الفصل الثامن عشر: الغني الجاهل

الفصل الثامن عشر
الغني الجاهل
12: 13- 21

يتضمّن هذا المقطع الإنجيلي قسمين. الأول: خلاف حول ميراث (آ 13- 15). الثاني: مثل الغني الجاهل أو الغبي (آ 16- 21).
إنّ جواب يسوع إلى الوارث الذي حُرم من ميراثه يطرح سؤالاً محرجاً. ويبدو صعباً لأننا لا نقدر أن نلجأ إلى المقارنة مع النصوص الإزائية. فهذه المقطوعة خاصة بلوقا.
نشير هنا إلى أننا نجد التوازي التالي مع إنجيل توما المنحول: سأله رجل: "قل لإخوتي أن يقاسموني أموال أبي". أجابه: "يا رجل، من جعلني لك مقسماً"؟ والتفت إلى تلاميذه وقال لهم: "هل أنا مقسّم ميراث"؟ وقال يسوع: "كان رجل غني يملك أموالا كثيرة. فقال في نفسه: سأستعمل كل أموالي حتى أبذر وأحصد وأزرع وأملأ "أهرائي" من الثمار بحيث لا ينقصني شيء. تلك كانت أفكاره في قلبه. وفي تلك الليلة مات. فمن له أذنان فليسمع"!
نحن هنا أمام مسألة حرجة تتحدّث عن هذا المشتكي من أخيه: لقد رفض يسوع طلبه، فبدا رفضه وكأنه يعارض اتجاهات الكنيسة الحالية. أين هي العدالة؟ أما يجب على المسيحي أن يعمل بكل قواه ليزول الظلم من العالم؟ غير أن يسوع رفض أن يهتمّ بقضية فيها ظلم عُرضت عليه. انه يبدو غير مبال بما يحدث على الأرض، فبدا وكأنه لا يحسب حساباً لحاجات الإنسان الزمنية. ما يهمّه هو السعادة في الآخرة. وتُطرح المسألة عينها بالنسبة إلى التطويبات في إنجيل لوقا: "هنيئاً لكم إذا أبغضكم الناس... إفرحوا وابتهجوا لأن اجركم عظيم في السماء" (6: 22- 23).
ما كنا لنجد حلاً لهذه الصعوبة لو لم يتبع جواب يسوع المتهرّب للوارث مثل الغني الجاهل. إعتبر بعض الشرّاح أن ارتباط الجدال بالمثل يُنسب إلى الأنجيلي لوقا. قد يكون هذا الأمر صحيحاً وقد تكون المقطوعتان وُجدتا كل واحدة بمفردها. تقاربتا فكان لنا هذا الإستنتاج بالنسبة إلى لوقا.
في هذا المعنى أبرز الشرّاح أيضاً واقعاً وجدوه في إنجيل توما وهو أنّ القطعتين لا تتتابعان بل يرد المثل أولاً ثم الجدال بعد صفحات عديدة. ولكن من السهل أن نشرح الدافع الذي جعل الكاتب يفصلهما عن بعضهما: أراد أن يحمّل كل قطعة تعليماً غنّوصياً خاصاً. فصار الحوار في قلمه شجباً لكل فكرة مقاسمة، والمثل تحذيراً من خسارة الغنى الحقيقي الوحيد الذي هو المعرفة (غنوسيس).
في الواقع نحن أمام متتالية تترابط فيها الأمور ترابطاً تاماً: ان جواب يسوع إلى السائل تكمّله كلمة وُجهت إلى الجمع (آ 15) ثم شُرحت في المثل. ودراسة آ 15 أ من حيث اللغة تدل على انها من تأليف لوقا. ولكن ليس الأمر هكذا بالنسبة إلى آ 15 ب لأن آ 22- 23 تشكّلان لها صدى وجواباً. إذن، نقول إن السؤال حول مقاسمة الميراث يقدّم السياق الحقيقي للمثل. أراد يسوع أن يرد على الوارث المحروم من الميراث، فأخبر مثل الغني الجاهل. أما القول الذي يعيننا على استخراج الدرس من المثل (آ 21) فهو شرح دوّنه لوقا كما دوّن آ 15 أ.
والخطبة الصغيرة التي تتبع المثل (آ 22- 34) هي بدورها تفسير للقطعة كلها (آ 13-21).
هذا ما تدلّ عليه المقدّمة: "لهذا أقول لكم" (آ 22). هذه المقدّمة تعود إلى تقليد سابق للوقا، لأنها حُفظت عند متى رغم تبدّل القرائن (مت 6: 25: لا تهتمّوا). وقد يقول قائل: لم يسبق خطبةَ مت 6: 25- 34 الموازية لنصّ لو 12: 22- 32 طلبُ الوارث المستاء من تصرّف أخيه ولا مثل الغني الغبي. ولكن هذا لا يدهشنا. فالخطبة وحدها استطاعت ان تدخل بسهولة في إطار عظة الجبل: لو وضع الحوار هنا لكان قطع أقسام التوسّع. أما المثل، فما كان بالإمكان أن يكون في محلّه. نحن نعلم أن متّى لم يرد أن يورد مثلاً بكل معنى الكلمة قبل خطبة الأمثال (ف 13). ولهذا السبب أغفل مثل الصديق المزعج (لو 11: 5- 8) كما أغفل مثلَي الرجل الذي يبني برجاً والملك الذاهب إلى الحرب (لو 14: 28- 33) دون أن يتخلّى عن التعاليم التي ارتبطت بهذه الأمثال (رج مت 7: 7- 11؛ 10: 37- 39). لم يورد متّى قبل ف 13 إلاّ مقابلات توسّع فيها بعض الشيء، بين طير السماء الذي لا يهتمّ والإنسان الذي يهتمّ (مت 6: 26- 30)، بين الإنسان والشجرة اللذين يُعرفان من ثمارهما (7: 16- 20). وإن هو أورد مثلاً، حاول أن يخفي طابعه الأولاني بحيث يجب أن نلجأ إلى ما يوازيه عند لوقا أو مرقس لنكتشف المثل. ق مثلاً مت 5: 25- 26 ولو 12: 58- 59.
يُعطى التنبيه أولاً في صيغة سلبية (لا يهمكم لحياتكم، آ 22)، ثم يُستعاد في نظرة أكثر إيجابية: "تأمّلوا الغربان..." (آ 24). فوجود كلمة "مستودع" (أو مخزن، أو أهراء) في آ 24 يفهم كصدى لما في آ 18. قال الغني: "أهدم مخازني وأبني غيرها". ولكن الغربان "لا مخزن لها ولا مستودع". ومجمل الكلام، يعبّر النص عن الفكرة الواحدة في ثلاثة أشكال مختلفة: حوار، مثل، خطبة. ورغم غياب نصوص متوازية، فنحن نملك بعض الأمور التي تساعدنا على إلقاء الضوء على المقطوعة التي ندرس.

أ- خلاف بشأن الميراث (آ 13- 15)
1- الطلب
"يا معلّم، قُلْ لأخي أن يقاسمني الميراث" (آ 13). إذا رجعنا إلى التشريع الإسرائيلي كما إلى القوانين الأشورية، نعرف أن الصبي وحده يحق له بالميراث. وبين الصبيان، كان للبكر حصة الأسد. لا يحقّ له فقط الثلثان من الأموال المنقولة، بل إن الأموال غير المنقولة من بيت وأراضٍ كانت تعود إليه كلها ولا تقسم. لقد صار رئيس العائلة فأعطي له كل شيء تقريباً.
والوضع الذي يفترضه الطلب الموجّه إلى يسوع هو واضح: الطالب هو الثاني في البيت. لقد وضعَ البكر يده على الميراث كله ورفض أن يعطي أخاه الحصة التي تعود له (رج 15: 12، 31). وبدل أن يلجأ إلى المحكمة، جاء إلى يسوع بعد أن رأى فيه رابي ومعلّم ناموس، بعد أن أخذ بعظمته. لقد درجت العادة في العالم اليهودي أن يلجأ شخصان إلى معلّم ناموس ليحكم في قضية اختلفا عليها.

2- رفض يسوع الطلب
أولاً: يسوع ورسالته
لا يقدّم يسوع رفضاً لطلب دون أن يعطي سبباً لرفضه. هذا ما اعتاد أن يفعل. أمّا الاسباب التي يعطيها في مختلف الظروف فهي ترتبط بالرسالة التي أوكله الاب بها.
طلبت منه مريم أن يساعد اناساً نقصتهم الخمرة في قانا (يو 2: 3- 4). دعاه "إخوته" إلى أن يدخل أورشليم دخولاً إحتفالياً (يو 7: 3- 6). عاد إلى ساعته، أي إلى الساعة التي اختارها له الاب من أجل إتمام عمله الرئيسي. وحين طلب إبنا زبدى المكانين الأولين في الملكوت، أجابهما أنه لا يحق له أن يعطيهما لمن يشاء: هذا أمر محفوظ للآب (مت 20: 23). وحين سأله التلاميذ أن يكشف لهم عن يوم مجيئه الثاني، أجاب أن رسالته لا تتضمن كشفاً لهذا السرّ: لقد احتفظ الاب بهذا السرّ (مت 24: 36). وحين سأله اليهود آية، رفض أن يعطيهم آية إلأ آية قيامته التي ترمز اليها مغامرة يونان، وأفهمهم أن هذه الآية ستأتي في وقتها (مت 16: 1- 4؛ 12: 38- 40 وز).
والسبب الذي يقدّمه يسوع هنا يرتبط برسالته. فهذا واضح: إنه لم يُرسل ليفضّ الخلافات المتعلقة بالميراث (رج خر 2: 14 وما حدث لموسى حين أراد أن يصالح عبرانيين يتقاتلان: "من جعلك رئيساً علينا وقاضياً"؟) غير أنّ يسوع أكّد أنه أعطي كل سلطان في السماء وعلى الأرض (كما 28: 18). وقال في يو 5: 22: "الاب جعل الدينونة كلها للإبن". انه ملك، ولكن مملكته ليست من هذا العالم. انه قاضٍ وديّان، ولكنه لم يُرسل ليقضي في أمور الميراث.

ثانياً: يسوع يعلّم
يجب أن لا نشدّد كثيراً علي التعبير الجاف الذي ورد فيه جواب يسوع. فالحالات عديدة التي فيها يتكلم يسوع ويعلّم كالسيد والمعلّم. فالوارث المحروم قد وجّه اليه كلامه وحيّاه بلقب: يا معلّم. وجواب يسوع هو مثل، هو لغز، يدفع السامع الى التفكير. فلا نستنتج سريعاً أن يسوع لا يهتمّ بالعدالة وأنه يشجب الأمور المتعلّقة بالميراث. وهو نفسه سيحدّد فكرته بواسطة مثل آخر هو مثل الغني الغبي. ورأى لوقا بدوره أن من الضروري إبعاد تفسير تنقصه التفاصيل الدقيقة فيجعل فكر الرب خاطئاً (آ 21).
كم من الحالات المشابهة التي يعطي فيها يسوع لكلماته شكل المفارقة والتطرّف! فيجب أن لا نحملها مدلولاً لا تحمله. والمثل اللافت للنظر نقرأه في لوقا: "من يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمه... لا يقدر أن يكون لي تلميذاً" (مت 14: 26). أما متى فرأى أن يوضح كلام يسوع فقال: "من أحبّ أباً أو أمّاً كثر مني" (مت 10: 37).
وفي مناسبة أخرى، لا تعكس أقوال يسوع الإحتقار ولا اللامبالاة تجاه أمه. قالت له إمرأة: "هنيئاً للبطن الذي حملك" (11: 27- 28). فبدا وكأنه لا يهتم لهذا المديح الذي يوجّه إليه، ومن خلاله إلى أمّه. فأجاب: "بل هنيئاً للذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها (يعملون بها)". في الواقع، إن يسوع مهتمّ بالذين يحيطون به، وهو يستفيد من هذه الكلمة التي تلفّظت بها هذه المرأة ليقدّم تعليماً يمسّ قلوب السامعين بصورة مباشرة. فالجواب لا يمنع من أن نفكر أن مريم تستحق التهنئة بسبب أمومتها، وبسبب إيمانها أيضاً. فمن تقبّل كلمة الله أفضل منها؟ وهذا ما يعرفه لوقا حقّ المعرفة (1: 38- 45). وفي مناسبة أخرى، ستكون ليسوع ردّة فعل مشابهة: "أمّي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها" (8: 21).
ونستطيع أن نتذكّر جواب يسوع إلى "إخوته" الذين يدعونه ليدخل إلى أورشليم دخولاً مسيحانياً. كان جوابه سلبياً، ولكنه كان جواباً ملغزاً، بحيث إنه في النهاية صعد إلى أورشليم (يو 7: 3- 10).
وإذا أردنا أن نتفهّم البعد الحقيقي لكل هذه الأقوال، لا بدّ من أن نأخذ بعين الإعتبار نيّة يسوع، ونيّة الإنجيلي الذي انطلق من ظرف معيّن ليقدّم تعليماً يتجاوزه. فقد كان يسوع يستفيد من طلب أو واقع خاص ليقدّم تعليماً عاماً للناس الذين يحيطون به. هذا ما فعل حين جاء إليه أمّه وإخوته (8: 19- 21)، وحين امتدحته المرأة (11: 27- 28). وسينطلق من حدثين خاصين وقعا في أيامه ليقدّم تعليماً عاماً حول وجوب التوبة: "أقول لكم: إن كنتم لا تتوبون، فستهلكون كلّكم مثلهم" (13: 1- 5).

ثالثاً: وضع محدَّد
ولا بدّ من الأخذ بعين الإعتبار الإشارات التي تعطيها قرائن النص. نفهم هنا أنّ الطالب ليس فقيراً. إذا كان يطالب بالميراث، فليس لأنه يحتاج إلى مال يعيش منه. يبدو أنه جشع، طمّاع (آ 15) ويريد أن يكدّس الأموال. لا يطرح الإنجيل حقّ الميراث على بساط البحث، بل يرفض أن يقف عند هذا المستوى.
الفعل اليوناني (باريسو) (آ 15) يدلّ على الزيادة والوفرة، بل على فيض الخيرات (9: 17؛ 21: 4؛ مت 15: 37؛ 25: 29). واللفظة "بليوناكسيا" تدلّ على من يملك أكثر من الآخرين، من يملك أكثر من الضروري، من يملك ما يفيض عنه. من هنا الطمع والجشع. وهكذا يبرز المثل أن الوارث غير راضٍ بما يملك من مال وفير. يطلب أيضاً مزيداً من المال، لا بعض الضروري ليؤمّن حياته. من هذا القبيل يشبه هذا الطالبُ الغنيَّ الغبي في البحث عن تكديس الأموال، وقد يتوجّه إليه مثل الغني الجاهل قبل سواه.
حين يُطرح على يسوع سؤال لا نفع من الإجابة عليه، أو تحمل الإجابة عليه خطراً، فهو يستبعده ويستفيد من الظرف ليقدم تعليماً مفيداً. سأل رجل مرّة عن عدد المختارين، عدد الذين يخلصون (13: 23). لم يكشف له يسوع العدد، بل نصحه بأن يعمل المستحيل ليكون من هؤلاء المختارين. ومرّة ثانية سأله التلاميذ متى تكون الأحداث الإسكاتولوجية التي أعلن عنها. أجاب: "إسهروا وصلّوا، لأنكم لا تعرفون اليوم ولا الساعة" (مت 25: 13؛ رج 24: 42، 44). فما ينفع الإنسان ليس معرفة عدد المختارين أو متى سيعود المسيح، بل أن يكون مستعدّاً فيحيا حياة المحبّة ليكون من عداد المختارين حين يأتي الزمن المحدّد.
انه وإن لم يكن الغنى شرّاً في حدّ ذاته، فالوفرة قد لا تكون خيراً، بل تشكّل خطراً. فيسوع قال: "الويل لكم أيها الأغنياء" (6: 24). وقال: "أسهل على الجمل أن يدخل في ثقب الإبرة من يدخل غني في ملكوت الله" (18: 25). فهذا الذي قال هذا الكلام، هل يستطيع أن يضع سلطته في خدمة اثراء إنسان، ولو كان محقاً في طلبه؟
ويخبرنا لوقا. بعد أن قدّم يسوع جوابه إلى الإنسان المستاء من وضعه، توجّه إلى الجمع ليستخلص نتيجة ما حدث (رج 8: 21 وز؛ 9: 41 وز؛ 18: 24- 27 وز): "إنتهبوا وتحفّظوا من الطمع، ففي قلب الوفرة لا تكفل الخيرات حياة الإنسان". أو: إن كان أحد في وفرة، فحياته لا تقوم على ما يملك. أو: إن كان إنسان غنياً فخيراته لا تؤمن له حياته (آ 15). يشدّد النص على فكرة الطمأنينة والتأمين على النفس، أكثر منه على التنعّم بالخيرات. ينبّه يسوع الناس إلى أن وفرة الخيرات المادية لا تكفي لتؤمّن طمأنينة حقيقية. فسلام الإنسان الحقيقي لا يستند إلى الغنى. فحياته لا ترتبط فقط بخيرات الأرض. إنه تعليم سلبي. ونحن ننتظر شيئاً إيجابياً. فالدرفة الثانية ستنفتح في آ 22: "لا يهمّكم لحياتكم ما تأكلون". ولكن قبل الوصول إلى الدرفة الثانية، يتوسّع يسوع في فكرته عبر مثل الغني الغبي: "كان رجل غني أعطت أرضه غلة عظيمة".

ب- المثل (آ 16- 21)
حين نقرأ مثل الرجل الغبي، لن نطلب في كل تفصيل مدلولاً أو رمزاً خاصاً. ما يتضمّن التعليمَ هو خبر صغير نأخذه كله، هو أزمة تتعقّد ثم تنحلّ، هو وضع يصوّر هنا. إذن يكفي أولاً أن نشير إلى بعض التفاصيل المتعلّقة بالترجمة.
ترد لفظة "نفس" مرتين (آ 19، 20) مع اختلاف في فروقات طفيفة. في الحالة الأولى، النفس هي الشخص، نفسي هي أنا (رج تك 12: 5: النفوس أي الأشخاص؛ خر 1: 5؛ 12: 4؛ لا 24: 18). في الحالة الثانية، النفس هي الحياة. فالذي تُطلب منه نفسه هو الذي يموت. وبسبب تكرار الكلمة الواحدة، نتأثّر بموت الغني المفاجئ. ويقوى تأثّرنا عملياً حين نعلم أنّ الموت سيفاجئه في هذه الليلة عينها (آ 20).
في آ 20 نترجم حرفياً: "يطلبون نفسك" أي حياتك. لن نتساءل من هم هؤلاء الذين يطلبون. هل هم الملائكة أم غيرهم؟ نحن هنا أمام شكل من أشكال المجهول: تُطلب، تستردّ نفسك. هكذا اعتاد العالم اليهودي أن يتحاشى ذكر اسم الله، والمعنى: الله سيستردّ نفس الغني. انه سيّد الحياة والموت (1 صم 2: 6).
جاهل (غبي) هو هذا الغني. شأنه شأن العذارى اللواتي طشن فلم يأخذن معهن زيتا (مت 25: 2). شأنه شأن الفريسيين الذين يحكمون على الأمور حسب الظاهر، شأنه شأن اليهود الذين لا يعرفون أن يميّزوا علامات هذا الزمان، لا يعرفون أنّ الوقت لا ينتظر (12: 54-56)، شأنه شأن الأعمى الذي يقود أعمى: كلاهما يقعان في حفرة (6: 30؛ مت 25: 14). كل هؤلاء نقصتهم الحكمة فلم يميّزوا الخيرات الحقيقية. وهذا هو أيضاً حال الرجل الذي يناقش في أمور الميراث.
ما يشير إليه المثل هو أنّ حسابات الغني كانت خاطئة كل الخطأ. ولهذا خابت آماله. ظنّ بعض الشرّاح أن العبارة "الذي أعددته لمن يكون" (آ 20)، تفترض ان الشخص لم يكتب وصيته. هذا الإفتراض يتعدّى نيّة صاحب المثل الذي يريد أن يعلّمنا فقط أن الغني لن يستطيع ان يتنعّم بخيراته كما خطّط. وقد يكون في السؤال (لمن يكون؟) تلميح إلى الخلاف حول الميراث الذي هو مناسبة المثل.
ظنّ الغني أن الغنى سيكون له ينبوع سعادة لا ظلّ فيها. ولكن هذه السعادة أفلتت منه فجأة. هكذا يكون حال من يضع آماله في الغنى، حتى وإن لم يمت فجأة مثل غني المثل. لا ننسى أننا أمام مثل، لا أمام خبر حقيقي يرويه يسوع. إن السعادة المؤسسة على خيرات الأرض لا تستحقّ أن يجعلها الإنسان هدف حياته ووجوده. لسنا بحاجة إلى فكرة الموت لنقول هذا القول، وإلاّ لما تعدّى تعليم المثل مز 49: 18 ("إذا مات إنسان لا يأخذ معه شيئاً ولا ينزل معه مجده إلى مثوى الأموات". ثم لا ننسى اننا أمام الموت الفردي، لا الموت الذي يكون في نهاية الأزمنة.
موت الغني الجاهل إشارة صغيرة في المثل، ومدلوله يتعدّى هذه الإشارة. فالخبر الصغير يساعدنا، عن طريق المقابلة، على إدراك حقيقة عميقة لا نبرهن عنها ولا نضع لها حدوداً: جاهل هو الإنسان الذي يتكل على غناه ليؤمن لنفسه سعادة متينة! انه يفكر ويتصرف كما يفعل الوثنيون (آ 30).
ولكن آ 15 التي تجد صداها في آ 22- 23، تشدّد بالحري على الحياة. إن حياة الإنسان غير مشروطة بما يملك (آ 15). انها أكثر من الطعام واللباس. كل خيرات الأرض هي في خدمة الحياة ولكن الحياة تتجاوزها: انها في علاقات الإبن مع أبيه، مع الله الذي يعرف ما نحتاج إليه (آ 30- 31).

خاتمة
هل يعني كل هذا أنّ علينا أن نعيش في عالم مثالي وغير واقعي، وننتظر كل شيء من تدخّل الله العجيب؟ كلا. فالمسيحي ليس من العالم. وهو لا يهتمّ بالغنى مثل الوثنيين. إلاّ انه يعيش في العالم (رج يو 17: 13- 16). ان لوقا لا يطرح المسألة كما نطرحها نحن. ولكنه لا يجهلها. وإن لجأ بعض المرات إلى المفارقة فهو يعرف أن يقدّم فكره. إنه يعلم أن الحياة المسيحية تتضمّن انشداداً بين نظرتين ملتبستين إلى العالم، لهذا زاد على المثل التوضيح التالي: "وكذلك الذي يكنز (يجمع) لنفسه ولا يغتني من أجل الله". أي: في نظر الله، أو قرب الله (هناك كنز في السماء. رج آ 16: كنز على الأرض) (آ 21).
ليس الغنى شرّاً في حدّ ذاته. وقد يساعدنا على اقتناء كنز في السماء إذا جعلناه في خدمة القريب بشكل صدقة أو مساعدة (آ 33- 34؛ رج 16: 19). ولكن الغنى خطر لأنه يعرّض الإنسان إلى التعلّق به وطلبه من أجل ذاته، أي من أجل تنعّم أرضي أناني مثل الفريسيين (16: 14) أو مثل الغني الجاهل، أو مثل الغني الذي رفض أن يقدّم العون إلى لعازر. سيأتي يوم تنقلب فيه الأوضاع فيتعزّى لعازر ويتعذّب الغني (16: 25).
ومهما يكن من أمر، يجب أن لا تأخذ الأموال المكان الأول في اهتمامات المسيحي. عليه ان يشتغل أولاً من أجل ملكوت الله، أي لمجد الله وخلاص البشر (آ 31: أطلبوا ملكوت الله). فإذا كان الله يعطي النبات الحيوان ما يحتاج إليه، أفلا يطعم الآب السماوي إبنه، أيعطيه حجراً بدل البيضة وحيّة بدل السمكة (11: 11- 13)؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM