الفصل الحادي عشر: الصلاة البنوية

الفصل الحادي عشر

الصلاة البنوية
11: 1- 13

موضوع هذا الإنجيل هو فاعلية صلاة واثقة وملحّة. فكما صلّى إبراهيم وأعاد الكرة ستّ مرّات ليحصل على خلاص سدوم (تك 18: 20- 32)، هكذا يتوسّل الصديق إلى صديقه ويلجّ حتى ينال ما يبتغيه. على مثل هذه الصلاة يحضّنا يسوع، لا من أجل خلاص مدينة أرضية، بل من أجل مجيء الملكوت، ومن أجل الحصول على الروح القدس.
نرى في مقطوعة لوقا (11: 1- 13) هذه مقدمة (آ 1) ثم ثلاثة أقسام صغيرة: الصلاة الربية أو الأبانا (آ 2- 4)، مثل الصديق "المزعج" (آ 5- 8) تحريض على الصلاة إلى الآب المستعد دوماً أن يعطي ولا سيّما "الروح القدس للذين يسألونه" (آ 9- 13).

أ- المقدّمة (آ 1)
إهتمّ لوقا بصورة خاصة بنقل تعاليم يسوع عن الصلاة إلى الكنيسة. وهو يجمع هذه التعاليم في جزئين يكادان يكونان متساويين: 11: 1- 13 و18: 1- 14. الجزء الثاني خاص كله بلوقا. أما الجزء الأول ففيه عناصر من متّى في مقطعين من خطبة الجبل (صت 6: 9- 13؛ 7: 7- 11). ولكن مثل "الصديق المزعج" (11: 5- 8) هو خاصّ بلوقا فلا نجد ما يوازيه في سائر الأناجيل.
إن العناصر الموازية في هذا الجزء الأول تشكّل عند متّى زيادات أقحمت بطريقة مصطنعة في شميلة التعليم الأخلاقي الذي تكوّنه خطبة الجبل. وإقحام مقطوعة لوقا في خبر صعود يسوع إلى أورشليم (9: 51 - 19: 27) يبدو مصطنعاً أيضاً. فالرباط بما سبق (يسوع في بيت عنيا عند مرتا ومريم، 10: 38 ي) هو غامض. "وحصل انه إذ كان في أحد الأماكن يصلّي". ولكن بما أنّ لوقا يوجّه عقول قرّائه إلى ما سيحصل في أورشليم في نهاية هذا السفر، لا بدّ لنا، إذا أردنا أن نفهم فكره، أن نلقي الضوء على زوايا النصّ منذ 9: 51: يتوجّه النصّ هنا نحو عطيّة الروح القدس (آ 13). لا شك في أن لوقا يوافقنا إن نحن فكّرنا بما سيرسله المسيح القائم من الموت إلى تلاميذه: "ما وعد به الآب" (24: 49؛ أع 1: 4).
يستحيل علينا أن نعرف أين ومتى علم يسوع الصلاة الربّية لتلاميذه. إلا أنّ لوقا يعطينا بمناسبة هذا التعليم تفصيلين يختلف بُعد الواحد عن الآخر. أولاً: بعد أن صلّى يسوع نفسه في أحد الأماكن، سأله أحد تلاميذه: "يا رب، علِّمنا أن نصلي". هذه الإشارة خاصة بكرازة لوقا الذي يحبّ أن يرينا يسوع مصلّياً. فبحسب لوقا ولوقا وحده، يتمّ ظهور العماد (3: 21) وظهور التجلّي (9: 28- 29) حين كان يسوع يصلّي. ولقد اعتاد يسوع أن يصلّي في العزلة (5: 16؛ 9: 18؛ ق مر 1: 35؛ 6: 46). وصلاته تسبق اختيار الإثني عشر (6: 12)، وتسبق ضعف الإيمان عند بطرس (22: 32)، وتصبح ملحاحة في جتسيماني (22: 43-45). إذن الصلاة التي ينسبها لوقا إلى يسوع قبل أن يعلّم تلاميذه "الأبانا"، تتسجّل في مجموعة إشارات مماثلة خاصة به ومن تأليفه. نحن لسنا أمام خبر تاريخي دقيق، بل أمام طريقة تشدّد على معطية صريحة من التقليد الذي يؤكد على أنّ صلاة يسوع كانت متواترة، بل متواصلة، ويبين أن يسوع هو معلّم الصلاة لا بأقواله وحسب، بل بمثله وكل حياته.
أما طلب التلميذ "يا رب، علّمنا أن نصلّي كما علّم يوحنا تلاميذه"، فهي تعود إلى ينبوع سابق. وإلاّ لما كان لوقا أدخلها وهو الذي يرى في الربّ يسوع المعلّم الواحد والوحيد. ولا يمكن أن تخترع الجماعة الأولى هذه العبارة للسبب عينه. لهذا نقول إننا أمام تذكر تاريخي.

ب- الصلاة الربية (آ 2- 4)
سأل التلميذ فأجاب يسوع بعبارة نموذجية يجب أن تسير عليها كل صلاة مسيحية بصورة أو بأخرى. قدّم الصلاة الربية: "أيها الآب". ولكن نسخة لوقا أقصر من نسخة متّى، وتتضمّن إختلافات طفيفة في الأقسام المشتركة. يعتبر الشرّاح ان نصّ متّى يمثّل بطريقة أفضل النصّ الأصلي بسبب مناخه اليهودي. هناك النص اللوقاوي الأصلي أو الذي ينقله التقليد اللاحق، هناك تضخيم التقليد الذي ارتبط به متّى أو وجود تقليدين مستقلّين وقديمين معاً. لا فائدة من التوقف عند هذه المسألة التقنية التي لم تجد لها بعد جواباً. المهم هو أن نجمع غنى هذين التقليدين اللذين يحملان فكر يسوع سيّد الصلاة، مع العلم أن الإستعمال الليتورجي ترك جانباً نصّ لوقا وأخذ بنصّ متى.

1- أيها الآب
هذا هو الشكل البسيط. هناك مخطوطات ترتبط بمتّى فتقول: يا أبانا أو أبانا الذي في السماوات. نجد هذا الشكل في صلاة بستان الزيتون: "أيها الآب، إن شئت" (22: 42). وعلى الصليب: "اغفر لهم أيها الآب" (23: 34). "يا أبت في يديك استوح روحي" (23: 46).
في العهد القديم، الله هو "أبو" إسرائيل، وذلك بسبب الحماية التي أحاطه بها وقت الخروج، التي ما زال يحيطه بها في مصيره الجماعي أولاً (هو 11: 3- 9؛ إر 3: 19؛ ملا 1: 6؛ أش 63: 16؛ طو 13: 24) وفي مصير كل من مؤمنيه (أم 3: 12؛ سي 23: 1- 4؛ حك 2: 13- 18؛ 5: 5، النظرة الفردية جاءت متأخرة). وفي العالم اليهودي الفلسطيني في زمن المسيح، وعى الشعب وعياً خاصاً حبّ الله الأبدي لشعبه ولكل الذين يتمّون الشريعة، وإن اعتادوا أن يتجنّبوا النداءة "يا أبي". نجد العبارة المنادية "أبانا الذي في السماوات" عند الرابانيين وفي الصلاة اليهودية. ويعرف مر 11: 25 (أبوكم الذي في السماوات) العبارة في قرائن أخرى، وهي أقدم ممّا في لوقا. نشير أننا نقرأ في لو 11: 13 عبارة "أباكم السماوي" التي تشكّل تضميناً مع بداية الأبانا. وانتقلت أبوّة الله على أبرار إسرائيل، على "نسل أبناء الله" (مز 73: 1، 15)، إنتقلت بواسطة يسوع إلى جماعة تلاميذه. الأبانا هي صلاة المسيحيين بصورة خاصة، هذا دون أن ننفي جموع التلاميذ غير المعلنين الذين قال فيهم مر 9: 4: "من ليس ضدّكم فهو معكم".
لقد استناروا استنارة كاملة بنور الفصح، فكيف لا يفكّرون، وهم يتلون هذه الصلاة "بأبي ربنا يسوع المسيح"؟ فيسوع الذي هو "الإبن" في معنى فريد (مر 12: 6 وز؛ 13: 32؛ لو 10: 22 وز) قد توجّه خلال حياته على الأرض إلى الله فناداه "أبّا" (مر 14: 36). نحن أمام روح عائلية لا نجد مثلها قبل يسوع. وحسب القديس بولس، يلهم الروحِ كل الذين صاروا "أبناء في الإبن" أن يقولوا بدورهم: "أبا، أيها الاب" (غلى 4: 6؛ روم 8: 15). فمنذ الفصح تعبّر الكنيسة عن وعيها، حين تصلي الأبانا، بأنها محبوبة بالحب الذي به يحيط الله إبنه الوحيد (رج يو 3: 1؛ يو 20: 17: يصبح أبي أباكم في ملء الأبوّة). هذا ما أراد لوقا أن يشير إليه حين حوّل العبارة الأولانية في متّى فقال كما قال المسيح: أيها الآب، أبا. لقد أرانا لوقا يسوع مصلّياً قبل أن يعلّم الأبانا لتلاميذه: ما يحمله إلى الكنيسة هو صلاته البنوية الخاصة، مع حفظ المسافة بين الخالق والمخلوق، لأنه الوحيد ولأن لا خطايا له يطلب عنها مغفرة.

2- ليتقدّس إسمك! ليأتِ ملكوتك!
هناك شواهد قديمة تقرأ: ليأتِ ملكك علينا. ظهر الملك، فليعرفه الكون والبشر. وهناك شواهد أحدث عهداً (مرقيون، غريغوريوس النيصي، مكسيموس المعترف) تقول: "ليأتِ روحك القدس علينا ويطهّرنا". لقد تأثرت هذه العبارة، ولا شك، بليتورجيا المعمودية.
ليتقدّس، ليأتِ (ليتحقّق فينا). طلبتان في طلبة واحدة، كما في طلبات متّى الثلاث: قبل أن نعرض حاجاتنا نجعل نوايا الآب وكأنها نوايانا. واستعمال المجهول هو طريقة يهودية بها نتحاشى أن نذكر اسم الله إكراماً له: نطلب من الرب أن يقدّس اسمه بنفسه عبر إقامة ملكه على الأرض، وهكذا (حسب متّى) تتم مشيئته الخلاصية.
النصّ الأصلي لا يقول: "لتكن مشيئتك". ولكن هناك مخطوطات توردها، وأخرى تزيد: "كما في السماء كذلك على الأرض". أما لماذا لم يحتفظ بها لوقا؟ لأنه اعتبر أن الطلبتين الأولى والثانية تتضمّنان الفكرة الموجودة فيها.
يدلّ الإسم في التوراة على الشخص نفسه كما يظهر في نشاطه. وقداسة الله هي ما يميّزه عن كل شيء. هو الآخر الكلي بقدرته والمتعالي في حبّه (هو 11: 9). إذن، نصلّي إلى الآب أولاً ليظهر قدرته ورحمته. وحسب لوقا، لقد بدأ الله يظهرهما في مرحلة حاسمة بالمجيء الأول لابن الله: بما أن القدير صنع بمراحمه أشياء عظيمة في مريم ومن أجل مريم، فـ "اسمه قدّودس" (1: 49- 50). ولكن هذه المرحلة الأولى، التي هي عمل الروح القدس الذي كوّن في مريم "الكائن القدوس الذي سيولد" (1: 35) وقاده بعد ثلاثين سنة في رسالته المسيحانية (4: 1، 14، 18؛ 10: 21)، هذه المرحلة خضعت للظهور الأخير، ظهور الله القدوس، فتحقّقت نبوءة حزقيال تحقّقاً كاملاً: "أقدس إسمي العظيم... أجعل روحي في داخلكم" (حز 36: 20- 28). وهذا التحقّق يجد ينبوعه في سرّ الفصح والعنصرة قبل كماله في يوم المجيء الثاني.
يرى التلميذ الذي يعيش في الكنيسة وفي النظام الذي بعد الفصح، يرى أن إرسال الروح القدس هو أمر آني. حصل الآن وهو يشركه في حياة الآب. ولكن عليه أن يطلب دوماً في صلاته هذا الروح (آ 13) لأن الروح لا يُعطى إلا كباكورة (روم 8: 23). فعلينا أن نسال لكي تصل دينامية ما هو مؤقت إلى الهدف النهائي بتدخّل ساطع من عند الله.
ونعبّر عن هذا الرجاء الاسكاتولوجي عينه بالطلبة التالية: "ليأت ملكوتك"! إستعمال الصيغة اليونانية للفعل يدلّ على اننا أمام حدث محدّد، تدخّل فريد ونهائي من قِبَل الله الاتي ليحقّق ملكه أخيراً وسط البشر رغم كل العوائق والصعوبات. إعتبر اليهود أنهم أمام واقع غير محدّد وهو الذي أنبأ به مي 4: 6- 7؛ أش 52: 7. وقد قالت صلاة "قديش": "ليكن مقدساً اسمك العظيم في العالم الذي خلقته حسب مشيئتك. ليملك ملكك وينبت فداؤك وليقترب مسيحك (الملك)". وبالنسبة إلى الرسل الذين يسمعون "ذلك الآتي" (7: 19)، فملكوت الله هو حاضرٌ منذ الآن بينهم (11: 20؛ 17: 21) بنشاطات يسوع المسيحانية، ولكن بشكل متواضع وخفيّ. فعليهم أن يصلّوا لكي تصبح حبّة الخردل الصغيرة "الشجرة الكبيرة" التي تحدّث عنها الأنبياء (حز 17: 23؛ دا 4: 9، 8= لو 13: 9 وز). وأخيراً، بعد الفصح، سيرفع المؤمنون أنظارهم، وهم الذين نالوا باكورة الملكوت في الروح القدس، إلى تتمّة هذا الملكوت بالقيامة (1 كور 15: 50). إن صلاتهم إلى الآب "ليأتِ ملكوتك"! تتوافق مع صلاتهم إلى الرب الذي ينتظرون مجيئه المجيد "ماراناتا" (1 كور 16: 22): "تعال ايها الرب يسوع" (رؤ 22: 20).
إذ القسم الأول من الصلاة الربية هو صلاة إيمان ورجاء إلى ذلك الذي يُنتظر منه أن يكمّل قصده الخلاصي. ولكنه لا يبعدنا مع ذلك عن اهتماماتنا الأرضية. فالعهد القديم يعتبر أن إظهار قداسة الله أو مجده (رج لا 10: 3؛ حز 28: 2) هو عمل البشر (عد 27: 14؛ تث 32: 51؛ أش 8: 13؛ 29: 23). نحن نهيّئ الطريق لهجمة عالم جديد بسلوك مقدّس (1 بط 1: 15- 16) نجتذب فيه رفاق الدرب ليمجّدوا الله في يوم الإفتقاد (1 بط 2: 12)، بحرب من أجل إحلال العدالة والمحبّة بين البشر. وهكذا نكشف بعض الشيء عن قداسة الله. وعلى صورة عبد الله السامي (أي يسوع) وفيه، يبقى علينا نحن "العباد المساكين" (17: 10) أن "نظهر إسم الاب" (يو 17: 6، 26).

3- أعطنا الخبز الذي نحتاج إليه كل يوم
ويحتاج الإنسان الضعيف والخاطئ إلى الخبز والمغفرة والعون على الشرّ، لكي يعيش في انتظار مجيء الملكوت. وحين يطلب كل هذا، فهو يتدرّب على الإتّكال البنوي على الله.
كان طلب الخبز اليومي معروفاً في العالم اليهودي (رج أم 30: 8). لا يبدو أن يسوع يجعلنا نطلب الخبز من أجل الغد، أعنى بكلامه طعام الأرض أم طعام الملكوت (14: 15؛ 22: 30). فلفظة "ابيوسيوس" الفريدة في كل الكتاب المقدّس هي أكثر من غامضة لتسمح لنا بإسناد بعض التفاسير. إنّ "هي أبيوسيا" (هامارا) قد تعني في الغد في أع 7: 26 ("ورأى في الغد إثنين")؛ 16: 11 ("وفي الغد إلى نيابوليس"). فالشرّاح يستندون إلى أع وإلى الإنجيل المنحول، إنجيل العبرانيين، الذي يفترض (حسب ايرونيموس) أن يسوع استعمل الكلمة الأرامية "محر" (أي: الغد). ولكن قد يكون هذا الإنجيل المنحول فسّر خطأ كلمة "ابيوسيوس" التي لم يفهمها كما وجدها في إنجيل متّى القانوني. وقال آخرون إنّ يسوع صلّى الأبانا في العبرية لا في الأرامية. وجاءت الطلبة الرابعة تتذكر خر 16: 4 ("طعام كل يوم بيومه") فتقول: "أعطِنا خبزنا اليومي". فإذا عدنا إلى ما تتضمّنه اللفظة العبرية، تقابل كلمة "يومي" (الضروري من أجل اليوم الحاضر) في الوقت عينه "ابيوسيوس" وعبارة "كل يوم" (لوقا) أو "اليوم" (متّى). طلب لوقا الخبز لكل يوم، لأنه ينظر إلى الحياة المسيحية في مداها كما في 9: 23 (يحمل صليبه كل يوم: كات آمران). نحن مع لوقا في نظرة يونانية لا نظرة فلسطينية كما في مت 6: 34: "لا تهتفوا للغد. فالغد يهتمّ بنفسه. ولكل يوم من المتاعب ما يكفيه".
مهما يكن من أمر الترجمة، فمن الواضح أننا لسنا أمام تأمين "على المستقبل". فيسوع يدعو تلاميذه ليطلبوا كل يوم بيومه الطعام الذي يحتاجون إليه. إنهم واثقون أن الله يوزعّ عليهم كلّ يوم طعاماً، على مثال ما فعل مع بني إسرائيل في البرّية، حين أعطاهم المنّ كل يوم بيومه (خر 16) حتى وصلوا إلى أرض الميعاد (يش 5: 12).
صلاة الأبانا هي صلاة الفقراء، لا صلاة الناس المتخمين. صلاة أناس مجبورين أن يعيشوا كل يوم بيومه كما كان يجمع بنو إسرائيل زادهم اليومي من المنّ. فضل لوقا عبارة "كل يوم" وترك عبارة متّى "اليوم" واستعمل الفعل في صيغة الحاضر (في اليونانية) التي تدل على التكرار، فشدّد على فضيلة الفقر العزيزة على قلبه: لا زاد لتلاميذ المسيح (10: 8)، ولهذا فهم يحتاجون إلى طعام يرسله الله كما لأبنائه، لا "اليوم" فقط، بل "كل يوم".
هذه الصلاة قريبة من الخطبة عن العناية الإلهية (12: 22- 32)، وهي لا تدعونا إلى الكسل والتهرّب من العمل. فعلى الإنسان "أن يخضع الأرض" (تك 1: 28)، أن "يأكل خبزه بعرق جبينه" (تك 3: 19). ولكن على التلاميذ أيضاً أن يعبّروا للآب الذي يعبدون، عن ثقتهم بأن حياتهم ترتبط بجذورها برحمته، بأنهم يحتاجون إلى حنانه (نعمته) ليتغلّبوا على الشرّ الذي فيهم وفي الآخرين، الذي يقف حائلاً بينهم وبين العمل، بين العمل وثمرته.
وحين نستعمل صيغة المتكلم الجمع ("خبزنا" نحن)، نتذكّر اننا أمام صلاة جماعية. نسأل الخبز الذي نتقاسمه كلنا كعلامة فاعلة عن الإتحاد الأخوي والاهتمام بالفقراء، على مثال ما نفعل مع الخبز الافخارستي.

4- اغفر لنا خطايانا لأننا نحن أيضاً غفرنا (عفونا) لمن هو مدين لنا، لمن أساء إلينا
تحدّث متّى عن الدين. أما لوقا فتحدّث عن الخطايا أولاً، ثم عاد إلى الدين في الشق الثاني من الطلب. وهذا ما سيفعله في 13: 2، 4. وإذ يحدّد متّى موقع الغفران الأخوي في اللحظة التي تسبق الصلاة، فإن لوقا يجعله يمتدّ إمتداد الحياة المسيحية.
إن الحاجز الاكبر بوجه رجائنا بالملكوت وبوجه خبز نشارك فيه، هو الخطيئة. يستعمل لوقا كلمة خطيئة ولكنه يحتفظ في الفعل بالصورة اليهودية القانونية التي تتكلّم عن الديون. نحن مدينون لا نستطيع أن نفي ديوننا (7: 42)، ولهذا نسلّم ذواتنا إلى سخاء الرب المستعد دوماً إلى أن يغفر كما وعد بواسطة أنبيائه ليوم الخلاص (إر 31: 34؛ حز 36: 33؛ زك 13: 1). وهذا الغفران الذي لا نستطيع بدونه أن نحيا في صداقة مع الله وفي احترام ذواتنا، هو ضروري لنا ضرورة الخبز وأكثر. فالمسيحيون يعرفون ثمن هذا الغفران أكثر من التلاميذ قبل الفصح. فهم يتأمّلون في الصليب الذي عليه سفك المسيح، صديق الخاطئين (مت 11: 19)، دمه في النهاية "لغفران الخطايا" (مت 26: 28)، سفكه وهو يحمل كلمة الغفران على شفتيه (23: 34). أجل، لقد سمع المؤمنون إعلان "التوبة من أجل غفران الخطايا" (24: 27) ونالوا المعمودية باسم المسيح من أجل هذه المغفرة كما قال بطرس لسامعيه يوم العنصرة (أع 2: 38): "توبوا وليتعمّد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح فتُغفر خطاياكم ويُنعم عليكم بالروح القدس". ولكنهم يضعون بنفوسهم شرطاً يمنعهم من تلاوة الأبانا إن لم ينفّذوه: أن يغفروا لمن لهم عليهم دين. نحن أبناء سبقتنا رحمة الله بكل شكل، فلا نستطيع أن نتعلّق بها إن لم نترك غفرانه يحرّك غفراننا ومحبّته تمرّ فينا لتدرك الذين أساؤوا إلينا (6: 36- 37؛ مت 6: 14- 15، 18: 23- 25؛ مر 11: 25؛ يع 2: 13). ويقدم لوقا هذه المتطلبة بشكل جذري ملاحظاً أنها تنطبق على كل إنسان: مهما كان جرحنا عميقاً، فلا طريق لشفائه إلا بمقاسمة الله في محبته مقاسمة تجعلنا ننسى الإساءة. نحن هنا على محكّ الممارسة المسيحية.

5- ولا تسمح أن ندخل في تجربة، لا تعرضنا للتجربة، لا تدخلنا في التجربة
إن الطلبة الأخيرة في الصلاة الربية حسب متّى تجد لها تعبيراً سلبياً ("لا تدخلنا في التجربة")، ثم تعبيراً إيجابياً ("نجّنا من الشرير"). ترك لوقا التعبير الإيجابي واكتفى بالتعبير السلبي، وسنتعرّف الى السبب فيما بعد. ولكن نلاحظ أنّ لفظة "بيرسموس" عند متّى لا تعني المحنة الخيّرة (تث 8: 2؛ حك 3: 5- 6) بل التجربة التي تأتي من الشيطان.
هل يُعقل أن يدخلنا الله في مثل هذه التجربة كما يقول الفعل اليوناني في معناه الدقيق؟ لن نتوقّف عند المناقشات التي يثيرها غموض الجملة، ولكننا نختار عبارة مخفّفة: "لا تسمح أن ندخل". وما يسند موقعنا هو صعوبة العبرية والأرامية على التمييز بين: "لا تدخل" وبين "افعل أن لا ندخل". في النصّ الأولاني وعند متّى، كان الحديث عن التجربة الاسكاتولوجية الكبرى، تجربة التخلّي عن الإيمان والتراجع عن السير وراء يسوع. وهذه التجربة كانت مخيفة إلى حدّ دعا يسوع تلاميذه ليصلّوا إلى الله حتى يمنعهم من الدخول فيها. ولكن لوقا يشير في معرض تفسيره لمثل الزارع إلى هذا السقوط الذي يتأتّى من المحنة اليومية (بيرسموس، 8: 13) ولا ينتظر الحرب الأخيرة بين الله والشيطان. إذن، علينا أن نتوسّل إلى الآب ليجنّبنا الدخول في مثل هذه المحنة (بمعنى التجربة) إذا لم نكن (رغم نعمته) أقوياء بما فيه الكفاية "لنخرج" (1 كور 10: 13) منها بدون ضرور لأمانتنا المسيحية. ومن المعقول أن لوقا أراد أن يسهّل هذا التكيّف على الوضع الحاضر فألغى القسم الثاني المتحدّث عن "انتزاعنا من يد الشرير". حين ألغى لوقا هذه النقيضة نقل الطلبة من العالم الاسكاتولوجي إلى حياة المسيحي العادية (8: 13؛ 22: 40).

ج- مثل الصديق المزعج (آ 5- 8)
أتبع متّى صلاة الأبانا بآيتين (6: 14- 15) تشكّلان تفسيراً لطلب الصفح الإلهي المشروط بالغفران الأخوي. أما لوقا فأدخل مثل الرجل الذي أيقظه من نومه صديقٌ يطلب منه ثلاثة أرغفة: أجبره على النهوض، أيقظ أسرته كلها، دفعه إلى أن يزيل القفل عن الباب أو المزلاج. إن كلمة "أرغفة" تربط المثل بالطلبة المتعلّقة بالخبز اليومي. ولكن هذا الأسلوب المصطنع يساعدنا هنا على تجميع عدة مقاطع تعالج موضوع الصلاة تجميعاً منطقيّاً.
إنّ مثل الصديق المزعج هو خاص بلوقا، شأنه شأن المثل التوأم، مثل القاضى (8: 2- 8) الذي تزعجه إمرأة مظلومة. كلا المثلين يقدّمان درساً واحداً عن الثقة لأن صلاتنا تُستجاب. وكلاهما يتضمّنان برهاناً مبنياً على أداة "بالحري" ليقدّما لنا أمثولة: إذا كان صديق ضيّق القلب، إذا كان قاضٍ لا ضمير له قد لبّيا طلب طالب منهما، فكم بالحري يستجيب الله من يطلب منه بإلحاح!
لا شكّ في أن "وقاحة" الصديق المزعج وعناد الأرملة التي أزعجت القاضي، هما صورة عن الجرأة والمثابرة في الصلاة. هذا ما يشدّد عليه لوقا في خبر الأرملة: "وكلّمهم بمثل على وجوب المداومة على الصلاة من غير ملل" (18: 1). ولكن الشخصين الرئيسيين ليسا الصديق المزعج ولا الأرملة، بل الشخص الذي رغم انزعاجه أعطى الطالب مطلبه، والقاضي الذي انصف الأرملة ليرتاح من لجاجتها. هذان الشخصان اللذان لا يحبّهما القارئ يمثلاًن الله بقدر ما يستجيبان طلبة شخصين يتوسّلان إليهما. أما على مستوى البواعث فالتعارض كامل، وصورة القاضي الظالم رسمت بالفحم الأسود. ونقول أيضاً عن الصديق المنزعج: لم يعط صديقه لأنه صديقه بل ليرتاح من لجاجته. أبرز لوقا هذين الوجهين "البشعين" ليستطيع أن يقدم برهانه المبني على أداة "بالحري". إذا كان قاض لا يخاف الله ولا يهاب الناس فعل هكذا، فكم بالحري ينصف الله مختاريه الذين يصرخون إليه نهاراً وليلاً.
لم يطبّق لوقا مثل الصديق المنزعج على الله، ولكنه سيطبّق الفكرة في الآيات التالية، فتظهر البرهنة واضحة في النهاية: إذا كان الناس الأشرار يعرفون أن يعطوا "العطايا الصالحة" لابنائهم، فكم بالحري الآب السماوي الذي هو الصالح وحده.

د- الاب يستجيب الصلاة (آ 9- 13)
1- تطبيق على مثل الصديق (آ 9- 10)
حين بيّن المثل طريقة عمل الله، دفع سامعي يسوع إلى صلاة جريئة واثقة ومداومة. فالكلمات التي تلي، تقدّم النتيجة الطبيعية في أسلوب سام، وإن يكن يسوع قد تلفّظ بها في ظروف أخرى، بما أنّ الله لا يستطيع في صلاحه إلاّ أن يسمع صلاة أبنائه، فتصرّفوا كما تصرّف الصديق الذي قرع بيت جاره لينال خبزاً: إسألوا يُعطى لكم (الله يعطيكم). أطلبوا تجدوا. دقّوا الباب يُفتح لكم (يفتح الله لكم). إن صورة الباب الذي يُقرع تتماسك مع "وقاحة" الصديق في المثل. وصورة الطالب تشير إلى موقف الشحاذ الذي لا ينال صدقة إلاّ إذا كان جريئاً وقرع الباب بعناد. والدرس الرئيسي هو درس لاهوتي: لا شك في أن الله يستجيب الذين يدعونه. ويأتي الإستنتاج فيفرض نفسه: إذن صلّوا بثقة وإلحاح.

2- مقابلة الأب والأبن (آ 11- 13)
عاد يسوع في بداية مثل الصديق المزعج إلى خبرة سامعيه اليومية: "من منكم" (آ5)؟ وها نحن نجد هنا الأسلوب التربوي عينه: "فأيّ أب منكم"؟ في الحالتين يلقي السؤال النور على الشخص المركزي عينه، على الله. ولكننا نقرّ أننا نرتاح حين نرى صورة الله في وجه أب يجيب على طلب ابنه، لا في وجه صديق ينزعج من صديقه. غير ان النصّ يشدّد هنا أيضاً على التعارض بكلمة "شرير" (آ 13) التي هي جوهرية من أجل مسيرة البرهان: "فإذا كنتم أنتم الأشرار تعرفون كيف تحسنون العطاء لأبنائكم، فما أولى أباكم السماوي! انه سيكون صالحاً تجاه الذين يسألونه". لا يذكر النصّ "شرّ" السامعين في حدّ ذاته، ولا من أجل نيّة هجومية ضدّ الفريسيين، بل ليبرز صلاح الله الذي يسمّى "أباً": انه الصالح والصالح وحده (18: 19 وز) وتجاهه كل إنسان هو شرّير (رج روم 3: 10- 18). وهو الحق وتجاهه كل إنسان هو كاذب (روم 3: 4).
إذن، نحن دوماً أمام الدرس عينه: الآب يستجيب في صلاحه صلاة التلاميذ. لا تتحدّث آ 11-13 عن الثقة المستمرّة التي تنتج من هذا اليقين. ولكن، حين لم يقل المثل وتطبيقه (آ 5- 10) أيّ شيء عن موضوع الصلاة، فإن مقابلة الآب الذي لا يعطي ابنه حية عوض السمكة المطلوبة، ولا عقرباً عوض البيضة المطلوبة، تدفع يسوع بصورة طبيعية إلى أن يخبرنا عمّا يعطي الله. قال متّى: يعطينا أشياء صالحة. وحدّد لوقا: يهب الروح القدس.
نحن لا نرى إمكانية تطوّر التعبير من لوقا إلى لفظة متّى الغامضة وغير المحدّدة، ولكن تحوّلاً أراده لوقا وهو إنجيلي الروح القدس والصلاة. هذا ما يبدو معقولاً جداً. الروح هو قدرة تفعل وتحوّل، وهو شخص حي: انه أسمى "عطية صالحة" تؤمّن تقديس الإسم في المستقبل (حز 36: 20- 28؛ رج 37: 14؛ 1 تس 4: 7- 8). إنه باكورة الملكوت الذي نطلب مجيئه، وهو الذي يمنحه الآب لصلاة إبنه الحبيب (3: 21- 22) ويستعد أن يرسله دوماً إلينا نحن أيضاً ليعلّمنا أن نحيا كأبناء ولنجعل صرخة أخينا الأكبر صرختنا: أبا، أيها الآب.
وهكذا نرى تقابلاً بين تصحيح لوقا حين قال: أيها الأب، لا أبانا الذي في السماء، وبين تصحيحه الآخر حين ذكر الروح القدس. وهكذا جعلنا في إطار ثالوثي. نصلّي مع الإبن إلى الاب فننال الروح القدس.

خاتمة
حين قدّم يسوع لتلاميذه نموذج صلاة، سلّم إلينا نحن أيضاً صلاته البنوية الخاصة المشدودة كلها نحو تمجيد اسم الله (يو 12: 28) وتتميم ملكوته. في هذا الضوء، تصبح صلاة الطلب نفسها سجوداً وعبادة، فتستقي من كمال مخطّط الله اليقين بأنها ستستجاب بصورة أو بأخرى. بعد هذا لن تظهر كبقيّة ديانة سحرية نعرّف بها الله بما نحتاج إليه ونحصل منه بالإكراه على ما يجب أن ننتظره من المجهود البشري. هذه الصلاة تعبّر عن ثقة التلاميذ بالله وتدرّبهم على هذه الثقة، كما تجعلهم فرحين أن ينالوا من الآب القوة اليومية ليحصلوا على خبز يشاركون فيه الآخرين، أن ينالوا منه ما لا تستطيع أي تقنية بشرية أن تعطيهم: الثقة بالحصول على الغفران، التغلّب على التجربة، الروح القدس الذي يحوّل القلوب على مثال الإبن ويلهمهم صلاة الابناء. فيقولون: ابا، أيها الأب ليتقدّس اسمك، ليأتِ ملكوتك

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM