الفصل الثالث عشر : تقبل كلمة الله

الفصل الثالث عشر

تقبل كلمة الله
11: 27- 28

أ- السياق
هاتان الآيتان الخاصتان بالإنجيل الثالث، تتبعان حالاً حدث جدال بين يسوع وخصومه. طردَ يسوع شيطاناً من إنسان فتعجّبت الجموع. أما الخصوم فاعتبروا نفوسهم أنهم أمام تدخّل بعل زبول، رئيس الشياطين. فقدّم لهم يسوع جواباً موسّعاً: كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب. وطرد الشياطين يدلّ بالأحرى على تدخّل الله ومجيء الملكوت. ولكن يجب أن ننتبه، فقد يعود الروح النجس أقوى ممّا كان.
وبعد هذا تأتي المقطوعة التي ندرس والتي جعلناها في خاتمة الفصل السابق. رأى فيها الإنجيلي مثلاً طيّباً عن سموّ تعليم المسيح وإشارة واضحة تدلّ على يسوع باني الملكوت.

ب- الفن الأدبي
إن هذه المقطوعة، وإن قصيرة، تشكّل نموذجاً لفنّ أدبي متواتر في الأناجيل الإزائية (5: 1- 11 وز؛ 5: 29- 32 وز؛ 6: 1- 5 وز...). هناك قول تفوّه به الرب فذكره التلاميذ. وهو يقدّم في إطار خبر موجز أو مرسوم رسماً سريعاً. يُوضع القول عادة في نهاية المقطوعة فيكون بارزاً ويشكّل ذروة المقطوعة. ويكون الخبر في خدمة القول ويشكّل له إطاراً. يكون الخبر مناسبة لإيصال كلمة يسوع الى القارئ. كل هذا يشكّل وحدة كاملة لها معناها الكامل، ويقدّم درساً له قيمته في ذاته. قد تكون هذه الوحدة الصغيرة وُجدت في البداية منعزلة ثم انتقلت في التقليد الشفهي السابق للإنجيل، إنتقلت إنتقالاً مستقلاً ولم يربطها أي شيء بالسياق الحالي.
"وحصل، وكان...". إذ كان يسوع يقوله هذا (إذ كان يتكلّم هكذا). (واحد) رفع صوته (فتح فمه وبادر إلى الكلام) قال... ولكن (يسوع) أجاب... هذه العبارات في المقدّمة أو في الرباطات المقولبة تتكيّف مع سياقات مختلفة.
ان المديح الذي تلفّظت به امرأة إكراماً لأم يسوع يتوافق مع أمور أخرى أشار اليها لوقا. ولكن جوهر الخبر هو في ما بعد المديح.
أمّا قمّة المقطوعة فهي قول المعلّم الذي يعلن بصورة واضحة جداً تطويبة سامية. طوبى... بل طوبى. لا يرذل المسيح المديح الذي تلفّظت به المرأة، بل يستفيد من الظرف ليعلن درساً أسمى يستفيد منه السامعون كلّهم. لا يكفي أن نتعجّب أمام تعليم يسوع المدهش، بل علينا أن نوافق حياتنا مع هذه الكلمة التي يعلنها من قبل الله.
هذا النوع من الأجوبة يوافق طريقة يسوع في الكلام. ثم إن التطويبتين في آ 27- 28 تجدان ما يوازيهما ويشهد لصحّتهما. وهكذا بنى الإنجيلي كلامه على أساس متين فجاءت المقطوعة صادقة في معناها. أما المبنى (أي القول في صورته النهائية) فيعود إلى مرحلة الكرازة الرسولية وهو ينطبع بطابع الإنجيلي الخاص الذي لا شكّ فيه: ونلاحظ فيمك نلاحظ العبارة العامة "كلمة الله" التي تدلّ على تعليم يسوع كما نلاحظ توجيه القول من أجل الإرشاد في الكنيسة، وتخفيف جواب المعلّم في معنى يدلّ على عظمة أم يسوع.

1- تطويبة أم يسوع (آ 27)
على أساس الحدث السابق، أثارت صحّة أجوبة يسوع وحكمته وسموّ تعليمه، إعجاب الناس. هذا ما يشير إليه لوقا مراراً (4: 15، 22؛ 5: 26؛ 7: 16؛ 8: 25...). وعبّرت إمرأة باسم الجمع عما شعرت به حيال يسوع: نظرت إلى الأمور تلقائياً من زاويتها كإمرأة ففكّرت بأم يسوع، وبان لها الحق أن تفتخر لأنها ولدت مثل هذا الإبن. وأصاب المديح يسوع وأمه معاً. هذا الشكل من التهنئة الذي يعود إلى الأم (أو الوالدين أو الأجداد) فيدلّ على سعادتها كان معروفاً في العالم اليهودي كما لا يزال معروفاً في محيطنا الشرقي. مديح عائلي أحسّت به المرأة. ولكنه مديح سهل. ولهذا سيضع يسوع النقاط على الحروف.
يأخذ تعجّب المرأة شكل (الفن الأدبي) تطويبة، ويتضمّن شقّين متوازيين وضعتهما يد معلّم. هذا ما نجده أيضاً في 23: 29: "طوبى للعواقر، طوبى للبطون التي لم تحمل وللأثداء التي لم ترضع". وفي إنجيل الطفولة أورد لوقا في كلمات التطويب أو المباركة مديحاً وجّهته اليصابات إلى أم المسيح: "مباركة أنتِ في النساء ومبارك ثمرة بطنك... هنيئاً لك" (1: 42- 45). ثم نشيد التعظيم الذي قالت فيه مريم إن الأجيال تطوّبها (تهنّئها) بسبب تدخّل الله العجيب فيها (1: 48). لقد اهتم لوقا اهتماماً خاصاً بهذه التطويبات التي تمتدح أم المسيح وتهنّئها بالمولود الإلهي.

2- تقبّل كلمة الله (آ 28)
أولاً: إنتقالة
لم ينكر يسوع امتياز مريم، ولكنه أراد أن يتجاوز مستوى القرابة الطبيعية (قرابة اللحم والدم) ليقدّم للجموع المهيّاة درساً سامياً وذا بعد شامل.
إعتاد يسوع أن يقدّم أجوبته على هذه الصورة في مقاطع إنجيلية أخرى مبنيّة بحسب الرسمة عينها: يقترب شخص من المعلّم ويقول له كلاماً حول موضوع ملموس وهو ينتظر موافقته. فيجيب يسوع موجّهاً الإنتباه إلى مستوى أعلى، فيدلّ بصورة واضحة أو ضمنيّة أن محاوريه لم يفهموا كل الفهم واقع رسالته (رج 9: 51- 56؛ 10: 38- 42؛ 12: 13- 21؛ 20: 20- 26).
ونجد الموازاة الأقرب الى النص الذي ندرس، حدث قرابة يسوع الحقيقية. نقرأ هذا الحدث في الأناجيل الإزائية الثلاثة (8: 19- 21؛ مت 12: 46- 50؛ مر 3: 32- 35). ولكن لوقا يختلف عن متّى ومرقس فيلغي السؤال القاطع: "من هي أمي، من هم إخوتي"؟ يبدو هذا السؤال وكأن يسوع يحسب قرابته البشرية وكأنها لا شيء. ولكن هذا هو ظاهر الكلام فقط.
وانفصل لوقا عن متّى ومرقس أيضاً حين ترك عبارة "عمل إرادة الله" كما قال مرقس، أو "عمل إرادة الاب الذي في السماوات" كما قال متّى، واحلّ محلّها. "يسمع كلمة الله ويعمل بها". عبارة يحّبها بسبب الأهمية حول القرابة الحقيقية بعد مثل الزارع الذي موضوعه مصير كلمة الله: فالقرابة الحقيقية توافق فئة السامعين الأخيرة "الذين يسمعون كلام الله ويحفظونه بقلب طيّب مطيع" (8: 15). ونقول الشيء عينه عن 6: 46. كتب لوقا: "لماذا تدعونني: يا رب، يا رب، ولا تعملون بما أقول"؟ أمّا متّى فقال: "ليس كل من يقول: يا رب، يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل إرادة أبي الذي في السماوات" (مت 7: 21).
وهكذا نحصل في حدث القرابة على قول قريب ممّا في المقطع الذي ندرس مع الحفاظ على تعارض واضح بين كلام الله وقرابة اللحم والدم: "أمي واخوتي هم (لا حسب ما تظنّون أنتم) الذين يسمعون كلام الله ويعملون به" (8: 21).
ففي هذا النصّ الذي لا يرتبط بالتقليد المشترك، الغى لوقا كل ظاهرة تعارض. هو لم يُرد أن يعارض المديح الموجّه إلى مريم، فبدأ كلمة يسوع بأداة إنتقال (مانون) التي تدل على تدرّج لا على نقض. نعم. ولكن هنيئاً بالأحرى، هنيئاً بصورة خاصة: إن مريم أم يسوع، هي الأولى التي تدلّ على صدق تهنئة المؤمنين السامية. كان لوقا قد بيّن في بداية إنجيله تعلّق مريم الكامل بكلام الله: حين قبلت بلاغ الملاك في البشارة (1: 38، 45)، وحيت احتفظت في قلبها بالأحداث التي كانت تمثّل بالنسبة إليها لغة السماء الحامل السرّ الإلهي (2: 19، 51). فبين الذين يسمعون كلام الله ويعملون به، كانت أم يسوع الأولى، ولم يسبقها أحد. هذا ما شدّد عليه لوقا.

ثانياً: كلام الله
إنّ "كلام الله" يدلّ هنا على تعليم المسيح في المعنى الواسع. وهكذا يكون المعنى كل مرّة يستعمل لوقا هذه العبارة في إنجيله. مثلاً في 5: 1: "إزدحم الناس ليسمعوا كلام الله" (رج 8: 11، 21).
ثم إن حركة الخبر تفرض أيضاً هذا التفسير. فطريقة يسوع في الكلام (وبينما هو يتكلّم) أثارت الإعجاب، فوصل هذا الإعجاب إلى مريم. حينئذ أعاد يسوع الإنتباه إلى تعليمه وزاد: لا بأس بالإعجاب ولكنه لا يكفي. مثل هذا التعليم يتطلّب أكثر. انه يتطلّب طاعة الإيمان. ففي يسوع يتكلّم الله نفسه كما تكلّم في الماضي عبر الأنبياء. في الأصل طبّقت العبارة على تعليم الأنبياء ثم اتسعت فشملت كل وحي العهد القديم.
ويحبّ لوقا أن يقدّم يسوع على أنه النبي (4: 24 ي؛ 7: 16، 39؛ 9: 8، 19؛ 13: 33): هو يكشف رحمة الآب ومجيء الملكوت وموهبة الروح القدس، وبمختصر الكلام هو يكشف بداية الخلاص لكل الناس من ذوي الإرادة الصالحة. ويدلّ أيضاً على المتطلّبات التي يتضمّن هذا التعليم: تجرّد جذري، الفقر، الصلاة المستمرة، التواضع، المحبّة الشاملة. فتعليم المسيح النبوي هو في نظر لوقا جزء من عمل خلاصه.
وينظر الإنجيلي الثالث إلى "كلام الله" الذي يعلنه يسوع، ينظر إليه في هذه الإشارات على أنه حدث مسيحاني وواقع اسكاتولوجي. نتذكّر هنا خاصة 8: 11: "الزرع هو كلام الله" كلام زرعه المسيح الآن وهو يتضمّن بذار الملكوت أي الخلاص والخيرات الاسكاتولوجية. وكرازة المخلّص تدخل هذا الواقع المسيحاني في قلب السامعين وهو ينمو ويثمر بوفرة بفضل استعداداتهم الطيّبة.

ثالثاً: إمتياز سامعي المسيح
إن مضمون هذا القول يوجّه أفكارنا إلى نصوص متوازية تعلن بشكل تطويبة امتياز شهود المسيح. في 10: 23- 24: "طوبى للأعين التي ترى ما ترون" (زاد مت 13: 16: "طوبى لآذانكم لأنها تسمع". سيتحدّث لوقا عن السماع في الآية التالية). أقول لكم: "كثير من الانبياء تمنّوا أن يروا ما أنتم ترون فلم يروا وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون فلم يسمعوا".
ويقدّم لنا العالم اليهودي أقوالاً مشابهة تعظّم امتياز معاصري "المسيح الآتي"، وتشدّد على سعادة الذين سيعيشون هذه الأحداث التي ينتظرها الإيمان بشوق.
"طوبى للذين يسمعون كلمة الله". يؤكّد قول المسيح في هذه الألفاظ بداية تحقيق الحدث المسيحاني وامتياز معاصريه: المسيح هو هنا. الآن جاءت الكلمة التي تتضمّن بذار الملكوت. طوبى للذين ينعمون بهذه الكرازة.
وهكذا تتضمن 11: 28 بلاغاً إنجيلياً وإعلاناً مبدأياً عن الحقبة المسيحانية التي بدإت تتحقق من إجل سامعي يسوع.

رابعاً: أمانة للكلمة المسموعة
وينتهي قول المسيح في معنى أخلاقي، وعلى هذا المعنى يشدّد.
فالجمع بين المفردتين: "سمع، حفظ" يرتبط بأزواج من المفردات البسيطة التي تتحمّل عدة اختلافات: قال وعمل (أو: لم يعمل). سمع قولاً وفعل (أو: لم يفعل). عرف وحقّق. النظري والعملي. نقرأ مثلاً في مت 23: 3 عن معلّمي الشريعة والفريسيين: "يقولون ولا يفعلون". وفي روم 2: 13: "ليس الذين يسمعون كلام الشريعة هم الأبرار عند الله، بل الذين يعملون بأحكام الشريعة هم الذين يتبرّرون" (رج 2: 17- 24؛ يع 1: 22- 25؛ 1 يو 3: 18).
والنصوص الموازية تلقي الضوء على هذه الفكرة. أعلنت "الخطبة التدشينية" مجيء الملكوت وأفصحت عن شرعته. وعرض 6: 47- 49 (= مت 7: 24- 27) الخاتمة: من يسمع كلمات المعلّم هذه ويحفظها، قد أسّس بيته على الصخر. وبكلام آخر، اتخذ الموقف الذي يفرضه مجيء الملكوت وهو متأكّد من الحصول على خيراته.
ويفسّر 8: 11- 15 (= مت 13: 18- 23) مثل الزارع. هناك أربعة احتمالات. في كل مرة نتقبّل الزرع، نسمع كلام الله. ولكن فئة السامعين الأخيرة حصلت وحدها على الكلمة بقلب مستعدّ، وحفظتها وداومت على العمل بها. عند هؤلاء وحدهم أثمرت كلمة الله التي هي زرع الملكوت، أثمرت مئة ضعف.
ويقابل الدرس المذكور في 11: 28 ما نجده بصورة موسّعة في نهاية خطبة الجبل أو تفسير مثل الزارع: العمل بالكلام الذي نتعمّق بسماعه.
وهذا القول يترجم الدرس بصورة موجزة وبشكل مطلق. تعبير بسيط تكوّن في بداية الكنيسة، يوم أخذت عبارة "كلام الله" معنى تقني فدلّت بصورة عامة على كرازة الرسل، على التعليم (البلاغ) المسيحي، على إنجيل الخلاص في المسيح (نداء أولي أو تعليم موسّع) (رج أع 4: 31؛ 6: 2؛ 8: 14... نجد كلمة الرب، كلمة الخلاص...): إنه امتداد لكرازة المخلّص نفسه وقد ارتدى تعليم المسيح والكنيسة سلطة الله وبعداً اسكاتولوجياً، فطلب جواب الإيمان الذي يتصوّره إيماناً فاعلاً وممارسة للفرائض او التوصيات التي يتضمّنها هذا التعليم الموحى. والتطويبة التي نجدها أيضاً في يو 13: 17 (إن عرفتم هذا هنيئاً لكم إن عملتم به) ورؤ 1: 3 (هنيئاً للذين يسمعون هذه الأقوال النبوية ويعملون بما كتب فيها؟ رج 22: 7) (أي الخلاص، الملكوت) ترتبط بموقف القبول أو الرفض لدى السامعين. فمن قبل أن يؤمن صارت له كلمة الله (أي الإنجيل) قوة خلاص إلهي.
هذا هو المعنى الأساسي لقول المسيح. إنه يذكّرنا بامتياز السامعين للتعليم المسيحي، كما يعيد إلى أذهاننا تحريضاً على الإيمان والطاعة.
وعلى هذا المعنى الأساسي تتطعّم معانٍ ثانوية ترتبط بالمناخ اللوقاوي الذي وجد فيه هذا القول.
أولاً: إشارة أخلاقية مع فعل "أكوو" الذي يعني سمع ويعني أصغى بانتباه. إزدحم الناس ليسمعوا (5: 1)، واقبلت الجموع لتسمع (5: 15؛ رج 6: 18، 47؛ 8: 8). ولكن في 10: 39، جلست مريم، أخت مريم، عند قدَمَيْ المعلّم تصغي إلى كلامه بانتباه، في موقف ديني، وحصرت نفسها في هذا السماع وهي متأكدة أنها نالت النصيب الأفضل.
ثانياً: إختار لوقا فعل "حفظ" (فولاسو) لا فعل "صنع" (بوياين) الذي نجده في 6: 46، 47، 49؛ 8: 21، لأنه يتحمّل معاني عديدة. المعنى العام: حفظ. نفّذ كلمة أو أمراً. وبعد هذا احتفظ في العقل، في الذاكرة. من هنا: تأمّل، شاهد (وهناك أيضاً حفظ الوديعة، احتفظ من الشرّ). فكلمة الله تُحفظ في كل السلوك العملي. ولكننا نحتفظ بها في أعماق النفس، في القلب حيث زُرعت، وحيث يجب أن تنمو وتثمر دون أن تخنقها الهموم والملذّات والغنى (رج 8: 14). وتُحفظ في العقول بعناية ومحبّة كموضوع مشاهدة في مجهود يُعمل الفكر ويتعمّق فيه (2: 19، 51؛ رؤ 1: 3؛ 22: 7- 9). وتصبح الطاعة مع الدينامية الداخلية لكلمة الله فينا، فتلهم الحكم وتنعش العمل. من حفظَ الكلمة صيّرها جزءاً منه، "هضمها"، عاش منها في ملء الإيمان.
ثالثاً: وأخيراً يتضمّن فعل "حفظ" إشارة الى الإستمرار والديمومة. فكّر لوقا بالمداومة في الإيمان، بالأمانة رغم المحن والصعوبات اليومية. هو يلوم الذين يؤمنون لوقت معيّن ثم يتراجعون في ساعة المحنة. "أمّا الذي وقع في الأرض الطيّبة فهم الذين يسمعون كلام الله ويحفظونه بقلب طيّب مطيع ويثمرون بثباتهم" (8: 13، 15). الفئة الأولى تتراخى وتتراجع، الفئة الثانية تثبت وتداوم على العمل بكلام الله.
في هذا الخط نقرأ: "يحمل صليبه كل يوم" ("كل يوم" خاصة بلوقا). يجب أن نصلّي باستمرار (11: 5- 8). يجب أن نداوم على الصلاة بلا ملل (18: 1- 8، خاص بلوقا). رج أيضاً أع 11: 23 (الأمانة للرب بكل قلوبهم)؛ 13: 43 (الثبات في نعمة الله)؛ 14: 22. وهناك نداء الى السهر والصبر في سفر الرؤيا (1: 3؛ 3: 8؛ 12: 17) يلتقي وكلام القديس لوقا.
وهكذا يريد لوقا إيماناً يذهب إلى النهاية ويتحلّى بالإنتباه والعمل بالأمانة. في هذه الروح ضمّ الطاعة (عمل بإرادة الله) الى موقف إيمان كامل (حفظ كلمة الله).
وسيستعيد يوحنا التحريض لحفظ كلام (وصايا) الله أو المسيح. هكذا نشهد على محبتنا لله: "إذا كنتم تحبّوني عملتم (حفظتم) بوصاياي" (يو14: 15؛ رج14: 21، 23، 24؛ 15: 10؛ 1 يو 2: 5؛ 5: 3). حفظُ الوصايا هو عربون معرفتنا للمسيح وإقامتنا فيه: "من أحبّني سمع كلامي ونجيء إليه ونقيم عنده" (يو 14: 23). "من عمل بكلامه اكتملت فيه محبّة الله حقاً" (1 يو 2: 5؛ رج 3: 24). وهو ينبوع الحياة الأبدية. قال يسوع "من يسمع لي ويؤمن بمن أرسلني فله الحياة الأبدية" (يوه: 24؛ رج 8: 51- 52). فالمسيح نفسه حفظ كلام الاب وثبت في محبّته (يو 8: 55؛ 15: 10). فماذا يبقى للتلاميذ أن يعملوا؟

خاتمة
كلّمنا الله بالأنبياء وفي الأزمنة الأخيرة بابنه وكلمته الشخصية. ووحيه هو في الوقت عينه تعليم خلاص (وبالتالي) متطلّبة قداسة. وسماعه امتياز لكل البشر، وهو ممكن لنا. دوّى كلام الله في الأسفار المقدّسة، وحمله التقليد الكنسي الحي فأدرك كل الأجيال.
جاء هذا الكلام من الله فطلب جواب الإيمان الكامل، طلب تعلّق الكيان كله، تعلّق الفكر والقلب والتصرّف. إيمان تامّ نرى باكورته في مريم أم يسوع.
الإيمان عطاء الذات عطاءً كاملاً لذلك الذي تكلّم. والله حاضرٌ في كلمته. لهذا كلمته حيّة فاعلة فينا. فإن انفتحنا عليها، وإذا قبلناها كقاعدة لكل وجودنا، إذا حفظناها حقاً، فهي تعمل فينا عملها التدريجي: تنيرنا، تشجّعنا وتعزّينا وتحوّلنا. الله هو هنا ويودّ أن يتّصل بنا ليوحّدنا بحياته ومعرفته ومحبّته. وحين يكلّمنا في أعماق حياتنا الحميمة لن يكون كلامه نداء خارجياً، بل يكون هو بنفسه سعادتنا

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM