الفصل السادس عشر: الويل للفريسيين، الويل لعلماء الشريعة

الفصل السادس عشر
الويل للفريسيين، الويل لعلماء الشريعة
11: 37- 54
دُعي يسوع إلى الغداء. دعاه أحد الفريسيين فدخل واتّكأ. وكانت له مناسبة أن يدلّ على الفرق بين موقفه وموقف الفريسيين وعلماء الشريعة، كما فعل حين غفر للخاطئة (7: 36 ي) وكما سيفعل حين يشفي المريض بداء الإستسقاء (14: 1 ي). في هذا الإطار الإخباري، بدأ يسوع فوجّه لوماً إلى الفريسيين. وبعد أن تدخّل عالم من علماء الشريعة، تابع يسوع انتقاده للكتبة. جاء كلام الربّ في صيغة "التويل". الويل لكم ايها الفريسيون... كان قد قال في 10: 13: الويل لك يا كورزين، الويل لك يا بيت صيدا. وعارض التطويبات في 6: 24- 26: الويل لكم أيها الأغنياء، الويل لكم أيها المشبعون، الويل لكم أيها الضاحكون. وها هو يقول: الويل لكم أيها الفريسيون وعلماء الشريعة.
أ- كان يتكلّم
نقطة الإنطلاق هي موقف يسوع. لم يقم بالإغتسال الطقسي. لم يغتسل قبل الأكل. أهمل عملاً "طقسيّاً" يفرضه التقليد. أتراه أيضاً علّم تلاميذه فتناولوا الطعام بأيدٍ نجسة أي غير مغسولة (مر 7: 2). إن الفريسيين لا يعتبرون هذا الغسل إجراء صحّياً. إنه طقس ديني. إنه دواء ضدّ النجاسات المختلفة التي تنتقل من الناس والأشياء إلى المؤمن كما تنتقل العدوى. أما صار يسوع نجساً بعد أن لمس ذاك الأخرس الذي فيه شيطان (11: 14)؟ أما تنجّس حين لمس الجموع التي كانت تزحمه من كل مكان (11: 29)؟ ولكن النجاسة لا تؤثّر في يسوع. فهو الذي يؤثّر فيها فيشفي المرضى ويخرج الشياطين ويدعو الناس إلى التوبة.
1- الويل للفريسيين (11: 39- 44)
وبدأ الرب كلامه حول مسألة الطهارة (آ 39- 41). إن اللقب الذي يعطيه لوقا ليسوع في بداية هذا "التوبيخ" يشدّد على سلطته التعليمية في مجال ظلّ حامياً في المسيحية الأولى. يدور اللوم حول النقيضة "الخارج/ الداخل". وهكذا ينتقل من ممارسة طقسية إلى تصرّف خلقي. إهتمّ الفريسيون إهتماماً زائداً بالطقس الخارجي والمادي، ثم انتقلوا من غسل الأيدي إلى غسل الكؤوس والجرار وسائر الأواني المنزلية. أمّا يسوع فعارضهم لأنهم لا يهتمّون بالنجاسة التي فيهم، لأن باطنهم مملوء خطفاً وشرّاً.
عندما يصنع الفخاري جرّته يهتمّ في الوقت عينه بالخارج وبالداخل، والخالق يهتمّ بباطن الإنسان كما بخارجه. يريد هذا ولا يترك ذاك. وأخيراً يؤكّد يسوع (وهذه ملاحظة يقولها لوقا بارتياح) أن الصدقة تحلّ محلّ كل قواعد الطهارة. من أعطى الفقراء كان له كل شيء نقياً. وهكذا نقل إلى مستوى الطهارة الطقسية ما قاله طوبيت: "الصدقة تنقّي من كل خطيئة" (طو 12: 19). ونحن نتصدّق ما في وسعنا اليوم، ونسمع ما يقوله الروح للكنائس، لأن الصدقة بدأت تأخذ أشكالاً عديدة من التضامن، تتعدّى مستوى الصدقة الفردية نقدّمها لشحاذ قد يكون صادقاً أو كاذباً.
وفي العبارات الثلاث التالية (الويل، الويل، الويل)، يعدّد يسوع ثلاثة تصرّفات تقود الفريسيين إلى هلاكهم، لأنهم يقرأون الشريعة قراءة خاطئة وسيّئة.
أولاً: يدلّون على غيرتهم فيقدّمون العشور (ومنها ضريبة الهيكل) عن نباتات صغيرة لا يذكرها التشريع القديم (نح 13: 10- 13: عشور الحنطة والخمر والزيت). ولكنهم يهملون المتطلّبات الأخلاقية والدينية في الشريعة (10: 27: أحبب الرب، أحبب قريبك). لم يرذل يسوع الفريضة التي يعطيها التقليد الشفهي في هذه النقطة بالذات، ولكنّه يذكّرهم بطابعها الثانوي (آ 42). فهي تأتي بعد العدل وحبّ الله.
ثانياً: يطمح الفريسيون إلى أن يراهم الناس، أن يقرّوا بفضلهم في الساحات العامة من أجل ممارساتهم الخارجية، أو من أجل ما يفرضونه على نفوسهم فوق ما تفرضه الشريعة. ولكن، لا أجر لهم (آ 43). فإهمالاتهم الأساسية صارخة وهي تحكم عليهم.
ثالثاً: ونجد في ويل ثالث إتهاماً أشارت إليه آ 39، وتحدّثت عنه آ 44 بالصورة. هناك خلاف بين الظاهر والباطن. هكذا تكون القبور. يطأها الناس ولا يدرون. فالقبر هو شيء نجس بسبب الجثة التي يحويها. فإن لم يدلّ شيء على وجوده، سار عليه المارّ ولم يعلم، فتصيبه نجاسة خطيرة. إنّ ظاهر الفريسيين الذين لا لوم فيه ينسي الناس "باطنهم" الفاسد الذي ينتقل كالعدوى. هذا هو الرياء. إنفصام بين الخارج بما فيه من تملّق والداخل، والقلب الذي هو بعيد عن الله. ولكن يسوع لم يتلفّظ بعد بالكلمة، التي سنسمعها في 12: 1: "إحذروا خمير الفريسيين، إحذروا الرياء".

2- الويل لعلماء الشريعة (11: 54- 52)
إتهم يسوع الذين يمارسون الشريعة، لأنهم يتبعون بدقّة تصل إلى الوسواس ما هو سطحي، ويهملون الجوهر. وأحس عالم بالشريعة ان اتّهام يسوع أصابه هو أيضاً. إنه اختصاصي في هذا المجال، وتفاسيره تنظّم الحياة اليومية للفريسي العادي (آ 45): "تهيننا نحن أيضاً".
حينئذ بدأ يسوع "يحاكم" أصحاب "الفتاوى" في الأمور اليومية: ماذا نعمل وماذا لا نعمل؟ وأرسل اليهم يسوع أيضاً "الويل" على ثلاث مرات.
أولاً: إنّ علماء الشريعة يقومون بعمل متواصل لتفسير الشريعة، فيخلقون غابة من التنظيمات المفصّلة والمنقّحة والمدقّقة، فيضيع فيها المؤمن العادي. وهكذا صارت الفرائض سجناً وقيوداً تحاصر الشعب من كل جهة. غير أن علماء الناموس لا يعملون شيئاً ليساعدوا الذين سقطوا تحت أثقال الشريعة كما يفسّرونها (آ 46). كيف يساعدونهم؟ يدلّونهم على ما هو في أصل الشريعة: حبّ الله من أجل شعبه.
ثانياً: والتصرّف الثاني الذي يبرزه يسوع (آ 47- 48) والتوسّع الذي يستخرجه (آ 49- 51) يستندان إلى تقليد يهودي شفهي وقديم حول اضطهاد الأنبياء وقتلهم بيد شعب إسرائيل. فالمؤلّف المنحول (أي غير قانوني، ليس من الأسفار المقدّسة) "حياة الأنبياء" يخبرنا أن أشعيا نشر بالمنشار، أن إرميا مات رجماً بيد الشعب، أن عاموس قتل بضربة على رأسه... (رج عب 11: 32- 40). ويذكر هذا المؤلف أيضاً مقتل زكريا بن يوياداع (رج 2 أخ 24: 2) ويحدّد موقع قبره في أورشليم، كما يقول إن أشعيا دفن في أورشليم أيضاً.
هاجم يسوع أولئك الذين يشيدون مباني تذكارية حيث ترقد أجساد الأنبياء العظام، الذين قتلهم "اَباؤكم". فهذه الأبنية لا تدلّ على توبة أولئك الذين شيّدوهم. إنها تعني أن حاملي كلمة الله الحقيقيّين هم في نظرهم الأنبياء الموتى وحسب. هم الذين كانوا يلومون الأجيال السابقة. أما الاجيال الحاضرة، فلا تريد نبيّاً تسمع له.
غير أن ما تريده الحكمة البشرية، هو أن ترسل أنبياء ورسلاً يدعون الشعب إلى التوبة، ومقتلهم لن يوقف هذا المشروع. ومع ذلك، فاستشهاد الأنبياء ظاهرة في التاريخ. أوّل نبي شهيد هو هابيل (تك 4: 8). يروي التقليد الشفهي أن أخاه قايين قتله لأنه أكّد ان الله بار وأنه يقيم الموتى. وهكذا يسير الموضوع في نظر يسوع منذ الصفحات الأولى في التوراة العبرية (سفر التكوين) حتى 2 أخ 24: 22 ومقتل النبي زكريا في الهيكل.
الكرستولوجيا حاضرة في هذا المقطع وإن كانت خفية. فيسوع هو النبي الأخير، هو مرسل المرسلين، ولن يكون مصيره أفضل من مصير سابقيه. إنه النبي والوسيط بين الله والبشر في تعليم الخلاص. ولكن لتكن الأمور واضحة: إذا كان هذا الجيل لا يقطع كل رباط مع تصرّف الآباء المجرم، فعليه أن يؤدّي حساباً عن دم جميع الأنبياء. فالله ينتقم لشهدائه ويحكم على جلاّديهم، وهكذا تتمّ العدالة.
ثالثاً: ويرسل يسوع اتهاماً أخيراً: الويل لكم، يا علماء التوراة، قبضتم على مفتاح المعرفة. فعلمهم في الكتاب المقدّس جعل في يدهم المفتاح الذي يصل بالإنسان إلى معرفة الله ومخطّطه الخلاصي. فهم لم يدخلوا إلى ملكوت الله الذي حلّ بينهم. وأكثر من هذا، عملوا كل جهدهم لكي يمنعوا الآخرين من الدخول.
وينهي الإطار السردي الخبر بشكل مهدّد (آ 53- 54). بدأ الكتبة والفريسيون ينقمون على يسوع كل النقمة. فبدلاً من أن يتوبوا مستخلصين العبرة ممّا سمعوا، ساروا في الطريق التي كانت طريق آبائهم. سيماحكون النبي الأخير ويجادلونه ويضعون له الفخاخ حتى يوقعوه.
ب- دراسة تفصيلية
إن بداية آ 37 (وإذ كان يتكلّم) تستعيد آ 14 ب (تكلّم) عبر الوصلة في آ 27 (وفيما هو يتكلّم بهذا). إن هذه الآيات التدوينية تحدّد موقع التويّلات التالية في مجيء الكلمة كما دشّنها يسوع: "لقد اقترب منكم ملكوت الله" (آ 20). ويعطي النص أيضاً توضيحاً آخر. فالمقطع الذي ندرس يدخل بين إشارة أولى تقول "دخل" (آ 37، واتّكأ)، وإشارة أخيرة تقول "خرج" (9: 4- 5)، وانطلاقة السبعين (10: 8، 10) الذين يدخلون إلى مدينة أو يخرجون إلى الساحات. وهكذا نكون مرّة أخرى في ملء المسيرة الرسولية. فعلى الفريسيين وعلماء الشريعة أن يعيدوا النظر في ممارستهم على ضوء هذه المتطلّبة الرسالية.

1- دعاه فريسي إلى الغداء (آ 37- 41)
"وحين قال هذا". إعتاد لوقا أن يستعمل المصدر مع حرف الجرّ "وفي تكلّمه"، إذ كان يتكلّم. رج 2: 27 (ولما دخل بالطفل)؟ 3: 21 (فشرع يقول لهم). قرأ المخطوط البازي والسريانية العتيقة: "طلب منه فريسي أن يتغدّى معه" (رج 7: 36). يبدو الفريسيون في هذا المقطع على أنهم يمارسون ممارسة دقيقة العوائد الدينية القديمة. يزيد الاسكندراني وغيره أمام كلمة فريسي لفظة "تيس": فريسي ما. وذلك بتأثير من 7: 36؛ رج 14: 1.
دعاه، طلب منه أن يتغدّى معه. قد يعني الفعل أيضاً (ارستان) طعام الفطور، ولكنه يعني في هذه الجملة طعام الظهر.
تعجّب الفريسي، بل انصدم وتشكّك من هذا المعلّم الذي لم يغسل يديه قبل الطعام. نقرأ في الكودكس البازي واللاتينية العتيقة والسريانية العتيقة: "حكم في عقله فأخذ يتساءل لماذا لم يغتسل". هذا يتضمّن أن يسوع قرأ له أفكاره.
لم يغتسل قبل الأكل. لم يقم بطقوس غسل اليدين (على الأكل)؛ رج مر 7: 1- 5؛ تك 18: 4؛ قض 19: 21. لا ننسى أن الإتصال بالجموع وطرد الشياطين يقع في هذا الإطار. أما تنجّس يسوع؟
نجد في آ 39: الرب، بشكل مطلق. يعطي لوقا هذا اللقب ليسوع قرابة عشرين مرة، هذا ما عدا المنادي: يا رب. إنه يدلّ بذلك على ملك يسوع السرّي. لا نجد كلمة الرب إلاّ مرّة واحدة في متّى (21: 3) ومرقس (11: 3)، بمناسبة الإستعداد للدخول إلى أورشليم.
"أنتم الفريسيين". يزيد المخطوط البازي "المرائين" متأثراً بمتّى، مع أنّ لوقا تحدّث عن "ريائهم" (12: 1)، إلاّ أنّه لم يستعمل أبداً الصفة "فريسي". أما الإسم "فريسيون" فيُستعمل في صيغة المنادي "أيها الفريسيون".
"خطفاً وشرّاً". قال مت 23: 25: "خطفاً وجشعاً". شدّد لوقا على التعارض أكثر ممّا فعل متّى. ولكنه لم يقل شيئاً عن ينبوع هذا الخطف. هناك تعارض بين ديانة شكلية وخارجية لدى الفريسيين، وديانة داخلية، ديانة القلب. نضع في قلوبنا متطلّبات الله. أما الفريسيون...
"أيها الحمقى" (آ 40). قد يكون لوقا أحلّ هذه التسمية محل "الفريسي الأعمى"، الذي في المعين (مت 23: 26؛ لو 12: 20). نجد هنا السبب الذي لأجله لا يرضى الرب بالديانة الخارجية والشريعانية (تعلّق مفرط بالشريعة). "فالذي صنع الخارج" في معنى أول هو الذي
يصنع الصحون وسائر الأواني. وفي معنى ثان، هو الله. هناك اختلاف مع مت 23: 26، غير أن التعارض بين الداخل والخارج هو حاضرٌ في المعين.
"تصدّقوا بما في وسعكم". حرفياً: "بما في الداخل". وفهم بعضهم: من داخل كؤوسكم وصحونكم. هناك مخطوطات قديمة تقول: مما في أيديكم. أعطوه للفقراء. هنا نجد موضوعاً عزيزاً على قلب لوقا: "بيعوا ما تملكون وتصدّقوا بثمنه على الفقراء" (12: 33). "إجعلوا لكم أصدقاء..." (16: 9). قال زكا: "أعطي الفقراء نصف أموالي" (19: 8؛ رج أع 9: 36؛ 10: 2، 4، 31؛ 11: 29: 24: 17).
رأى ولهاوزن في "أعطوا صدقة" ترجمة للأرامية "زاكو"، بدلا "داكو". وأن متى أعطى الترجمة الحقيقية: النقاوة. ولكن جاء من يعارضه.
إن آ 41 لا توازي مت 23: 26. لقد استعمل لوقا آ 40 كمقابل لنصّ مت 23: 26، وزاد كلامه عن الصدقة: تصدّقوا، حينئذ تصبحون أنقياء.

2- ويلات الفريسيين (آ 42 44)
"الويل" (آ 42). لسنا هنا أمام لعنة، ولا أمام حكم لا عودة عنه. نحنٍ أمام صرخة شفقة: أنتم بؤساء وحالكم في الويل والتعتير. ونحن أيضاً أمام تحذير وتهديد مع نداء ملحّ إلى التوبة. نقرأ في 10: 13: الويل لك يا كورزين. يا ليتك تبت كما تابت صيدا وصور!
"تعشّرون، تؤدّون العشر". يُعطون عشر المدخول من أجل الملك أو الهيكل أو خدّامه. ولقد تنوّعت العادة في العهد القديم. أما القاعدة التي يلمّح إليها يسوع فنجدها في تث 14: 22- 27 (رج 12: 6- 29؛ 14: 28- 29؛ 26: 12- 15). ولكن هذه النصوص ليست واضحة. وهناك أيضاً (من الدستور الكهنوتي) لا 27: 30- 33؛ عد 18: 12؛ نح 10: 37- 38؛ 12: 44؛ 13: 5، 12؛ 2 أخ 31: 5- 12؛ رج ملا 3: 8، 10. جُمعت هذه الأمور حول العشور في بداية القرن الثالث ب م فدلّت على عقليّة يشير يسوع إليها هنا. مهما كان الطعام الذي نستعمله فقد نما في الأرض، ويجب أن يعشّر.
"النعنع والسذاب وسائر البقول". أما مت 23: 23 فقال: "النعنع والشّبث والكمّون". النعنع وحده هو موضوع العشر في نصّ لوقا. المهم هو التعارض بين عشور عن أمور بسيطة، وتغاضٍ عمّا يسيء إلى العدل ومحبّة الله. "العدل" أي الإستقامة والإنصاف. و"محبّة" الله أي "أغابي". لا نجد هذه اللفظة في الأناجيل الإزائية إلاّ هنا وفي مت 12: 42 (رج يو 5: 42). إنّ مت 23: 23 يستعمل بالحري: العدل والرحمة والإيمان. أنكون أمام كلمة "حسد" العبرية بمعانيها الثلاثة؟
"صدور المجالس في المجامع". أماكن الشرف، الأماكن الأولى. هذه الأماكن هي غير "كرسي موسى" (مت 23: 2). رج 20: 46: "يحبّون التحيات في الساحات، ومكان الصدارة في المجامع، ومقاعد الشرف في الولائم". فالعالم في الشريعة هو أول من نحيّيه.
في آ 44، وحسب الإسكندراني والبازي وغيرهما نجد: "أيها الكتبة والفريسيون المراؤون". نحن هنا أمام تنسيق مع مت 23: 27. القبور المخفية في الأرض والمليئة بعظام الموتى هي ينبوع نجاسة طقسية بالنسبة إلى اليهود (رج عد 19: 11- 22؛ لا 21: 1- 4، 11). بما أن الشعب لا يلاحظها فهو لا يعرف ما هي، ولهذا فهو يتنجّس عندما يتّصل بها. إنّ مت 23: 27 يرجع إلى عادة قديمة في تبييض القبور قبل الفصح، لكي تبدو جميلة. ولكن يبقى الداخل.
3- ويلات معلّمي الشريعة (آ 45- 52)
قال لوقا "علماء الشريعة" (نوميكوس). بدل الكتبة. وهكذا فعل في 10: 25؛ 14: 3. نجد "نوميكوس" مرة واحدة في متّى (22: 35). عالم الشريعة هو اختصاصي في الشريعة لدى الفريسيين وهو يساوي عمليّاً "الكاتب" المذكور في آ 53 مع الفريسيين. إحتجّ "العالم" فأجابه يسوع. قال: انت تشتمنا نحن أيضاً. فهم أكبر المتعلّمين بين الفريسيين أن يسوع ينتقد مجموعة "العلماء" المسؤولين عن تفاصيل التقوى اليهودية. سمّى "العالم" يسوع: يا معلّم. أي: يا رابي.
"تحمّلون الناس الأثقال". هي واجبات تُستنتج من تفسير الشريعة فتزيد فرائض على الفرائض المكتوبة. هناك 39 فئة من الأعمال لا يعملها المؤمن يوم السبت، وإلاّ تجاوز الوصية الثالثة. كان على التوراة أن تكون ينبوع خدمة لله في الفرح، فصارت عبئاً وثقلاً على المؤمن بسبب علماء الشريعة (رج أع 15: 10). تجاه هذا نقرأ في مت 11: 30 (لا شيء يوازيه في لوقا) ما قاله يسوع: "نيري هيّن وحملي ضعيف".
وأنتم لا تحرّكون هذه الأثقال بأصابعكم. لا تساعدون الشعب في شيء. ولكن هذا النصّ لا يعني أن علماء الشريعة يسهّلون الأمور لنفوسهم عندما يفسّرون الشريعة.
"تبنون قبور الأنبياء". لكي تكرّموهم وتخلّدوا ذكراهم. هذا في الظاهر. أما في الحقيقة، فأنتم تتأكدون أنهم لن يعودوا يزعجونكم كما في حياتهم. آباؤكم، أجدادكم قتلوهم. قال اسطفانس: "إضطهدوا كل نبي، وقتلوا الذين أنبأوا بمجيء البار" (أع 7: 52). وسيُقتل هو أيضاً (7: 54 ي). آباؤكم قتلوا (رج 1: 55؛ 6: 23، 26) وانتم توافقون حين تبنون القبور. قال مت 23: 31: "أنتم أبناء قتلة الأنبياء". حاول بلاك أن يفسّر هذا الإختلاف فعاد إلى الأرامية: اتون بنين اتون". نقابل بين "بنى" (يبني) وبين "بني" (أبناء الأنبياء). ولكن يبقى السؤال: هل يوازي لوقا مت 23: 31، أم هو يرتبط أيضاً بتقليد آخر؟
"قالت حكمة الله" (آ 49). أدخل لوقا الحكمة. أما مت 23: 34 فجعل هذه الأقوال مباشرة في شفتي يسوع. قد نكون أمام إيراد من العهد القديم في كتابات يهودية تعود إلى ما بين العهدين. ولكننا لم نجد بعد مرجعها. كيف نفهم عبارة "حكمة الله" (الله الحكيم)؟ هل تعود إلى الله أم إلى يسوع؟ هناك مقاطع في العهد الجديد تجعلنا نقول إن يسوع هو حكمة الله (1 كور 1: 24، 30؛ 2: 7؛ كو 2: 3). هل يلمّح لوقا إلى ما تتضمّنه 7: 35 (الحكمة يبرّرها جميع أبنائها: أبناء الحكمة هم الذين يتقبّلون يسوع بالإيمان ويتجاوبون مع قصد الله)؛ 11: 31 (أعظم من سليمان)؟ هذا ما فهمه آباء الكنيسة. والمقابلة مع متّى تدلّ على أن يسوع هو الحكمة. فما قالته الحكمة في لوقا قاله يسوع في متّى.
"أرسل إليهم أنبياء ورسلاً" (ابوستولوس). قال مت 23: 34: أنبياء، حكماء، كتبة. تحدّث لوقا عن الرسل بعد أن مات عددٌ كبير منهم (أع 12: 2- 5). وقول يسوع هنا يدلّ على أنه هو نفسه "النبي والرسول" (4: 24) والمتحدّث باسم حكمة الله. وفي ما يتعلّق بمقتل الأنبياء والرسل، رج 13: 33، 34: "لا يجوز أن يهلك نبي خارج أورشليم... يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء...".
"دم جميع الأنبياء" (آ 50). رج إر 7: 25: "منذ خرج آباؤكم من أرض مصر إلى هذا اليوم، وأنا أرسل إليكم عبادي الأنبياء كل يوم بلا انقطاع". رج رؤ 18: 24: "شوهد دم الأنبياء القديسين".
"منذ إنشاء العالم" (لا نجدها في السبعينيّة). ترد هذه العبارة مراراً في العهد الجديد: مت 13: 35؛ 25: 34؛ يو 17: 24؛ أف 1: 4؛ عب 4: 3؛ 9: 26؛ 1 بط 1: 20؛ رؤ 13: 8؛ 17: 8. هناك دين على هذا "الجيل" (تك 9: 5؛ 42: 22؛ 2 صم 4: 11؛ مز 9: 13؛ حز 3: 18، 20)، وهكذا يُنتقم لدم الأنبياء. أجل سيؤدي هذا الجيل (الشرير، الملتوي، الذي لم يؤمن) الحساب. نجد هنا تلميحاً إلى دمار أورشليم. رج 21: 32 (لن يزول هذا الجيل حتى يحدث هذا كلّه).
"من دم هابيل". نجد هنا تلميحاً إلى مقتله على يد قايين (تك 4: 8- 10؛ اخنوخ 22: 7). ترك لوقا لفظة "الصديق" التي احتفظ بها مت 23: 35 (هابيل الصديق). لم يكن هابيل نبياً بالمعنى الحصري للكلمة، ولكنه قال كلمة الله حسب التقاليد اليهودية. "إلى دم زكريا". هو زكريا بن يوياداع الذي رجمه الشعب (لأنه كلّمه باسم الرب) "بأمر من الملك يوآش في دار الهيكل" (2 أخ 24: 20- 22). لم يُعتبر نبياً، شأنه شأن هابيل. نحن أمام حقبة من الزمن تبدأ ببداية التوراة (العبرية) وتنتهي بنهايتها (سفر الأخبار الثاني هو آخر أسفار التوراة العبرية، كما أن سفر التكوين هو أؤلها): في البداية قتل هابيل وفي النهاية زكريا، فضمّا معهما كل الأنبياء.
عرف المعين "دم زكريا" (متّى، لوقا). ولكن مت 23: 35 زاد "ابن براخيا"، فصار زكريا "المقتول" نبياً (زك 1: 1). ولكن لا شيء في التوراة يشير إلى مقتل النبي زكريا "بين الهيكل والمذبح". وإن وُجدت عبارة "إبن برخيا" في المعين، فقد يكون لوقا تركها تجنّبا للإلتباس.
ويأتي "الويل" الأخير في آ 52: أخذتم مفاتيح المعرفة. أخذتم المفاتيح التي توصل إلى المعرفة. يتحدّث الشكل المتاوي لهذا القول (23: 13) عن الكتبة والفريسيين الذين أغلقوا "ملكوت السماوات" (قد يكون هذا نصّ المعين). لم يشر قول لوقا إلى الملكوت، وإن فسّر النصّ كذلك. فعبارة لوقا التي تتحدّث أيضاً عن شعب ينتظر الدخول، تبدو وكأنها تلمّح إلى بيت الحكمة (أم 9: 1). هذا يدلّ على الحكمة في المعنى الواسع مع الإشارة إلى مخطط الله الخلاصي.
4- وخرج يسوع (آ 53- 54)
كان يسوع قد دخل إلى بيت الفريسي (آ 37 ج). وها هو يخرج. هي المرة الوحيدة التي فيها نتحدّث عن تحرّك يسوع بهذا الشكل في خبر الصعود إلى أورشليم. خرج، وهذا يعني أنّ آخرين تبعوه.
نقرأ في المخطوط البازي حول آ 53- 54: "حين كان يقول لهم هذه الأشياء، بدأ الفريسيون وعلماء الشريعة يردّون عليه بعنف ويجادلونه بحضور كل الشعب عن أمور كئيرة، طالبين مناسبة يمسكونه بها لكي يتّهموه".

ج- تفسير النصّ
تابع لوقا خبر الصعود إلى أورشليم، فأورد بعض أقوال يسوع ضدّ الفريسيين وعلماء الشريعة (أي: الكتبة). وجدنا هنا ستة "تويّلات" (قال: الويل) موجّهة إلى مجموعتين في توازٍ تام كما في 6: 26 حيث تأتي التويّلات بعد التطويبات.
ما هو المرجع الذي عاد إليه لوقا ومت 23؟ هذا ما لا نستطيع أن نحدّده بدقّة. ولكننا نحسّ بتشابه عظيم بين هذين المقطعين (لو 11: 37- 54؛ مت 23: 1 ي) على مستوى المضمون والمواضيع والكلمات. إلاّ أنه تبقى اختلافات على مستوى ترتيب المواضيع والعبارات الخاصة. عاد متّى إلى المعين (هو مرجع خاص غرف منه متّى ولوقا)، كما عاد إلى مر 12: 38- 39.

1- النصّ من الوجهة النقدية
أولاً: نلاحظ بعض السمات في شكل هذه الأقوال لدى لوقا
1- إن لوقا نفسه هو الذي دوّن المقدّمة (آ 37- 38. الفريسي يدعو يسوع. هذا لا يعقل عند متّى ومرقس) وصلة الوصل بين الفريسيين وعلماء الشريعة (آ 45). فإن آ 37- 38 هما مقدّمة مجموعة الأقوال كلها، بل أيضاً مقدّمة الكلام حول الكأس والطبق (آ 39- 40) ومقدّمة الويلات ضد الفريسيين (آ 42- 44). دوّن لوقا آ 37 على مثال 7: 16 (دعاه أحد الفريسيين). إن آ 38 مع الإشارة إلى تهامل يسوع في غسل يديه، تعود إلى مر 7: 2. وترك اسلوب لوقا آثاره في آ 39 مع استعمال كلمة "الرب" و"قال له". بالإضافة إلى هذا، يرتبط القول الأول (حول غسل الأطباق) بشكل متراخٍ مع تهامل يسوع في غسل يديه.
2- إن أقوال يسوع في متى (23: 1 ي) تتوجّه مباشرة وبشكل متواصل ضدّ الكتبة والفريسيين (الويل 7 مرات، عدد الكمال، آ 2، 13، 15، 23، 25، 27، 29). أما لوقا فقد جعل من المواد التي "ورثها" سلسلتين تتألف كل منهما من ثلاثة تويّلات. في آ 42- 44: ضد الفريسيين. في آ 46- 52، ضدّ علماء الشريعة. هذا التوازي (2 × 3) هو عمل لوقا الخاص. وقد ينتج عنه إغفال "الويل" قبل القول الأول (آ 39- 40. الرقم 6 يدلّ على النقص. ترك يسوع الباب مفتوحاً أمام الفريسيين).
3- زاد لوقا آ 41 التي لا تجد ما يوازيها في متّى. ألّفها لوقا ليبرز الصدقة كتعبير عمّا في داخل الإنسان.
4- زاد آ 53- 54 اللتين تشكّلان مع آ 37- 38 الإطار الإخباري لأقوال يسوع هذه.
ثانياً: ونلاحظ ميزتين خاصتين بلوقا حين نقابله مع متّى
1- نقابل لو 11: 43 مع مت 23: 6؛ لو 11: 44 مع مت 33: 27؛ لو 11: 47- 48 مع مت 23: 29- 31؛ لو 11: 51 مع مت 23: 35- 36، ونلاحظ أن لوقا أوجز بعض الأمور.
2- أزال لوقا كل ما لا يقدّره أو لا يفهمه قارئ إنجيله المسيحي الآتي من العالم الوثني. مثلاً، ترك السذاب والشّبث، ووضع البقول (التي تؤكل) (آ 42). ترك في مت 23: 23 "أثقل ما في الناموس". وترك في مت 23: 8: "أن يدعوهم الناس رابي". وفي مت 23: 27: "القبور المكلّسة". وفي مت 23: 34: "تجلدون في مجامعكم". وفي مت 23: 35: "إبن برخيا". وفي مت 23: 13: "ملكوت السماوات".
3- أدخل لوقا "حكمة الله" (آ 49، حيث جعل متّى الموازي الكلمات على شفتي يسوع) وهو موضوع قريب من عالم الحكمة في 11: 35 (رج 7: 35). وأضاف "مفتاح المعرفة" (آ 52) فكان الإنجيلي الوحيد الذي يتحدّث عن المعرفة (غنوسيس، رج 1: 77).
4- بدّل لوقا ترتيب التويّلات. فما في متّى يقابل في لوقا آ 43، 46، 52، 42 (39)، 44، 47.
5- ضمّت آ 49- 51 إلى آ 46- 48 في المعين، وإن كنّا نفضّل أن ننسب "حكمة الله" إلى قلم لوقا.
6- نقابل آ 53- 54 مع خاتمات مشابهة في 6: 11؛ 19: 47؛ 20: 19؛ 22: 2 التي تجد ما يقابلها في مرقس. ولكنها تدلّ على تنامي العداء ضدّ رسالة يسوع.
7- إن آ 43 تتكرّر في 20: 46 الذي يعود إلى مر 12: 38- 39. بالإضافة إلى ذلك، نجد في آ 39- 40 الرقم 89 في إنجيل توما: "قال يسوع: لماذا تغسلون خارج الكأس؟ ألا تفهمون أن الذي صنع الباطن هو الذي صنع الظاهر"؟ قد يبدو هذا الشكل أولانياً. ولكنه في الواقع تبسيط لقول سابق مع التشديد على الوحدة الإلهية. ونجد أيضاً آ 52 في الرقم 39 أ من إنجيل توما. "قال يسوع: أخذ الفريسيون والكتبة مفاتيح المعرفة. أخفوها، فما دخلوا ولم يسمحوا للذين رغبوا في الدخول". وزيد على إنجيل توما مت 10: 16 ب (كونوا حكماء كالحيّات وودعاء كالحمام). نحن هنا أمام توسّع في النصوص القانونية.

2- النصّ من الوجهة الإخبارية
يتكوّن النصّ من إطار إخباري ألّفه لوقا (آ 37- 38، 53- 54)، ثم من مقدّمة إخبارية ثانوية (آ 45) وأقوال يسوع. هذه قد رتّبها بولتمان بين أقوال حول الشريعة (آ 39، 41، 42) وأقوال تدلّ على التهديد (آ 43- 44، 46- 48، 49- 51). إن التويّلات الستة هي في آ 42- 44، 46، 47، 52. وهذا يعني أن آ 42 تخصّ أقوال التهديد. وتعتبر آ 49 في السياق اللوقاوي كقول حكمة.
في هذا الجزء من خبر الصعود إلى أورشليم، يصوّر لوقا يسوع في جدال مع الوجوه الدينية في فلسطين. هل يُعقل أن يكون يسوع قال هذه الأقوال ضدّ الوجهاء، خصوصاً خلال غداء دُعي إليه؟ فالاختلاف بين السياق اللوقاوي والسياق المتاوي يكشف عن عمل ثانٍ في تجميع هذه الأقوال في وحدة متكاملة. قبلَ يسوع الدعوة إلى الغداء، ولكنه أهمل عادة غسل (الأيدي) قبل الطعام. فهذا ما يعتبره مضيفه مهماً جداً.
وهذه الصدمة لدى المضيف جعلت يسوع يقدّم ملاحظة حول النقاوة (لا نقاوة الذات أو الأيدي)، بل حول طقوس تطهير الآنية المنزلية. لا تكفي النقاوة الخارجية، فهي سطحية. فعلى الإنسان أن ينقّي داخل الكأس أو الصحفة أيضاً. إنّ داخل هذه الآنية هو رمز إلى داخل الكائن البشري الذي هو مملوء شرّاً وخطفاً. وأوصى يسوع الإنسان بأن ينظر إلى صانع الأواني: هو صنع الظاهر وهو الذي صنع الباطن. إن الإشارة إلى "الصانع" تعطي القول بعداً لم يغب عن القارئ. الصانع هو الله نفسه الذي سمّاه لوقا في أمكنة أخرى: "العالم بالقلوب" (أع 1: 24؛ 15: 8؛ لو 16: 15؛ رج 1 صم 16: 7؛ أم 24: 12). إنه يعرف الشرّ الذي فينا. وزاد لوقا نصيحة على هذا الكلام: إجعل مضمون الكأس والصحفة صدقة للفقراء، فتصبح النقاوة تامة بأي حال. فالخطف والشرّ لا يغسلان حياة الإنسان، بل يصل به وضعُه إلى الحصول أمام الله على نقاوة يكمّلها الغسل الطقسي. حينئذ يصبح كل شيء نقياً. فالإهتمام والقواعد السطحية قد تفتح الطريق أمام نقاوة في الداخل.
وجهت ثلاثة تويّلات إلى الفريسيين، معاصري يسوع، الذين عاشوا حسب القواعد الموجودة في شريعة موسى وكما فسّرها الكتبة تفسيراً دقيقاً. الويل الأول (آ 42) يعارض بين اهتمامهم بالتفاصيل وبناء العوائق حول الشريعة مع إهمالهم لما هو مهمّ حقاً: يعشّرون البقول وينسون العدل ومحبّة الله. لا يلغي يسوع العشور بل يقول: إعملوا هذه ولا تهملوا تلك. وجاء كلامه عن العدل ومحبّة الله صدى لما في مي 6: 8: "إصنع العدل، أحبّ الرحمة، وسر بتواضع أمام إلهك".
الويل الثاني (آ 43) يلوم الفريسيين لأنهم يضخّمون ذواتهم. هم يمارسون الشريعة بوقائعها، فرضوا عن نفوسهم، وأرادوا أن يمجّدهم الناس. والويل الثالث (آ 45) ينتقد الفريسيين لأنهم لم يفهموا أنهم غير ما يبدون. والشعب لا يفهم هذا الشرّ الموجود في الفريسيين والذي يعرّض الناس للنجاسة: إنهم كالقبور المليئة بعظام الموتى. يبدون قدّيسين، ولكنهم يخيّبون آمال الناس.
ويتبع هذا الكلام ثلاثة تويّلات تتوجّه إلى علماء الشريعة، وهي تتّصل بالشريعة والأنبياء والحكمة. فبعد سؤال من "عالم" من العلماء، وجّه يسوع الويل الأول ضدّ "علماء الناموس"، فكان صدى للويل الأول الذي وجّه إلى الفريسيين: إن هؤلاء "العلماء" يفسّرون شريعة موسى وتقاليد الآباء (مر 7: 5؛ رج غل 1: 14) تفسيراً دقيقاً يخلق عدداً من الفرائض تثقل على كاهل الشعب. لا تعني كلمة يسوع فقط أنهم يفرضون الاحمال على الآخرين، بل هم لا يريدون أن يحرّكوها. وهذا ما يجعل خدمة الله حملاً ثقيلاً.
ولا ينتهي عمل العالم بالشريعة حين يقول للضعفاء إنهم خطئوا وعليهم أن يتوبوا، بل عليه أن يحرّك اصبعه ليخفّف حملهم، ويجعلهم يفهمون أن شريعة الله هي تعبير عن حبّه لشعبه. ولكن علماء الشريعة لم يفعلوا شيئاً من هذا. والويل الثاني (آ 47- 48 مع الأقوال في آ 49- 51) يتوجّه إلى الفريسيين أكثر منه إلى علماء الشريعة. هو ينتقدهم لأنهم شيّدوا قبوراً ضخمة إكراماً لذكر الأنبياء الذين قتلهم آباؤهم. إن مشاركتهم في جريمة آبائهم تعكس ردة فعلهم تجاه يسوع، آخر "الأنبياء والمرسلين". فقد رفضوا أن يسمعوا له وأن يعرفوه. وهذا يتضمّن أيضاً أن آخر الأنبياء سيكون له ذات المصير الذي لقيه الأنبياء.
ولكن لا شيء يقاوم حكمة الله، وكلمة يسوع اتخذت منحى خطيراً: إن لم يقطع هذا الجيل كل رباط مع الماضي، فسيؤدّي جواباً على كل ظلم صُنع تجاه الذين اختارهم الله، من هابيل إلى زكريا، منذ البداية إلى النهاية. والويل الثالث ضدّ علماء الشريعة (آ 52) يكشف الوضع المحزن لهؤلاء الناس المتعلّمين: أعطي لهم مفتاح المعرفة، ليكشفوا معرفة الله وإرادته في التوراة والتقليد. أعطي لهم مفتاح البيت الذي بنته الحكمة (أم 9: 1). لم يدخلوا هم هذا البيت، ومنعوا الآخرين من الدخول. لهذا سيُعاقبون على إهمالهم.
في الآيات الإخبارية في النهاية (آ 53- 54) صار علماء الشريعة "الكتبة". وأشار النصّ إلى معارضتهم ليسوع بسبب أقواله عليهم وعلى الفريسيين.
إن أقواله المهدّدة ضدّ القوّاد الدينيين لدى اليهود صار مع الوقت تحذيراً ضدّ مدينة أورشليم وسكانها (13: 1- 9؛ 13: 34- 35؛ 19: 41- 44؛ 23: 28- 31).

خاتمة
من "الخارج" إلى "الداخل"، من "الطاهر" إلى "النجس". هنا نحسّ أننا أمام خبرة بطرس قبل أن يذهب إلى بيت كورنيليوس: "كل حياتي لم يدخل في فمي نجس أو دنس" (أع 11: 8). فجاء جواب الربّ واضحاً: الله صنع الظاهر والباطن. كل شيء هو عمله، إذن كل مخلوق هو طاهر (أع 10: 15؛ رج مر 7: 19 ب). وفهم بطرس أنه لا يحقّ له أن يدعو "إنساناً نجساً أو دنسأ" (أع 10: 28). إذا كان الأمر هكذا، وجب علينا أن نرفض عالماً يجعل الحواجز على مستوى العلاقات البشرية.
كان اتّهام يسوع عنيفاً ضدّ الفريسيين وعلماء الشريعة. إنهم يقتلون كل الذين يحيا فيهم روح يسوع، يتكلّم فيهم روح يسوع. لم يكتشفوا كرازة التطويبات ولا إيمان قائد المئة، ولا محبة الخاطئة التي جاءت إلى بيت سمعان. أزالوا مفتاح المعرفة فجعلوا نفوسهم خارج الملكوت. قتلوا الأنبياء. قتلوا يسوع نفسه. واضطهدوا الرسل، شهود الكلمة. وهكذا اغلقوا باب الملكوت عمّن يريد أن يدخله.
شدّد الفريسيون على الطاهر والنجس، فلم يفهموا ما فعله السامري مع الجريح في الطريق. وشدّد علماء الشريعة على تفاصيل الحياة، فلم يفهموا موقف مريم الجالسة عند قدَمَيْ المعلّم تسمع له. كلّهم يهدمون الرسالة في أساسها لأنهم رفضوا التعرّف إلى روح يسوع

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM