الفصل الثامن : وتهلّل يسوع

الفصل الثامن

وتهلّل يسوع
10: 21- 24

إعتاد الشرّاح أن يسمّوا "قولاً يوحنّاوياً" مقطعاً إنجيلياً مشتركاً بين متّى ولوقا، تذكرنا فيه اللغة والتعليم بما نقرأ في إنجيل يوحنا. ونحن سنحاول في دراستنا أن نتقرّب من سرّ شخص يسوع الذي نستشفّه في أعمق رنّة كلماته. غير أن هذه الكلمات وصلت إلينا عبر كتابات تفسّر ما قاله يسوع وتجعل أقواله في أطر تاريخية متنوّعة. سنحاول أن نكتشف الظروف التي دفعت الرب إلى هذه الصلاة السامية. فلا نكتفي بأن نفهمها فهماً أفضل، بل نسعى إلى اكتشاف العلاقات العميقة التي تربط هذا التعليم بالعهد القديم.

أ- السياق التاريخي والأدبي
1- السياق التاريخي
إن نظرة سريعة إلى إزائية (نصوص إنجيلية وضع الواحد بإزاء الآخر) تكشف توافقاً نصوصياً وثيقاً بين متّى ولوقا بالنسبة إلى الآيات المركزية (10: 21- 22: مت 11: 25- 27). واختلافات ملحوظة في المقدمة والخاتمة.
فمتّى ولوقا لا يجعلان الحدث في الوقت عينه من حياة يسوع. دلَّ متّى على الوضع التاريخي بعبارة غامضة: "في ذلك الوقت". والقول عنده هو جزء من مجموعة تعطي صورة عن القوى المعادية التي تواجه إعلان ملكوت الله: هذا هو موضوع "الكتيّب الثالث" في إنجيل متّى. ونستطيع أن نفترض أن هذا الكتيّب يعكس وضعاً عاشه يسوع في منتصف حياته العلنية، وساعة دفعت معارضة الفريسيين المعلنة، يسوع إلى التشديد على الظروف الداخلية لتقبّل الملكوت.
أما عند لوقا، فالقطعة تدخل في مجموعة تاريخية محدّدة وخاصة بالإنجيل الثالث. هذه المجموعة هي سَفر يسوع من الجليل إلى أورشليم قبل الآلام. هي "صعود يسوع إلى أورشليم".
وهذا الإختلاف بالنظرة حوّل طريقة كل إنجيلى في فهم قول يسوع. بيّن متّى هنا كما في أماكن أخرى اهتمامه الأول بان يعطي نظرة متماسكة إلى تعليم يسوع. لم يحتفظ من حياته إلا بالعناصر البارزة، فرتّبها في إطار يحمل تعليماً. والقول الذي ندرس قد جعله متّى حالاً بعد تويّل (قال: الويل) تلفّظ به يسوع على مدينتَي كورزين وبيت صيدا اللتين تفوّقتا برداءتهما على مدينتين وثنيّتين هما صور وصيدا. لا شيء يتيح لنا على مستوى الأحداث أن نقيم علاقة (بين علّة ونتيجة) بين عدم إيمان هاتين المدينتين الجليليتين وشكر يسوع الإحتفالي. فلا نقاط مشتركة بين الواقعين، إلاّ بالتشديد على وضع فيه يتعارض هؤلاء الذين يرفضون الملكوت وهؤلاء الذين يقبلونه. هذا التعارض هو موضوع الكتيّب الثالث في إنجيل متى: أقوال حول يوحنا المعمدان (11: 2- 5)، حول جيل يسوع الذي لا يعرف الحكمة (11: 16- 19). وأقوال أخرى تتحدّث بوضوح عن الفريسيين (12: 1- 50).
بدت نظرة لوقا بسيطة وطبيعية. فساعة أراد يسوع أن يقوم بمجهود أخير يوصله إلى أورشليم، نظّم حملة كرازة في محطّات تتوزعّ طريقه إلى أورشليم. واختار مع الإثني عشر سبعين آخرين أرسلهم إثنين إثنين ليهيّئوا مجيئه في كل مدينة وقرية عزم على العبور فيها. أمّا نتائج هذه الكرازة فكانت متنوّعة. والتويّلات على كورزين وبيت صيدا تقع في امتداد طبيعي لخطبة الإرسال التي تعطي المرسلين تعليمات يمارسونها إذا لم يُقبلوا في مكان من الأمكنة. إذن، نستطيع أن نفترض أن المدينتين رفضتا هؤلاء المرسلين. ولكن الإستقبال كان حاراً في أمكنة أخرى. في هذا المنظار جعل لوقا قول يسوع: "أشكرك، يا أبت، رب السماء والأرض". إذن، يجعل لوقا هذا القول يرد بعد التويّل على كورزين وبيت صيدا.
وضع متّى الحدثين الواحد قرب الآخر. أما لوقا فجمعهما برباط طبيعي. ضمّ التويّلات ضدّ المدينتين إلى بداية رسالة السبعين. ثم جعل قول الشكر والمباركة بعد عودتهم. رجع التلاميذ وهم فرحون بنجاحهم. شاركهم يسوع في حماسهم واندفاعهم، ولكنّه خفّف الوجهة البشرية ليرفع قلوبهم إلى العلاء: "بل افرحوا بأن أسماءكم مكتوبة في السماوات" (10: 20). غير إن هذا الكلام حول مخطّطات الآب غير المحدودة، حرّكت لدى يسوع أيضاً شعوراً قوياً: جوهر رسالته هو أن يكشف هذه المخطّطات. وهكذا نكون حالاً في مقدّمة القول الإلهي: "في تلك الساعة تهلّل يسوع في الروح القدس".
إن الفن الذي به يؤلّف لوقا خبراً بسيطاً ليس غريباَّ عن معقولية الحالات التي يقدّمها هنا. ولكن بما أننا نجد عند متّى آثاراً من هذا الترتيب، فهذا ما يكفي لكي يجعلها معقولة. وهذا ما يدلّ أيضاً على أن متّى ولوقا يتبعان المرجع عينه الذي سبق له وضمّ حدث كورزين إلى نصّ المجدلة. إنجذب متّى بمتطلّبات تصميم منهجي، فأسقط ملاحظات تاريخية قدّمها إليه مرجعه. أما لوقا فاكتفى بترتيبها بطريقة معقولة جعلتنا نرى عنده الظروف "التاريخية" التي فيها تلفّظ يسوع بقوله هذا.

2- السياق الأدبي
إختلفت نسخة متّى عن نسخة لوقا على مستوى التقديم. واختلفتا أيضاً على مستوى الخاتمة. إن خاتمة لوقا التي نسمّيها "مباركة العينين"، فقد عرفها متى ولكن في إطار آخر: "طوبى لعيونكم لأنها تبصر... إن كثيرين من الأنبياء والصديقين اشتهوا أن يروا ما أنتم راؤون ولم يروا" (مت 13: 16- 17). أما خاتمة القول في إنجيل متّى فهي نصّ مشهور (تعالوا إليّ، أيّها المتعبون) غاب كلّياً عن إنجيل لوقا.
ونبدأ فنتفحّص حالة "مباركة العينين".
يبدو سياق متّى للوهلة الأولى صالحاً. فهذا التصريح عن سعادة الذين يبصرون بعيونهم ويسمعون بآذانهم حدث البشارة، يأتي كخاتمة المقطع وهو مشترك بين الأناجيل الإزائية الثلاثة حيث يعطي يسوع السبب الذي لأجله يعلّم في الأمثال. إتفق لوقا ومرقس هنا على اتّباع نصّ قصير جداً. أما متّى فتوسّع في النصّ وأورد كل نصّ اشعيا (6: 8- 10) الذي لمّح إليه يسوع: "تسمعون ولا تفهمون، تنظرون ولا تبصرون" (مت 13: 14).
نستشفّ نيّة متّى حين يقرّب "مباركة العينين" من هذا النصّ: حين لا تفهم الجموع ما ترى، أعطي للتلاميذ أن يعرفوا أسرار ملكوت السماوات (مت 13: 11). ولكن حين نتأمّل في النصّ نرى أن التقارب هو لفظي أكثر منه واقعي. فإذا أخذنا هذه المباركة في حدّ ذاتها وبمعزل عن السياق الذي وردت فيه عند متّى وعند لوقا، نرى أنها لا تعارض رؤية على مستوى اللحم والدم وفهم روحي. بل هي تعظّم فرح الرؤية المباشرة التي منحت للتلاميذ، تجاه أمل خاب لدى أنبياء ماتوا قبل مجيء المسيح.
إذن، تعارض مباركة العينين نمطين من المؤمنين ينتمون إلى جيلين مختلفين ومتقاسمين. أما نصّ أشعيا والخطبة التي تتضمّنه بمناسبة إيراد الأمثال، فهي تعارض المؤمنين واللامؤمنين في جيل واحد. وهكذا يستضيء كل شيء في منظار لوقا: فـ "مباركة العينين" لم تعد فقط استعادة موسّعة (تعود في النهاية بحسب مبدأ التضمين) لوضع صوّرته مقدّمة القول الإلهي، فهذه المقدّمة دعت التلاميذ إلى الإبتهاج خصوصاً لأن أسماءهم دوّنت في السماوات. أما المباركة فأعلنتهم سعداء (طوّبتهم) لأنهم يبصرون تحقيق النبوءات (حين يرون يسوع).
شدّد لوقا مرّة أخرى على التوافق التام بين المقدّمة والخاتمة حيث لاحظ تحرّك يسوع الذي التفت إلى تلاميذه قبل أن يقول "مباركة العينين". فكان الوضع المصوَّر هنا كثر دقّة من وضع متّى الذي أُجبر بسبب سياق النصّ أن يعطي لقول "مباركة العينين" بعداً عاماً أقلّه في الشقّ الأول (مت 13: 16)، ليجعله موافقاً لإيراد أشعيا الذي سبقه. في لوقا، يتوجّه يسوع أولاً إلى تلاميذه العائدين من الرسالة. غير أن الكلمات التي يوجّهها تدلّ في طبيعتها على توسّع في فكرته وعلى "رفع صوت" يودّ أن يصل إلى كل السامعين المقبلين لتعليمه. لهذا كان من الطبيعي أن يعود المعلّم بعد هذا الكلام الحماسي الى الذين كانوا مميّزين فرأوا بعيونهم ما اكتفى الآخرون بأن يؤمنوا به ويترجّوه.
وهكذا يتميّز نصّ لوقا بسياقه، كما يتميّز بالموقع الذي يفرده لقول مباركة العينين حين يجعله خاتمة شكر تلفّظ به يسوع بعد عودة السبعين. مقابل هذا، يجعل متّى في نهاية فعل الشكر نداء مؤثراً يطلقه يسوع إلى كل المتضايقين الذين خيبت امالهم هذه الأرض. هذه الدعوة الختامية توافق بنية أفعال الشكر كما نجدها في العهد القديم ولا سيّما في المزامير (مبارك أنت يا الله). ففعل الشكر هذا يتوسّع (في المزامير، نشيد المباركة، نشيد التعظيم) حسب رسمة تتضمّن أربع مراحل: عبارة مباركة، سبب المباركة وربّما تصوير الإحسان الذي حصلنا عليه، أصل الإحسان (مخطّط الله الأزلي، أمانته لوعده)، النتائج المقبلة وهدف الإحسان الأخير.
إذا عدنا إلى هذا القول الإلهي، نكتشف العناصر الثلاثة الأولى عند متّى ولوقا: تتوجّه عبارة المباركة مباشرة إلى الله. وهذا هو وضع يسوع الذي يشدّد بهذه الطريقة على الطابع الخاص لعلاقاته مع أبيه. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، يُعطى موضوع فعل الشكر بوضوح: وحي مخطّط الله للصغار (لصغار القوم). أخيراً يرتبط أصل الإحسان (حسب فكرة معروفة في العهد القديم: برضى (بحنان) الله الأزلي، بمقاصده الخفية، بمسرّته (اودوكيا) التي أعلنها الملائكة ساعة ميلاد يسوع. والتلميح إلى "وجه" الله يبرز هذه الإشارة إلى "المجلس الإلهي" في أسبقية مطلقة. إن المجدلة القديمة تتقتل هنا طوعاً توسّعها المسيحي. فهذا الوحي يتمّ بعد الآن بوساطة الإبن. وهذا القصد الإلهي يدخل في الزمن بواسطة تجلّي يسوع.
في هذه الظروف نفهم (عند لوقا) غياب العنصر الأخير الذي يصوّر نتائج هذا الوحي حتى كماله. فهذا هو المدلول العام لنداء يسوع الذي ينهي القول عند متّى: إن الوحي الذي حمله يسوع إلى الصغار، يتوخّى أن يمنحهم الهدوء والسلام. وهذا يظهر أيضاً بشكل أوضح إذا لاحظنا الرباطات الوثيقة بين هذا القول وتعابير فعل الشكر المستعملة في العهد القديم، بين هذا القول ومقاطع تميّز الأدب الحكمي والنبوي. ففي إعلان أسباب المديح تبدو النبرة الحكمية بارزة جداً. إنه لموضوع عزيز على الأنبياء وأصحاب كتب الحكمة (سي، حك)، وهو يقوم بالتشديد على الطابع الأخلاقي (ما يلزمنا) لمعرفة الله. فـ "الصغار" الذين يتكلّم عنهم يسوع هم مساكين المزامير وارميا واشعيا الثاني. كما أن "الوداعة" و"التواضع" اللذين يطالب بهما يسوع لنفسه هما صفات أساسية في حياة "الحكيم" و"البار" (أو: الصدّيق). ولقد اعتاد هذا الأدب الحكمي أن ينهي صوره المتعارضة عن سعادة الحكيم وشقاء الجاهل بدعوة ملحّة لسماع كلام الحكمة. هنا نستطيع أن نقرأ المجدلة الطويلة التي تنهي ابن سيراخ (51: 1- 30). فبعد مديح الله وتعداد خيرات حصلنا عليها، يأتي التحريض الأخير في آ 23: "تعالوا إليّ أيها الجهّال ولازموا مدرستي. لماذا تعتبرون نفوسكم بلا حكمة حين تكون نفوسكم بهذا العطش" (رج أم 8: 32- 33)؟.
نلاحظ أن الدعوة الأخيرة إلى الحكمة تنتهي هنا بالمباركة (أم 8: 34: هنيئاً لمن يستمع إليّ) تتوجّه إلى الذي يسمع. وفي سي 24: 19- 22، تنتهي هذه الدعوة إلى الحكمة بصورة السعادة التي تنتظر المؤمنين. "تعالوا إليّ أيها المشتاقون واشبعوا من ثماري. من يذكرني يذكر ما هو أحلى من العسل، ومن يرثني يرث ما هو أحلى من الشهد. من أكلني ازداد جوعاً، ومن شربني ازداد عطشاً. من سمع لي فلا يخيب، ومن عمل بما أقول لا يخطأ".
إن هذه النصوص تكفي لكي تبيّن أن المجدلة الحكمية تشكّل عنصراً رابعاً معروفاً في المجدلة البيبلية في زمنين: نداء لسماع الحكمة، وعد بالسعادة للذين يتبعونها. ونظنّ أن هذا هو وضع الخاتمة التي تفوّه بها يسوع في فعل شكره. لم يحتفظ متّى إلاّ بالشقّ الاول تاركاً الشقّ الثاني إلى سياق آخر يستجلبه توارد الفردات. أما لوقا فترك الشقّ الأول اختصاراً بسبب وفرة التوسّعات المماثلة التي نجدها في كل إنجيله.

3- نصّ المجدلة وتصميمها
ونستطيع الآن أن نقدّم الشكل الأول لمجدلة يسوع كما ناقلها إلينا المرجع العام من خلال مت ولو. إذا كان سياق لوقا هو الأقدم، هذا يعني أننا ننطلق من 10: 17- 24 ونعتبرها وحدة أدبية كاملة. غير أنه لا غنى من العودة إلى متّى، ليس فقط من أجل اكتشاف تفاصيل النصّ (يبدو أن متّى هو أكثر أمانة) (فلوقا قد زاد ذكر الروح القدس في آ 21، وخفّف من حدّة اللهجة السامية في آ 22)، بل لأنه احتفظ وحده بالخاتمة الطبيعية للقول، أو بالأحرى بالشقّ الأول لهذه الخاتمة. والتوازيات الحكمية تؤكّد لنا أين يجب أن نضع "تعالوا إليّ". ففي خاتمة أفعاله الشكر الحكميّة، كان هذا النداء يسبق "مباركة" الذين نعموا بالحكمة. وهكذا يكون لنا الترتيب التالي: لو 10: 17- 21+ مت 11: 28- 30+ لو 10: 23- 24. وهكذا يبدو تصميم المجدلة كما يلي:
1- مقدّمة تاريخية: عودة السبعين وتحريض يسوع حول الفرح الحقيقي (لو: 10: 17- 20).
2- المجدلة.
أ- إبتهاج المسيح ومديح إلى الآب (لو 10: 21 أ+ مت 11: 25 أ).
ب- أسباب المديح (سلبيّة وإيجابية): عمى الفهمين ووحي للصغار (لو 10: 21 ب+ مت 11: 25 ب).
ج- توافق الخبر مع مخطط الله الأزلي.
+ تذكير عام بهذا المخطّط (لو 10: 21 ج+ مت 11: 26).
+ تحقيق هذا المخطّط بواسطة الإبن (لو 10: 22+ مت 11: 27).
د- أهداف ونتائج هذا الخبر: نداء إلى المسحوقين وتخفيف الأثقال عنهم (مت 11: 28- 30).
3- خاتمة: كلام إل التلاميذ (لو 10: 23 أ) و"مباركة العينين" (لو 10: 23 ب- 24؛ مت 13: 16- 17).

ب- الإطار التعليمي
نكتشف هنا اتصالاً عميقاً بين هذا القول وأغنى التيارات الفكرية في التوراة كلها.

1- القطيع الصغير الذي يخصّ عبد الله
يجب أن نعود إلى الإلهام النبوي والحكمي في هذا المقطع لنبيّن كيف انتقل إلينا في جوّ مسيحي. هناك أولاً عودة إلى موضوع "الفقراء" العزيز على قلب إرميا، والتلميحات إلى "عبد يهوه" في أشعيا الثاني. فهؤلاء الفقراء (أو: المساكين) هم "الصغار" الذين تدلّ عليهم المجدلة على أنهم نعموا بوحي يسوع. فالكلمة اليونانية المستعملة هنا هي "نابيولس": من لا يستطيع أن يتكلّم (الطفل). إن هؤلاء "الصغار" يقابلون "الحكماء" و"الفهماء": إنهم لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم بأنفسهم. لهذا نقرّبهم من الذين تسمّيهم الدعوة الختامية "المعذّبين" و"المثقلين". اللفظة الأولى تعني في الأصل: ذاك الذي ضرب. ثم: صاحب التعب والمشقّة. واللفظة الثانية تعود إلى جذر نجده أيضاً في نهاية مت 11: 30 فيدلّ على ثقل وحمل. تلك هي صور معروفة استعملها الأنبياء ليدلّوا على مصير المؤمنين الحقيقيين بالرب. هؤلاء نجدهم قبل كل شيء وسط بؤساء الأرض، وسط المعذّبين: هذا لا يعني أن الفقر في حدّ ذاته والألم يعطيان الحق بالملكوت. بل يساعدان القلوب الجاهزة على انفتاح متواضع وواثق، على هذه الوداعة، على جهوزية تامة تقدّمهم إلى يد الحب الذي لا يرى.
ويسوع قد قدّم نفسه كمثال ونموذج لهؤلاء "الفقراء" حين سمّى نفسه "الوديع والمتواضع". الكلمة اليونانية المستعملة هنا تقابل في السبعينية "عناو" العبرية (رج العناء في العربية). ولفظة "عناو" تميّز أيضاً وضع عبد الله المتألّم في أش 53: 7. إذن التلميح واضح إلى قصيدة اشعيا المعروفة التي نجد فيها ينبوع التفسير المسيحاني لهذا القول في العهد الجديد.

2- أولاد الحكمة
أما التيّار الحكمي فهو حاضر في وضع يسوع تجاه تلاميذه: فكل سياق القول هو سياق تعليم إلهي، سياق وحي يتطلّب خضوعاً تاماً، سياق حكمة جديدة بشكل جذري (رج لو 7: 35). ليس الصغار فقط هم الضعفاء: فالموازاة التعارضية التي تجعلهم تجاه "الحكماء" و"الفهماء" تدلّ على أننا أمام موقف خضوع تجاه تعليم حي. هؤلاء "الأطفال" لا يستطيعون أن يتكلموا ولكنهم يستطيعون أن يسمعوا. ونقول الشيء عينه عن يسوع "المتواضع". الفكرة الأولى: ما ليس بمرتفع ومترفّع، ما هو على مستوى الجميع، ما هو منفتح وبمتناول الجميع.
حين نعود إلى أشعيا نرى أن ذكر تواضع عبد الله تتبعه حالاً صورة الحمل الذاهب إلى الذبح دون أن يفتح فاه. ثم إن يسوع هو متواضع القلب. والقلب في الكتاب المقدّس ليس مركز الشعور والإحساس (الكلى هي مركز الشعور)، بل ينبوع المعرفة والفهم. وهكذا نكون هنا أيضاً في سياق حكمي. أخيراً، لا يسمّي يسوع نفسه فقط "المتواضع" بل "الوديع". ليست الوداعة صفة الإنسان الذي لا يتحرّك لأنه ضعيف. الوداعة هي موقف تقبّل للآخر، حنان ورحمة، رغبة في الخير بسيطة ومتساهلة. وهكذا نبقى في إطار العلاقات التي تربط المعلّم بتلاميذه. يقف يسوع على نقيض الفريسيين "العلماء" الذي يحتقرون الشعب البسيط و"الجاهل": نستطيع أن نقترب منه بسهولة، لا اعتداد عنده. والوضعاء يرتاحون في التعامل معه. ولهذا يجدون في تعليمه ما يخفّف عن ضيقهم وحملهم الثقيل.

3- معلّم خطبة الجبل
دلّ هذا التحليل للمعطيات النبوية والحكمية، على ارتباط حكيم بين الفكر وتعليم يسوع كما نجده في الأناجيل الإزائية.
قال بعض الشرّاح إن نداء يسوع (إلى المتعبين) الذي يختتم القول، يفترض عند يسوع تصرّفاً سيكولوجياً مختلفاً عن ذاك الذي يعكسه إنجيل مرقس. ففي الإنجيل الثاني يبدو يسوع سريع الغضب، متطلباً جداً، لا يأخذ بعين الإعتبار سامعيه: كم نحن بعيدون عن يسوع "الوديع والمتواضع القلب"؟ ولكن يسوع (كما اكتشفناه في هذا التأويل) يبقى المعلّم المتطلّب كما يصوّره مرقس. والتواضع والوداعة اللذان تكلّمنا عنهما هما، صفتا التلميذ الذي ينفتح، والمعلّم الذي يعطي ذاته فيصل به هذا العطاء إلى الصليب.
إن هذا القول هو مع التطويبات شرعة التعليم المسيحي كما نكتشفه في الإزائيين، ولا سيّما في الخطب الكبرى التي نقرأها في متّى ولوقا. إذا اعتبرنا ان هذا المقطع (الذي غاب عن مرقس) انتمى إلى مرجع أولاني، فهذا يعني أن هذا المرجع دلّ (قبل القديس بولس) على فكر يسوع حول معنى رسالته، حول مدلول حياته في تاريخ قصد الله منذ العهد القديم. وكما يستعيد نشيد التعظيم (لو 1: 46- 56) نشيد حنة، أم صموئيل (1 صم 2: 1 ي)، كذلك تستعيد مجدلة يسوع نشيد الفقراء وصلاة عبد يهوه (الرب). وهكذا ينكشف المعنى الخفي للألم وسبب المفارقة المسيحية التي تكتشف الحياة في الموت. بما أن كلمة الله هي وحي الله بالذات ومعرفة ذاك الذي لا يُعرف، فلا نستطيع أن نقبلها إلا حين يموت فينا البشريّ موتاً تاماً. هذا يفترض انقلاباً في وجهات الحكمة الأرضية وتخلياً عن نظرة محض بشرية إلى السعادة.

4- الكلمة يكشف الآب
هذه الطريقة في عرض التعليم المسيحي على أنه الجواب الوحيد لسرّ الإنسان في قلبه وحياته، هي عميقة في إنسانيّتها. ولكن "تعرية" القلوب هذه لا تتوخّى إلاّ أن تفتحها على كلمة الله. وانفتاح الإنسان هذا على انتظاراته العميقة، يقدّمها للعطاء الأسمى، لوحي حياة الله نفسه. فسرّ الهوّة التي يحفرها الألم في الإنسان هي الجهة المقابلة لسرّ آخر، هي نداء إلى غمر آخر مليء بملء الله. إنّ هذا القول يعلن الآب في الإبن بألفاظ تذكّرنا بما في الإنجيل الرابع.
فالموازاة الوثيقة بين الآب والإبن من جهة، وبين الإبن وأخصائه من جهة أخرى، وموضوع وحي الآب بواسطة الإبن وحده، كل هذا يجعلنا في إطار يوحنّاوي. فالمفردات نفسها هي مفردات يوحنا: عرف من هو، الآب، الإبن، أراد، أوحى. فمنذ المطلع، يرى يوحنا في يسوع كلمة الله بالذات: من استمع إلى الله تقبّل ابنه وصار ابن الله بواسطة هذا الإبن (يو 1: 12-13). الله لم يره أحد قط، إلا الإبن الوحيد. وهذا الإبن يستطيع وحده أن يخبرنا عنه (يو 1: 18). وهكذا يعطي الله كل شيء لابنه (يو 3: 35). فمن عرف الإبن عرف الآب (يو 14: 9- 10) ومعرفة الله تعني تعرّفاً إلى أبوّته في يسوع وبيسوع إلى أبوّته في الذين يؤمنون به. وتعرّفُ المؤمن إلى الآب في الإبن، يجعل ولادة الابن بالآب تصل إليه.

ج- أضواء على سرّ يسوع
هذا الإطار اليوحنّاوي لقوله قرأناه في مت ولو، يدهشنا حين نتذكّر أن قد مرّ نصف قرن ونيّف على التدوين الأول لهذا القول. وبما أنّ هذا التدوين يعود إلى ينبوع سبق متّى ولوقا، فهذا يعني أن القول سابق حتى لإنجيل مرقس ومعاصر للرسائل البولسية.
ثم إن هذا الأسلوب "اليوحنّاوي" لا نجده بشكل واضح إلاّ في هذا الموضع من الأناجيل الإزائية. وإن يوحنا لا يحصر الكلام عن يسوع في هذه الطريقة السرية والاحتفالية. فهو يجعلها في فهم الأشخاص الآخرين. وهذا ما يفترض أسلوباً أدبيّاً لدى يوحنا. لغة يوحنا عند الإزائيين تتحلّى بالبساطة وتبدو موافقة للواقع التاريخي. ولهذا نتساءل: أيكون يسوع ذاك النبي المندفع وصاحب الكلام القاطع الذي صوّره مرقس؟ أيكون معلّم الأخلاق كما نراه في مت و لو؟ هل هو تجلٍّ روحي ليسوع التاريخي في إطار عالم متعالٍ؟ لماذا لا يكون كل هذا معاً؟
والقول الذي درسناه يكفي لكي لا نجعل جداراً وحاجزاً بين إنجيل وإنجيل. إنه يجمع في خطبة واحدة بانت وحدة إلهامها، وجهتين بدتا متعارضتين في كلام يسوع. فإذا كان لوحي الآب في ابنه نكهة يوحنّاوية حقيقية، فما تبقّى من الخطبة (حيث تدخل الآية بشكل طبيعي) يدلّ على وضع إنساني خاصّ بالأناجيل الإزائية. فيسوع نفسه المليء بالحنان البشري والمطبوع بطابع العظمة، هو ذاك الذي أشفق. على سامعيه وأطعمهم كما قال مرقس، والذي بكى على أورشليم كما قال لوقا.
والتصريح الإحتفالي حول وحي الآب لا يبدو متنافراً في هذا الإطار الإزائي، بل يدلّ على تفتحه الرفيع. وهكذا نفهم أن يكون يسوع تكلّم بعض المرّات بشكل احتفالي كما في إنجيل يوحنا. ولكنه ظلّ في الوقت عينه يسوع كما حدّثنا عنه مرقس وكما نكتشفه في خطبة الجبل.
أجل، إن هذا القول كشف على المستوى السيكولوجي الوحدة السرّية في شخص المسيح. وتعليمه يعتبر ملخصاً يأخذ بمجامع القلب لتعليم يسوع، سواء في الأناجيل الإزائية أم في الإنجيل الرابع.
فهناك علاقة داخلية عميقة بين ما نستطيع أن نسمّيه التعليم النبوي والحكمي، والوحي الخفي لحياة الله الذي يرافق هذا التعليم. في الحقيقة نحن أمام وصلة بين وجهتين أساسيّتين للتعليم المسيحي. وهناك علاقة جوهرية بين موقف التواضع الذي يميّز تلميذ يسوع ووحي الآب بالإبن. وإذ أبرزت الأناجيل الإزائية موقف التواضع، أعلن يوحنا وحي الآب. وجاء هذا القول يجمع وجهتين متكاملتين لسرّ واحد. وهكذا تتخذ أقوال "أخلاقية" لدى الإزائيين طابعاً جديداً يجعلها تدخل في روحانية المسيح الذي مات وقام (كما عند القديس بولس).
فبين انتظار قلب متواضع ينفتح (ويخضع) على كلمة الله وتجلّي هذه الكلمة في يسوع الذي يكشف الآب، يأتي هذا القول الإلهي فيربط بينهما. إنّ مواقف المسيحي، وحياته الأخلاقية والنسكيّة، وحرارة صلاته، وتعمّقه في معرفة مقاصد الله، كل هذا يقوم في استعداد داخلي واحد تسمّيه التطويبات "الفقر بالروح". ولقد جعل هذا القول من الفقر وضع انتظار في الإنسان لعطيّة الله، وتقديمه لغنى الاب اللامحدود الذي يجري من قلب الإبن كشراب حياة من أجل كل مؤمن. وهذا الشراب هو الروح القدس.

خاتمة
مع ذكر السبعين تلميذاً يبدأ توسّع جديد حيث الصلاة تصبح وحياً. والإنتصار لا يتأخر إلى مستقبل لا نـعرف متى يبدأ: فالنصر قد بدأ الآن. والمرسلون اختبروا "اليوم" قوة اسم يسوع على قوى الشرّ. وحماسهم قريب من حماس المرسلين الأولين: فيلبس في السامرة، بطرس بعد عودته من عند كورنيليولس، بولس بعد رسالته عند الوثنيين.
إنّ آ 17- 22 تتضمّن في الواقع وحيين مميّزين: النصر الحاضر (آ 17- 20) وكشف عن حنان الآب ورضاه (آ 21- 22). جمعهما لوقا فشدّد على أنّ الرسالة وعمل النعمة في الروح القدس يشكّلان حدثاً واحداً: هو انتصار كلمة النعمة في قدرة الروح القدس. ونعيش هذا الإنتصار على أنّه قصد الآب ورضاه ومشاركة في قيامة المسيح. كل هذا يبدو منذ الآن وحي لمسرّة الآب ومشاركة في فرح الإبن.
إن صلاة يسوع تضمّ لا السبعين فقط، بل كل الذين يقبلون أن يغمرهم حنان الآب. كل تلميذ يستطيع أن يشعر بسعادة ذاك الذي رأى الملكوت آتياً بقوّة. وهو يستطيع أن يختبر تحقيق الوعد الذي أعلنه الآباء والملوك وانتظروا تحقيقه

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM