كيف ننتظر السيِّد؟

الأحد الرابع بعد الصليب (1 تس 5: 1-11؛ مت 24: 45-51)

 

45فمَن هو يا تُرى العبدُ الأمينُ والحكيمُ الذي أقامَه سيِّدُه على بني بيتِه ليُعطيَهم الطعامَ في حينِه. 46طوبى لذلك العبدِ الذي يأتي سيِّدُه فيجِدُهُ فاعلاً هكذا. 47آمين أنا قائلٌ لكم: يقيمُه على كلِّ ما له. 48وإذا يقولُ ذلك العبدُ الشرّيرُ في قلبِه: "سيِّدي يتأخَّرُ للمجيء"، 49ويشرعُ يضربُ رفاقَه، ويكونُ آكلاً وشاربًا مع السكارى. 50يأتي سيِّدُ ذاكَ العبدِ في اليومِ اللامنتظرِ وفي الساعةِ التي لا يَعلَمُ. 51ويفصِلُه ويجعلُ نصيبَه مع الآخذينَ بالوجوه. هناكَ يكونُ البكاءُ وصريرُ الأسنان.

*  *  *

مقدِّمة

زمن ارتفاع الصليب هو زمن تمجيد الربِّ في الكنيسة وفي العالم. هذا يعني أنَّه علينا أن نعمل يومًا بعد يوم لكي نعجِّل في مجيء المسيح. ويفهمنا هذا الزمن أنَّ الانتظار ليس عاطفة تدفعنا في يوم من الأيَّام إلى حجٍّ إلى مكان من الأماكن، أو إلى مشاركة تبدأ سريعًا وتنتهي سريعًا مثل حبَّة القمح التي وقعت في أرض قليلة التراب. انتظارنا هو عمل متواصل وعيوننا تتطلَّع إلى ذاك الذي قال لنا فيه الإنجيل: "العريس آتٍ، فاخرجوا للقائه."

يقع هذا النصُّ الإنجيليّ (مت 24: 45-51) في الخطبة الخامسة من خطب متَّى الخمسة، التي تحدِّثنا عن نهاية الأزمنة ومجيء السيِّد. النهاية بدأت منذ موت يسوع وقيامته، ونحن نعيشها يومًا بعد يوم. ولكن هناك انتظار وانتظار. انتظار مَن يعمل مشيئة الله، فيكون ذلك العبد الأمين الي يتحلَّى بالحكمة، أو انتظار مَن يعيش في الكسل ويبدِّد ما أعطاه الربُّ من خير، بل يستعمله لكي يدمِّر حياة المحبَّة في الجماعة.

 

بين خادم وخادم

قدَّم لنا المثَل الإنجيليّ صورة خادمين. نتذكَّر هنا أنَّ لفظ "عبد" لا يعني فقط في الكتاب المقدَّس ذاك الذي اشتريناه أو حصلنا عليه كأسلاب حرب، بل وأيضًا ذاك المقرَّب من الملك، من السيِّد. فعبيد داود مثلاً، هم وزراؤه والموظَّفون الكبار. هم الذين يصنعون ما يأمرهم به، ويتعلَّقون بمَن ارتبطوا به وأقسموا الأمانة له.

"العبد" الأوَّل هنا، يسمِّيه الإنجيل "الأمين" هو الذي آمَن بسيِّده، والسيِّد هو الله بالذات. آمن، جعل ثقته بالربّ، وثبت على هذه الأمانة حتَّى النهاية. فالمسيح سبق وقال لنا: "من يثبت إلى المنتهى فهذا يخلص" (مت 24: 13).

وهذا العبد هو "الحكيم" يتحلَّى بالحكمة والعقل والفطنة. هنا نتذكَّر كلام الكتاب: "رأس الحكمة مخافة الله." فالحكمة البشريَّة تبقى ناقصة إن لم تتوِّجها هذه المخافة التي تجعل المؤمن يعيش بحسب وصايا الربّ. تكون عينه على يد الربِّ كعين العبد على يد مولاه وعين الأمة على يد سيِّدتها (مز 123: 2).

وهذا العبد يفتخر بأنَّه الخادم، وبأنَّه يخدم إخوته. يقدِّم لها الطعام في حينه. ذاك ما فعله يوسف بن يعقوب في مصر، في زمن المجاعة. وذاك ما فعله الرسل حين كثَّر يسوع الأرغفة. هو أعطى تلاميذه، والتلاميذ أعطوا الجموع (مت 14: 19). وذاك ما فعله السبعة الذين كرَّسهم الرسل في بداية الكنيسة، فاهتمُّوا بشكل خاصّ بالأرامل في الجماعة (أع 6: 1-2).

أمّا الخادم الآخر، فسُمِّي الشرِّير، ما أخذ بطريق الخير، بل سار في رفقة الأشرار، بحسب ما يقول المزمور الأوَّل: سلك مشورة الأشرار. وقف في طريق يقف فيه الخطأة ليسير سيرتهم. وفي النهاية، جلس في مجلس المستهزئين، أولئك الذين يحتقرون الصدِّيق ويعتبرون حياته خسارة، لأنَّه لا يعرف أن يأكل ويشرب، لأنَّه غدًا سيموت.

 

بين انتظار وانتظار

الانتظار يرتبط بالنظر. قبل أن يأتي المسيح، يتطلَّع الخادم الأمين إلى "موضع" منه يأتي الربّ. هو لا ينظر إلى نفسه، بل إلى البعيد. فالربُّ قال له: أنا آتٍ. إذًا، هو سيأتي بدون أيِّ شكّ. وسيأتي في ساعة لا نتوقَّعها. في نصف الليل، عند صياح الديك، في وضح النهار. هو يأتي ساعة يريد، لا ساعة نريد نحن. لا شكَّ في أنَّ استعدادنا لمجيئه أمر هامّ. ولكلَّ مجيئه لا يرتبط بالكون ولا بالإنسان. هو وحده يعرف، ووحده يقرِّر.

أمّا الخادم الأمين فما كان انتظاره في الكسل: كتَّف يديه وتوقَّف عن العمل. كلاَّ ثمَّ كلاّ. بل كان انتظاره في العمل اليوميّ، في الخدمة على مثال الربِّ الذي جاء ليَخدم. فانتظار في الكسل انتظار عقيم لا يحمل ثمرًا. والانتظار في العمل يهيِّئ الطريق لذلك الآتي، على مثال ما فعل يوحنّا المعمدان في المجيء الأوَّل. وفي أيِّ حال، مجيء الربِّ بالنسبة إلى كلِّ واحد منَّا بمفرده، هو ساعة الموت. لسنا نحن أوَّلاً من يذهب إلى الربّ، بل هو يبادر ويأتي إلينا ويقول لنا: تعالوا يا مباركي أبي (مت 25: 34).

والخادم الشرِّير لم ينظر إلى الطريق التي منها يأتي الربّ، بل نظر إلى نفسه. ما حسب حساب الآخرة. ظلَّ على مستوى الزمن الحاضر. قال: سيِّدي سيتأخَّر. فكأنِّي به يقول: سيِّدي لا يأتي. هذا الموقف هو موقف المؤمنين في الرسالة الثاني إلى تسالونيكي. قالوا: المسيح جاء. فلم يعُد لنا أن ننتظر شيئًا. والعبد الشرِّير اعتبر أنَّه ينبغي الإفادة من الأيَّام التي بقيت لنا: نأكل ونشرب. وهكذا نعيش في أنانيَّة تسجننا في هذا العالم، وننسى إخوتنا، على مثال الغنيّ الذي لم يرَ أخاه لعازر على بابه (لو 16: 19-21). وهذه الأنانيَّة تقود إلى العنف الذي هو عكس المحبَّة المتألِّقة في الخدمة.

 

بين ثواب وعقاب

وفي النهاية، جعلنا المثل الإنجيليّ أمام ساعة الدينونة. ساعة يُعرَّى الإنسان من كلِّ قناع، من كلِّ ذنب ومراءاة. ويظهر كما هو أمام الربّ. نحن نخطئ مرارًا لأنَّنا نتوقَّف عند الظواهر الخارجيَّة. "هذا الإنسان يعيش حياته، عافاه." فلماذا حرمان النفس ممّا أعطانا الله؟ هذا ما قالته امرأة أيُّوب لزوجها: "أتبقى إلى الآن متمسِّكًا بنزاهتك؟" (2: 9). وقالت امرأة طوبيت: "أين صدقاتك وأعمالك الصالحة؟ الآن نرى ما استفدت منها" (طو 2: 14). في الواقع، ناله العمى، ولكنَّ الربَّ سيشفيه.

في تلك الساعة يكون الثواب للخادم الأمين: يوكله الله على جميع أمواله ويعطيه ملء السعادة. يكون نصيبه لا عطاء مادِّيًّا، ولا سعادة خارجيَّة، بل الله نفسه. فهنيئًا له، وما أسعده! هو لم ينتظر حكم البشر، بل دينونة الله. وكلام الربِّ واضح: مثل هذا الإنسان لا يمرُّ في الدينونة، بل نتقل من الموت إلى الحياة. وفي هذا قال يعقوب: "الرحمة تنتصر على الدينونة" (يع 2: 13). وهذا في خطِّ المزمور التاسع عشر حيث ينتظر مَن يحفظ كلام الربِّ، الثواب العظيم.

ويتوسَّع المثل الإنجيليّ في ما يصيب العبد الشرِّير. مصيره مصير المنافقين، والمنافق في الدين هو مَن ستر كفره بقلبه وأظهر إيمانه بلسانه. هو لا يعرف التقوى ومخافة الربّ: ولا المحبَّة الأخويَّة. وهو أعمى (مت 7: 5). ورأيه فاسد وحكمه حكم الخطأ. يكذب على نفسه ويظنُّ أنَّه يقدر أن يكذب على الله! عقابه يكون كبيرًا. يلقى الموت المادّيّ، ويلقى الموت الروحيّ. يكون خارج قاعة الملكوت. يُعزَل، يُطرَد، فلا يشارك في سعادة المختارين. سيبكي في ذلك الوقت، ولكن ماذا ينفع البكاء والندم بعد أن يكون الباب أُغلق. ويصرف بأسنانه غضبًا وغيظًا حين يرى سعادة الأبرار.

 

السهر

انطلق الرسول ممّا سمعه في الجماعات المسيحيَّة من كلام الربِّ يسوع عن "أحداث" الآخرة، مع نداء ملحّ إلى السهر. هذا الموقف يتعارض كلَّ المعارضة مع الرقاد والنوم حيث لا ينتظر الإنسان عودة الربّ. فالليل هو موطن الشرّ، والرقاد يجعلنا مع العبد الشرِّير "الذي يأكل ويشرب مع السكِّيرين." أمّا الساهر فيتسلَّح بالإيمان والمحبَّة ورجاء الخلاص.

 

وفي النهاية نفهم أنَّ المؤمن يعيش في النور، لا في الظلمة، في سهر النهار، لا في رقاد الليل. وسهره عمل يوميّ وخدمة متواصلة من أجل البشارة ونشر الملكوت. هو يختار لنفسه حياة في هذه الدنيا تجد نتيجتها في ساعة الدينونة: للعبد العاقل ثواب عظيم، وللعبد الشرِّير عقاب كبير. فيا ليته انتظر الربَّ وما تصرَّف كالجاهل الذي اعتبر أنَّ الله غائب، وإن كان حاضرًا فهو لا يفعل. فأغلق نفسه على الآخرة وحصر حياته في هذه الدنيا.


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM