الله يفتقد شعبه

أحد زيارة العذراء (أف 1: 1-14؛ لو 1: 39-45)

 

39وقامَتْ مريمُ في تلك الأيّامِ عينِها، وذهبَتْ باعتناءٍ إلى الجبل، إلى مدينةِ يهوذا. 40ودخلَتْ بيتَ زَكريّا وسألَتْ سلامَ إليشبَع. 41وكان أنَّه حين سمعَتْ إليشبَعُ سلامَ مريم، ابتهَجَ الطفلُ في حشاها وامتلأتْ إليشبَعُ رُوحًا قدسًا. 42وصرخَتْ بِصَوتٍ عالٍ وقالَتْ لِمريمَ: “مُبارَكةٌ أنتِ في النساء، ومُبارَكٌ هو الثمرةُ التي في حشاكِ. 43مِنْ أينَ لي هذه، أنْ أمُّ ربّي تأتي إليّ؟ 44فها لمّا سقَطَ صَوتُ سلامِكِ في أذنيَّ، بفرحٍ عَظيمٍ ابتهَجَ الطفلُ في حشاي. 45وطوباها التي آمنَتْ أنَّه يَتمُّ ما قيلَ مَعها مِن لَدُنِ الربّ.”

*  *  *

بشارة فرح

بشارة مريم تجد تجسُّدها الحقيقيّ في الزيارة. وهكذا التقت بشارة زكريَّا بيوحنّا، مع بشارة مريم بيسوع. وبدت مريم مثل تابوت العهد الصاعد إلى مدينة يهوذا، مع حضور الربِّ في حشاها. ولكنَّ هذا الحضور لم يتوقَّف في أورشليم، بل في قرية مغمورة، ستكون صورة عن بيت لحم حيث يُولد المسيح.

في إنجيل الطفولة، يقرأ القدِّيس لوقا حياة يسوع في إطارها اللاهوتيّ. بدأ حملُ البشارة قبل مولد يسوع، وخلال وجوده في حشا أمِّه. أمّا الموضوع فهو الفرح الذي وعد به الملاكُ زكريَّا الكاهن، وها هي مريم تعجِّل في حمله ليصل لا إلى امرأة وحسب، ولا إلى بيت فقط، بل إلى كلِّ أرض يهوذا. وعاد الإنجيليّ يقابل نقل تابوت العهد، على يد داود، إلى أورشليم، بانتقال مريم، حاملة حاملَ العهد الجديد، إلى أرض يهوذا!

 

أمُّ الله خادمة!

أوَّل ما يتبادر إلى آذاننا في هذا المشهد، هو الوجه البشريّ المطبوع بالطابع الإلهيّ. عرفت مريم أنَّ نسيبتها إليصابات حبلى، وأنَّها كبيرة في السنّ، وبالتالي تحتاج إلى خدمة. من أجل هذا، ينتهي إنجيل لوقا في كلامه عن الزيارة، بأنَّ مريم ظلَّت لدى نسيبتها قرابة ثلاثة أشهر، قبل أن تعود إلى بيتها.

اتَّصفت هذه الخدمة بالسرعة. لم تنتظر مريم كثيرًا، كما لم تنتظر أن يُطلب منها. عرفت بحاجة إليصابات، فرأت في ملاحظة الملاك التي بدت كعلامة على حبلها المقدَّس، نداءً من قِبل الله. يكفي المؤمن أن يرى الحاجة لكي يلبِّيها. أما هكذا فعل السامريّ الصالح حين رأى الجريح في طريقه؟ لماذا لا تفعل مريم وهي التي سمَّت نفسها الخادمة؟

وهذه الخدمة لم تكن خدمة بشريَّة وحسب، يقوم بها الأقارب تجاه بعضهم بعضًا. هي خدمة روحيَّة ما بعدها خدمة، إذ جعلت مريم يسوع المسيح معها إلى بيت إليصابات. فكانت النعمة الكبرى والجواب على تساؤلات هذه العيلة التي بدأت في العقم وانتهت في خصب كبير. ولكنَّ ثمر بطن مريم سيتجاوز كلَّ خصب. ثمر مبارك بين المباركين. بل هو يحمل البركة إلى أولادنا جميعًا بدءًا بيوحنّا المعمدان، وصولاً إلى أطفالنا.

 

حجٌّ من نوع آخر

تميَّزت مسيرة مريم عن أيِّ مسيرة بشريَّة أُخرى. فالسرعة في إنجيل لوقا هي علامة الخلاص الذي بدا في الأفق. أما أسرع الرعاة أيضًا حين سمعوا الخبر السعيد؟ أما أسرع بطرس إلى القبر ليتحقَّق من مقال النساء؟ أمَّا وجهتها فإلى الجبل، إلى إحدى مناطق يهوذا. هل قامت بحجٍّ سابق لذاك الذي سيقوم به يسوع وهو ابن اثني عشر عامًا؟ وكان بإمكانها أن تتوقَّف في أورشليم، اتِّباعًا للتقليد، ولكنَّها لم تفعل، بل ذهبت إلى أبعد من أورشليم. فأورشليم في حشاها وحضور الربِّ لن يكون محصورًا في المدينة العظمى التي لم تعرف أن تستقبل ذاك الآتي إليها. هنا نتذكَّر الأبرص الذي شفاه المسيح وأرسله إلى الهيكل، فعاد إلى يسوع لكي يمجِّد الله، بعد أن صار يسوع الهيكل الجديد الذي فيه يلتقي الإنسان بالله.

هذا الإيمان اكتشفته إليصابات في كماله عند مريم التي آمنت بما قيل لها من قبل الربّ. هذا الإيمان كان ناقصًا عند زكريَّا الذي يمثِّل العهد القديم، فتمَّ في مريم التي تدلُّ على العهد الجديد. وهذا الإيمان سوف ينتقل بعد ذلك إلى الرعاة وإلى كلِّ الذين أُعطي لهم أن ينتظروا خلاص أورشليم.

 

هديَّة لا كالهدايا

حين يزور الإنسان قريبه أو صديقه، يحمل إليه هديَّة. ومريم حملت معها هديَّة. هي هديَّة الهدايا. حملت معها الربَّ ذاته، الذي هو أكثر من بركة عاديَّة. إنَّه بركة البركات. يقول الرسول بولس: أعطانا الآبُ ابنَه، فماذا يعطينا بعد هذا؟ وحملت مريمُ يسوعَ المسيح هديَّة إلى إليصابات. فماذا تنتظر أكثر من ذلك؟ لا شيء. ومن ساعدها على اكتشاف ذلك؟ الروح القدس. فعرفت أنَّ من تحمله مريم هو الربّ: من أين لي أن تأتي إليَّ أمُّ ربِّي؟

حين وصل بطرس إلى الهيكل للصلاة، التقى بمخلَّع يطلب بعض المال. وكان بإمكان بطرس، لو لم يكن فقيرًا، أن يقدِّم له مساعدة صغيرة. ولكن ما حمله بطرس فاق كلَّ ما كان الشحَّاذ ينتظره. لا ذهب معه ولا فضَّة. إذًا، ماذا سيعطيه؟ سوف يعطيه الصحَّة والعافية، وربَّما أكثر من ذلك، باسم يسوع الناصريّ، امشِ. هذا كلُّ ما يملكه بطرس، رسول المسيح، وقد أعطاه للمخلَّع. وهكذا فعلت مريم. حملت ابنها يسوع المسيح إلى إليصابات، فتحرَّك الطفل في حشاها من الفرح، وتقدَّس في حشا أمِّه. لهذا أخذت الكنيسة تعيِّد لمولد يوحنَّا، كما تعيِّد لمولد العذراء ومولد يسوع. فيا لها من بركة حطَّت رحالها في هذا البيت، بانتظار أن تصل إلى كلِّ أرض فلسطين، بل إلى أقاصي الأرض.

 

عمل ثالوثيّ

قدَّم بولس في الرسالة إلى أهل أفسس، مسيرة البشارة التي بدأت بالآب، فحملها الابن، وختمها الروح القدس، وكلُّ هذا لمجد الله. الآب اختارنا قبل إنشاء العالم لكي نكون قدِّيسين. والابن افتدانا بدمه وغفر خطايانا. والروح أعطانا الميراث عربونًا لخلاص سيصل إلى البشريَّة كلِّها. حين يجمع المسيح في شخصه كلَّ ما في السماء وعلى الأرض، ليرفعه إلى عرش الله الآب.

 

عيش الكلمة

 

حياتنا في بساطتها نداء من الله من أجل انطلاقة في خدمة الآخرين. فحين نسمع كلام الله، نحمل إليهم هذا الكلام. وحين نتقبَّل جسد الربّ، نحمل إليهم بركة نلناها من مذبح الربّ. مثل هذه المسيرة إلى القريب هي النتيجة الطبيعيَّة للقائنا بالربّ. وإن كان لا شيء معنا نحمله إلى إخوتنا، فهذا يعني أنَّنا جئنا بأيدٍ فارغة ومضينا بأيدٍ فارغة أيضًا. أمّا مسيرة مريم فكانت مسيرة البركة. وهي تعلِّمنا وتوصلنا إلى ينبوع كلِّ بركة، يسوع المسيح.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM