الفصل الرابع عشر: آية يونان

الفصل الرابع عشر

آية يونان
11: 29- 32

لقد جاء الملكوت في كلمة الله. قال يسوع: طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويحفظونها. ليس المهمّ أن نكون قريبين بالجسد من يسوع. المهمّ هو أن "نحبل" (مثل مريم) بالكلمة، ونحملها في قلبنا ونصبح شاهدين لها. وهنا ننتقل من يسوع النبي إلى يسوع كلمة الله المزروعة في العالم مثل حبّة من الحنطة. ولكن هل يؤمن اليهود بهذه الكلمة؟ إنهم دوماً يطلبون آية تبيّن صدق رسالة يسوع، وينسون أن يسوع هو الرسالة. أن حياته وموته وقيامته هي الآية العظمى التي عرف بها معاصروه.
نتوقّف على ما سمى الإنجيل آية يونان من خلال محطّات ثلاث: على المستوى الروحي، على المستوى التفصيلي، على المستوى النقدي. إضاءات ثلاث على حدث واحد.

أ- على المستوى الروحي
نتساءل أولاً من هو هذا الجيل الذي يتوجّه إليه يسوع، ولماذا يوبّخه لأنه يطلب آية. "الجيل" يدلّ على معاصري يسوع حين كان عائشاً على الأرض، فرأوا معجزاته وسمعوا كلامه. ويدلّ على كل الذين صار يسوع معاصرهم بواسطة قيامته وعطية الروح القدس. هناك تاريخ البشر، وهناك التاريخ الذي يقوده الآب في يسوع بقدرة الروح القدس. أما طلب الآية (آ 29؛ روج آ 16)، فيجب أن نرى إذا كانت في الخط الذي يسير فيه يسوع تمشياً مع إرادة الله (آ 9: سلوا تعطوا، أطلبوا تجدوا). هذا الطلب، كما قلنا سابقاً (آ 13: يعطي الروح القدس) يعني في النهاية الروح القدس. فمن طلب آية غير آية يسوع نفسه "الذي مُسح بالروح القدس والقدرة" (أع 10: 38)، الذي يسير إلى أورشليم في خروج يختطفه إلى الآب، يكون وكأنه يرفض الروح القدس.
في الواقع، إن آية (سامايون. ترد الكلمة ثلاث مرات) مجيء الملكوت هي آيتان. أولاً، آية الكلمة المطلقة المؤسسة على سرّ موت يسوع وقيامته. هي "إعلان" جديد، و"حكمة" جديدة مفتوحة على كل إنسان: على ملكة التيمن، على أهل نينوى. ثانياً، آية نور القائم من الموت. فهذا النور لا يستطيع أن يمرّ في اللامؤمن (عمل الحرية البشرية). ولكن الذين يسمعون الكلمة ويحفظونها، يستطيعون أن يشعّوها، بعد أن تركوها تجدّدهم من الأعماق.
في مت 12: 39- 40، فسّر يسوع آية يونان على أنها "دفنة" ابن الإنسان في الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. في مر 8: 11- 12، ما أراد يسوع أن يعطي آية سوى شخصه الحاضر في العطاء الافخارستي. أما لوقا فربط آية يونان باعلان الكلمة: بكرازة يونان، ارتدّ أهل نينوى. وبحكمة سليمان سُحرت ملكة الجنوب.
قدّم يسوع لمهاجميه الذين يتهمونه بأنه يطرد الشياطين ببعل زبول، جواباً جعلهم يسكتون. وها هو الآن يقدّم جواباً ثانياً للذين يطلبون منه آية، هي آية يونان. الشهود عديدون. "إحتشدت الجموع". وهي ستسمع يسوع يردّ الآن على الذين يطلبون منه آية ساطعة تؤكّد أنه مرسل حقيقي (آ 16). ستسمعه يوجّه "إلى هذا الجيل" كلاماً قاسياً. حين يتحدّث الكتاب عن الجيل فهو يشدّد على لا إيمانه. نقرأ في تث 1: 32: "وكأنكم في هذا الأمر لا تؤمنون بالرب إلهكم الذي سار أمامكم".
أجل، ان الله رفض أن يعطي هذا الجيل آية إلا آية يونان.
سفر يونان هو خبر تقوي، يبدأ فيه "البطل" برفض: لا يريد أن يسمع لله الذي يرسله في مهمة... وبعد ذلك، دُفع يونان مكرهاً فذهب ليكرز التوبة لنينوى. إختلف لوقا عن مت 12: 40، فلم تُشر آية يونان إلى إقامة في بطن الحوت. إذن، لم يُشر لوقا هنا إلى قيامة ابن الإنسان من الموت في صباح القيامة. ففي الشرح الذي أعطاه يسوع (آ 30)، هذه الآية هي فقط نداء إلى التوبة أطلقه يونان إلى أهل نينوى (شعب وثني عُرف بالظلم والقساوة). فكان له نجاح تام: فالملك، والناس جميعاً بل البهائم تابوا: صاموا، جعلوا المسح على أجسادهم.
وكذا نقول عن هذا الجيل: لن يكون له آية إلا ابن الإنسان وكرازته. الآية الوحيدة هي نداء إلى التوبة والعودة إلى الربّ. هل يعني هذا أن المسيح كان بخيلاً فلم يعط آيات؟ ولكن مثل لعازر والغني يدلّ على أن من لا يتوب حين يسمع كلمة الله لن يتوب حتى ولو رأى مائتاً يقوم (لعازر)، حتى لو رأى يسوع نفسه قائماً من الموت (آ 1: 31).
وهذا تدلّ عليه مقابلتان: عرف يسوع أنه لا يكون لكرازته فاعلية كما كان لكرازة يونان. وها هو يسوع يعود إلى مثلين (آ 31- 32). عاد أولاً إلى 1 مل 10- 13: لم تؤمن ملكة سبأ بما سمعته عن حكمة الملك (سليمان) إبن داود. فجاءت تمتحنه بأحاجيها. هذا الموقف الأول هو موقف الذين يطلبون آية من يسوع (آ 16). غير أن ملكة سبأ اعترفت حالاً بأن سليمان يتجاوز بحكمته كل ما سمعت عنه. لهذا ستقوم في الدينونة الأخيرة. أما بنو اسرائيل الذين رفضوا أن يسمعوا كلمات يسوع فسيحكم الله عليهم، فيقابل رفضُهم تعرّفاً إلى هذه الحكمة الآتية من السماء في يسوع، مع اهتمام ملكة سبأ بأن تتعرف إلى حكمة بشرية رأتها في سليمان.
ونقول الشيء عينه عن موقف أهل نينوى الإيجابي. فهم يحكمون على معاصري يسوع. ونلاحظ إشارتين في كل هذا: واحدة توجّه أنظارنا إلى شمولية الخلاص: لقد كان الوثنيون أفضل من اسرائيل تجاه الدعوة إلى التوبة (7: 9: لم أجد حتى في اسرائيل مثل هذا الإيمان؛ رج أع 13: 44- 52؛ 28: 32- 29). ظن بنو اسرائيل أنهم هم الذين يحكمون على الوثنيين، ولكن انقلب الوضع. لأن الوثنيين هم الذين سيحكمون على بني إسرائيل في الدينونة الأخيرة. والإشارة الثانية ترد في خطّ الكرستولوجيا التي يعبّر عنها النصّ مع صيغة التفضيل: إن مجيء الملكوت وحدث يسوع هما أعظم من سليمان ومن يونان. يسوع هو اعظم من نبي، هو أعظم من أحكم ملك في اسرائيل.

ب- على المستوى التفصيلي
ونعود الآن إلى آ 29- 32 لنقرأ تفاصيلها.
1- واحتشدت الجموع (آ 29)
"الجموع" هي تلك المذكورة في آ 14. تعجّبت حين رأت يسوع قد أخرج الشيطان من الأخرس. هذه الجموع لم تأتِ فقط من العالم اليهودي، بل من العالم الوثني أيضاً. جاءت من اليهودية وأورشليم وجاءت أيضاً من صور وصيدا (3: 7). في متّى، سيكون الاطار خاصاً: "أجابه قوم من الكتبة والفريسيين".
إجتمعت هذه الجموع حوله، كانت تزحمه. فأخذ يقول (رج 3: 8). قد تكون آ 16 هي المدخل الحقيقي لهذا الحدث: "وأخذ غيرهم يطلبون آية". هكذا نكون أمام فئتين. فئة أولى تهاجم يسوع لأنه يطرد الشياطين، وفئة أخرى تطلب آية. لقد تنوّعت الحرب على يسوع. ولكن لوقا يعطي لهذا النصّ (آ 29- 32) مقدّمة أخرى.
"هذا الجيل". هنا نتذكّر 7: 31: "بمن أشبّه هذا الجيل"؟ و9: 41: "أيها الجيل الغير المؤمن والفاسد". هم الجموع، والتلاميذ بشكل خاص الذين لم يستطيعوا شيئاً من أجل هذا الولد المصروع: رج مر 8: 12؛ مت 12: 39: جيل شرير، جيل زنى (والزنى في العهد القديم يدلّ على خيانة الله)؛ مت 16: 4.
"جيل شرير". نجد ما يقابله في عالم قمران (المغارة الأولى): جيل الاثم. سُمّي كذلك لأنه يطلب آية. وكأنه لم يُعطَ بعد آية. نحسّ أن طلب آية وراء آية، هو امتحان متواصل. فقد يقع "النبي" ولن يستطيع أن يقوم.
"يطلب آية" (رج آ 16). إستُعملت كلمة "سامايون" في يوحنا، لتدلّ على معجزات يسوع وما يرافقها من إيمان. ولكنها لم تُستعمل أبداً في هذا المعنى في الاناجيل الإزائية (مع أن أع 2: 22 يربط بين سامايون وديناميس وتاراس: العجائب، المعجزات، الآيات). تعود "سامايون" إلى ما يُدرك بالحواس فيدلّ على سلطة يسوع أو يبرّر الإيمان به. فمعاصروه الذين لم يقبلوا كرازته، وربطوا طرده للشياطين ببعل زبول (آ 14- 23)، يطلبون منه بالأحرى "آية من السماء". في أع 5: 36، يعود لوقا إلى توداس الذي ادّعى أنه شخص عظيم. أخبرنا يوسيفوس المؤرخّ كيف حاولت هذا الرجل أن يثبت مصداقيته: قاد مجموعة من تابعيه مع جميع ممتلكاتاهم، وهو يعتبر أنه النبي، وأنه سيأمر النهر فينشقّ ويفتح لهم طريقاً. والطلب إلى يسوع قد يُفهم على عكس أرضية فيها مثل هذا الاعتداد. فهناك أساس في العهد القديم يشير إلى آيات تأتي من السماء. قال أشعيا بلسان الرب لأحاز: "أطلب لنفسك آية من عند الرب إلهك" (أش 7: 11). وطلب جدعون من الرب آية تؤكّد أن الله يدعوه حقاً (قض 6: 17). ونتذكّر ما يقول بولس في 1 كور 1: 22: "اليهود يطلبون الآيات، واليونانيون الحكمة".
"لا تُعطى آية". يتوافق النصّ هنا مع عبارة مر 8: 12، في المعنى إن لم يكن في الألفاظ. فعبارة مرقس التي تبدأ بـ "الحقّ أقول لكم"، تتضمّن صيغة عبرية: سوى آية يونان. هذا يعني: لا تنتظروا شيئاً خارقاً.
"سوى آية يونان". عاد يسوع إلى خبر قديم. هناك مخطوطات (الاسكندراني، الأفرامي) تقول: يونان النبي. واخرى (السينائي، الفاتيكاني، بردية 45، بردية 75) تقول فقط: يونان. إعتبر الناشرون أن الناسخ حاول أن ينسّق مع مت 12: 39 (يونان النبي)، لهذا اعتبر النصّ الأصلي: سوى آية يونان.
إن تاريخ تفسير هذا المقطع، قدّم محاولة تفسير "يونان" على أنه يوحنا المعمدان. نجد في الأساس الموازاة بين "سمعان بن يونا" (في مت 16: 17) و"سمعان ابن يوحنا" (في يو 1: 42). إن اختصار "يوحانان" في "يونا" غير معروفة في المراجع العبرية والأرامية المعاصرة. قد يجد هذا المزج اساساً في 2 مل 25: 32؛ 1 أخ 26: 3 حسب السبعينية. ولكن النسخات المسيحية والنصوص الموازية هي المسؤولة عن الأختلافات بين النسخة الأسكندرانية والنسخة الفاتيكانية في قراءة السبعينية.
حسب يرامياس، تعود آية يونان إلى معجزة نجاة يونان من الموت (يون 2). ففي نظر معاصري يونان، هذا الحدث هو المعجزة البارزة في حياة يونان. فالآية تعني المعجزة. ولكن المراجع التي يعود إليها تبقى متشعبة (3 مك 6: 8؛ يوسيفوس في القديميات). ويعود هذا الحدث إلى رأي اليعازر الذي دوّنت أقواله في القرن الثامن ب. م، وهذا يعني أنها تأثرت بالمسيحية.
2- أهل نينوى، ممكلة الجنوب (آ 30- 32)
يذكر لوقا "النينوايين" (لا نجد هذا في مت 12: 40، بسبب تحويرات الإنجيلي). وفي آ 32، نجد "رجال نينوايين" (كما في مت 12: 41). هذا الشكل الأخير يوافق الإستعمال اليوناني المتداول كما عرفه لوقا (أع 1: 11: رجال جليليون؛ 2: 22؛ 3: 12؛ 5: 35؛ 13: 16؛ 21: 28).
"إبن الإنسان". هو يسوع في دوره كمرسل من السماء. إنه يواجه هذا الجيل بكرازته وحكمته (7: 34- 35). في نهاية هذه الآية اللوقاوية، أقحم المخطوط البازي وبعض مخطوطات اللاتينية العتيقة الإضافة المتاوية في 12: 40 (في قلب الأرض). أجل، سيكون ابن الإنسان "آية" في كرازته. وقال بولتمان: كما أن يونان جاء إلى أهل نينوى من البعيد، كذلك جاء ابن الإنسان إلى هذا الجيل من السماء. وهذا يعني أن الآية المطلوبة من أجل كرازة يسوع هي ابن الإنسان نفسه حين يأتي إلى الحكم.
"يوم الدين". يوم الجزاء الإلهي (10: 14). هذا الكلام لا يشير فقط إلى القيامة، بل إلى المجيء الثاني.
"ملكة الجنوب، ملكة التيمن". هي ملكة سبأ التي عرفت في 1 مل "1: 1- 29؛ 2 أخ 9: 1-12. هي ملكة شعب سامي عاش شمالي غربي عرابية، بالقرب من تيماء (رج تك 10: 28؛ أي 6: 19). ذُكرت الحبشة مع سبأ في أش 43: 3، وهذا ما جعل يوسيفودس المؤرّخ يقول إن سبأ هي عاصمة الحبشة والمدينة الملكية. ستصبح سبأ فيما بعد أرض السحر.
"تقوم". هناك معنيان. معنى أول: تقوم من بين الأموات. معنى ثانٍ: تقوم لكي تتّهم هذا الجيل. وكلمة "رجال هذا الجيل" لا تعني الذكور دون الاناث. نقول: "أهل هذا الجيل". وكلمة "أنير" في العهد الجديد لا تعني فقط الرجال والذكور، بل كل إنسان.
"جاءت من أقاصي الأرض". رج السبعينية في مز 2: 8؛ 22: 28؛ 46: 10؛ 59: 14؛ 65: 6. إن صورة الملكة تعكس صورة يونان الذي أمره الرب بأن يذهب إلى الشرق، إلى نينوى البعيدة، فبدأ وذهب إلى الغرب، إلى ترشيش.
"لتسمع حكمة سليمان". يروي العهد القديم أن "ملكة سبأ سمعت بسليمان، فجاءت تمتحنه بأسئلة صعبة". فأجاب سليمان. "على جميع أسئلتها". فرأت ملكة سبأ حكمة سليمان وقالت له: "حكمتك وغناك يفوقان كل ما سمعت" (1 مل 10: 1- 7). "وههنا" في آ 31. وفي آ 32. هذه طريقة السبعينية. "أعظم من سليمان". هنا نتذكّر 7: 35: "والحكمة يبرّرها جميع أولادها". أولاد الحكمة هم الذين تقبّلوا يسوع بالإيمان وتجاوبوا مع قصد الله (7: 30). إنهم حقاً أبناء الله. تحدّث مت 11: 19 عن "أعمال الحكمة" (الحكمة يبرّرها أعمالها). حكمة هذا الجيل قادته إلى أن يرذل يوحنا المعمدان ثم يسوع. أما حكمة الله فوجدت ما يبرّرها في أعمال يوحنا المعمدان ثم أعمال يسوع رغم مقاومة هذا الجيل. أجل، تتبرّر حكمة الله، لا بدينونة هذا الجيل على يسوع، ولكن يدينها أولئك الذين قبلوا يسوع، وبيّنوا أنهم ابناءها. وهكذا ارتبط الموضوع الحكمي بالموضوع النبوي. فابن الإنسان الذي كرز بكلمة الله هو أعظم حكمة من سليمان.
"تابوا بإنذار يوحنا". أصلحوا حياتهم. عرفوا الآية التي قدّمت إليهم، عرفوا النداء إلى التوبة (ميتانويا): اصلاح الأعمال، بل تجديد القلب والعقل.

ج- على المستوى النقدي
بعد التوقّف عند التفاصيل، نلقي نظرة عامة إلى هذا النصّ (11: 29- 32)، فنربطه بمجمل إنجيل لوقا كما بإنجيلي متّى ومرقس.
زاد لوقا الآن على مجموعة أقوال يسوع في هذه النقطة من الصعود إلى أورشليم، عدداً من الجمل هيّأنا لها منذ آ 16، حين زاد على الجدال حول بعل زبول نبذة تتحدّث عن بعض الناس الذين أرادوا أن يمتحنوا يسوع طالبين منه "آية من السماء"، آية من عند الله (السماء هي الله عند اليهود الذين لا يتجرّأون أن يتلفّظوا باسم الله). ظل طلبهم بدون جواب. وها هو لوقا الآن (11: 29- 32) يصوّر يسوع وهو يردّ على هذا الطلب مع قوله حول "آية يونان". هذا الحدث يرتبط مع آ 14- 23 (يسوع وبعل زبول)، وآ 24- 26 (الروح النجس). في الواقع، إن آ 14- 54 ترينا يسوع في جدال مع أناس يطرحون عليه اسئلة.
1- بين متّى ولوقا
إستقى لوقا هذا الحدث من "المعين"، ونحن نجد ما يوازيه عند مت 12: 38- 42، ومواد المعين يوازيها مر 8: 11- 12 الذي تنقصه العودة إلى يونان والقول حول سليمان ومملكة سبأ. إن هذين الشكلين من الأجوبة التي قدّمها يسوع لطالبي "الآية"، يكوّنان مسألة متشعّبة. نجد هنا اربعة أشكال للجواب في التقليد الإنجيلي.
(1) في مر 8: 11- 12، طلب الفريسيون من يسوع "آية من السماء". تنهّد يسوع وقال: "الحق أقول لكم، لا تُعطى آية لهذا الجيل".
(2) ما يوازي هذا النصّ المرقسي نجده في مت 16: 1، 4 الذي يصوّر الفريسيين والصادوقيين يطلبون في الوقت عينه "آية من السماء". هنا قال يسوع: "لن تُعطى آية إلا آية يونان". يُعتبر هذا النصّ المتاوي موازياً لما في مر 8: 11- 12، لأن متّى يتبع الترتيب المرقسي بدقة منذ مت 14: 1 (رج مر 6: 14). إن يسوع المتاوي لا يعد هنا إلاّ بآية مثل مرقس، لأنه لا يُعطي تفسيراً عن "آية يونان". ولم يُعطَ تفسير في مت 16، لأن التفسير قد سبق وأعطي في مت 12. ينتظر القارئ أن يعرف ما هي هذه الآية (يعود القارئ الحديث إلى الحواشي).
(3) صوّر لو 11: 29- 32 يسوع وهو يقول للجموع: لن تعطى آية لهذا الجيل سوى آية يونان. وزاد على هذا الكلام شرحاً (آ 30)، ثم مقابلتين (مملكة الجنوب، يونان، آ 31- 32).
(4) ويقابل هذا الشكل اللوقاوي للقول، مت 12: 38- 42، ما عدا الإشارة بأن الفريسيين هم الذين طلبوا آية من يسوع. وقال يسوع مرة أخرى: لن تعطى آية "سوى آية يونان النبي". وهذا ما يفسّر في آ 40 بالعودة إلى وضع يونان في بطن الحوت "ثلاثة أيام وثلاث ليال". ثم في آ 41- 42 بعودة أخرى إلى يونان، وبعدها إلى ملكة الجنوب. وهكذا نجد التكرار عند متّى (اختلف عن مرقس ولوقا): عاد مرة إلى مرقس (مت 16: 1، 4)، ومرة إلى المعين (مت 12: 38- 42).
إن هذه الأشكال الأربعة لقول يسوع حوله طلب الآية يطرح اسئلة مختلفة.
أولاً: هل نحن أمام قول واحد ليسوع وصل الينا في تقليد مختلف عند مرقس وفي المعين؟ أم نحن أمام جوابين مختلفين أعطاهما يسوع في ظرفين مختلفين؟ في الحالة الأولى، يمثّل الشكل المرقسي نسخة مقتضبة. في الحالة الثانية (التي ليست بمستحيلة)، لا نجد طريقاً أميناً. هذا ماعرضه الآب لاغرانج. وهكذا نكون أمام وضع مماثل مع تقاليد مرقس والمعين حول تجارب يسوع، مع فارق بسيط وهو أن متّى ولوقا دمجا الأشياء في حدث واحد.
ثانياً: نعود إلى الحدث كما في "المعين". إن التعبير اللوقاوي (11: 31- 32) يكاد يشابه حرفياً ما يوازيه في مت 12: 41- 42. إن المقابلة بين مت 12: 38- 39 ولو 11: 29- 30 ليست وثيقة. ولكنها تكفي لكي تحافظ على جذور النصين في المعين. فسبب المشكلة يأتي من مت 12: 40. هل تضمّن المعين العودة إلى وضع يونان في بطن الحوت؟ لو تضمّنها لما كان ألغاها لوقا. ولكن يبدو أن متّى زادها فربط خبر يونان باعتبار سريع حول قيامة يسوع. إن "آية يونان" كمرجع إلى قيامة يسوع، قد تكون من يسوع، وقد تكون نتيجة تأمّل كنيسة متّى. هذه الزيادة جعلت من "آية يونان" في متّى آيتين: واحدة عن القيامة. وأخرى حول المعين (سنعود إليه فيما بعد).
ثالثاً: بما أن قول يسوع عن ملكة الجنوب قد وُجد في متّى ولوقا معاً، فهذا يعني أنه كان في المعين. ولكنه "متطفّل" في خبر حول آية يونان. هل تلفّظ به يسوع في مناسبة أخرى وزيد بسبب توارد المفردات في المعين وفي هذا الموضع بالذات؟ قد يكون ضُمّ إلى القول على آية يونان لثلاثة اسباب. الأول: عودة مشتركة إلى "هذا الجيل". الثاني: تصوير واحد ليسوع على أنه أعظم من سليمان أو من يونان. الثالث: المجيء من البعيد. جاء يونان من البعيد ليكرز. جاءت الملكة من البعيد لتسمع. وهذا ما يطرح سؤالاً آخر حول ترتيب الأقوال المزادة، لأنها تختلف بين متّى ولوقا.
رابعاً: ما هو الترتيب الأصلي للأقوال المزادة في المعين؟ إعتبر عدد من الشرّاح أن لوقا احتفظ بالترتيب الأصلي. أولاً قامت مملكة الجنوب من أجل الدينونة ثم أهل نينوى (11: 31- 32). وهو ترتيب كرونولوجي أيضاً. واقترحوا القول بأن متّى قلب الترتيب الأصلي ليجعل مثل يونان وأهل نينوى قريباً ممّا زاده في آ 40 (ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في بطن الحوت). هذا أمر معقول. ولكن الترتيب المتّاوي (ما عدا آ 40) قد يفسّر تفسيراً أسهل الترتيب الآني. إن "آية يونان" في آ 39، يتبعها في الشكل عينه لو 11: 30 الذي أُلغي في متّى من أجل آ 40، ثم في آ 40، وهذا ما يؤمّن موضعاً لربط آ 42. حينئذ يصبح تحويل لوقا للترتيب مهماً لإبراز كرازة يونان مع نداء الحكمة (لو 7: 35). في هذا المسيرة الطويلة، لا نستطيع أن نقول من حوّل ترتيب المعين في هذه الأقوال.
2- عودة إلى لوقا (11: 29- 32).
إن آ 29أ هي من قلم لوقا. وضعها هنا كاستعادة لما في آ 16. واحتفظ لوقا بالأصل في آ 29 ب ج، 30. إن آ 31- 32 تشبه مت 12: 42 (ما عدا الترتيب). من أصل 55 كلمة (في اليونانية) هناك 53 متشابهة.
قبل أن نفهم مدلول هذا المقطع ومعنى "آية يونان" في النسخة اللوقاوية، لا بدّ من تذكّر عناصر سفر يونان في التوراة. فالفصول الأربعة ليونان مطبوعة بالتوازي. إنّ ف 3- 4 يقابلان ف 1- 2. في القسم الأول، جاءت كلمة الله إلى يونان (في جت حافر، في الجليل)، وطلبت منه أن يصرخ في وجه نينوى (مدينة الأشوريين الكبرى) ويقول لها بأن عليها أن تتوب عن شرّها. أما يونان، فهرب من يافا داخل مركب قاده إلى الجهة المعاكسة (ترشيش، في الغرب). ولكنه عوقب لأنه حاول أن يهرب من وجه الله. رماه البحّارة في الماء، فاصطاده حوت أرسله الله. وقضى يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ (ومن هناك أنشد نشيد شكر). بعد هذا، طرحه الحوت على الشاطئ.
في القسم الثاني، جاءت كلمة الله أيضاً إلى يونان، ترسله مرة ثانية إلى نينوى. ذهب إلى هناك وكرز. فلبس أهل نينوى المسح، وصاموا، وتابوا عن شرّهم، من الملك إلى الأطفال، بل إلى البهائم. حينئذ ندم الرب. وإذ رأى النبي الجليلي حنان الله، تألّم من خلاص المدينة الشريرة. إعتزل إلى الشرق لكي يرى ما يحدث بالمدينة. وإذ أراد يونان أن يحمي نفسه من الشمس والحرّ، بنى لنفسه كوخاً، وأكمله الله حين انبت له يقطينة، فجعلت النبي سعيداً. وفي الغد، يبست النبتة فخسر يونان "مظلته" من الشمس والحرّ. واستاء يونان من جديد، واستاء حتى طلب الموت لنفسه. فكلّمه الربّ: هل انت جعلت اليقطينة تكبر؟ هل أنت تشفق عليها الآن؟ أما يجب أن اشفق على نينوى مع سكانها (1.200.000) الذين تابوا بسبب كرازتك؟ وهكذا حدّثنا هذا الخبر المعروف في العهد القديم عن اهتمام الله بخلاص يشمل جميع البشر.
نلاحظ التعارض بين النبي اليهودي الغاضب والمعاند، وبين طاعة الملاحين، وتوبة أهل نينوى (حتى الحيوان)، وخضوع الحوت واليقطينة. كانت إقامة يونان في الحوت بشكل عقاب لنبي خلّصه الله من أجل مخطّطه. لم تكن هذه الإقامة علامة لمعاصري يونان. لا شيء في الخبر يوحي إلى انه عاد إلى هذا الحدث ليعظ أهل نينوى. هم لم يعرفوا شيئاً عن خلاص يونان العجيب.
لمحّ يسوع في لوقا إلى هذا الخبر، وردّ على طلب الجموع حول آية من السماء. ظهر الطلب في آ 16 لدى الذين أرادوا أن يمتحنوه. بحثوا عنده عن اكثر مما حاول أن يبيّن لهم في عجائبه. أرادوا ظهوراً ساطعاً على مثال ما طلب الشيطان في التجربة الثانية (4: 9- 11)، ظهوراً يدلّ على مصداقيته. فكان جواب يسوع: "لا تُعطى آية سوى آية يونان" (آ 29 ج). وفسّر هذا في آ 30: "كما كان يونان آية لأهل نينوى، كذلك يكون ابن الإنسان آية لهذا الجيل".
في أي معنى كان يونان آية لأهل نينوى؟ يعتبر عدد من الشرّاح أن الآية هي شخص يونان، كما نجا من الحوت. هذا ما نجده عند مت 12: 40 كما في المعين وكما استعمله لوقا. فإنّ لو 16: 21 الذي يُشير إلى شخص قام من بين الأموات، لا يفرض علينا أن نفكّر أن عودة لوقا إلى يسوع كابن الإنسان يدلّ على ذلك. بل هو يدلّ على شخص يونان كما ظهر لأهل نينوى. وهذا ما نجده في آ 30 بمعزل عن آ 31- 32. وحين ضمّت هاتان الآيتان، دلّ النصّ على شخص يونان وكرزاته اللذين دفعا أهل نينوى إلى إصلاح حياتهم. هذا هو معنى "آية يونان" في مجمل سياق لوقا. هذا هو المعنى في متّى أيضاً الذي زاد معنى آخر وهو الإشارة إلى القيامة بتلميح إلى إقامة يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ.
من هنا، نلاحظ في هذا المقطع اللوقاوي ما يلي: كما أن يونان كان نبياً أرسل من بعيد ليكرز أهل نينوى بالتقوى، هكذا ظهر يسوع أيضاً لهذا الجيل. واللقب الذي أعطي له (ابن الإنسان) لا يعود بنا إلى قيامته ولا إلى عودته، بل إلى رسالته على الأرض. لقد جاء من بعيد، أرسل نبياً مثل يونان من السماء ولكنه أعظم من يونان،. وكرازته هي الآية الوحيدة التي تعطى لهذا الجيل. وهذه الآية قد أعطيت، وقد سجّلت ردّة الفعل عليها في 7: 31- 34. فردة الفعل هذه تشير إلى إنذار حاضر: فالننيوايين الذين تنبّهوا إلى كرازة يونان، قد أصلحوا حياتهم. وهم سيقومون ويدلّون بإصبعهم متّهمين هذا الجيل الشرير في يوم الدين.
وحين وضع لوقا القول حول مملكة الجنوب قبل القول حول النينوايين، ربط هذا الإنذار بموضوع الحكمة. لم يتنبّه أهل هذا الجيل إلى كرازة يونان، فلم يستطيعوا أن يتعرّفوا إلى الحكمة التي جاءت من السماء لكي تعظهم. لهذا السبب، ستقوم ملكة الجنوب (التي جاءت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان) ستقوم هي أيضاً في يوم الدين، فتدلّ على أولئك الذين تحدّوا يسوع مع أن هنا "أعظم من سليمان".
جاء هذا الحدث بشكل مباشر بعد قول يسوع حول المبارَكين الحقيقيين (من يسمع كلمة الله ويعمل بها، آ 28)، فجعل كرازة يسوع وحكمته على أنها "كلمة الله". بالإضافة إلى ذلك، فإن الشخصين (سليمان ويونان) اللذين وجّها تعليمهما إلى الوثنيين (الملكة، أهل نينوى) نحجا في مهمّتهما. وهكذا حكموا على هذا الجيل. لا يجب أن ننسى ما أشار إليه لوقا من خلاص يصل إلى جميع البشر، بمن فيهم الوثنيون.
في أي معنى نفهم أنّ يسوع هو أعظم من سليمان ومن يونان؟ واحد كان ملكاً، والآخر كان نبياً. هذان اللقبان أعطاهما لوقا ليسوع. ولكن يسوع قد أشير إليه كجالس على عرش داود (1: 32) وابن الله (1: 35؛ رج 3: 23؛ 8: 28؛ 9: 35؛ 22: 7). وقارئ لوقا الذي يتذكّر هذه الألقاب يتحقّق من "عظمة" ابن الإنسان الذي يكرز اليوم على هذا الجيل، كنبي ارسل من بعيد، فجاء من السماء.
ومرة أخر، لا نستطيع أن نهمل العودة الاسكاتولوجية إلى "يوم الدين". فاستعمال لوق للمعين، لم يخفّف من قوة هذا التحذير الذي يحاول أن يقدّمه لنا. ولكن لن يقال لنا شيء عن اقتراب هذه الدينونة.
خاتمة
إن هذا الخبر يحمل تعليماً إلى المسيحيين في كل جيل. تركوا التعليم الرئيسي لذاك "الواعظ" الذي جاء من بعيد، وانتظروا بالأحرى "آية من السماء" تطمئنهم. هذا التعلّق بمظاهر الوحي عند الناس، يدلّ على أن موقف "أهل هذا الجيل" ما زال حاضراً في وجودنا المسيحي اليوم

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM