الفصل الخامس : صعود يسوع إلى أورشليم

الفصل الخامس

صعود يسوع إلى أورشليم
9: 51- 19: 27

إن القسم الأول من الإنجيل اللوقاوي (الحقبة الجليلية من رسالة يسوع العلنية، 3: 21-9- 50) تجد ذروتها في اعتراف بطرس في قيصرية فيلبّس. فقد أعلن بطرس باسم التلاميذ: أنت "مسيح الله" (9: 20)، وهذا الإقرار الرسمي بمسيحانية يسوع قد فسّره حالاً وكمّله الصوت السماوي في خبر الصعود: "هذا هو ابني ومختاري، فله اسمعوا" (9: 35). يسوع هو المسيح، ولكنه مسيح متألم، هو عبد الله الذي يتمّ الآن "خروجه" (إنطلاقته، مسيرته) إلى أورشليم (9: 22، 31، 44).
إن هذه النظرة إلى الموت المرتبط بضرورة الذهاب إلى المدينة المقدسة، أمر مشترك بين الأناجيل الإزائية. ولكن فكرة "سفر إلى أورشليم" ظلّت عند مرقس (10: 32: 11: 1) ومتّى (20: 17؛ 21: 1) فكرة عابرة. أما لوقا فتوسّع فيها توسيعاً كبيراً. فكل القسم المركزي في إنجيله بُني في رسمة "سفر"، رسمة "صعود" يسوع إلى أورشليم. ورتب لوقا داخل هذا الإطار القسم الأكبر من المواد الأدبية التي تفرّد بإيرادها.

1- المعطيات
نقف عند فرضية المرجعين فنقدّم الملاحظات التالية:
أ- حتى 9: 50، إتبع لوقا بأمانة شبه كاملة ترتيب المواد التي وجدها في نموذجه المرقسي. غير أنه أغفل مر 6: 45- 8: 26 (جزء من الرسالة في الجليل)، وأدخل بعض العناصر غير المرقسية، لا سيّما 3: 1- 4: 30 و6: 20- 8: 3.
إذن، نستطيع القول (مع إغفال بعض التفاصيل) إن لوقا استعاد تصميم مرقس ومواده في مر 1: 1- 9: 41. أخذ هذه المواد التي ترتبط بالحقبة الجليلية من رسالة يسوع العلنية، فامتدّت في إنجيله حتى 9: 50.
ب- بعد 9: 51، ترك لوقا النموذج المرقسي ليعود إليه في 18: 15 ويتبعه بطريقة شبه أمينة (ما عدا لو 19: 1- 27) حتى بداية خبر الآلام. وظلّ لوقا مرتبطاً بنموذجه من خبر الآلام (22: 1) حتى نهاية إنجيله (24: 12)، غير أنه بدا شخصياً ومتحرّراً. وهكذا عاد لوقا من 18: 15 إلى 22: 1، إلى ترتيب مرقس، واستعاد بأمانة ما وجد في مر 10: 13- 13: 37. هي المواد المتعلّقة بنشاط يسوع العلني في أورشليم. من لو 22: 1 إلى 24: 2 بدا لوقا حرّاً بالنسبة إلى مر 14: 1- 16: 8 (الآلام والقيامة).
ج- أما الجزء اللوقاوي في 9: 15- 18: 14، فلا يوازيه شيء في مرقس، وهو أصيل من جهتين. من جهة أولى، جمع فيه الإنجيلي مواد غير مرقسية ترجع إلى المعين (معين الأقوال) الذي يشارك فيه متى، أو إلى اللوقاويات (أمور خاصة بلوقا، لا نعرف من أين وصلت إليه). ومن جهة ثانية، تضمّن هذا الجزء سلسلة من النبذات التدوينية (دوّن لوقا معظمها) التي تدلّ على أن يسوع ما زال سائراً (صاعداً) إلى أورشليم. نحن نجد هذه الإشارات إلى السفر حتى 19: 28.
ونجد بين هذه النبذات ما يشير بوضوح إلى "صعود يسوع إلى أورشليم".
9: 51: صمّم أن ينطلق إلى أورشليم.
9: 53: لم يقبلوه لأنه كان متوجّهاً إلى أورشليم.
13: 22: وكان يجتاز في المدن والقرى، وهو يعلّم، قاصداً في طريقه إلى أورشليم.
13: 33: لا بدّ من أن أواصل السير اليوم وغداً وما بعده، إذ لا يليق أن يهلك نبي خارج أورشليم.
17: 11: وفيما هو شاخص إلى أورشليم، جاز على حدود السامرة والجليل.
18: 31: إنفرد بالإثني عشر وقال لهم: "ها نحن صاعدون إلى أورشليم.
19: 11: وفيما الناس يسمعون ذلك، ضرب أيضاً مثلاً، لأنه كان قد اقترب من أورشليم".
19: 28: ولما قال هذا، سار في المقدّمة صاعداً إلى أورشليم.
إذا وضعنا جانباً لو 18: 31 الذي يستعيد مر 10: 33، نرى أن كل هذه النبذات تنتمي إلى اللوقاويات، وهي تبدو في معظمها بشكل مقدّمات أمام الخبر اللاحق. هذا هو الأمر بالنسبة إلى 9: 51 (مقدّمة لحديث عن اتباع يسوع): 13: 22 (مقدّمة لحديث عن الخلاص)؛ 17: 11 (مقدّمة لشفاء البرص)؛ 18: 31 (مقدّمة للانباء بالآلام)؛ 19: 11 (مقدّمة لمثل الدنانير)؛ 19: 28 (مقدّمة الدخول الإحتفالي إلى أورشليم). ثم إن سائر النبذات تبدو استعادة للتي سبقتها. تعيدنا 9: 53 إلى 9: 51؛ و 13: 33 إلى 13: 22؛ و 19: 41 إلى 19: 28. ويستعمل لوقا في أغلب المرات فعل "صعد"، سار، انطلق، شخصَ. مع تحديد الموقع: أورشليم. وأخيراً، هناك ثلاث حالات تُتبع النبذة بتحديد طوبوغرافي: في 9: 52، دخل يسوع وتلاميذه إلى قرية سامرية. في 17: 11، مرّ يسوع على حدود السامرة والجليل. وفي 19: 29 كان قريباً من بيت فاجي وبيت عنيا عند جبل الزيتون.
وهناك. نبذات أخرى تشير بشكل عام إلى أن يسوع "يسير" دون تحديد واضح للمكان الذي يقصده.
9: 56: إنطلقوا إلى قرية أخرى.
9: 57: وفيما هم سائرون، قال له إنسان في الطريق.
10: 38: وفيما هم في الطريق، دخل قرية.
14: 25: وكان جموع كثيرون يواكبونه، فالتفت وقال لهم.
د- إن خاصية المواد التي يتضمّنها لو 9: 51- 19: 27، والأهمية التي يعطيها الإنجيلي للنبذات عن هذا الصعود، تدفعاننا إلى طرح الأسئلة التالية.
أولاً: أما يساعد موضوع "السفر إلى أورشليم" على تنظيم مختلف المواد (أمثال، خطب، أقوال) في هذه القاطعة الكبرى حسب ترتيب تاريخي يكون كرونولوجياً وجغرافياً؟. وبعبارة أخرى، قد أراد لوقا أن يعمل عمل المؤرخّ فوصلت إلى يديه وثائق متنوّعة. أما حاول أن يرتّب هذه المواد في إطار خبر سفر (من الجليل إلى أورشليم) تلعب فيه النبذات محطات تاريخية هامة؟
ولكن هذه الطريقة في النظر إلى الأمور تبرز صعوبات جدّية. فحين نقرأ الوثائق التي يتضمّنها هذا القسم المركزي من الإنجيل، نحسّ كأن مختلف المواد التي تؤلّفه قد جمعت بالحري حسب مواضيع متنوّعة (الرحمة، ف 15. استعمال خيور الأرض، ف 16). أو حسب سامعين معيّنين (الجموع، التلاميذ، الفريسيون). ولم تجمع بالنظر إلى معطيات تاريخية وجغرافية. فالرباطات بين المقطوعة واختها هي متراخية في أغلب الأحيان. وقليلاً ما نعرف أين ومتى قيل هذا المثل وهذه الخطبة. وهناك عدد قليل يقع في محلّه في إطار مسيرة من الشمال إلى الجنوب. مثلاً، كيف نفهم أن يكون يسوع دخل قرية للسامريين في 9: 51- 56؟ أن ترد في 10: 13- 15 "تويّلاته" ضد كورزين وبيت صيدا اللتين تقعان إلى الشمال وفي الجليل؟.
أخيراً، إن الإطار الزماني والمكاني لصعود يسوع إلى أورشليم (ف 9- 19) هو غير دقيق، وهو دقيق. فالإطار لا يتوافق مع الصورة. بل هناك تعارض وانشداد بين المعطيات الزمانية والمكانية في السفرة السامرية والأحداث المروية في هذه المناسبة. فهناك مقطوعات مأخوذة من المعين أو من اللوقاويات لا ترتبط أي ارتباط بالعالم السامري: 9: 57- 62 (اتبعك)؛ 5 1: 1- 2 (72 تلميذاً)؛ 15: 17- 20 (عودة الإثنين والسبعين)؛ 11: 37- 54 (رياء الفريسيين وكبرياؤهم)؛ 14: 1- 24 (المجاهرة بالحقيقة)؛ 10: 25- 28 (ماذا أعمل لأرث الحياة)؟... وفي النهاية، يذكر لوقا أريحا وهذا يعني أن يسوع مرّ في شرقي الأردن (ولم يمرّ في السامرة كما كان يفعل الحجّاج). ويبقى السؤال: أما يكون هذا الإطار بالأحرى مسيرة لاهوتية؟
ثانياً: بما أن هناك صعوبات تثيرها الفرضية الأولى، أما يجب أن نتوجّه نحو حلّ أبسط؟ حينئذ نرى في نبذات السفر المتكرّرة والتي دوّنها لوقا خدعة أدبية تحاول أن تضم مواد المعين واللوقاويات دون أن تبلبل ترتيب مرقس. ولكن في هذه الحالة يجب أن نبحث عن بنية هذا الجزء من إنجيل لوقا. كيف جمعت هذه المقطوعات المتفرّقة؟
ثالثاً: قد نتّخذ موقف دانو الذي طرح المسألة في العمق، فنتساءل عن الهدف العميق الذي وجّه لوقا في صياغة هذا الجزء المركزي من إنجيله. ثم نقول: إن خبر السفر هو إطار استعمله لوقا ليقدّم بعض مواضيعه اللاهوتية المحدّدة.

2- ثلاثة أمثلة لتفسير خبر السفر
أ- التفسير التاريخي
قال دانو: ينطلق اصحاب هذا الإتجاه من فرضية تقوله إن الإنجيل يقدّم "تقريراً" محدّداً عن حياة يسوع على الأرض.. ويسعون إلى التوفيق بين المعطيات المتنافرة في الأناجيل الأربعة، ليعطوا صورة واضحة عن مسيرة حياة يسوع العلنية. وفيما يتعلّق بخبر السفر، يتّخذ هذا الموقف أشكلة عديدة: هناك من يقول (لايتفوت، لاغرانج) إن النبذات الثلاث الواضحة عن السفر (9: 51؛ 13: 22؛ 17: 11) هي إشارات إلى تذكّر لثلاثة أسفار مختلفة توافق الاسفار الثلاثة التي ذكرها يوحنا في إنجيله (يو 7: 10؛ 11: 55 با 13: 1). وتحدّث آخرون (هولزمان) عن دورة بين السامرة والجليل كرز فيها يسوع. واعتبر آخرون أيضاً (شانز، غوديه) أن 9: 51 ي تنظر إلى خبر متواصل لمسيرة يسوع الأخيرة إلى أورشليم. وأخيراً قال جيرار: إن 9: 51- 18: 14 هو جزء من إنجيل رابع إزائي (مع متى ومرقس ولوقا. هكذا تصبح الأناجيل خمسة!)، وهو يشكل خبراً مستقلا ومتماسكاً عن نشاط يسوع في الجليل. إنه يقابل القسم الجليلي في الأناجيل الإزائية الثلاثة.
ونتوقّف بشكل خاص عند دراسة جورج أوغ حول الجزء المركزي في إنجيل لوقا.
إنطلق الكاتب مما ينتظر كل قارئ أن يجده حين يقرأ العبارة الإحتفالية في 9: 51 (وإذ كان زمن ارتفاعه من هذا العالم): بعد هذا المكان يتهيّأ لوقا ليعطي خبراً متتابعاً لسفرة يسوع الأخيرة (من الجليل نحو أورشليم) حسب ترتيب كرونولوجي. ولكن ما يبدو يقيناً لن يعود كذلك. فهناك مقاطع (حدث مرتا ومريم، 10: 38- 42، والبرص العشرة، 17: 11 ي) تدلّ على أن مثل هذا. الترتيب غير موجود.
أخذ بعين الإعتبار هذا الإنشداد بين المواد المجموعة في 9: 51- 19: 27 وبين إطار جغرافي يسير بنا من الشمال إلى الجنوب، فبحث عن تفسير جديد ينظّم المواد التي يتضمّنها هذا الجزء من إنجيل لوقا، باحثاً عن المراجع التي استعملها هذا الإنجيلي.
قال: عرف لوقا تيارين في التقليد. وامتلك كل تيار خبره الخاص عن سفر يسوع من الجليل إلى أورشليم. مرجع (أ) إستفاد منه ليدوّن 9: 51- 10: 42. ومرجع (ب) عاد إليه حين ألف 17: 11- 19: 28.
أورد هذين المرجعين خبر سفر واحد قاد يسوع من الجليل إلى أورشليم. هكذا أدرك لوقا الأمور الذي أدخل خبر السفر (أ) في موضع من إنجيله يوافق مر 15: 1 (وانطلق من هناك، وشخص إلى أرض اليهودية وعبر الأردن)، وأقحم في خبره (ب) بعض أحداث تعود إلى مر 10 (مر 10: 13- 15= لو 18: 15- 17؛ مر 10: 17- 22= لو 18: 18- 23؛ مر 10: 23- 27= لو 18: 24- 27).
إن السفر الوارد في 17: 11- 19: 28 (ب) هو نفسه الوارد في 9: 51- 10: 42 (أ). إن اختلف "المرجعان" من جهة مضمونهما، فالأساس هو واحد: بدأ كل منهما بالحدث الذي حصل على حدود السامرة والجليل (حدث السامريين في 9: 52- 56؛ حدث البرص العشرة في 17: 11- 19). حمل الأول يسوع إلى بيت عنيا (حدث مرتا ومريم في 10: 38- 42) التي منها دخل يسوع دخولاً احتفالياً إلى أورشليم. أما المرجع الثاني فانتهى حيث بدأ خبر الدخول إلى أورشليم في 19: 28 ي.
ورأى أوغ أن لوقا لم يحتفظ في مرحلة أولى من التدوين إلاّ بخبر السفر (ب): إرتبط 9: 5 بشكل مباشر مع 17: 11: وإذ كان في طريقه إلى أورشليم. بعد ذلك أدخل الإنجيلي المواد التي قدّمها له المرجع (أ) لأنه لم يرد أن يترك شيئاً يساعدنا على التعرّف إلى شخص يسوع وتعليمه معرفة أفضل. خلال هذا التدوين الثاني، إستفاد لوقا أيضاً من وثائق هامة حول نشاط يسوع، ولكن ندرت في هذه الوثائق الإشارات إلى الزمان والمكان. لهذا أقحم لوقا هذه المواد الجديدة بين خبرَي السفر أي في 11: 1- 17: 10.
حين درس أوغ هذا الجزء الأخير، لاحظ أن هذه المجموعة تتضمّن أمثالاً وخطباً. غابت الإشارات الكرونولجية والطوبوغرافية، فصار من الصعب أن نحدّد موقع الأحداث. كانت مقابلة الأخبار مع ما يمكن أن نجد في الأناجيل الأخرى، فكانت استنتاجات ثلاثة:
- لو 11: 1- 17: 10: تورد نشاط يسوع خلاله رسالته في الجليل وفينيقية، ودكابوليس (المدن العشر) قبل ذهابه الأخير إلى أورشليم.
- ألغى لوقا في القسم الأول من إنجيله جزءاً نجده في مر 6: 45- 8: 26 (رج لو 9: 12-17= مر 6: 35- 44؛ لو 9: 18- 22- مر 8: 27- 33). وهذا ما يدهشنا.
- يعود هذا النشاط إلى حلقتين (حلقة 1، حلقة 2) تربط بينهما آية انتقالة هي 13: 1 (وفي ذلك الوقت عينه، أقبلى قوم وأخبروه). هذه العبارة الغامضة (في ذلك الوقت عينه) تجعل الحلقتين في علاقة زمنية واحدة، فتربطهما بذات الحقبة، حقبة الرسالة في الجليل.
على هذا الأساس وسّع أوغ المادة بالشكل التالي:
تحديد المكان
مرقس حلقة أولى حلقة ثانية
- جنسارت 13: 1- 9
مر 6: 53 10- 17
33- 30
31- 33
- فينيقية ودكابوليس 11: 1- 13 41: 1- 6
مر 7: 24-31 25- 13
- دلمانوتا 14- 33 15: 1- 10
مر 8: 15 27- 28 17: 1- 10
29- 32
37- 54
- بيت صيدا جوليا
مر 6: 54؛ 8: 22 12: 1- 59
لماذا أقحم لوقا هذه المادة بين خبرَيْ السفر إلى أورشليم؟ إهتمّ لوقا بهذه التعاليم، فأراد أن يدخلها في إنجيله. ولكن بما أنه لم يجد تحديد مكان ولا تحديد زمان، لم يعرف أين يضعها. من جهة، فهو لا يستطيع أن يجعلها بعد دخول يسوع إلى أورشليم. ومن جهة ثانية، أعلمه مر 10: 1 أن يسوع حين صعد للمرة الأخيرة من الجليل إلى أورشليم، احتشدت الجموع حوله فأخذ يعلّمها أيضاً كعادته. هذه الإشارة كانت كافية بالنسبة إليه. أخذ بعين الإعتبار كرونولوجية خبر السفر، فأقحم بينهما هذه الوثائق الجديدة التي بدت أمامه تبسيطاً للسفر لا مواصلة له.
ماذا نقول في هذه النظرة؟
لاحظ أوغ أن الإطار الجغرافي للصعود إلى أورشليم ليس متماسكاً كل التماسك. ولكن على مَ ارتكز ليقدّم حلّه؟ نحن نبقى معه على مستوى الفرضية حين يقدّم خبرَيْ سفر مميّزين (أ: 9: 51- 10: 42؛ ب: 17: 11- 19: 28). لا يكفي أن نبين أن الحدث المروي في بداية كل من الخبرين يتحدّد موقعه على حدود السامرة والجليل (9: 25- 26؛ 17: 11- 19) لنستنتج وجود "ينبوعين". ويجب أن ينتهى (ب) في 18: 14 لا في 19: 27، لأن لو 18: 15- 43 يرتبط ارتباطاً واضحاً مع 10: 13- 52، ولو 19: 16- 27 يقابل مت 25: 14- 30 (المعين)، ولو 19: 28 ي يرتبط مع مر 11: 1 ي. وهذا الخبر الثاني لا يروي حتى وصول يسوع إلى أورشليم.
أما الجزء المتوسط (11: 1- 17: 10) الذي تصوّره أوغ وقسمه إلى حلقتين (11: 1- 12: 59؛ 13: 1- 17: 10) فهو أيضاً مجرّد افتراض ولا يجد له علاقة مع مت 6: 45- 8: 22.
نلاحظ أن أوغ يعتبر لو 11: 24- 26 و33- 36 زيادتين جاءتا من المعين مثل 13: 18-18: 21. وان 13: 22 أ (وكان يجتاز في المدن والقرى) هي مقدّمة لما ورد في 13: 23-30. جاء رثاء على أورشليم (13: 34- 35) من المعين وعلى اثر ذكر أورشليم في آ 33. لقد استفاد لوقا من إطار المائدة في بيت الفريسي (14: 1- 6) ليدخل النصائح التي أوردها في 14: 7- 14 حوله اختيار المقاعد، ومثل المدعوين الذين يتهرّبون (14: 15- 26). ومثل الإبن الضال (15: 11- 32) ومثلاً ف 16 تنتمي في الأساس إلى مجموعة أمثال وصلت إلى يد لوقا فأدخلها بين 15: 10 و17: 1 (في الينبوع، كانت تتواصل).
يبقى أن الكاتب أبرز ثلاث نبذات سفر: 9: 51: وإذ كان زمن ارتفاعه قد اقترب، صمّم أن ينطلق إلى أورشليم (الأولى). 17: 11: وفيما هو شاخص إلى أورشليم، مرّ على حدود السامرة والجليل (الثانية). 19: 28: ولما قال هذا سار في المقدمة صاعداً إلى أورشليم (الثالثة). هذا ما يدلّ على ثلاثة صعودات إلى أورشليم، وبالتالي على ثلاث سنوات بشّر فيها يسوع. ويبقى بالنسبة إلينا أنه اعتبر هذا الصعود إلى أورشليم أمراً واقعاً ننطلق منه لندرس لا الواقع الجغرافي، بل الواقع اللاهوتي.

ب- التفسير الأدبي
رأى دانو في أساس هذه النظرة الإقرار بالطابع اللامرقسي لمواد لو 9: 51- 18: 14 واللجوء إلى ينبوع آخر غير مرقس لنفهم الأصل. وساعة نقرّ بالطابع اللامرقسي لهذا الجزء، ومهما كان المرجع الذي أخذت منه هذه المواد، يُطرح السؤال التالي: كيف أدخل لوقا هذه المواد في إطار مرقسي، وكيف ربط بين الإثنين؟
إن موضوع السفر موضوع تقليدي. إنطلق منه لوقا ووسّعه فجعله رسمة سفر. وتكرّرت النبذات فخلقت إطاراً أدبياً ثانوياً ومصطنعاً أدخل فيه عناصر غير مرقسية كانت في يده. أراد لوقا أن يشعرنا أن يسوع صاعد إلى أورشليم.
هذا هو موقف بلنزنر الذي ينسب إلى نبذات السفر وظيفة أدبية وحسب، وينكر لها كل مدلول لاهوتي. يقول بأن خبر السفر يتضمّن عدداً من المواضيع اللاهوتية التي ترتدي بُعداً خاصاً عند لوقا. غير أن هذه المواضيع مختلفة، وهي تعود في أجزاء أخرى من لو بحيث لا تُبرز بشكل خاص الجزء المركزي (19: 51- 19: 14: يقول إن هذا الجزء يتوقّف في 19: 14 بالنظر إلى مقاييس أدبية، ولكنه يقول ان السفر ينتهي في 19: 27 من وجهة المضمون. وهذا ما فعلنا).
وقلّل بلنزنر أهمية تدخّل الإنجيلي ليربط مختلف المقطوعات في إطار سفر. إن موضوع السفر في 9: 51، 53 يرتبط ارتباطاً وثيقاً مع المقطوعة 9: 52- 56، ولكن هذا الرباط سابق للوقا. وانتهى السفر بشكل مؤقت في 9: 56 دون أن نعرف إن كانت "القرية الأخرى" التي سار إليها يسوع وتلاميذه هي سامرية أو جليلية. إن 13: 22 هي آية معزولة كلياً، ولا ترتبط بالمثل الذي يسبقها (13: 20- 21) ولا بالمقطوعة التي تليها (13: 32- 30) والتي لها مقدّمة خاصة بها (آ 23).
أما 17: 11 فهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالخبر التالي (17: 11- 19). أما 17: 20 فلا يرتبط بما سبقه. والتلميحات الأربعة الغامضة إلى السفر في 9: 57؛ 10: 1، 38؛ 14: 20، قد أخذها لوقا من المقطوعات التي جاءت بعدها. نحن لا نستطيع أن نأخذها بعين الإعتبار، لأننا نجد أيضاً في الحقبة الجليلية حديثاً عن تنقّلات يسوع (رج 8: 1). وفي النهاية، يرى بلنزنر أن لوقا لا يهتم كثيراً بإطار السفر إلى أورشليم. فبين 9: 51 و18: 14، ينحصر خبر السفر في الواقع في 9: 51- 56؛ 13: 22؛ 17: 11.
ماذا نقول في موقف بلنزنر؟
يبدو أنه لم يتوقّف عند بعض المعطيات. كما أنه رفض أن يأخذ بعين الإعتبار الرباط بين الإشارات إلى السفر والمقطوعات المجاورة. لا شك في أنه رأى أن 9: 51- 53 و17: 11 يرتبطان بالمقاطع اللاحقة، ولكنه لم يستنتج أي شيء حول نيّة المدوّن. ثم ان العلاقة بين 9: 51، 53 و9: 52- 56 ليست تقليدية كما يقول. ونبذة السفر في 13: 22 ليست معزولة، بل هي جزء من وحدة أدبية كوّنها لوقا في 13: 22- 35. وأخيراً، لا يتوقّف بلنزنر عند 19: 11 و19: 28 اللتين تشيران إشارة واضحة إلى السفر إلى أورشليم. إذا استطعنا أن نبيّن أن خبر السفر يمتدّ حتى 19: 44 وأن 4 من 5 إشارات إلى السفر (9: 51؛ 13: 2؛ 17: 11؛ "19: 11"؛ 19: 28) تبدأ مقطوعات موحّدة في مضمونها، نستطيع القول إن خبر الصعود يدلّ على نية لاهوتية محدّدة.

ج- التفسير اللاهوتي
في مقال أوّل توسّع دانو في هذا الخط الثالث من التفسير لخبر السفر. إستشفّه العلماء، وقالوا اننا أمام بعض المواضيع اللاهوتية. لاحظ دانو أن علماء أبرزوا العلاقة الموجودة بين خبر السفر وأحد المواضيع المشرفة على المؤلّف اللوقاوي (أع + لو): إنتقال تقديم الخلاص من اليهود إلى الوثنيين.
ولكن ممثلّي التاريخ التدويني ساروا في هذا الخط فأبرزوا النظرات الخاصة والتوجّهات اللاهوتية الخاصة بالمدوّن الأخير لكل إنجيل من الأناجيل. طلب كونزلمان أن لا نعزل خبر السفر عن سائر الإنجيل اللوقاوي وعن اللاهوت الذي يتضمّنه. فلخبر السفر في نظره وظيفة كرستولوجية، وهو يشير إلى تاريخ الخلاص. وشدّد آخرون (شنايدر مثلاً) على أن للمواد التي جمعت في خبر الصعود، وظيفة كنسيّة وتعليميّة. وانطلق لوهسي من المقطوعات "السامرية" (9: 51- 56؛ 10: 30- 37؛ 17: 11- 19)، فرأى فيها على مستوى تاريخ الخلاص، أساس الدور الرسولي الذي لعبته الكنيسة الأولى (في السامرة) والذي دوّن في أع 8: 4- 25. وأخيراً، رأى روبنسون أن صاحب المؤلّف اللوقاوي فهم تاريخ الخلاص على أنه طريق (هودوس). وأن الوظيفة الأساسية لخبر السفر كمرحلة "في طريق الرب" يرتبط بنظرة الشاهد الصادق الذي عليه تتأسّس حياة الكنيسة ورسالتها.
وفي مقال ثان، قدّم دانو نظرته حول المسائل التي يطرحها خبر السفر: حدوده، بنيته، مدلوله اللاهوتي.

أولاً: حدود خبر السفر
أين يبدأ الخبر وأين ينتهي؟ إنه يبدأ في 9: 51 بعبارة إحتفالية: "واذ كان زمن ارتفاعه قد اقترب، صمّم على الإنطلاق إلى أورشليم". مقدّمة غير عادية، وهي لا تُفهم إلا كافتتاحية لجزء جديد من إنجيل لوقا. وهذا ما يسنده واقع يدلّ على أن يسوع أنهى دورة عبر الجليل في الكرازة، ثم توجّه بعزم إلى مكان محدّد هو أورشليم. ويسنده أيضاً تكرار نبذات السفر التي تدلّ على أن يسوع ينفّذ قراراً اتخذه ولن يتراجع عنه.
وأين ينتهي هذا السفر؟ هناك اختلاف بين الشرّاح. اعتبر دانو أن دخول يسوع إلى أورشليم (19: 29- 40) ورثاءه للمدينة (19: 41- 44) يشكّلان جزءاً أساسياً في هذا السفر ويقدّم برهانين.

1ً- البرهان الأدبي
إن الطريقة التي بها صاغ لوقا النصّ المرقسي لدخول يسوع إلى أورشليم تفرض علينا أن نربط 19: 29- 44 بما سبق. فحين يجعلنا خبر مرقس (11: 1- 10) نفترض أن مدينة أورشليم تشارك في استقبال يسوع، يعلن لوقا أن المدينة لم تشارك في هذا اللقاء. بل التلاميذ وحدهم الذين هتفوا ليسوع. ثم ان الطريقة التي بها جعل لوقا الفريسيين على مسرح الأحداث (19: 39- 40) وزاد خبر رثاء يسوع للمدينة (19: 41- 44؛ رج 13: 33- 35) تبيّن
تجاه إيمان التلاميذ موقف اللاإيمان عند مدينة أورشليم والمعارضة لدى الشعب اليهودي.

2ً- البرهان الداخلي
على مستوى المضمون، يشكّل خبر السفر إلى أورشليم من دون "الدخول إلى أورشليم"، جسماً بدون رأس. عاد دانو إلى غروندمان فبيّن أنّ خبر السفر يرتبط بموضوعين معروفين في لوقا: موضوع الإله "الذي يسير على الأرض"، والإله "الضيف" الذي يبحث عمّن يستقبله عند البشر (4: 34؛ 5: 1؛ 5: 29- 39؛ 7: 36- 50؛ 11: 37- 54؛ 14: 1- 24؛ 15: 1- 32؛ 19: 1- 27. رج أع 14: 11- 13 حيث قال الناس: "تمثل الآلهة بالبشر ونزلوا بيننا"). طبّق لوقا هذين الموضوعين على يسوع: ففي يسوع، يزور الله البشر ويقدّم لهم خلاصه. وبيسوع، يسعى الله لكي يستقبله الناس. وللبشر أن يقبلوه أو يرفضوه. هناك أولئك الذين رافقوا أرملة نائين: عرفوا معنى هذه الزيارة (7: 16: زار الله شعبه). وهناك الفريسيون وأهل أورشليم: لم يعرفوا وقت افتقاد (زيارة) الرب لهم (19: 44).
في هذا الخطّ، يمثّل سفر يسوع إلى أورشليم، "زيارته" الأخيرة، وآخر محاولة لتقديم الخلاص. كان من المنتظر أن ينتهي هذا السفر باستقبال حافل من قبل الشعب اليهودي الذي "يستقبل" يسوع فيستقبل مرسل الله وخلاصه. ولكن الأمور لم تكن هكذا: رذل أهل أورشليم يسوع، فدلّوا على عمى إسرائيل. وصل لوقا في نصّه إلى هذه الخاتمة المأساوية، فجعل من دخول يسوع إلى أورشليم ذروة خبر السفر هذا (إنّ 19: 45- 21: 38 يشكّل وحدة متماسكة ترسم حقبة من تعليم يسوع في الهيكل).

ثانيا: بنية خبر السفر
كيف بُني هذا الجزء في إنجيل لوقا؟ فالمقطوعة الإنجيلية لا تحمل فقط معناها في ذاتها، بل من دخولها في سياق أوسع، ومن ارتباطها بالبنية الإجمالية في الإنجيل. على هذا الأساس قدّم لنا دانو البناء التالي: 1- 9: 51- 10: 42: بنية الخبر: نصوص تتوجّه إلى التلاميذ.
أ- ملحق أول: 11: 1- 13: 21.
2- 13: 22- 35: في الطريق إلى أورشليم. التنبيهات الأخيرة لإسرائيل وللمدينة.
ب- ملحق ثانٍ: 14: 1- 17: 10.
3- 17: 11- 19: وفي الطريق إلى أورشليم: عرفان الجميل لدى السامري الغريب.
ج- ملحق ثالث: 17: 20- 18: 30؛ 18: 31- 34.
4- 18: 35- 19: 44: نهاية الخبر. في 18: 35- 19: 28: نحن في أريحا أو في جوارها. في 19: 29- 44: التلاميذ يهتفون ليسوع وأورشليم ترذله.
يبدأ خبر السفر وينتهي بقطعتين واسعتين تدلّ مقدّمتهما على وضع السفر (1، 4). وسط خبر السفر، أورد لوقا أيضاً مرتين وضع سفر في وحدتين أدبيّتين قصيرتين (2، 3). وبين هذه القطع الأربع التي تشكّل نواة يعبّر فيها لوقا عن الهدف الحقيقي لرسمة السفر، هناك ثلاثة ملحقات (ذات طابع تعليمي، لا ترتبط ارتباطا مباشراً بموضوع السفر، ولكن تركها لوقا هنا آخذاً بعين الإعتبار ترتيب المعين الذي هو مرجعه).
وبمختصر الكلام، إن نبذات السفر الواضحة هي الأساس لكل بحث عن بنية خبر صعود يسوع إلى أورشليم. هذا ما يتيح لنا الآن أن نطرح السؤال الثالث الذي هو في نظرنا أهم من السؤالين الأولين: لماذا أعطى لوقا كل هذه الأهمية لخبر صعود يسوع إلى أورشليم؟

ثالثاً: المدلول اللاهوتي لخبر السفر
ما الذي دفع لوقا إلى توسيع الموضوع التقليدي للسفر إلى أورشليم، وإلى إعطاء هذا الموضوع معنى أعمق؟ هذا ما لا نفهمه إلاّ على ضوء النظرات اللاهوتية التي تميّز الإنجيل الثالث.

1ً- تاريخ الخلاص هو "طريق"
تصوّر لوقا (كما قال دانو على خطى روبنسون) تواصل تاريخ الخلاص في مقالات مكانية بشكل أساسي، كمسيرة، كسعي، كطريق حدّدها الله له وهي تقود إلى الوثنيين.
كان كونزلمان قد شدّد على الوجهة الزمانية في تصوّر لوقا لتاريخ الخلاص. هنا نتذكّر تقسيمه المثلّث لتاريخ الخلاص: زمن الشريعة والأنبياء، زمن يسوع، زمن الكنيسة. إنّ هذه الوجهة الزمنية تتجاوب وتتكامل مع الوجهة المكانية.
واعتبر روبنسون أن ما وجّه لوقا هو نص أش 40: 3 الحاضر في مر 1: 1- 3: بداية إنجيل... صوت صارخ في البرية: "أعدّوا طريق الرب". نلاحظ أن لوقا منذ بدء إنجيله (3: 4- 6) يستعيد إيراد أشعيا هذا ويتوسّع فيه فيقدّم أيضاً آ 4- 5 بحيث يستطيع أن يبرز أنّ "طريق الرب"، تقود إلى الوثنيين (أش 40: 5: وكل جسد، أو بشر، يرى الخلاص). ونلاحظ أيضاً أن يسوع تكلّم في خطبته التدشينية في الناصرة عن اللاإسرائيليين الذين نالوا البركة في السابق (4: 25- 27)، وأن العنصرة هي واقع مُعاش أمام الوثنيين (أع 2: 5: عن كل أمّة تحت السماء). ونلاحظ أخيراً أن أع ينتهي بفكرة قريبة جداً من تلك التي أشار إليها نص أش 40: 5 في بداية الإنجيل: "لقد أرسل هذا الخلاص إلى الوثنيين. وهم سيستمعون" (أع 28: 28).
ثم يبيّن روبنسون على أساس تفحّص المفردات والألفاظ، أن هذا التمثّل لتاريخ الخلاص بشكل "طريق" توافق نظرة نجدها في كل مؤلّف لوقا (لو+ أع). ففي أع 13: 16- 41، عبّر صاحب أع عن مسيرة التاريخ بكلمتي "هودوس" (طريق)، "دروموس" (سعي): إن دخول يسوع على مسرح الأحداث (ايسودوس، آ 24) يبدأ حيث أنهى يوحنا سعيه (دروموس، آ 25). في لو 13: 33 و22: 22، يصوّر لوقا رسالة يسوع العلنية بشكل "طريق". وخلال التجلّي قيل (لو 9: 31) ان موسى وإيليا تحدّثا مع يسوع عن انطلاقه (اكسودوس). وفي أع أيضاً يسمّى تعليم المسيح "الطريق" (الطريقة، المذهب) (أع 9: 2؛ 19: 9، 23؛ 24: 14، 22). وتصوّر الرسالة "طريقاً" (أع 1: 21 ي). وبولس نفسه في خطبته الوداعية في ميليتس تحدّث عن عمله الرسولي على أنه "سعي" (دروموس، أع 20: 24).
إن "للطريق" بعداً لاهوتياً: فهي تدلّ على تأوين مخطّط الله. وهذا ما نراه على مستوى الألفاظ 41: 43؛ ق مر 1: 38). وفي واقع يقول بأن حياة يسوع توجّهها "ضرورة" إلهيّة (داي: يجب، 2: 49؛ 9: 22؛ 17: 25؛ 24: 7، 26؛ أع 17: 3). وأن الروح القدس يقوده في هذه الطريق (4: 1، 14؛ أع 16: 6- 10). وأن هذا الروح عينه يقود أولى خطى الكنيسة الفتية في وجهة محدّدة (أع 2: 1 ي). وفي النهاية، إن لتاريخ الخلاص هذا بعداً شاملاً، مسكونياً: هو يضم الجميع منذ الخلق (أع 17: 24 ي؛ رج 14: 15؛ ق لو 3: 38؛ أع 17: 28) حتى إعادة بناء كل شيء (أع 3: 21).
في هذه النظرة نفهم المدلول الذي يجب أن نعطيه لخبر السفر: إنه تعبير عن حقبة في مسيرة تاريخ الخلاص هذا، عبر طريق يتمّها يسوع من الجليل إلى أورشليم. وهذه الطريق ستواصل السير فيها الكنيسة الفتيّة من أورشليم إلى رومة، فتحمل الخلاص من اليهود إلى الوثنيين.
يقدّم دانو هذه المعطيات على الشكل التالي:
الإنجيل الأعمال
طريق الرب طريق الكنيسة الفتية
بداية- نهاية بداية- نهاية
(المكان) الجليل، أورشليم (المكان) أورشليم، رومة
(الزمان) المعمدان، الصعود العنصرة
ينطلق الخلاص من اليهود فيصل إلى الوثنيين

2ً- أساس "تاريخ الخلاص". كيف يبدو تاريخ الخلاص في الرسالة إلى الوثنيين كما نراه في حياة يسوع؟
وبيّن لوقا أيضاً بفضل خبر السفر (الصعود إلى أورشليم) أن الرسالة الآنيّة للكنيسة لدى الوثنيين، تتأسّس في حياة يسوع وتجد ما يبزرها في خدمته الخاصة.
فإحدى المسائل الرئيسية التي واجهها لوقا والكنيسة الأولى في السنوات 70، كانت إدخال الوثنيين إلى الكنيسة المسيحية الآتية من العالم اليهودي (أكثر من العداء اليهودي إزاء الكرازة المسيحية): هل سيفرض على الوثنيين الخضوع لممارسات الشريعة اليهودية للدخول في الكنيسة؟ إذا كان الجواب بالنفي، كيف سيتمّ التواصل في تاريخ الخلاص دون أي انقطاع؟
قدّم لوقا جوابه فبيّن أن يسوع عرف وضعاً مماثلاً خلال حياته العلنية. بدأ فقدّم الخلاص لليهود، ولكن اليهود رفضوه. ونجد التعبير الملموس لهذا اللاإيمان في كل من المقاطع الأربعة التي تشكّل خبر السفر إلى أورشليم، ولا سيما في التلميح إلى مدينة أورشليم التي ترذل يسوع (9: 29- 44: هذه هي الذروة). أما الوثنيون الذين التقى بهم يسوع في "مسيرته" فقد دلّوا على انفتاح واستعداد. ولهذا تحدّث يسوع عن إمكانية الوصول إلى الخلاص بالنسبة إليهم.
وأبرز دانو لاإيمان اليهود وأورشليم في كل من القطع الأربع، فبيّن أن الله لم يكن خائناً لوعده. بل إن اليهود (ولا سيّما أورشليم) رفضوا وعد الخلاص ورفضوا تحقيقه بالنسبة إليهم. وهكذا صار تاريخ الخلاص باليهود ولليهود تاريخ اللاخلاص. غير أن لوقا الذي يكتب إنجيلاً لم ينهِ كتابه بتاريخ اللاخلاص، بل في خبر سفر نرى فيه منذ الآن الوجهة الإيجابية لهذا الرفض اليهودي للخلاص: يرسل إلى الوثنيين الذين سيستمعون.
إن تصرّف يسوع هو القاعدة بالنسبة إلى المسؤولين في الكنيسة الرسولية: إنه يؤسّس ويشرعّ (يبين شرعية) على مستوى تاريخ الخلاص، الرسالة الحالية لدى الوثنيين مع الحرية التي تتطلّبه هذه الرسالة تجاه الشريعة.
وهنا نقرأ مع دانو مضمون القطعتين الأولى والثالثة من خبر السفر في هذا المنظار الذي أشرنا إليه.
ففي 9: 51- 10: 42، تدل عبارة "صلّب وجهه" في 9: 51 على قرار اتخذه يسوع بحزم لا تراجع فيه بأن يصعد إلى أورشليم: إنه يريد أن يواجه إسرائيل اللامؤمن في "معقله". ونجد في هذه القطعة عينها إشارات تدلّ على إمكانية الخلاص لغير اليهود: الرسالة لدى السامريين (9: 51- 56)، خبر السامري الصالح (10: 30- 37)، رسالة الإثنين والسبعين الذين أرسلوا إلى جميع الأمم الأرض (هذا ما يدلى عليه هذا الرقم في التقاليد التوراتية، تك 10).
في 17: 11- 19، نجد خبر شفاء البرص العشرة، وهو نصّ خاص بلوقا الذي بدأه أيضاً بنبذة سفر واضحة. فالهدف الذي يشير إليه لوقا ليس فقط حضاً على فضيلة عرفان الجميل، بل تعارضاً بين تسعة يهود لم يعودوا ليشكروا، وغريب (سامري) نظر نظرة المؤمن إلى المدلول الخلاصي لشفائه.

3ً- مواضيع لاهوتية أخرى
وهناك مواضيع أخرى في خبر هذا السفر إلى أورشليم: موضوع الصعود من جهة. وموضوع "اتباع" يسوع من جهة ثانية.
حين لمّح لوقا منذ بداية خبر السفر إلى حدث محدّد هو "الصعود" (9: 51: الإرتفاع) فقد أراد أن يدلّ على أن الطريق الذي يسير فيه يسوع والذي يقوده إلى الموت ليس النقطة الأخيرة في مسيرته: فهذه المسيرة تقود إلى الحياة وتصل إلى القيامة.
بيّن لوقا شرعية الرسالة إلى الوثنيين على أساس تعارض بين موقف اليهود وموقف الوثنيين، فعرف أن الخلاص ليس حركة آلية. لهذا حذّر قرّاءه المسيحيين الآتين من العالم الوثني من كل اكتفاء وتعالٍ، ودلّهم على شروط الإنتماء إلى المسيح والمتطلّبات الملموسة لهذا الإنتماء. فتلميذ يسوع هو ذاك الذي يتقبّله كالمخلّص، ذاك الذي يسير معه حتى طريق الجلجلة. وهذا ما يفسّر وجود أقوال عديدة حول اتباع يسوع في القطع الأربع من خبر السفر كما "رواه" لوقا (9: 57- 62؛ 10: 1- 24؛ 10: 25- 37؛ 13: 22- 30؛ 17: 13؛ 19: 1- 10).

خاتمة
هكذا بدا واقع خبر الصعود إلى أورشليم الذي سنتوسّع فيه مع الجزء الثاني من تفسير القديس لوقا. توزعّ الشرّاح حول تحديد اتساعه، حول بنيته، حول المعنى اللاهوتي الذي نجده فيه. وفي النهاية، يبدو خبر هذا السفر مقدّمة لدخول يسوع إلى أوشليم حيث موضع موته وقيامته وصعوده. وفشل زيارة (افتقاد) الله الأخيرة لشعبه سيتمّ حقاً في آلام يسوع الذي رذله شعبه وصلبوه. منذ تلك الساعة تكوّنت كنيسة آتية من خارج شعب الله، من قائد مئة مجّد الله ورأى في يسوع ذاك البار (23: 47) الذي يبرّر الكثيرين ويحمل خطاياهم (أش 53: 11).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM