تركنا كلَّ شيء وتبعناك

عيد مار أنطونيوس الكبير (أف 6: 10-18؛ مر 10: 28-31)

 

28وشرعَ كيفا يقول: “ها نحنُ ترَكْنا كلَّ شيء وتبِعْناك.” 29فأجابَ يسوعُ وقال: “آمين أنا قائلٌ لكم: ليس إنسانٌ تاركًا بيوتًا أو إخوة أو أخواتٍ أو أبًا أو أمًّا أو امرأةً أو بنينَ أو قُرى لأجلي ولأجلِ بِشارتي، 30إلاّ ويتقبَّلُ واحدًا بمئة. الآنَ في هذا الزمان، بيوتًا وإخوةً وأخواتٍ وأمَّهاتٍ وبنينَ وقُرى مع الاضطهاد، وفي العالمِ الآتي حياةَ الأبد. 31فكثيرون أوَّلون يكونون آخِرين، وآخِرون أوَّلين.”

*  *  *

حياة أنطونيوس هي حياةٌ من الجهاد. لهذا تقرأ الكنيسة هذا المقطع الإنجيليّ من مرقس، وتُسبقه بخاتمة الرسالة إلى أفسُس. أمَّا الإطار الإنجيليّ فهو الاضطهاد الذي عرفته كنيسة رومة في الستِّينات، وفي أيَّام نيرون وخصوصًا موت بطرس وبولس، وغيرهما العديد من المسيحيِّين، حين أحرق هذا الإمبراطور رومة واتَّهم المسيحيِّين.

الموضوع: التجرُّد من كلّ شيء. تجاه الرجل الغنيّ الذي مضى حزينًا حين دعاه يسوع ليذهب ويبيع كلّ ما يملكه ويوزِّعه على المساكين، أعلن بطرس باسم رفاقه، أنَّه ترك كلَّ شيء. وكان اتِّباعٌ أوَّل، حين ترك البيت والسفينة والصيد في المياه. أمَّا الاتِّباع الثاني فهو الانسلاخ عن عالمه ومحيطه، والذهاب إلى أنطاكية أوَّلاً، ثمَّ إلى رومة. هناك تبع يسوع حتَّى النهاية، حتَّى الصليب والموت على الصليب.

ماذا يكون أجر مَن يتبع المسيح؟ مئة ضعفٍ من البيوت... ترك بيتًا واحدًا، فنال البيوت، ترك أخًا أو أُختًا فصار له الإخوة والأخوات... هكذا تجرَّد يسوع. وماذا قال يسوع؟ الاضطهاد، وفي النهاية الموت. ولهذا قال الإنجيليّ: مع كلّ هذا ينال الرسول "الاضطهادات"، مئة ضعفٍ أيضًا. فلو أنَّه ما تبع يسوع لما كان قال: الاضطهاد. فالسير وراء يسوع يُكلِّف غاليًا.

ولكن هل انتهت الاضطهادات، وانتهى الجهاد المسيحيّ والموت في سبيل الإنجيل؟ لا، فالجهاد المسيحيّ لا ينتهي، بل يتَّخذ شكلاً آخَر. تلك هي الطريق التي اتَّخذها أنطونيوس، والذين حذَوا حَذوه. مَن الذي يحرِّك الاضطهاد؟ إبليس ومَن يسمع نصائحه. وأين هو إبليس الآن بعد أن عرفت الكنيسةُ السلام؟ هو في البرِّيَّة. إذًا، يمضي الحبيس إلى البرِّية، وهناك يصارع إبليس الذي يُرمَز إليه في الكتاب، بالوحوش الضارية. هكذا يُصوَّر عادةً مار أنطونيوس. لا، لا يهرب الحبيس إلى البرِّيَّة ليهرب من الخطيئة والشرّ، لأنَّ الشرّ يتبعنا في كلّ مكان. بل هو مضى إلى هناك لكي يحارب ويجاهد. وحين استدعت الحرب العودة إلى العالم، ترك أنطونيوس البرِّيَّة وراح إلى الإسكندريَّة يحارب الحركة الآريوسيَّة التي قالت إنّ المسيح هو إنسانٌ فقط، على ما تقول بدعٌ في أيَّامنا... راح أنطونيوس يُدافع عن أُلوهيَّة المسيح. هو إبليس يُحرِّك الضلال أيضًا، فتسلَّح أنطونيوس بسلاح الله وراح إلى الحرب. ولا شكّ في أنَّه انتصر مع ذلك الذي "غلب العالم"، وأفهمنا أن لا نصر لنا إلاَّ بإيماننا، على ما قال يوحنَّا في رسالته الأُولى: "مَن الذي يغلب العالم إلاَّ الذي آمن بأنَّ يسوع هو ابن الله؟" (5: 5).

والسلاح واضح: الترس الذي يقي من سهام الشرِّير الملتهبة هو الإيمان، والخوذة التي تحمي الرأس، هي الخلاص. والسيف هو كلمة الله التي هي "في حدَّين فتدخل مفرق النفس والجسد" (عب 4: 12). أجل، نأخذ سلاح الله الكامل. "لأنَّ صراعنا ليس مع لحمٍ ودم، بل مع رئاسات وسلاطين هذا العالم، عالم الظلمة" (أف 6: 12).

وهكذا، ترك أنطونيوس كلّ شيءٍ فنال كلّ شيء. ترك الغنى فكان له أكبر غنى، رفقة الربّ يسوع الذي يعطينا ملء السعادة. تعجَّب البعض كيف أنَّ أنطونيوس قضى كلّ هذا الوقت في البرِّية ولم "يضجر"، ولا هو "تراخى"، ولا هو "تراجع". هو ما شابَهَ ذاك الذي أمسك المحراث: فهذا لمَّا نظر إلى الوراء، عاد إلى العالم الذي تركه. أنطونيوس في رفقة الربّ يسوع، فأيَّة رفقةٍ تجتذبه بعد؟ هو اختبر فرح الروح فهل يعود إلى ملذَّات الجسد، وهو الذي كان غنيًّا جدًّا؟ وإلاَّ كان شابه أهل غلاطية الذين "تركوا مَن دعاهم بنعمة المسيح" (1: 6)، وتبعوا "آلهةً" أُخرى. بالنسبة إليه "صار العالم مصلوبًا، وصار هو مصلوبًا بالنسبة إلى العالم" (غل 6: 14). أتُرى المسيح نزل عن الصليب؟ كلاَّ، ولا أنطونيوس قَبِل أن يترك برِّيَّته. هناك وجد المسيحَ ولبث حياته مع المسيح، فما عاد هو الحيّ بل المسيح صار الحيَّ فيه.

 

عندما نتطلَّع إلى القدِّيسين، لا يمكن أن يخفى عنَّا وجهُ المسيح، لأنَّهم في الواقع امتدادٌ لحياة المسيح في العالم. فإسطفانُس الذي مات رجمًا، هو صورةٌ عن يسوع الذي مات صلبًا. وكما غفر يسوع كذلك فعل إسطفانُس. وكما نام يسوع في حضن الآب السماويّ كذلك فعل إسطفانُس، فقال: "أيُّها الربّ يسوع، تقبَّل روحي" (أع 7: 59).

وصعد بولس إلى أورشليم، وقبله صعد يسوع. يسوع مات في أورشليم، أمَّا بولس فمات في رومة. وكذا نقول عن بطرس الذي جُعل في السجن ليموت في زمن الفصح (أع 12: 4). وهكذا هم القدِّيسون. أخذ الروحُ يسوعَ إلى البرِّية، ومثله مضى أنطونيوس ونال من التجارب ما ناله الربّ، خصوصًا أنَّه ترك الأموال الطائلة والأمجاد البشريَّة. وكما أجرى الربّ المعجزات، كذلك فعل أنطونيوس. وعند الجهاد من أجل الحقيقة، ما خاف أن يقول الحقيقة ويعلنها بالفم الملآن، في خطّ مَن هو الطريق التي تقود إلى الحقّ والحياة.

تخلَّى أنطونيوس عن العالم، ورفض أن يعود إلى العالَم، كما فعلَ يهوذا، والعديدون في أيَّامنا. وما يُؤسفنا هو أنَّنا نترك العالم ثمَّ نُدخله في قلوبنا، في حياتنا. نحن في البرِّيَّة، ونتطلَّع إلى "المدينة". نحن مع الربّ، ونتمنَّى أن نكون مع المال والملذَّات. نُشبه العبرانيِّين الذين لبثوا يحنُّون إلى بَصَل مصر وبطِّيخها.

سمع أنطونيوس الإنجيل. ونحن نسمعه، ولكن بأُذُنٍ لا تمسك كلامًا. سمعه وكأنَّه موجَّهٌ إليه، وعمل به. فلا يكفي أن نسمع، بل يجب أن نعمل وإلاَّ يكون بيتُنا مبنيًّا على الرمل. وأمَّا مَن كان بيته على الصخر فلا تهمُّه الرياح ولا الأمطار ولا الأنهار. أَمَا هكذا كان أنطونيوس فلبث المثال لآلاف الرهبان بعد قرونٍ من الزمان على انتقاله إلى السماء؟


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM