الفصل الثالث والعشرون: صالح خصمك

الفصل الثالث والعشرون
صالح خصمك
12: 57- 59

وتوجّه يسوع إلى الجموع الحاضرة هنا منذ 12: 1. إذا وضعنا جانباً التحذير من الطمع كما يصوّره المثل (12: 13- 21)، فهو لم يوجّه إليها كلامه. وها هو يفعل في 12: 53 ي بلهجة قاسية. إختلف الجمع عن التلاميذ، فلم يدرك بعد أن الزمان تبدّل تبدّلاً جذرياً بمجيء يسوع، أننا قد دخلنا في زمن النهاية.
فعلى كل واحد أن يكون جديراً بأن يحكم بنفسه، بأن يقرّر، بأن يجيب الجواب الصحيح على التحدّي الحاضر، على خطورة الساعة. هو لا يحتاج إلى مثل من يسوع يبيّن له ما يجب أن يفعل. إنه سيقف أمام العدالة. وهو يعرف النتائج بعد حكم سوف ينفّذ. فمن الأفضل له أن يرتّب الأمور مع خصمه قبل ذلك، أن يصالح خصمه بأقرب وقت. والمهلة التي بقيت له لكي ينجو من آلية المحكمة هي قصيرة، فلا تتعدّى الوقت الذي يقوده إلى "قصر العدل". إذن، التوبة أمر ملحّ.
وهناك تعليم ثانٍ في هذا المثل: إن التبدّل الجذري في الحياة الذي تفرضه عليّ الساعة الحاضرة، يتخذ شكلاً ملموساً ويومياً: حين أتصالح مع من ظننته خصمي، أدلّ على أنني وعيت معنى الزمن الذي دشّنه يسوع. إنه زمن كله جديد وهو ينتظر مني موقفاً جديداً لا يعود إلى القديم ولا يستوحي سلوكه من سلوك الآخرين ولا من مناخ العالم الذي يحيط به.
أ- احكموا بالصواب (آ 57)
إن المثل الذي يختتم هذا الفصل له مقدّمة سقطت من نصّ مت 5: 25- 26 الموازي (بادر إلى الإتفاق وخصمك ما دمت معه في الطريق). قد يكون متى أغفل المقدّمة لكي يكيّف المثل مع السياق الجديد. ولكن يبدو أننا أمام إنتقالة جعلها لوقا هنا ليربط بين آ 53 -56 وآ 57- 59. أحكموا بالعدل، كونوا عادلين في حكمكم. أحكموا بالحق (أع 4: 19. هذا ما قاله الرسل للمجلس) فتصلوا إلى الصواب (2 بط 1: 13: أرى من الصواب). يجب أن نميّز ما يجب أن نعمل في بعض الظروف التي تحصل لنا. نحن لا نحتاج إلى مساعدة أحد (21: 30: تعلمون من ذواتكم). بل لا نستطيع في وقت الدينونة أن نستند إلى إحد. إذن، لنرجع إلى ذواتنا منذ الآن وننظر إلى الأمور بدون تكاذب على نفوسنا.
ب- إذا ذهبت مع خصمك (آ 58)
هناك عمل مؤاتٍ يجب أن نقوم به. هذا ما يصوّره يسوع في مثل يجعل السامع في وضع شخص يذهب (وهو يسير الآن ولم يصل بعد. ما زال في الطريق. ما زال له بعض الوقت) مع خصم شرعي (له حقوق عليه، 18: 3: مثل الأرملة؛ مت 5: 25) ليمثل أمام القاضي. الوضع المفترض هنا هو وضع مدين يُساق أمام المحكمة. نحن هنا في جوّ العالم الهلنستي. فالخلاف بين اليهود يحكم فيه أحد الكتبة (12: 13 ي: قُلْ لأخي يقاسمني. إعتُبر يسوع ككاتب فطُلب منه أن يقضي بين الأخ وأخيه) فيعمل عمل القاضي. وقد يكون بولس استلهم هذه الطريقة لكي يمنع المؤمنين من الذهاب إلى المحاكم "الوثنية" (اليونانية). "أفليس فيكم حكيم يستطيع أن يكون حكماً بين إخوته" (1 كور 6: 5).
المهمّ هو أن نصل إلى اتفاق قبل أن نصل إلى المحكمة. ونحن بعد في الطريق، هناك يجب أن نقوم بكل مجهود. نقوم بنشاط ولو كان فيه بعض التعب والألم (أرغاسيا، خاص بلوقا ما عدا أف 4: 19؛ أع 16: 19؛ 19: 24- 25). المهتم أن نتخلّص من هذا الخصم. فالفعل (أبالاسو) يعني في صيغة المعلوم: أفلت، تخلّص (عب 2: 15، يحرّر الخاضعين للعبودية)، وفي الوسيط: فارق (أع 19: 12: تفارقهم الأمراض). وفي صيغة المجهول: تصالح. هذا هو المعنى الذي أخذ به متّى في النصّ الموازي (5: 25: صالح خصمك ما دمت معه في الطريق). هذا يعني: إستفد من كل مناسبة، لا تترك فرصة.
قال بعض الشرّاح إن صيغة الوسيط هي الأصحّ: لسنا أمام مصالحة بين خصمين، بل يفارق الواحد الأخر من أجل خير الإثنين. إن المثل ينصح الإنسان بأن يترك أموره بيد الكنيسة ويتوقّف عن مخاصمة الآخرين. وقال آخرون: الخصم هو الشيطان، فتخلّص منه. لا نستطيع أن نكتفي بهذه التفاسير لأن هدف المثل يقوم في خطر الوقوع في يد القضاء، لا في التخلّص من الخصم.
الخطر الذي يواجه الإنسان، هو أن خصمه سيسوقه بالقوة إلى القاضي، والقاضي سيدفعه إلى الشرطي، والشرطي يرميه في السجن حتى يفي دينه. الشرطي (براكتور) هو كالحاجب في المحاكم الرومانية ومنفّذ الحكم. يقابله في المجمع اليهودي "هوبيراتيس". وهكذا نكون في جوّ يهودي مع متّى، وجوّ روماني مع لوقا. ولكن جاء من قال إن "هوبيراتيس" إستعمل في العالم اليهودي كما في العالم الهليني ودلّ على منفّذ الحكم في المحكمة. أما "براكتور" فهو الذي يهتمّ بالديون وبسجن المديونين. إذا أخذنا بهذا الموقف، لا نستطيع القول إن لوقا "هلين" المثل الذي أخذه من العالم اليهودي.
ج- أقول لك (آ 59)
هكذا بدأ لوقا الإعلان الأخير، فاختلف عن متّى الذي بدأ: الحق (أمين) أقول لك. وشدّد على كلامه بواسطة النفي (لن) وصيغة المضارع: لا خروج لك من السجن حتى تدفع آخر جزء من الدين.. حتى آخر فلس، آخر نحاسة، آخر غرش. فاللفظة "لبتون" (21: 2؛ مر 12: 42) هي قطعة نحاس صغيرة تساوي "لا شيء". وهكذا، "ضخّم" لوقا مدى العقاب الذي يفرضه القاضي، فأبان أن لا مساومة ولا تساهل بعد إعلان الحكم.
ما هو معنى المثل؟ إتفق مع خصمك قبل أن يرسلك القاضي إلى السجن. لا تتأخر، لأنّ الموت لا يمهلك. لا تتأخّر فدينونة الله تكون نهائية. من الخطأ أن نتوقّف كثيراً عند تفاصيل المثل لكي نستخلص معنى كل تفصيل. في متّى، طبّق المثل على إمكانية تعطى لشخص أخطأ أن يقف أمام خصمه في الدينونة الأخيرة. قد يكون هذا هو المعنى الأصلي، فعمّمه لوقا وطبّقه على الإستعداد للدينونة الأخيرة. قالت بعضهم إن متّى جعل من المثل قولاً في الفطنة والحياة الخلقية. وطبّق آخرون هذا المثل اللوقاوي على وضع من الإنقسام في الجماعة.
خاتمة
هذا المقطع القصير ينهي بشكل قاسٍ هذا الفصل فيذكّرنا بـ "حكم فاسد" يجب أن نحترز منه (آ 1) ومن حكم على الآخرين نبدأ به منذ الآن (آ 4- 22). ونقرأ في آ 54- 57 توبيخاً يرسله يسوع حول قراءة علامات الأزمنة. أما آ 58- 59 فهما تنبيه إلى الإتفاق، إلى المصالحة مع الاخوة قبل أن يفوت الأوان. شدّد مت 5: 25- 26 (القسم الأول من خطبة الجبل) على التصرّف بين الإخوة إذا أرادوا أن يعيشوا "بر" الملكوت. وشدّد لوقا على خطر المراءاة، على خطر به نضلّ نفسنا بنفسنا، وهذا ما يؤثّر على حياة كل واحد منّا.
وهكذا نجد في هذه الآيات الأخيرة من ف 12 تنبيهاً إلى الجمع. كيف يجب أن يتصرّف كل إنسان؟ خلاصك يرتبط بموقفك تجاه أخيك. وهكذا نستعدّ لنص ف 16 مع الحديث عن ديون نتركها. هناك يقال لنا كيف نستطيع أن نحوّل مال الظلم فنصنع به أصدقاء يستقبلوننا في المظال الأبدية ساعة لا يعود المال ينفع في شيء

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM