أبعاد السرّ

فصل من رسالة القدّيس بولس الرسول إلى أهل كولوسّي (2: 1-15)

 

1ومريدٌ أنا أن تعرفوا أيَّ جهادٍ هو لي لأجلِكم ولأجلِ هؤلاء الذين في اللاذقيَّة، ولأجلِ الباقين، أولئك الذين ما رأوا وجهي البشريّ. 2بحيثُ تتعزّى قلوبُكم وتتقرَّبونَ في المحبَّةِ إلى كلِّ غنى اليقينِ ولفهمِ معرفةِ سرِّ اللهِ الآبِ والمسيح. 3ذاك الذي فيه كانتْ مكتومةً كنوزُ الحكمةِ والمعرفة. 4وهذه أنا قائلٌ: لا يكونُ إنسانٌ خادعًا لكم بيقينِ الكلمات. 5ومع أنّي غائبٌ بالبشريِّ، إلاَّ أنّي معكم بالروح وفارحٌ أنا وناظرٌ ترتيبَكم ومتانةَ إيمانِكم الذي في المسيح. 6إذًا، كما قبلتم يسوعَ المسيحَ ربَّنا، اسلكوا فيه، 7وأصولُكم ثابتة، وأنتم مبنيُّونَ فيه ومُقامونَ أنتم في الإيمان الذي تعلَّمتم، الذي فيه تتفاضلون بالشكر. 8واحذروا بحيثُ لا يسلبُكم إنسانٌ بالفلسفة، وبالغرور الفارغ بحسبِ تعاليمِ الناسِ وبحسب أركانِ العالم، لا بحسبِ المسيح، 9الذي فيه ساكنٌ جسديًّا كلُّ ملءِ اللاهوت. 10وفيه أنتم أيضًا مكمَّلون، لأنَّه هو رأسُ كلِّ الرئاساتِ والسلاطين. 11وبه خُتنتم ختانة، لا بالأيدي بسلخِ لحمِ الخطايا، (خُتنتم) بختانةِ المسيح. 12وقُبرتُم معه في المعموديَّة، وبه قمتم معه لأنَّكم آمنتم بقدرةِ الله الذي أقامَه من بينِ الأموات. 13وأنتم الذين كنتم مائتينَ بخطاياكم وبغرلةِ لحمِكم، أحياكم معه وغفر لنا خطايانا كلَّها. 14ومحا بوصاياهُ صكَّ ذنوبِنا، ذاك الذي كان مضادَّنا، ورفعه من الوسطِ وسمَّرَه بصليبِه. 15وبسلخِ جسدِه عرَّى الرئاساتِ والسلاطينَ وأخزاهم علنًا بأقنومِه.

*  *  *

حين دعت نصوص العهد الجديد مخطَّط الله سرًّا، ما أرادت فقط أن تُبرز عجز البشر بأن يعرفوه بأنفسهم، بل دلَّت أيضًا أنّه بعد كشف مخطَّط الخلاص، تبقى الحكمة البشريّة عاجزة عن فهمه وعن تقبُّله، لأنَّه يتحقَّق بوسائل وأحداث تخرج من المعقول. كلُّ منطق بشريٍّ يبقى في الخارج، ولا يرى سوى قشرة الحقيقة، فلا يلج لبَّها. والسبب ليس فقط لأنَّ طرق الله لم تُكشف بعد كسرّ، بل أيضًا لأنّها وإن كَشِفت وأعلِنت، لا يستطيع العالم أن يتعرَّف إليها كأنَّ الله أرادها. قال الرسول: "السرّ الذي كتمه الله طوال دهور وأجيال، وكشفه الآن لقدّيسيه" (1 كو1: 26). يبقى العالم خارج السرّ ولا يستطيع أن يتقبَّله، فيعتبر المسيحيِّين مجانين، جهّالاً. وفي بداية الكنيسة حسبهم يذبحون الأطفال حين يتكلّمون عن الذبيحة أو الاحتفال بالإفخارستيّا. المؤمنون وحدهم "يدركون سرّ الله، أي المسيح الذي تكمن فيه جميع كنوز الحكمة والمعرفة" (كو 2: 2-3). وتحدَّثت أف 3 عن سرٍّ بقي مكتومًا طوال الدهور في الله، فأطلعت الكنيسة العالم عليه (آ10).

هكذا نفهم أن يكون بولس رأى في صليب يسوع سرّ الله بامتياز.ولكنّ الصليب ليس الحدث الوحيد الذي يخلق الانذهال. فالرسالتان إلى كولوسي وأفسس تشدّدان أيضًا على الطريقة التي بها يُعاش الإيمان بيسوع ابن الله. هذا ما يدعوه بولس "المسيح وسط الأمم" لا وسط اليهود فقط. وهذا أمرٌ لا يُصدَّق لأنَّ الأمم لم تكن تنتظر مسيحًا. وإن هم اهتدوا إلى الله الحيّ، يبقى عليهم هم أن يصعدوا إلى أورشليم، المدينة المقدَّسة. ولكنَّ الإنجيل لم ينتظرهم بحيث يأتون إليه، بل إنّ الخلاص راح إليهم حيث هم، فصاروا في تنوّعهم وحدة في المسيح، وهكذا دُعيَت الكنيسة جسده.

أجل، المسيح يأتي إلينا حيث نحن. يهودًا أو وثنيّين، يونانيّين أو برابرة. خطأة أم أبرارًا، كبارًا أم صغارًا. فالآب أرسله إلى العالم، لا ليدين العالم (وبالتالي كي يحكم عليه)، بل ليخلِّص به العالم (يو 3: 17). هذا هو السرّ الذي تدعونا الكنيسة للدخول فيه. ماذا ننتظر؟

 


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM