الفصل الحادي والعشرون: حدث القيامة

 

الفصل الحادي والعشرون
حدث القيامة حسب إنجيل يوحنا
د. منى عبيد

1- القيامة في موت يسوع
كل الحياة المسيحية تبدأ من قيامة الرب يسوع المسيح. والجماعة المسيحية تبدأ بعد القيامة، وتنشر الايمان إنطلاقًا من القيامة. فالقيامة هي اللحظة الابدية التي تربط بين كل تاريخ البشرية مع الله منذ الخلق مع تاريخ البشرية الجديدة المنطلقة بعد قيامة الرب يسوع.
وتعيش الجماعة المسيحية بسبب القيامة، وسبب تبشيرها بيسوع هو القيامة، ودافعها إلى التبشير هو القيامة، حيث الروح القدس يعمل فيها مع الآب والإبن (رج يو 20: 22). وإذا انطلقت من القيامة كان ذلك لفهم أعمق لكل ما سبقها وهيّأ لها.
فيسوع الذي هو بكر القائمين (رج قول 1: 18+). هو رأس سلسلة القائمين بعده، أي المؤمنين، أي الكنيسة التي ولدت "لوقته" من موته (رج يو 19: 34). فلحظة موت يسوع، هي في الحقيقة، حسب الإنجيلي يوحنا، لحظة الحياة؛ لحظة "تسليم" روح الرب إلى شعبه المخلوق تحت الصليب (رج يو 19: 30)؛ وهي ذاتها لحظة القيامة وبدء الحياة الابدية (رج الخلق الاول، تك 7:2)..
يُفهمنا يوحنا أن لحظة موت يسوع هي لحظة انتقال روحه منه إلى الجماعة المؤمنة التي تحيا باستلام هذا الروح، فتكون لحظة موته ليس فقط لحظة الحياة والقيامة، بل أيضًا لحظة العنصرة.
وفي أول أيام الاسبوع "يوم الاحد" (يو 20: 1)، يوم القيامة، ملك الروح القدس على بشرية الرب يسوع حسب ما ورد في الكتب (رج 1 قور 3:15، 4)، وجعله "روحًا محييًا" (1 قور 15: 45). هكذا فان قيامة الرب يسوع هي عمل الآب والروح القدس والابن بذاته (رج يو 10: 17-18)، لهذا يعطى روح الآب والابن في لحظة القيامة مثل ما أعطى لحظة الموت (رج يو 19: 30- 34) ويفيضه بأكمله من خلال بشرية الرب القائم (رج أع 2: 32-33).
كنتيجة لهذا تبدأ رسالة التلاميذ في يوم القيامة عينه، "في مساء ذلك اليوم، يوم الأحد" (رج يو 20: 1 و19)، والذي هو ذاته يوم العنصرة (رج يو 20: 22-23) أي حلول الروح القدس عليهم والانطلاق في المناداة بالتوبة وغفران الخطايا، ثمرة الذبيحة الدموية على الصليب.
الرب القائم من الموت "ينفخ" فيهم، يخلقهم من جديد، مثل الخلق الأول وقبل الخطيئة (رج تك 2: 7)، يصبحون من جديد على صورته كمثاله (رج تك 1: 26-27). من حياته يأخذون الحياة على مثال الإنسان الأول، "نفخ في أنفه نسمة حياة، فصار الإنسان نفسًا حية" (تك 2: 7)، لكن هذه المرة حياة أبدية من نفخة القائم الحي أبدًا، الرب الإله.

2- القبر الفارغ
أ- أول أيام الأسبوع
في إنجيل القبر الفارغ، حسب يوحنا، نجد إشارة مميّزة وثمينة التعبير: "أول أيام الأسبوع"، والتي يكرّرها يوحنا ثلاث مرات (رج يو 10: 1 و19 و26 "اليوم الثامن" أي 1+7).
اليوم الأول هذا هو اليوم العظيم، يوم الخلق الجديد، يوم الرب القائم بقوة الروح القدس؛ هو يوم تجلي الحقيقة الإلهية بكمالها بفعل الصليب والقيامة؛ وهو يوم إلباس البشرية الروح الإلهية.
إنه اليوم الأول في الخلق الجديد، بدء عمل الله الجديد، على مثال الخلق الأول (رج تك 1: 5). اليوم الأول هذا يبدأ بالقيامة المجيدة ويكتمل بتحقيق هدفها أي حلول الروح القدس. إنه الزمن الجديد مع الله، زمن القيامة الدائمة.
هذا اليوم، "أول أيام الأسبوع"، يوم فريد، هو بداية سلسلة من أيام أول (آحاد)، من أجل احتفال مستمر بالقيامة من الموت إلى حين عودة الرب: إنه احتفال شامل، فرح، ينطلق من القبر ويشمل كل الكون إلى الأبد (رج 1 قور 26:11).
ب- يسوع هو الرب
الرسالة الثانية في إنجيل القبر الفارغ هي إعلان مريم المجدلية لبطرس وللتلميذ الحبيب: "أخذوا الرب" (يو 20: 1-2). إن يسوع غير الموجود في القبر هو الرب، أي السيد (kyrios)، بمعنى المسيح، رغم أن الرؤية لم تتضح بعد (رج يو 9:20-14، 16 و18).
ترى مريم المجدلية أن الحجر قد أزيح، وأن القبر فارغ (رج يو 20: 1-3). فيما بعد ترى الملاكين (رج يو 20: 12)، وفي لحظة لاحقة ترى يسوع واقفًا (رج يو 20: 14) إلى أن تكتمل رؤيتها تدريجيًا بالتعرّف على الرب: "رأيت الرب" (يو 20: 18).
هكذا يأتي الرب، ويظهر أنه يسوع: "فرأت يسوع واقفًا، ولم تعلم أنه يسوع" (يو 20: 14)، وما أن تتعرف عليه التلميذة حتى تصرخ معترفة: "ربوني"، "قد رأيت الرب" (يو 20: 16 و18). بنفس الطريقة كانت الظهورات للتلاميذ (رج يو 20: 19- 21 و26؛ ثم رج 20: 25 و28).
يُظهر يسوع تمام سيادته ومشيحانيته في القيامة.
ج- تجلي وجه الرب
ينفرد يوحنا في إنجيله حول القبر الفارغ بذكره كيف أن بطرس والتلميذ الآخر انطلقا إلى القبر، وأن التلميذ الآخر أبصر أولاً الاكفان ممدودة لكنه لم يدخل، ثم أن بطرس وصل بعده فدخل القبر وأبصر هو أيضًا الاكفان ممدودة والمنديل الذي لف به رأس يسوع مفصولاً عن الاكفان، مطويًا، وحده في موضع أخر (رج يو 20: 3-7).
هذا المنديل الذي كان يغطي "وجه الرب" (رج يو 20: 7) هو الآن منفصل عن الاكفان، مرتَّب بعناية، كعلامة مميزة. لقد أزيل المنديل عن "وجه الرب"، ويمكن التأمل في هذا "الوجه" الإلهي من خلال الوجه البشري "للقائم". كلام يتحقق ويُفهم في القيامة (رج يو 10: 30؛ 12: 45).
تجلي الرب الآن أوضح، فالقائم يكشف عن وجهه، أنه صورة الآب، "ايقونة الآب"، الذي يمكن عبادته لطالما أن القبر فارغ والمنديل قد أزيل، لأن العبادة للحي وليست للميت.
أما التلميذ الآخر، "التلميذ الحبيب" (رج يو 20: 2) فعندما دخل "رأى وآمن" (يو 20: 8). ماذا رأى يوحنا التلميذ؟ رأى فقط الاكفان والمنديل، رأى القبر الفارغ، فآمن أن الرب قام بعكس المجدلية التي اعتقدت أنهم أخذوه (رج يو 20: 2). كيف آمن ولم يره بعد؟ ولا فهم الكتاب بعد (رج يو 20: 9)؟
لقد آمن التلميذ الحبيب بعيني الحب للمعلم، وحده وقبل التلاميذ الآخرين. آمن قبل أن يراه، أو بالأحرى قبل أن يرى الجسد القائم وقبل أن يلمسه (رج يو 20: 19-29؛ 21: 1-23).
يعلّما يوحنا هنا بتعبيره "رأى وآمن" كيف أن عيون الحب، حسب الكتاب المقدس، هي عيون ترى أكثر من الحواجز وأبعد منها؟ عيون الحب ليست عيونًا عمياءً لا ترى (كما يفهم العالم)، بل هي عيون حادة النظر والإيمان، قادرة أن تثقب الحواجز، تمر من خلالها وتتخطاها. فالحب ليس أعمى، الحب يرى أكثر من البعد المحدود. هكذا كان حب يوحنا الحبيب لمعلمه. رأى ما لم يره اخوته التلاميذ، فتخطى خوف الموت وعار الصليب.
وأما بقية التلاميذ، فلأنهم يحتاجون أن يروا القائم بذاته، وأن يلمسوه كي يؤمنوا، فقد ظهر لهم في مساء اليوم عينه (رج يو 19:20)، أول أيام الأسبوع، لكن بعد تبشير مريم المجدلية لهم (رج يو 17:20-18). هكذا يستطيع التلاميذ أن يكونوا شهود عيان (رج 1يو 1: 1-4؛ يو 1: 14).
في قيامة الرب من الموت ليس فقط إنطلاقة نحو الحياة الأبدية وتكوين جماعة الإيمان: بل أيضًا قراءة عكسية لكل تاريخ الخلاص بحسب تعليم الرب نفسه "تتقصّون ما في الكتب... وهي... تشهد لي" (يو 5: 39). فيسوع هو الظهور الكامل لتدبير الله الخلاصيّ وحبه للبشر.
القبر الفارغ كان الانتفاضة الجذرية على عدم فهم الكتاب: "ذلك بأنهما لم يكونا قد فهما ما ورد في الكتاب، من إنه يجب أن يقوم من بين الاموات" (يو 9:20؛ رج أيضًا لو 26:24-27، 44-48).
هكذا، وفقط عبر القيامة، تبدأ القراءة العكسية: من القيامة إلى الموت والألم، إلى الانبياء والمزامير والشريعة، إلى الخلق، رجوعًا من جديد إلى القيامة. الرب القائم هو كل الحقيقة، هو الألف والياء، الأول والآخر، والبداية والنهاية (رج رؤ 1: 8؛ 21: 6؛ 22: 13). هو الحي أبدًا، ومن حياته بعد القبر التي هي الياء والنهاية نعود إلى الوراء لنفهم الألف والبداية.

2- جروحات الصلب" علامات أبدية"
أ- أثار الصلب
"في مساء ذلك اليوم، أول أيام الأسبوع" (يو 19:20) كان التلاميذ مختبئين خوفًا من اليهود، وقد اغلقوا الابواب على أنفسهم. لكن الرب يأتي، "فجاء يسوع"، بمبادرة حرة منه، ويقف في "وسطهم". إن الرب يأتي دومًا ويظل مع تلاميذه دومًا، لأنه حيّ أبدًا.
يسوع الرب، السيد القائم، يرى التلاميذ آثار الصلب، المسامير في يديه (عند لوقا 24: 40، يديه ورجليه) والجرح في جنبه (رج يو 20: 20أ).
اليدان والجنب موسومة بجراحات الموت، الموت المغلوب. هذه الجروحات تتحول من علامات موت إلى علامات نصر وقيامة. إنها علامات "أبدية" للحياة بعد الموت.
أثرُ التعذيب يتحوّل إلى أثر إيمان وإقرار بألوهية يسوع: "ربي والهي" (يو 20: 28-29). مات كإنسان وقام كإله.
أثر المسامير والجنب المطعون، الجسد المجلود يتحول إلى علامة مجد للحمل المذبوح لكنه قائم: "رأيت حملاً واقفًا كأنه مذبوح" (رؤ 5: 6).
إن علامات الموت في القيامة هي "ذكر" لهذا الحدث الوحيد للخلاص، الموت والقيامة. هذا الحدث هو التقدمة الاسمى نحو الآب ونحو البشرية.
هذا "الذكر" يصبح تأملاً ببشرية يسوع المؤلّهة وفرحًا أبديًا: "فافعمهم مرأى الرب فرحًا" (يو 20: 20 ب). لقد رأى التلاميذ الرب وجسوه، تأملوه وعرفوه (رج 1 يو 1: 1، 4). عرفوا أنه الرب. ظهر لهم كالإنسان القائم فعرفوا فيه الإله الحي أبدًا.
لقد أراد القائم من الموت عن قصد أن يريهم آثار الجروحات، فيتأكدوا أنه هو ذاته المعلم الذي مات مصلوبًا وقام من القبر. وكأنه باظهاره آثار الصلب يفسر لهم ما كُتب في شأنه في الكتب (رج لو 25:24-27، 44-47؛ مز 22: 17) وقد دعاهم إلى تفحص الكتب وفهمها.
إن يسوع هو المفسر الأول للكتاب المقدس، ومعلم الشريعة، والنبي المتشفع بآلامه، ومصلي المزامير بامتياز. إنه العبد المتألم. والملك المشيحاني: "أما كان يجب على المسيح أن يعاني تلك الآلام فيدخل في مجده؟" (لو 46:24). ولفظة المسيح بحد ذاتها تعني الرب، السيد، الحي، القائم من الموت والذي يجب أن يتألم كي يمجد.
بقيامته، يفسر يسوع موته وآلامه، ويعطي لهما المعنى الحقيقي (رج مز 2؛ 22؛ 30؛ 31؛ 45؛ 69؛ 71؛ 89؛ 110؛ 132؛ 144).
ب- خلق جديد
لكن التعبير الإلهي يجب أن يتم أيضًا من خلال التلاميذ والرسل. لابد لهم أن ينطلقوا ويبشروا بالقائم من الموت، وقوتهم في الانطلاق هي "روح الرب القائم"، "النفس" الإلهي: "ونفخ فيهم" (يو 20: 22 أ؛ قارن أيضًا مع تك 2: 7). هذا الفعل "نفخ" الذي يدل على الخلق، والمستعمل مرات عديدة في العهد القديم، موجود في العهد الجديد فقط هنا عند يوحنا. كما يدل هذا الفعل أيضًا على الشفاء وعلى القيامة من جديد (رج حز 9:37؛ طو 11: 11).
في أول أيام الاسبوع. في مساء ذلك اليوم، يظهر القائم مثل الرب الخالق،. الذي يخلق الكون الجديد الأخير، ينفخ للمرة الأخيرة، المرة الابديّة. إنه يوصل نفسه الإلهي، روح الآب وروحه، روح القيامة بعد الصليب (رج يو 19: 30).
ج- سلام أبديّ
يبدأ يسوع ظهوره بالسلام ليبدد خوفهم، ويؤكد سلامه مرتين (رج يو 20: 19، 21، 26). إنه السلام الإلهي، السلام المشيحاني (ειρηνη)، أي الخلاص الكامل. هذا السلام يعني الراحة في الرب، الاطمئنان، الختم الإلهي في نفوس تلاميذه، وشعار الحياة فيه: "لا تخافوا" (متى 27:14)، "هاءنذا معكم" (متى 28: 20).
بعد السلام يعود بهم يسوع إلى عمل الله الآب الذي أرسله، "أرسل ابنه الوحيد"، الرسول الوحيد الذي يرسل التلاميذ (رج يو 20: 21 ب). رسالة التلاميذ يجب أن تكون مطابقة لرسالة معلمهم وإلههم: "كما أرسلني... أرسلكم"، ومن يقبلهم يعني أنه قبل الرب المرسل بدوره من الآب؛ ومن يقبل الرب يقبل الآب الذي أرسله ويخضع للتدبير الإلهي.
د- غفران الخطايا
لا تقتصر مهمّة التلاميذ المخلوقين الآن من روح القائم، على نشر قيامته، لكن عليهم واجب تكرار أعمال المعلم واعطاء فرح غفران الخطايا بسلطان من السماء، فرح الروح القدس، الذي من خلاله خلعوا آدم القديم ليلبسوا آدم الجديد. إنهم الآن الخلق المفتدى المولود ثانية (رج يو 20: 22-23).
مهمتهم من لحظة امتلائهم من روح القائم أن يوصلوا هذا الروح إلى البشرية باجمعها، روح الفداء، روح النعمة، روح الملكوت للوصول إلى الآب السماوي، روح السيد الرب الموعود به منذ القدم (رج أش 61: 1+؛ لو 18:4-19).
إن من السماء ذاتها تُثبت وتقرّر نتيجة القيامة والصلب: فإما التوبة والغفران وإما الدينونة والقضاء. والرجاء يعطى بكامله والاختيار الحر للبشر.
كلُّ البشرية مدعوة إلى تكوين جماعة العليّة، الابتعاد عن الخطيئة، انتطار الرب، استلام روحه، الحياة بسلامه والولادة من جديد: "لأنه يأتي" ويبقى في "وسطها" (رج يو 20: 19) قائم حي أبدًا بالروح.
هـ- الإيمان والفرح
آيات الرب القائم كثيرة (رج يو 20: 30-31) وكلها تعود بالتلاميذ إلى الآيات التي قام بها قبل موته لتكون تفسيرًا لما قام به الانبياء وما وعدوا به، ولما علمته الشريعة وصلاة الشعب المختار في مزاميره. آيات يسوع وإن لم تدوّن كلها، إلا أنه يسلّم بها من خلال إيمان التلاميذ والرسل، ويؤمن بها لتكون في اسمه الحياة.
يقبل بآيات يسوع من خلال الإيمان، ويخضع لها من خلال الحب للرب الذي صنعها، والتي أراها لتلاميذه ليشهدوا لها في العالم أجمع. هذا يعني أنها لم تعد منظورة أو "طوبى لمن لم يروا وآمنوا" (يو 29:20). إن فرح الذي يؤمن "بالكلمة"، من خلال شهادة الرسل، أعظم. إنهم يرون بعيون الحب مثل يوحنا: "ما من أحد يسلبكم هذا الفرح" (يو 16: 22).
لقد كان حب الرب القائم أكبر من شك توما، إنه يأتي للمرة الثانية (رج يو 20: 26)، وللمرة الثالثة يحمل لهم السلام، سلام القيامة للجميع.
يؤنِّب القائم توما: "كن مؤمنًا، لا غير مؤمن" (يو 27:20)، لكن في تأنيبه حب واضح: "هات اصبعك إلى هنا فانظر يدي، وهات يدك فضعها في جنبي". الرب القائم يسمح لتوما أن ينهل من موضع الجروحات نعمة الإيمان، وعطاء الروح، والسلام الإلهي.
ويصرخ توما معترفًا بايمان ممتلئ بعطية السلام والروح: "ربي وإلهي" (يو 28:20). وإيمانه يتحوّل إلى صلاة وعبادة ونشيد تسبيح (رج مز 3:5؛ 34: 23؛ 43: 5). إنه يقبل بالعهد الجديد مع الله، ويجدد قانون إيمانه.
إن المناداة المزدوجة لتوما "ربي وإلهي"، بصيغة الملكية الفردية، هي اعتراف مضاعف بسيادة يسوع الملك والإله، مع أنه لم يكن من المعتاد أن ينادي أي "معلم" بالرب فكيف بالاحرى بالإله.
جواب يسوع (رج يو 20: 29) هو العهد الجديد، والطوبى لكل الاجيال التي تؤمن به ولا تراه بالعين المجردة. أكل ما يُرى فقط يمكن تصديقه؟ هناك كثير من الحقائق التي لا ترى لكن يمكن أن يحسّ بها، تعاش ويشهد لها، يعبر عنها وتنشر رسالتها: الرمز مثلاً، الموسيقى، الفن، الشعر، الابداع، الاحساس، الفطنة، الرحمة، الحنان والحب... وغيرها، أجميعها ترى؟ ومع ذلك فهي موجودة!

4- خلاصة: القائم يفسر موته
في العلية يفتتح الرب القائم "أسلوب" تفسير الكتب. يحدد بدقة التفسير القاطع والأخير من خلال قيامته: قبل كل شيء، إنه يدخل مكانَ تجمعهم، في دارهم ويقف في وسطهم (رج يو 19:20). المكان يصبح بيته. فحيث يوجد هو، هناك الهيكل الحقيقي والكلمة المعلنة وتفسير هذه الكلمة، وهناك الوليمة (رج لو 29:24+). إنه الضيف الإلهي، السيد المطلق والرب (رج لو 38:10-42)، مثلما أصبح قبلاً بيت مريم ومرتا بيت الرب: حيث تسمع الكلمة وتعلن النبوءة مسبقًا.
أ- الكلمة- الحدث"
من ناحية اخرى، تثمر القيامة مفعول "الكلمة" التي تنبأ بها يسوع عن ذاته خلال حياته الارضية. تعاليمه تتحول بحد ذاتها إلى "كتاب مقدس"، والقيامة تحمل التلاميذ إلى فهم ما قاله لهم من قبل، وإلى ادراك أن ما يتكلم به الرب هو "كلمة- حدث" (λογοι-ρηατα)، تجمع فتصبح الكتاب المقدس بالإضافة إلى العهد القديم.
هناك بعض النصوص التي تذكر لنا اهمية القيامة في فهم الاحداث التي خلال حياة يسوع الارضية. كلامه مثلاً حول هدم الهيكل وبنائه في ثلاثة أيام: "فلما قام من بين الاموات، تذكر تلاميذه أنه قال ذلك. فآمنوا بالكتاب، وبالكلمة التي قالها يسوع" (رج يو 2: 13-22).
ومثال أخر في جواب يسوع لبطرس الذي رفض في البداية غسل قدميه: "ما أنا فاعل، أنت لا تعرفه الآن، ولكنك ستدركه بعد حين" (رج يو 13: 1- 12).
في هذين النصّين يعلن يسوع قيامته من خلال كلامه النبوي أثناء حياته مع التلاميذ. وفيما بعد فسرت القيامة كل ما جرى من أحداث. القيامة تقرأ من جديد كل ما تم، إنها الياء التي كشفت عن الألف.
ب- "الكلمة النبوءة"
مثلما وضحت القيامة الأحداث التي سبقتها توضح أيضًا أقوال يسوع التنبؤية. مثلاً حول خيانة يهوذا وتسليمه الرب والإصرار على ذكر ذلك (رج يو 6: 64، 70-71؛ 2:13، 18-19، 26-27؛ 12:17).
كذلك حول دفن يسوع (رج يو 7:12)؛ حول نكران بطرس له (رج يو 38:13)؛ حول هرب التلاميذ وترك يسوع وحده (رج يو 16: 32؛ زك 13: 7)؛ ونبوءته في الصعود إلى أبيه (رج يو 14: 29).
بالطبع هناك الكثير من النصوص الأخرى التي تذكر نبواءت يسوع، كأقوال وكأحداث، والتي فهمت فقط بعد القيامة وحلول الروح القدس.
إن يسوع الذي يدعو التلاميذ إلى تفتيش الكتب وفهمها يؤكّد أنها تتمة كل ما جاء فيها. لهذا هو يدعو أيضًا إلى عدم ابطال "الكتاب" (رج يو 10: 35)؛ والشريعة: "شريعتكم" (يو 10: 34)، ويؤنبهم على جهلهم لكتبهم (رج يو 5: 39). إنه يؤكّد ويبرّر تعاليمه من خلال كتبهم (رج متى 5: 17؛ مر 7:11؛ 29:12-31؛ 49:14).
الانجيليون الأربعة يذكرون لنا هذه الحقيقة من خلال استعمالهم لفظة πληρωμα والتي تعني التمام، الامتلاء، الكمال. نذكر بعض ما جاء في إنجيل يوحنا: "وقتي لم يتم" (يو 8:7)؛ "لتتم كلمة النبي آشعيا" (يو 12: 38+؟ رج اش 9:6-10)؛ "إن الآكل خبزي رفع علي عقبه" (يو 18:13؛ رج مز 41: 10؛ يو 17: 12)؛ "من يبغضني يبغض أبي أيضًا" (يو 15: 23؛ رج مز 19:35؛ 5:69).
ويسوع "الكلمة" هو الكتاب المقدس، تتحقّق أقواله النبويّة كلّها. نذكر منها صلاته في حماية اتباعه من الهلاك (رج يو 12:17؛ 9:18)؛ نبوءاته حول الميتة التي سيموتها (رج يو 3: 14؛ 12: 32؛ 18: 32).
إنه يتمّم كل نبوءات العهد القديم، خاصًة في أحداث الموت والقيامة. هنا أيضًا نذكر بعضها حول تقاسم ثيابه تحت الصليب (رج يو 19: 24) والذي يحقق نبوءة المزمور 19:12؛ حول عدم كسر ساقيه، كحمل الفصح المذبوح (رج يو 36:19؛ خر 12: 46؛ عد 9: 12؛ مز 34: 21)؛ واخيرًا تأمل الفادي المطعون (رج يو 19: 37؛ زك 12: 10؛ رؤ 1: 7).
هناك تعبير أخر في إنجيل يوحنا هو τελος والذي يعني النهاية، الاكتمال والوصول إلى الهدف. مثال قول يسوع: "طعامي أن أعمل بمشيئة الذي أرسلني وأن أتمّ عمله" (يو 4: 34؛ رج أيضًا 36:5؛ 17: 4) والذي يعبر عن تتميم يسوع لعمل الآب وتدبيره الخلاصي.
ومثال أخر أثناء نزاع يسوع على الصليب في عطشه وفي البلوغ كمال صنعه (رج يو 28:19، 30؛ مز 16:22؛ 22:69).

الخاتمة
إن عمل الله وتدبيره الخلاصي يتمّان في صنعه الشعب الجديد، الذي يولد من موت المصلوب (رج يو 19: 30)؛ يولد من آلام المخاض شعبًا مشيحانيًا من على الصليب (رج يو 19: 34).
ويستعمل يوحنا فعل "تم" (τελεω) ليؤكّد عمل الله هذا، يؤكّد خلقه من جديد والذي يختم نبوءة المزمور 22: 32ج: "صنع صنيعًا"، الذي صلاّه يسوع بكامله على الصليب (رج متى 46:26؛ مر 34:15؛ يو 19: 30). يسوع يرجع الروح إلى أبيه الذي يعطيه بدوره إلى الشعب المولود، والذي يعبر عنه يوحنا بالماء والدم، قوة الروح القدس، وصورته (رج يو 19: 34).
هكذا يتبين أن حياة يسوع نفسها واقواله هي "الكتاب المقدس"، وهي "تفسير" الكتاب المقدس (بعهديه القديم والجديد)، الذي لا يفهم تمام الفهم إلا بعد القيامة- العنصرة.
ومثلما أن الموت ذاته، عند يوحنا، هو الحياة الأبدية التي تعطى أي القيامة عن طريق اعطاء يسوع لروحه، إذا يشكّل موت يسوع أيضًا العنصرة. بهذا يظهر لنا يوحنا أن لحظة موت يسوع هي ذاتها لحظة العنصرة عندما أسلم الروح (رج يو 19: 30)؛ وهي ذاتها لحظة القيامة، أي الحياة الأبدية، عندما خرج من جنبه المطعون دم وماء (رج يو 19: 34).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM