الاتِّحاد بالله

لا تكون الصلاة فقط من أجل الطلب، بل من أجل الاتِّصال بالله والحياة معه. هنا نتذكَّر أصل اللفظ. من "وصل"، لأمَ وجمع. أمّا فعل لأمَ فواسع جدًّا فيه معنى الضمّ والشدّ والالتصاق والالتحام. هكذا هي الصلاة: جمع بين القريب والبعيد، بين الكبير والصغير، بين القدُّوس والخاطئ، بين القدير كلَّ القدرة والإنسان الضعيف والسريع العطب. عندئذٍ تتمُّ الملاءمة حين يجعل الله نفسه على مستوى الإنسان. فالربُّ يسوع لا يستحي أن يدعونا إخوته. فهو صار إنسانًا. وأبعد من ذلك، صار عبدًا طائعًا حتّى الموت والموت على الصليب. وكما لاءمنا في اتِّضاعه، لاءمنا في ارتفاعه. تواصل رسالة القدِّيس بولس إلى أهل فيلبِّي: "لذلك رفعه الله وأعطاه اسمًا فوق كلِّ اسم". غير أنَّ يسوع ما أراد أن يرتفع وحده، فأطلق صلاته إلى الآب السماويّ: "أيُّها الآب أريد لهؤلاء الذي أعطيتني أن يكونوا معي حيث أكون أنا ليروا المجد الذي أعطيتني".

هنا نكون أمام وجهة من الصلاة، التي تفترض أنَّه بالإمكان الاتِّصال بالله والاجتماع به، على ما يقول المزمور: "متى آتي وأحضر أمام الله!". لا مسافة بعد الآن بين الله والبشر، والصلاة توحِّدنا بمن نحسبه البعيد البعيد. نتطلَّع إلى موسى الذي قيل عنه بفم الربّ: "عبدي موسى... فمًا إلى فم وعيانًا (أي يراني بعينيه) أتكلَّم معه". إلى هذا المستوى يصل في أيَّامنا الأولياء والقدِّيسون؟ يغوصون في الله، يتَّحدون به. تضيع حواسُّهم الأرضيَّة فيُخطفون، يُرفعون إلى السماء. هكذا يحدِّثنا سفر الخروج عن موسى أيضًا: "ولمّا نزل موسى من جبل سيناء ولوحا الشهادة (يحملان الوصايا العشر)... لم يعلم أنَّ جلد وجهه صار يلمع في كلامه مع الله". التقى هذا "النبيّ" بالنور فأخذ من نوره، وهكذا شعَّ وجهه حين اقترب من الله. وهكذا خاف هرون والذين معه أن يدنوا من موسى بعد أن أشعلته نار الله. مثله كانت تريزيا الأفيليَّة ويوحنّا الصليب وعددٌ كبير في تاريخ الكنيسة.

وكيف بلغ موسى إلى هذه النعمة الفريدة؟ بالصلاة. لبث أربعين يومًا وأربعين ليلة على الجبل، صائمًا، مصلِّيًا. بدأ وطلب من الله قال: "إن وجدتُ نعمة في عينيك فعلِّمني طريقك حتّى أعرفك". والمعرفة في الكتاب المقدَّس لا تتوقَّف عند العقل والفكر، بل تصل إلى القلب وإلى الإنسان كلِّه. يتَّحد به نفسًا وجسدًا وروحًا، لحمًا وعظمًا، وكأنَّه يريد أن يحترق باللهيب الإلهيّ. أجاب الربُّ موسى: "هذا الأمر الذي تكلَّمتَ عنه أفعله، لأنَّك وجدت نعمة في عينيَّ (في نظري) وعرفتك باسمك". الربُّ عرف صفيَّه، لا إنسانًا بين الناس، لكن كإنسان فرد مع اسمه الخاصّ.

وتجرَّأ موسى وقال: "أرني مجدك". وكشف الربُّ عن نفسه لموسى لا بطريقة مباشرة بل بطريقة غير مباشرة. أراد موسى أن يدخل في عمق حقيقة الله. ولكنَّ هذا مستحيل قبل الموت. لا تستطيع، يا موسى، أن ترى مجد الله، بل نتائج لطفه وحنانه ونعمته الآتية من شخص قال اسمه: "أنادي باسم الربِّ قدَّامك". نحن لا نستبق الله. بل نكتشف مجده بعد مروره في الخلق وفي تاريخ البشر. قال الله: "تنظر ورائي، أمّا وجهي فلا يُرى، فلا يمكن أن تراه".

 

ومثل موسى فعل إيليّا الذي أحسَّ بحضور الله قريب بشكل نسمة. وسمع صوته من خلال صمت داخليّ، لأنَّ كثرة الكلام تجعل حاجزًا بيننا وبين الله. أمّا السكوت فيتوافق مع الذي دعاه إشعيا "الإله الخفيّ". وموسى وإيليّا رافقا يسوع في تجلِّيه على الجبل. قال لوقا الإنجيليّ عن يسوع: "وصعد إلى جبل (ثابور أو حرمون) ليصلِّي. وفيما هو يصلِّي صارت هيئة وجهه متغيِّرة، ولباسه أبيض لامعًا. وإذا رجلان يتكلَّمان معه، هما موسى وإيليّا". اتِّحاد بالله في خبرة فريدة. اتِّحاد بالابن، بيسوع المسيح. إلى هنا تصل بنا الصلاة: توحِّدنا بالله. ترفعنا إليه. تجمعنا به بانتظار الجمعة الأخيرة التي فيها يقول صاحب المزامير: "فرحتُ بما قيل لي إلى بيت الربِّ ننطلق".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM