تكون لنا تنبيهاً ترسله العناية: إنها تدعو إسرائيل (ومن خلاله كل البشر) إلى التوبة والتعرّف إلى مرسل الله لينالوا هذا الخلاص الاسكاتولوجي. يسوع نفسه دشّن هذا الخلاص. فإن رفضناه بإرادتنا في هذا الوقت العصيب نجرّ على نفوسنا الضربة العظمى.
إنّ قول يسوع المعبّر عنه في أسلوب نبوي والذي استعاد لوقا قراءته، لن يبقى آنياً (يتوجّه إليّ الآن) إلاّ في منظار النهاية، منظار الدينونة الشاملة التي تحدّد المصير الأبدي لجميع البشر. لا يحتفظ لوقا بالنظرة إلى مصير إسرائيل المأساوي، الذي اهتمّ دوماً بأن. يميّزه عن نهاية العالم (في 21: 7 ي يفصل دمار أورشليم عن مجيء ابن الإنسان). فكل البشر لا يستطيعون أن يدفعوا "دينهم"، وهم يتوسّلون إلى رحمة الديّان السامي: ولن ينعموا بهذه الرحمة، ساعة الحساب، إلاّ إذا قبلوا موهبة التوبة التي تقودهم إلى الحياة (أع 11: 18).
"أصحاب الدين" (في آ 4) يقابلون الخاطئين في آ 2. فصورة دين الخطيئة المعروفة في العالم اليهودي على أنها شرّ نكفر عنه بالأعمال الصالحة، قد استعملها يسوع (7: 42: كان لمداين دين على رجلين؛ 11: 4 في صلاة الأبانا؛ مت 6: 12- 14؛ 18: 21- 35) ليدلّ على غفران يمنحه الله بجوده وصلاحه. فكأننا أمام دين لا نستطيع أن نفيه. ومثل العبد الذي لا يستطيع أن يفي دينه ولا يريد أن يشفق على قريبه (مت 18: 23- 35) يربط ربطاً مباشراً تأدية الحساب بالدينونة الاسكاتولوجية.
ب- مثل التينة العقيمة (آ 6- 9)
للوهلة الأولى يبدو تعليم مثل التينة قريباً جداً من النداء إلى التوبة كما تضمّنته المقطوعة السابقة. قد تكون القطعتان وُجدتا في الماضي منفصلتين. ولكن يبدو أنهما جمعتا في وقت سابق للوقا في بنية واحدة تشبه إلى حدّ بعيد بنية 15: 1- 32. فالدرس في المثلين الموازيين، مثلي النعجة الضالة والدرهم الضائع، يجد خبراً يوسعه مثل الإبن الضال. وهذا ما نقوله هنا. فدرس المثلين (الجليليون وبرج سلوام) يجدان توسيعاً لهما في خبر أطول هو مثل التينة العقيمة. وفي الحالين، يبدأ المثلان بسؤال (13: 2، 4: أتظنّون؟ 15: 4، 8: من منكم؟). وتعود العبارة عينها: "أقول لكم" (13: 3، 5؛ 15: 7، 10)، "وأيضاً" (13: 4؛ 15: 8). في الحالين نحن أمام مجموعة تتضمّن مقدمة قصيرة وقولين متوازيين يتبعهما مثل يدلّ على هدف القولين. ويبدو أن 13: 1- 9 و15: 1- 32، قد استقاهما لوقا من ينبوع واحد.
ومهما يكن من أمر، تشابهت المواضيع فتقاربت، كما قلنا، عند لوقا أو عند المرجع الذي استقى منه.
هناك تشابه، ولكن مع اختلافات طفيفة. وأهمها فكرة مهلة للنعمة. فهذه الفكرة ليست غريبة عن آ 1- 5: فسامعو يسوع يستطيعون أن يتجنّبوا الهلاك إن هم تابوا. وما يسري بالنسبة إلى القولين المعزولين يسري بالحري بالنسبة إلى نظرة لوقا الذي ضمّ إليهما مثل التينة. ففي آ 3 وآ 5، ظلّت كلمة يسوع، حسب لوقا، تنبيهاً وتخويفاً لا دينونة وحكماً نهائياً. لم يضِع كلُّ شيء بعد، شرط أن نتوب ونعود إلى الرب.
ولكن فكرة المهلة لن تصبح واضحة إلا في المثل. أمّا الدرس عن التوبة فهو واضح في آ 3، 5 ومتضمَّن في آ 6- 9. كل هذا يتيح لنا أن نرى في المثل شقّين إثنين: تروي آ 6- 7 واقعة من الوقائع، واقعة معقولة تبرز التهديد المسلّط على شجرة تين. وتتضمّن آ 8- 9 سمات لا نتخيّلها بسهولة في تصرّف المزارع الفلسطيني، فهي تشدّد على المهلة التي حصل عليها الكرام من أجل كرمته.
1- السياق والمحيط الحياتي الأصلي
لقد رأينا أي ضوء ألقاه على آ 1- 9 السياق العام لكرازة يسوع والسياق السابق لهذه المقطوعة منذ 12: 35. فالوقت الحاضر مهم أهمية رئيسية. نحن هنا عند الحدود الأخيرة لمنعطف حاسم يحدّد مصير كل واحد منا: فإن تأخرنا بعد عن إصلاح سلوكنا وعن التوبة، نهلك ولن يكون لنا دواء. إذن، طوبى للذين يوجدون مستعدّين (12: 37، 38، 40، 43)! ولكن الويل للآخرين (آ 45- 48) الذين لم يتعرّفوا إلى علامات الزمان (آ 54- 56)، الذين لم يتوبوا في هذه الساعة الأخيرة (13: 1- 5) ولم يستفيدوا من المهلة الأخيرة التي أعطيت لهم ليحملوا ثمراً.
إذن، الفكرة التي يعبّر عنها هذا المثل هي واضحة في جوهرها: عجّلوا وتوبوا. هذا ما يقوله يسوع للشعب، لأن هذه هي المهلة الأخيرة التي يمنحكم الله إياها قبل الدينونة الرهيبة.
وشدّدنا أيضاً على أنّ هذا النوع من النداء إلى التوبة يميّز بصورة خاصة المرحلة الأولى (خاصة الجليلية) من كرازة يسوع. ولكن بقي تردّد في ما يخصّ مثل التينة، لا سيما وأنه يذكّرنا بحدث التينة التي لعنها يسوع حين دخوله إلى أورشليم حسب مت 21: 18- 19 ومر 11: 12- 14. نحن في الحالين أمام تينة خيّبت أمل من جاء يطلب فيها ثمراً. إنها تمثّل (رغم التفسير الثانوي عند متّى ولوقا) إسرائيل المهدّد بأن يُقلع بسبب لا إيمانه وعدم توبته. ولكن لا شيء يؤكّد أنّ لوقا حوّل الحدث الى مثل، كما يقول بعض الشرّاح. أما تحويل المثل إلى خبر فيبدو ممكنا لأن تيبيس التينة هو المعجزة الوحيدة التي لا تتحدّث عن فعلة حنان ورحمة. ثم لا ننسَ محبة يسوع للطبيعة (زنابق الحقل، مت 6: 28)، واحترام العهد القديم للأشجار (تث 20: 19). ولكن التحليل الأدبي لا يسند هذا الإفتراض، ولهذا لا بدّ من الإقرار بقرابة لعنة التينة بفعلات رمزية عند الأنبياء، وبأعمال أو أقوال أخرى قاسية صدرت عن يسوع.
فإذا أعطينا مثل التينة كمحيط حياة أصلي لكرازة يسوع الأخيرة في أورشليم، قد تعني الثلاث سنوات التي فيها جاء صاحب الكرم يطلب ثمراً، قد تعني مدّة حياة يسوع الرسولية. ومعاصرو المسيح هم الشجرة التي لم تعطِ ثمراً. خيّبوا أمله حين رفضوا أن يتوبوا، فأرسل إليهم نداءً أخيراً قبل موته.
أما إذا حدّدنا موقع المثل في بداية رسالة يسوع، حينئذ تعني السنوات الثلاث الأزمنة التي هيّأت التتمة المسيحانية (أو ربما رسالة يوحنا المعمدان، ساعتها يكون الكرّام هو يوحنا وصاحب الكرم يسوع). والتينة هي صورة عن إسرائيل قبل المسيح، صورة حدّثنا الأنبياء مراراً عن عقمها. وأخيراً إن مهلة السنة (الإضافية) التي اعطيت للتينة (بدون نيّة كرونولوجية) تمثل امتداد رسالة يسوع (في هذه الحالة نُصبح قريبين ممّا في مرقس).
في هذا الإفتراض الأخير تتخذ العناية الخارقة التي استعدّ الكرام ليعطيها لشجرته المهدّدة، تتخذ قيمتها، وإلاّ فما معنى هذه المهلة إذا كنا أمام تنبيهات يسوع الأخيرة قبل موته؟ هذه العناية تمثّل حينئذ مجهود يسوع منذ بداية حياته العامة ليردّ شعبه إلى التوبة.
2- الخلفية الكتابية
إن الصور البيبلية التي تجعل من إسرائيل غرس الله تبقى في خلفية هذا المثل. فإن أش 5: 4 قد تنبّأ عن خيبة الرب: إنتظر عنباً في كرمه فما وجد إلاّ حصرماً برّياً. هذه القصيدة قد استعملها يسوع في مثل الكرّامين القتلة، فهدّد يها المسؤولين عن عقم الشعب المختار (مت 21: 34 وز). لا شكّ في أن يسوع مدين لهذا التقليد الأدبي الذي يصوّر إسرائيل كنبتة مختارة (أش 5: 1- 4؛ إر 2: 21؛ حز 17: 6؛ 19: 10- 11؛ مز 80: 9- 17). إنحطّت وصارت عقيمة فاستحقّت أن يدمّرها الله لينتقم منها (أش 5: 5- 6؛ إر 5: 10: 6: 9؛ 12: 10؛ حز 15: 6؛ 17: 10؛ 19: 12- 14). إن صورة الكرمة والتينة مترادفتان: تستعملان معاً في هو 9: 10؛ مي 7: 1؛ إر 8: 13 فتدلاّن على إسرائيل. وفي أرض تصلح للكرمة تنبت تينة المثل الذي ندرس.
إنّ هذه الخلفيّة البيبلية تغني إغناءً خاصاً قوة الإيحاء التي نجدها في الخبر الإنجيلي: إن الله أحبّ شعبه وأُغرم به، فاعتنى به وسهر عليه سهراً دائماً، ولكن جواب هذا الشعب كان العقوق ونكران الجميل بأبشع مظاهره. فقام عريس إسرائيل (هو 3: 1؛ 10: 1) بمحاولة كبيرة وأخيرة قبل أن يقطع الشجرة العقيمة: أرسل يسوع الذي دلّت عجائبه وسلطته الخارقة وحكمته العجيبة على شخصية تفوق البشر، أرسله ليدعو الشعب أخيراً إلى التوبة. هل سينجح؟ لا يعطي لنا مثل التينة الجواب، ونحن نفهم هذا فهماً أفضل إذا كان يسوع لم يزل في بداية رسالته. ولكن الشكوى التي تلي (آ 34- 35) ومثل الكرامين الأشرار سيعلماننا أن إسرائيل ترك الفرصة الأخيرة تفلت منه: فرؤساؤه وصلوا بعدم إيمانهم وكفرهم إلى الذروة فقتلوا الإبن الوحيد، إبن صاحب الكرم. وسيهتم بالكرم كرامون آخرون يعطون الثمر في أوانه إلى ربّ الكرم (مت 21: 43 وز).
3- تأوين الدرس الأخلاقي
بدأ مثل التينة وكأنه قيل في بداية رسالة يسوع. أما مثل الكرامين القتلة فهو يرجع إلى الفترة الأخيرة من حياة يسوع: بعد أن اختبر قساوة الفشل، توجّه فكره شيئاً فشيئاً إلى موته القريب، الذي بعده سيسلّم الكرم إلى كرامين آخرين. وقد يكون مثل التينة (والتهديدات التي سبقته: "تهلكون جميعاً") قد أعيدت قراءته في ذلك الوقت العصيب وكيّف ليوافق الوضع الجديد. وترك إسرائيل المهلة التي أعطيت له ليتوب ويؤمن، تركها ولم يستفد منها، وذلك بسبب خطيئة رؤسائه. هذا ما عرفناه وقد أشار إليه لوقا حين أقحم هذا المثل في سفر يسوع الأخير إلى أورشليم، الذي هو مسيرته إلى الموت. وزاد إسرائيل شرّا على شرّ فقتل مسيحه. لهذا سيناله العقاب الذي اعلنته الكلمات التي توجّهت إلى أورشليم (13: 34- 35؛ 19: 41- 44)، كما أنبأت به تهديدات أخرى مماثلة أطلقها يسوع في هذه المناسبة أو تلك (مت 8: 12؛ لو 13: 28): أجل ستُقطع التينة ولا دواء لها.
ولكن بالنسبة إلى لوقا الذي يكتب بعد سنة 70، لم يعد هذا الحكم التاريخي على الأمّة المختارة من التعليم الآني. فما وجده في مثل التينة على أثر ما وجده في الوسط التعليمي والإرشادي الذي انطلق منه المرجع الذي أخِذَ منه، هو دعوة متواصلة إلى التوبة وإلى الخصب الروحي. وهذه الدعوة لا تزال تفيد المسيحيين وكل المرشحين لقبول الإيمان. فكرازة الرسل لليهود والوثنيين كما قدّمها لوقا لنا في أعمال الرسل، انتهت دوماً بنداء إلى التوبة والإرتداد (أع 2: 38؛ 3: 19؛ 17: 30؛ 20: 21؛ 26: 20؛ 1 تس 1: 9- 10) للحصول على حكم يكون في صالحهم في الدينونة الأخيرة (أع 3: 19- 21؛ 10: 42- 43؛ 17: 30- 31). ويشير إنجيلي الرحمة مراراً إلى أن النداء عينه يتوجّه من جديد إلى المسيحيين الخاطئين. هو يعلن أنّ الخطأة مدعوّون إلى التوبة (5: 32؛ ق مر 2: 17). وتوبتهم تسبّب الفرح في البلاط السماوي (15: 7، 10؛ ق مت 18: 12- 14). وهكذا تضمّنت عدة مقطوعات خاصة في لوقا، مثل أمثال العشّار والفريسي، والدرهم الضائع والإبن الضال، وأحداث الخاطئة في بيت سمعان وزكا واللص الصالح، والجموع التي كانت تلطم الصدور وهي تترك الجلجلة (23: 48- 49)، تضمّنت دروساً سامية عن التوبة. وإذا وضعنا مثل التينة في هذا السياق، فهو يحتفظ بتعليمه الآني بالنسبة إلينا.
والدعوة إلى حمل الثمار تتوجّه إلينا كلنا نحن اليوم أيضاً. فالإنجيلي ينظر على خطى الرب إلى هذه "الثمار التي تليق بالتوبة" (3: 8 وز؛ رج أع 26: 20) التي يحملها المسيحي الخاطئ الذي يعود الى الرب تائباً. ويفكّر أيضاً بكل الثمار الروحية التي تتبع عادة المسيرة الأولانية، مسيرة الإرتداد. نتوسّع فقط في ما يحويه النصّ حين نقرأه على ضوء موضوع حمل الثمار كما نجده عند بولس ويوحنا. إذن، نفهم أنه يجب أن نعجل في أن نحمل على المسيح- الكرمة ثمر القداسة ولا سيما الحب الأخوي الذي ينتظره الله منا (يو 15: 1- 17؛ رج 13: 33- 35)، "ثمر الروح الذي هو غنى المحبة المتعدّد الأشكال" (غل 5: 22- 23)، نعجّل بانتظار عودة الرب.
ويطبّق لوقا نفسه موضوع حمل الثمار بطريقة مبتكرة على الحياة المسيحية. فهو لم يقرأ في مثل الشجرة التي تعرفها من ثمرها (6: 43- 44) تنبيهاً ضدّ الأنبياء الكذبة كما فعل مت 7: 15، بل وجّه فيه إلى التلاميذ نصيحة عامة بأنّ عليهم أن يثمروا: إن خصبهم هو العلامة التي تدلّ عليهم. وفي مثل الزارع، لا تمثل الأرض الطيّبة الناس الذين يتقبّلون الكلمة ويثمرون مئة تجاه واحدة، رغم ضيق الأزمنة الأخيرة والاضطهاد الذي يحلّ بالكنيسة الأولى، كما يقول متّى ومرقس. بل هو يهتمّ بالأحرى بالذين يبقون أمناء كل يوم (9: 23) وسط المحن والتجارب المتنوّعة. يهتمّ بالذين سمعوا كلمة الله بقلب طيّب ومطيع، فحفظوها وأثمروا بثباتهم (8: 15). أثمروا في وجودهم اليومي، في حياة يعيشونها خاضعين للشريعة الرومانية في أيام القديس بولس. أن يكون المسيحي مضطهداً أم لا، أن تبدو الدينونة قريبة أو بعيدة، فهو يعرف أنه تلميذ معلّم مات لكي يحمل ثماراً (يو 12: 23- 26): "إن ماتت حبّة الحنطة أخرجت حبّاً كثيراً".
4- التعليم حول طول بال الله
هل المهلة الأخيرة المعطاة للتينة قد تخيّلها يسوع ليشدّد على أنّ التوبة لا تنتظر وأن الدينونة قريبة؟ أم يجب أن نزيد على هذا الدرس درساً آخر عن رحمة الله التي تنتظر؟ وبعبارة أخرى، هل نشدّد فقط على أنّ المهلة المعطاة هي المهلة الأخيرة، أم نشدّد أيضاً على أنّ هناك مهلة مع أنه لا يمكن أن يكون؟ هل نقول مع مانسون: معنى المثل هو أن نقوله أنّ لصبر الله حدوداً في تعامله مع البشر؟ أم نفكّر مع شميد فنقول: إن فكرة مهلة للنعمة هي السمة التي بها يتعدّى هذا المثل أقوال يسوع السابقة عن البرّ والتوبة؟
ان حركة الخبر وما نجد فيه من أمور غير معقولة تفرضان علينا الحلّ الثاني: كل شيء يوجّهنا نحو نجاح المزارع الذي يتحدّى المنطق بعض الشيء. لو قطع هذه الشجرة التي تعطّل الأرض قبل ثلاث سنوات من الخبرة لكان حكيماً: وكان من الأفضل أن يزرع نبتة جديدة ولا يحاول تطعيماً آخرته الفشل مع خسارة في المال والوقت. من جهة ثانية، هل سينفع السماد الذي يجعله الكرام على هذه الشجرة البرية؟
ولكن السلوك الذي يستعدّ له هذا المزارع الذي يحاول المستحيل، لا يبدو "طبيعياً". فالمثل يفرض علينا أن نطبّق تفاصيله ولا نكتفي بالفكرة العامة: إن يسوع يدلّنا على سلوك يتجاوز عالم البشر ليصل بنا إلى عالم الله الذي لا يستحيل عليه شيء (18: 27). أليس هو الكرام الذي يخفّف من قساوة صاحب الكرم؟ لن يفهم تلاميذه إلا فيما بعد في أي شكل عجيب يسوع هو وسيطنا والمتشفّع بنا (روم 8: 34؛ 1 تم 2: 5؛ عب 7: 25؛ 8: 6؛ 9: 15؛ 12: 24؛ 1 يو 2: 1). ولكن سامعيه يستطيعون أن يدركوا منذ الآن أن رسالته تشكّل علامة فاعلة عن عنايته التي لا تتعب وعن طول بال الآب وصبره. وعظ يوحنا المعمدان بإله وضع الفأس على أصل الشجرة (لو 3: 9 وز). وهدّد يسوع أيضاً ولكنه بيّن أن الله لا يرضى أن يُعاقب قبل أن يحاول كل شيء ليجعل رحمته تمسّ قلب شعبه. ان شعاع الرحمة الذي نراه في هذا المثل يتناسق مع أعمال يسوع وأقواله المسيحانية التي حيرت السابق (7: 23؛ مت 11: 6) وجعلته قريباً من الشكّ والإرتياب وفقدان الإيمان.
نشير هنا إلى ما نقرأ في المخطوط البازي (النصّ الغربي). فقبل الأمر "اقطعها" يقال لصاحب الكرم: "احمل الفأس". نجد هنا تلميحاً إلى 3: 19 وز. وهكذا يتضح التعارض بين كرازة يوحنا وما فيها من عنف ولطف يسوع وحنانه. قد لا تكون هذه الزيادة صحيحة، ولكنها تعبّر عَن فكر الراوي تعبيراً أميناً.
ثانياً: وجهة لوقا
ان إبراز المهمة من أجل النعمة الموافق لأسلوب يسوع بدا قريباً كل القرب من القديس لوقا. وهذا ما نفهمه حين نعلم أنه أحلَّ خبر التينة العقيمة محلّ حدث التينة اليابسة (مت 21: 18- 22؛ مر 11: 12- 14) ليخفّف من قساوة الحدث بشعاع أمل يطلّ من الخبر. يرى بعض الشرّاح أنّ لوقا يشير إلى اليهود الذين احتفظوا لبعض الوقت بمناسبة التوبة بفضل الكرازة الرسولية. ثم انه لا شك بأن لوقا عرف حدث التينة اليابسة وأغفله عمداً. فهو الذي اعتاد أن يخفّف المشاهد العنيفة أو يهملها. وأخيراً إن رحمة الله والمسيح تشكل أحد المواضيع العزيزة على قلبه. كل هذا يثبت أنه أراد أن يقدّم لنا تعليماً عن طول بال الله "البطيء عن الغضب والكثير الرحمة" (خر 34: 6؛ مز 86: 15؛ 103: 8؛ 145: 8). إنه يتأخر إلى آخر حدود الممكن، وينتظر توبة الخاطئ (15: 20) ويعمل للحصول عليها (25: 4، 8؛ 19: 5).
والاهتمام الذي به دلّ لوقا على أنّ الله يمنح في حنانه مهلة للخطأة مع الإلحاح عليها بالتوبة، يلتقي ورجاء الكنيسة كلها في عصره. لقد اقتنعت الكنيسة الأولى بطول بال الله تجاه الخطأة وهو الذي أحبّهم حتى أسلم ابنه إلى الموت عنهم (روم 5: 8)، فانتظرت بهدوء رجوع الرب يسوع: "فإن تأخرت عودته ليدين العالم، فلأنه يصبر علينا ولا يريد أن يهلك أحد، بل أن يصل الجميع إلى التوبة" (2 بط 3: 9؛ رج روم 2: 4).

خاتمة
يحسّ المسيحي في كل وقت ولا سيّما في وقت الصوم بنداء الله إلى توبة متجدّدة، شأنه شأن آبائه في الإيمان. إنه نداء جدّي ورهيب: "فالله لا يهزأ منه" (غل 6: 7)، وسيأتي يوم تُقطع فيه الأشجار العقيمة. ولكن الله كشف عن نفسه في ابنه على انه أب يأخذ وقته ولا يعجّل، ينسى الذنوب (15: 30) ولا يني ينتظرنا بصبر لا حدود له.
وقد أعطيت لنا هذه المهلة لنقتدي به في رحمته (6: 36) لكي نحبّ ونغفر كما أحبّ هو وغفر (مت 5: 44- 45؛ لو 6: 35؛ كو 3: 13؛ أف 5: 1): هذا هو الشرط لكي ننعم نحن الفقراء المديونين الذين لا يستطيعون أن يدفعوا دينهم، هذا هو الشرط لكي ننعم بعفو كامل في يوم الحساب. وفي هذا الوقت، وقت التوبة، نردّد صلاة المزارع المتواضعة: إرحمنا يا رب أيضاً هذه السنة، فقد نحمل ثمراً. أو صلاة العبد المديون: "أمهلنى" أو "أعطني مهلة" (مت 18: 26). ولكن كيف ننسى أنّ هذا العبد "سلّم إلى الجلاّدين" لأنه لم يلغ لقريبه ديناً طفيفاً.
المحبة تصبر وترفق (1 كور 13: 4). هي تتحمّل وتغفر وتضع رجاءها في القريب وتعمل على إخراجه من الشر. مثل هذا السلوك ليس تلقائياً في الإنسان. إنه يتطلّب قوّة الروح. نحن هنا أمام أخلاق الله، لا أخلاق البشر. هذا ما يذكّرنا به مثل التينة العقيمة

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM