بداية تحقُّق الوعد

مولد يوحنّا (غل 4: 21-5: 1؛ لو 1: 57-66)

 

57أمّا إليشبعُ فجاء الزمنُ الذي فيه تلِدُ، فولَدَتِ ابنًا. 58وسمعَ جيرانُها وأبناءُ نَسبِها أنَّ اللهَ أكثرَ حنانَهُ نحوَها، فكانوا فرِحينَ معها. 59وكانَ اليومُ الثامن، فأتَوا لختانةِ الصبيّ، وكانوا داعينَ إيّاهُ باسمِ أبيهِ زَكريّا. 60فأجابَتْ أمُّه وقالَتْ لهم: “لا هكذا، إنَّما يُدعى يوحنّا.” 61فقالوا لها: “ليس أحدٌ في قبيلتِكِ مَدعُوًّا بالاسمِ هذا.” 62وأشاروا إلى أبيه كيفَ يُريدُ أنْ يُسمِّيَه. 63فسألَ لَوحًا وكتَبَ وقال: “يوحنّا هو اسمُه.” فتعجَّبَ الناسُ كلُّهم. 64وحالاً فُتِحَ فمُه ولسانُه، فتكلَّمَ وبارَكَ الله. 65وكان خوفٌ على جيرانِهم كلِّهم، وفي جبل يهوذا كلِّه كانَتْ هذه تُحكى. 66والذينَ سمِعوا كلُّهم، كانوا مُفكِّرينَ في قلبِهم وقائلين: “ماذا تُرى يكونُ الصبيُّ هذا.” ويدُ الربِّ كانَتْ معه.

*  *  *

حنان الله قاسٍ!

في مسيرة البشارات والاستعداد لعيد الميلاد الجديد، نرى تحقيق أوَّل بشارة: أعلن الملاك لزكريَّا أنَّه سيُعطى ابنًا. وها هو الابن يُولد الآن فيهيِّئنا لمولد آخر هو ميلاد يسوع المسيح، قِبلة أنظارنا في زمن المجيء هذا. والفرح الذي وُعد به الشيخ وامرأته صار حقيقة تعدَّت بيت زكريَّا، وانتشر في جبال اليهوديَّة كلِّها، بما فيها أورشليم.

ونعود هنا إلى الدرفتين بعد خبر الزيارة. ولادة يوحنّا بانتظار ولادة يسوع، وختانة الولدَين. أمّا هنا، فتُروى ولادة يوحنّا بشكل يدلُّ على تعارض بين اسمه ورسالته. اسمه حنان الله ورأفته. أمّا رسالته فقاسية: جُعلت الفأس على أصل الشجرة. فكلُّ شجرة لا تثمر تُقطع وتُلقى في النار. بل هو تساءل: هل يسوع الذي بشَّر به هو المسيح الذي ينتظره الناس؟

 

العاقر التي تلد

مع ولادة يوحنّا، بدأ زمن العجائب في التدبير الجديد. تلك التي كانت عاقرًا فأخفت نفسها خمسة أشهر خوفًا من العار...، صارت أمَّ ابن، أين منه سائر الأبناء؟ أجل، وعدُ الله تحقَّق، وما حمَّله لزكريَّا من بشرى لم يكن من عالم الخيال، لأنَّ الله صادق في ما يَعِد به. غير أنَّ إليصابات عجوز، والولادة عمل مستحيل على المستوى البشريّ. ولكنَّ الله هو ربُّ المستحيلات، وقال الملاك لمريم: ليس عند الله أمرٌ عسير.

أجل، ولدت إليصابات كما تلدُ كلُّ امرأة. ولدت بعد طول انتظار، فجاء ابنها مثل إسحق ابن الموعد، وشمشون مخلِّص شعبه في الضيق، وصموئيل الذي تعلَّم أن يسمع كلام الله من أجل شعبه المشوَّش حول المصير الجديد الذي ينتظره. ولادة تنتظر هي علامة نعمة خاصَّة. فلا بدَّ للأهل من التأمُّل فيها من أجل قراءتها في ضوء مخطَّط الله. اعتبر الناس أنَّ هذه الولادة عاديَّة: ولكنَّ زكريَّا وإليصابات فهما أنَّ هذا الولد لن يكون كسائر الأولاد. رأوا أنَّ يد الربِّ كانت معه، كما كانت مع موسى ويشوع وجدعون وغيرهم. رأوا أنَّ هذا الولد يلخِّص تاريخ شعبه في انتظاره للمخلِّص.

 

ما علاقة اسم يوحنّا بمشروع الخلاص؟

ولدٌ لا كالأولاد. لهذا لا يُسمَّى كما يُسمَّى سائر الأولاد. تُركت الطريقة التقليديَّة في إعطاء اسم لهذا الطفل. وأخذ الأب والأمّ بتسمية تتوافق ومشروع الخلاص الذي دخلت فيه هذه العائلة العائشة في مخافة الله. لو كان الأمر بشريًّا، لسُمِّي باسم أبيه زكريَّا. ولكنَّ الأمَّ عرفت، سواء قال لها زكريَّا أم نالت إلهامًا من الله. قالت: لا يُدعى زكريَّا، أي ذكر الربّ، بل يوحنّا، أي حنان الربّ. وكتب الأب ما قالته الأمّ. وتوافقت التسميتان، مع أنَّه لم يكن للأمِّ من حقٍّ في أن تسمِّي ابنها. ولكنَّنا في العهد الجديد، حيث لا رجل ولا امرأة، وحيث المسؤوليَّة مشتركة بين الرجل والمرأة، ولاسيَّما في بناء ملكوت الله.

خُتن الصبيّ في اليوم الثامن، والختانة طقس يجعل الولد ينتمي إلى شعب الله. هو لا يخصُّ نفسه بعد اليوم، بل يكون ملك الله. ولهذا استطاع الله أن يطلب إسحق من أبيه إبراهيم، وصموئيل من أمِّه حنَّة. ولكنَّ يوحنَّا لا يحصر نفسه في الشعب اليهوديّ وطقوسه: فهو لم يذهب إلى معلِّمين يهود ليتتلمذ على يدهم، ولا أخذ بطقوس اعتادت أن تغفر الخطايا، بل عاش مسيرة شعبه في العمق، فمضى إلى البرِّيَّة، وجعل يعمِّد الناس، ويغطِّسهم في الماء دلالة على توبة عن خطاياهم. فجاء إليه الناس من أورشليم واليهوديَّة كلِّها ومنطقة الأردنّ. أجل، اسمه اسم جديد، ورسالته جديدة توجِّهنا إلى التدبير الجديد.

 

الصامت الذي يتكلَّم

بدأت البشارة الجديدة مع الإنجيل. هذه البشارة حملتها مريم إلى نسيبتها إليصابات، وأنشدتها نشيد تعظيم للربِّ الذي نظر إلى تواضع أمته، والذي تمتدُّ رحمته إلى جميع خائفيه. وحملت إليصابات البشارة حين قدَّمت ابنها للجميع، فرأوا حقًّا أنَّ الله جعلها خصبة كما تتمنَّى كلُّ امرأة. والرعاة حملوا البشرى وأخبروا الناس بما رأوا وسمعوا، وأنشدوا مجد الله ومدائحه. أتُرى زكريَّا وحده يبقى صامتًا؟ كلاّ.

منذ ظهور الملاك له، عاش زكريَّا في صمت عميق. فالسرُّ أكبر منه. انتظر الخلاص من شخص آخر، ومهيِّئ درب المسيح من امرأة غير امرأته. فهو أضعف من أن يكون له أولاد، وامرأته غطَّاها العار. ذاك فكر بشريّ جعل زكريَّا يدهش ولا يتجاوز إمكانات البشر. ولكنَّ الله قلب الضعف قوَّة، والعار مجدًا وفخرًا. ولمّا تمَّ ما تمَّ. دخل زكريَّا في عمق الله، فسمَّى الولد باسمه. ثمَّ امتلأ من الروح القدس فتنبَّأ. أعلن خلاص الله، فكان نبيًّا قبل ابنه الذي سيسمِّيه "نبيّ العليّ"، لأنَّه يسير أمام الربِّ ويهيِّئ له الطريق.

 

ما ميزة ابن الموعد؟

في رسالة غلاطية، نجد مقابلة بين ولد وولد. بين ولد يُولد بحسب الجسد، فلا تتعدَّى رسالته عالم الجسد والأمور البشريَّة: هو إنسان ويبقى إنسانًا. وبين ولد يُولد حسب الموعد. الأوَّل، يبقى على مستوى العبوديَّة: لم يخرج من نظام الطبيعة العاديّ. أمّا الثاني فهو من نظام يتجاوز الطبيعة. وطُبِّق الكلام على يوحنّا الذي لم تكن ولادته فقط على مستوى اللحم والدم، على مستوى العمل الزواجيّ، بل نتيجة وعد الله. الولادة بحسب الجسد تبقى محدودة في نتائجها. أمّا الولادة من الروح فمداها بعيد جدًّا، فهي ترفع الوعد من مستوى البشر إلى مستوى الله، من أورشليم الأرض وما فيها من عبوديَّة، إلى أورشليم السماء، إلى أورشليم العليا التي هي أمُّنا لأنَّنا وُلدنا فيها، التي هي حرَّة لأنَّها تحمل الحرِّيَّة إلى أبناء الله.

 

عيش الكلمة

مفاهيم عديدة تتغيَّر حين ننتقل من العهد القديم إلى العهد الجديد. المرأة العاقر لست ابنة الغضب، وكأنَّ الله أراد أن يعاقبها فمنع عنها البنين. بل تستطيع أن تكون أمَّ أبناء عديدين في عمل تقوم به في الكنيسة على مستوى العاطفة والحنان، على مستوى التربية والعطاء. والرجل الذي يُصاب بمصيبة: كما كان الأمر بالنسبة إلى زكريَّا الذي صار أخرس. لم يكن فريسة الشيطان. فسيأتي بين الصحَّة والمرض، نقول إنَّ الإنسان يمجِّد الله في الصحَّة وفي المرض، لأنَّ شكل هذا العالم يزول، أمّا مسيرتنا مع الربِّ فهي هي، يمسكنا بيدنا اليمنى وإلى المجد يرفعنا.


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM