الفصل الثاني عشر : يسوع وبعل زبول

الفصل الثاني عشر

يسوع وبعل زبول

أ- المعجزة: انتصار يسوع على الشيطان (آ 14 أ)
1- داخل الصعود إلى أورشليم
إعتاد لوقا في هذا القسم الطويل والمبتكر من إنجيله، الصعود إلى أورشليم (9: 51- 19: 28)، أن يعطي إشارات عن موضع المعجزة التي يذكر. أما متّى فيحدّد موقع هذه المعجزة في الجليل (مت 12: 22- 29). لا نتأخّر في البحث كيف نوفّق بين المعطيين الطوبوغرافيين. هناك من قال إن هذا التقسيم قد تمّ بعد أن "عزم على أن يتوجّه إلى أورشليم" (9: 51)، ولكن قبل أن يعبر حدود الجليل (متّى). إنه حلّ لا يرضي كل الأذواق.
ومهما يكن من أمر، يبدو أن لوقا، أو المرجع الخاص الذي استعمله في هذا المقطع، يقدّم هذه الصعود إلى أورشليم في منظار محدّد. هو أكثر من مسيرة اتَّبعها يسوع ليذهب من الشمال إلى الجنوب، من كفرناحوم إلى أورشليم. انها بالأحرى مسيرة لاهوتية. لا شكّ في أننا أمام انطلاقة مادية تصل بنا إلى اليهودية. ولكن هذا الصعود يعني خاصة صعود يسوع المنتصر إلى أورشليم. أورشليم هي المدينة التي تقتل الأنبياء (13: 34؛ 20: 47) وهي أيضاً مدينة صهيون الاسكاتولوجية، ومركز انتشار كلمة الله إلى العالم كله (24: 47؛ أع 1- 2؛ غل 1: 18؛ 2: 1- 10).
تتواجه صورتان عن أورشليم. أورشليم الموت لأنها تعطي الموت وهي مهيّاة للموت (19: 41- 44؛ 21: 20- 24). وأورشليم الحياة لأنها تقبّلت بلاغ السلام (19: 41- 44، 47؛ 21: 37) وحملته إلى العالم (24: 47، 49، 52). إنهما تتعارضان في مخطّط الله، ولكن الواحدة ترتبط بالأخرى ارتباطاً سرّياً: الأولى تعارض الثانية وتسلّم المخلّص إلى الموت، فتكون سبب انتصاره الفصحي.
بعد هذا، لن نطلب من الإنجيلي تحديداً طوبوغرافياً دقيقاً. فعبر ظاهر الشيء، نبحث معه عن مدلول ديني ولاهوتي، ونتساءل كيف أن هذا التقسيم والجدال الذي يتبعه يفهماننا فهماً أفضل صعود يسوع إلى موضع مجده. هذا مع العلم أن لوقا سيوضح في مكان آخر العلاقة بين إخراج الشياطين والصعود إلى أورشليم. في 13: 32- 33 حيث السياق والبرهان لا يبتعدان عن المقطوعة التي ندرس، نكتشف هذه العلاقة.

2- التقسيم علامة الإنتصار الفصحي واستباق له
معجزات يسوع هي بصورة عامة علامات عن ملكوت الله الفاعل. هي لغة لمن يعرف أن يفهمها، كما يقول اغوسطينس. فالمسيح هو كلمة الله، وأعماله هي لنا كلمة وفعل. إذن، يجب أن نسمعها كوحي عن الله يُسرّه في قلوب المؤمنين ويجعلهم يتذوّقونه في الصمت والصلاة.
والمعجزة الواردة هنا هي من نوع خاص، لأننا أمام طرد شيطان وشيطان أخرس، لأننا أمام تقسيم. وإذا أردنا أن نفهم مدلولها، ننظر إليها في إطار أوسع هو إطار صراع يسوع ضدّ الشيطان. هذا ما يشكّل خلفية الإنجيل الثالث كله وبصورة خاصة الصعود إلى أورشليم.
بدأ هذا الصراع منذ بداية حياة يسوع، ولن ينتهي إلا مع ارتفاع ابن الإنسان على الصليب وتدمير سيّد هذا العالم بعد أن سقط عن عرش اغتصبه.
لو خرج الشيطان منتصراً (4: 2 ي) بعد المواجهة الأولى، لعاود الكرّة (4: 13). وقد قام انتصار يسوع هذا الأول على الشيطان برفض مسيحانية زمنية وسياسية، مؤلّفة من الترف والمجد والقوة البشرية. كما قام بتأكيد واضح وقوي على اختيار نهائي لوسائل الرسالة التي أرادها الآب والتي قاسمُها المشترك هو التواضع والفقر: الصوم، التأمّل بكلام الله الذي يُعتبر طعاماً حقيقياً، الصلاة التي تمتدّ طويلاً في العزلة، الخضوع لمخطّط الله.
هذا الإنتصار الأول يُلقي الضوء على التسلّط الذي سيمارسه يسوع فيما بعد على الشياطين والأرواح النجسة. فإن كان ليسوع مثل تلك القوة وذلك السلطان عليهم (9: 1)، فذلك يعود إلى أنه ينعم برضى الآب (3: 22)، أنه ممتلئ من الروح القدس (4: 1): بكلمة واحدة من فمه، بالدعاء باسمه، يتحرّر الممسوسون ويُشفى المرضى (8: 28- 29، 32؛ 10: 17). وأمام مثل هذا السلطان الذي لا يقدر الشياطين والأرواح النجسة ان يقاوموه، يستولي عليهم الخوف (4: 33 ي؛ 8: 28) وكأنهم فهموا أن يسوع جاء يضع حدّاً لملكهم، وكأنهم رأوا فيه قوّة روح الله.
وفي الواقع، إن كل تقسيم يقوم به يسوع أو تلاميذه الذين أشركهم في سلطانه الروحي (9: 1؛ 10: 19- 20؛ أع 5: 16؛ 8: 7)، كل تقسيم هو علامة تراجع مملكة الشيطان واقتراب ملكوت الله (10: 18؛ 11: 1- 2). ولهذا يجعله الإنجيلي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالكلمة التي تعلن مجيء الملكوت (6: 18- 19؛ 7: 21- 22؛ 8: 1- 2؛ 9: 2- 6)، ويلاحظ ان الشيطان يهاجم الكلمة (8: 12) كما يهاجم الإبن نفسه.
وهكذا يُلقي طردُ الشيطان الأخرس الذي يورده لوقا، نوراً خاصاً على صراع يسوع وانتصاره هذا.
وأخيراً، يجب أن نلاحظ بأي إيجاز تمّ هذا التقسيم. في هذا العمل الخارق بدا عمل يسوع بسيطاً جداً وعظيماً جداً. إبتعد عن كل ظهور، فاكتفى ببضع كلمات، بفعلة، بلمسة رمزية فانحلّت الألسن.
ب- ردّات الفعل لدى البشر (آ 14 ب- 16)
ربط لوقا بمعجزة شفاء الأخرس عناصر متنوّعة نجدها عند سائر الإنجيليين في سياقات أدبية مختلفة. فمرقس (3: 22) مثلاً لا يحدّد موقع الجدال عن رئيس الشياطين بالنسبة إلى معجزة محدّدة، بل يربطه بمجيء الكتبة من أورشليم. وإذا كان مت 9: 32- 34 قد جعل هذا الجدال يبدأ بعد شفاء المتشيطن الأخرس، فهو سيستعيده ويمدّه الى ما بعد (مت 12: 22- 24) فيزيد عناصر لا نجدها عند لوقا. بالإضافة إلى ذلك، يختلف ترتيب الاخبار بين متّى ولوقا.
إذن، نحن هنا أمام تجميع أدبي لعناصر منفصلة كرونولوجياً في رسالة المسيح التاريخية. وقد تكون "دعوى الرياء" هي التي أشرفت على ردّات الفعل التي جمعها لوقا أمام معجزات يسوع.

1- الجموع
نحن أمام الشعب المتميّز عن الكتبة والفريسيين والرؤساء. إنه يتعجّب، كما يقول الإنجيلي (آ 14 ب). فدعوى اهل الرياء لا تعنيه، أقلّه في هذا المقطع.

2- المفترون
"لكن بعضهم قال..." (آ 15). حسب مر 3: 22، نحن أمام كتبة جاؤوا من أورشليم ففسّروا عجائب يسوع على أنها معجزات شيطانية. لقد قامت مهمتهم التقليدية في الشعب بان يكفلوا نقاء التقليد. إنصدموا أولاً بموقف يسوع الناصري من تقاليدهم، فانتهوا الى معارضته بكل الوسائل بما فيها الإتهام والإفتراء المهين بأن فيه شيطاناً: وهذا اسلوب استعملوه أيضاً مع يوحنا المعمدان (7: 33). إذن، يبدو اننا أمام تدخّل الكتبة.
"ببعل زبول". ترجمت الشعبية اللاتينية: بعل زبوب أي بعل الذباب المذكور في 2 مل 1: 12، 3، 6، 16. ولكن هذا اللقب المحقر ينتج عن تلاعب في الألفاظ على كلمة تعني "بعل الأمير" الذي سيسمّيه التقليد اليهودي المتأخر: أمير الشياطين.

3- وطلب آخرون آية من السماء
وأقحم لوقا آ 16. ثم إن الجواب في آ 17 يتجاهل ما طلبوه في آ 16 ويحتفظ بالرأي المذكور في آ 15. فإن ألغينا آ 16 وجعلناها (كما يقول بعض الشرّاح) بعد 11: 29 نحصل على تواصل كامل بين آ 15 وآ 17. فالمقابلة مع مت 12: 24- 25 ومر 3: 22- 23 تسند هذه الطريقة في النظر إلى الأمور. إلا أننا نظنّ أننا لسنا هنا أمام زلقة وقعت بالصدفة، بل أمام هدف أراده لوقا ليهيئ منذ الآن، وحسب عادته الأدبيّة (رج 21: 37؛ 22: 39) آ 29- 32. إذن ادخلت آ 16 في هذا المكان كعنوان ثانٍ مسبَّق.
من هم هؤلاء المقاومون الجدد؟ لم ينكر الأولون طرد الشياطين. إعتبروا انه يجب أن يُنسب إلى بعل زبول. أما هؤلاء فاعلنوا أنهم غير راضين عن معجزات تمّت على مستوى الأرض: فالبرهان الساطع الذي يطلبونه والذي وحده يدلّ على صدق المسيح المنتصر، يجب أن يأتي من السماء (رج يو 2: 18؛ 6: 30). وقد تتضمّن هذه العلامة (الآية من السماء، هذا في فكرهم) إشارة اسكاتولوجية (21: 11؛ رؤ 6: 12). حسب مرقس (8: 11)، نحن أمام الفريسيين. حسب متّى (16: 1- 4)، أمام الفريسيين والصادوقيين. نفضّل مرقس الذي يبدو أكثر دقّة. ثم ان لوقا يميّز أيضاً بين الفريسيين (11: 39- 44) والكتبة (11: 45- 52) حين يتّهمهم يسوع بأنهم يُهملون العدل ومحبة الله... أما في المقطع الموازي، فإن مت 23 يخلط بين الفئتين داخل توبيخ واحد: "الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون".
ومهما يكن من أمر، فكل هؤلاء المقاومين ينتمون إلى "الجيل الشرير" (11: 29، 51). إختفت ردّة الفعل عندهم. ولكن حين يعبّرون عنها فإنهم يربطونها بمعجزة محدّدة. وبعد أن جعل لوقا الأشخاص كلاً في مكانه، بدأ يحدّثنا عن تصرّف المسيح تجاههم.

ج- يسوع تجاه ردّات الفعل عند البشر
"أمّا هو فعرف أفكارهم وقال لهم..." (آ 17 آ)
لا يبدو يسوع مربّياً ينظر إلى الأمور من الخارج، ويحسب حساب فعلات وأقوال مادية أظهرها محاوروه. لا. فلوقا يشدّد مرّة أخرى (9: 47) على أنّ المعلّم يلج الى القلوب بسلطته السامية.

1- المثل الأول: كشف القلوب (آ 17 ب-18)
أولاً: معنى المثل واضح منذ الوهلة الأولى: ان صورة بيوت ينهار بعضها على بعض تدلّ بصورة عامّة على الخراب الذي يرافق موت السكان (13: 4؛ 20: 18؛ 23: 30). وحين طبّق يسوع هذا المثل على الشيطان، برهن عن طريقة العبث، ان ما يتهمه به أعداؤه باطل هو: "فإن كنت ببعل زبول أطرد الشياطين، فبمن يطرده أتباعكم" (آ 19 أب)؟
لقد لجأ يسوع الآن إلى برهان نسبي. يقبل محاوروه بالتقسيمات التي يمارسها أبناء دينهم، ولكنهم معلّمو هؤلاء المقسمين. هؤلاء المقسّمون هم "أبناؤهم" وهذا ما يدلّ على العلاقة الروحية بين المعلّم والتلاميذ.
ولا يرفض الكتبة نشاط هؤلاء المقسّمين، ولا يتّهمونهم بالكذب أو بالتوافق مع العدو الأكبر (الشيطان)، حتى وإن استعملوا وسائل لاستمالة الشيطان (كما يقول يوسيفوس في القديميات اليهودية)، أو دعوا باسم يسوع (أع 13: 18؛ رج لو 9: 49). بعد هذا، أجبر المفترون على يسوع أن يعوا نوعية "قلبهم": إنهم يحكمون على الأمور بمكيالين ومقياسين بالنسبة إلى أتباعهم أو بالنسبة إلى ابن الإنسان. لماذا؟ بسبب نوايا قلوبهم السيّئة.
ولكن يسوع المربّي الأسمى لم يعتد أن يترك محاوريه في جوّ من الخزي المرّ. لهذا سيدعوهم إلى التفكير في موضوع يهمّهم، في موضوع على مستواهم.

ثانياً: تربية العقل
"فبمن يطرده اتباعكم" (آ 19 ب)؟ يعتبرون أن اصبع الله يعمل عبر عمل المقسّمين. فلماذا لا يطبّقون الحكم عينه على عمل يسوع المحرّر والذي يعمل بسلطان لا سلطان فوقه؟ وإذ أراد يسوع أن يساعد عقولهم المتردّدة، أبان بخفاء النتائج الخطرة التي يجرها رفضهم التعلّق بالحق، وعدم التزامهم. ولهذا يقول يسوع: "لذلك هم يحكمون عليكم" (آ 19 ج).
الفعل هو في المضارع. هل نحق أمام مستقبل اسكاتولوجي؟ في هذه الحالة يشير يسوع إلى الدينونة الأخيرة. ولكن إن كنّا في مستقبل تاريخي قد بدأ منذ الآن، نفهم أن المقسّمين اليهود الذي يعملون مثله (9: 49) يشهدون ليسوع: فالغلبة التي يحصل عليها إله إسرائيل بهم تعلن الإنتصار الكامل الذي يحرزه الإبن الوحيد (أع 19: 13).
وسيدفع يسوع محاوريه إلى أبعد من هذا. لن يترك قلوبهم وعقولهم وإراداتهم معلقة، بل يقودها إلى النهاية، إلى وحي ملكوت الله من أجلهم.

ثالثاً: إعلان ملكوت الله (آ 20)
نحن هنا في ذروة النص. إحتفظ لوقا بعبارة "إصبع الله" فظلّ أميناً للتعابير الساميّة مثل متى (12: 28) الذي استعمل عبارة "روح الله". فالتعبير السامي القديم يشير إلى المعجزات التي اجترحها موسى حين الخروج من مصر (خر 8: 15؛ تث 9: 10) أو حين دوّنت ألواح الشريعة في سيناء (خر 31: 18).
كان باستطاعة التقارب مع خر 8: 15 أن يدلّ الكتبة المتعمّقين في الكتب المقدّسة، على عدد من التطبيقات. فسحرة فرعون العاجزون تعرّفوا إلى إصبع الله الفاعل في موسى: أما كان يجب عليهم أن يفعلوا مثلهم؟ أما يكون يسوع موسى الجديد، والنبي العظيم الذي يعمل بإصبع الله (13: 33)؟ عاند فرعون، وهذا الجيل الشرير يعاند أيضاً. كم من التشابهات التي تدعو معارضي يسوع أن يروا فيه ذلك الذي أرسله الله لكي يحرّر شعبه، أن يقرأوا في انتصاره على الشيطان علامة عن مجيء ملكوت الله (7: 2).

2- المثل الثاني: يسوع هو الأقوى (آ 21- 22)
أولاً: إن الرجل القوي والمسلّح والمؤمّن على نفسه في قصره المحصّن هو بعل زبول مع ملكه وسيادته على العالم. والذي يأتي فيكون أقوى منه ويتغلّب عليه هو يسوع "الذي جاء ليهدم أعمال إبليس" (1 يو 3: 8 ب).
يستلهم هذا المثل أش 49: 24- 25 حيث نرى ان تدخّل الله وحده يفسّر دمار محارب لم يُقهر قبل ذلك الوقت. إذن، يتيح لنا النصّ الذي ندرس أن نستنتج أن قوة يسوع متعالية، وهذا ما يفترضه الخيار الذي سنتحدّث عنه.

ثانياً: الخيار الحاسم (آ 23)
لاحظ الشرّاح مراراً الطابع الخارق والمتطرّف لمتطلّبة يسوع تجاه أي شخص كان. لا يستطيع أحد أن يبقى على الحياد أمام ما يطلبه يسوع من كل واحد، وأمام هدف الصراع بين المملكتين. يجب أن نختار مع يسوع أو ضدّ يسوع الذي يقدر وحده أن يغلب إبليس.
"من لا يجمع يبدّد". قد تشير الصورة الى الحصاد الاسكاتولوجي (3: 17) كما تشير إلى عمل الراعي مع قطيعه. وهي تدلّ بصورة مباشرة على رؤساء إسرائيل الروحيين، على الكتبة الذين يُدعون إلى اتخاذ موقف مع المسيح، وإلاّ شتّتوا القطيع الموكل أمره إليهم وعملوا عمل إبليس.

3- المثل الثالث: تنبيه وتحذير (آ 24- 26)
قد فُسّر هذا المثل تفسيرات عديدة، ولكن تفسيراً لم يفرض نفسه. الصعوبة الأولى تأتي من الفن الأدبي أو الفنون الأدبية التي يرتبط بها هذا المقطع. تحدّثنا عن "المثل الثالث" فاستبقنا التفسير الذي يبقى علينا أن نبرّره ونحدّده.
نبعد التفسير التعليمي، لأنه يبدو واضحاً أنّ يسوع لا يعالج عوائد الروح النجس، مع أن هذا العنصر أو ذاك ينتمي إلى التراث العام في تعليم اليهود التقليدي. مثلاً: إقامة إبليس في البرية. فإذا افترضنا أننا أمام تعليم مباشر عن طريقة تصرّف الشياطين، نستنتج أنّ كل تقسيم يحمل اضراره، لأنه يعرّض الإنسان إلى عودة الروح وهجوم آخر له نتائج أخطر من "الإمتلاك" الذي نجا منه الإنسان مرّة أولى.
إذن، نحن أمام قطعة ذات طابع مثالي. إذن، لن نعطي لكل كلمة وكل صورة معنى خاصاً. وهكذا نحتفظ من هذه المقابلة بالفكرة الأساسية: عودة الشيطان لكي يؤذي من جديد.
ولكن من هو الإنسان (مع ألـ التعريف في اليونانية) الذي يصبح عن طريق الإستعارة "البيت"، وفي رأي الشيطان "بيتي"؟ نحن هنا أمام عناصر ترتبط بفن الإستعارة، وتتطلّب بالتالي انتباهاً خاصاً إلى كل تفصيل، وهذا عكس العناصر السابقة. من جهة أخرى، إن هذا المثل الذي أدخل فيما بعد في مت 12: 43- 45، قد سبقه التجديف على الروح (آ 31- 32) والكلمات عن القلب (آ 33- 37) وآية يونان (آ 38- 42). هذا المثل جعله لوقا قرب المثل الثاني وربطه به.
لهذا نقدّم التفسير التالي: هذا الإنسان الذي يجد نفسه منعزلاً، لا دفاع له ولا مسيح، ساعة عودة الروح النجس مهاجماً، هذا الإنسان يمثّل "هذا الجيل الشرير" (11: 29، 32، 51- 52). وقد سمّي كذلك لأنه لم يتّخذ موقفاً (لم يختر) من ذلك "الذي يطرد الشياطين بإصبع الله" (آ 23)، ولأنه أخطأ ضدّ الروح القدس (12: 10؛ مت 12: 32). ورفضُ الإلتزام هذا يهيئ دماره. فقد طُلب منه أن يقود إسرائيل إلى معرفة الله، فرفض الدخول إلى الملكوت ووقف حاجزاً بوجه الناس ليمنع الذين يريدون الدخول (11: 52). بهذا الخيار، توجّه نحو العزلة الرهيبة (13: 35؛ 14: 24) التي هي الأرض المفضّلة للروح النجس. وما يؤكّد هذا التفسير هو قول يسوع الواضح في مت 12: 45: "وهكذا يكون مصير هذا الجيل الشرير".
ولكن هذا الإنسان الذي يمثّل "هذا الجيل الشرير"، قد شُبّه أيضاً ببيت نظيف ومرتّب، ومحرَّر من الروح النجس. هنا نعود إلى فكرة المثل الثاني (آ 21). وجد إسرائيل نفسه مدعوّاً إلى أن يختار شخص يسوع (11: 23) في فعل إيمان شخصي وحرّ، فعل بدونه لن يتمّ شيء. إما رفض إسرائيل فهو سيعارض في الوقت عينه يسوع، سيكون وحده، سيكون "هذا الجيل الشرير". هو لا يجمع من أجل الحصاد الاسكاتولوجي، لا يجمع مع الراعي قطيع الله، بل يبدّد ويشتّت. وبما أنّ هذا الجيل الشرير لم يعد بجانب الرجل القوي الذي يعمل فيه اصبع الله، فسيجد نفسه من دون دفاع ساعة يعود الروح الشرير ويهاجمه. وهكذا يضع يسوع محاوريه، في نهاية هذا المثل الجديد، أمام نتائج يتعرّضون لها حين يرفضون أن يؤمنوا بالمسيح.
ونلاحظ أخيراً التدرجّ في خطورة النتائج المرتقبة: وُضع الكتبة أولاً أمام إمكانية حكم يصدره عليهم أبناؤهم، أتباعهم (11: 19). بعد هذا يُنبّهون إلى أنهم قد يصبحون ضحيّة عودة الروح النجس الذي يهاجمهم. وقد يقيم فيهم بصورة نهائية. لا ننسى القيمة الرمزية للرقم 7 الذي يدلّ على شرّ الأرواح الشريرة وأعنفها.
أمّا تلميذ يسوع، إسرائيل الجديد، فهو لا يهتمّ برجوع الشيطان المهاجم، بل بحياته الحميمة مع معلّمه، الذي هو الأقوى، الذي فيه يعمل اصبع الله. إنه يُقيم في الحبّ، إنه يجمع الخراف مع يسوع.

خاتمة (آ 27- 28)
هناك تطويبتان. الأولى تُنشد عمل يسوع من أجل قدرته العجائبية، ومن أجل سيطرته على الحوار مع الكتبة. إن المرأة التي تلفّظت بها تمثّل الكنيسة الأولى. والتطويبة الثانية تعلن سعادة الذين آمنوا بوحي الله ووضعوا موضع العمل المتطلّبات التي يفرضها هذا الوحي. نحن في التطويبة الأولى في خطّ معاكس لهؤلاء الذين رفضوا أن يروا في عمل يسوع إصبع الله. وفي التطويبة الثانية ضدّ الجيل الشرير الذي رفض أن يؤمن بيسوع ويكون له تلميذاً. ولهذا ترك لهم بيتهم خراباً (مت 23: 38).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM