الله يفي بوعده

أحد بشارة زكريّا (رو 4: 13-25؛ لو 1: 1-25)

 

1لأنَّ كثيرينَ أرادوا أن يَكتُبوا أخبارَ الأعمالِ التي نحن مُتيقِّنون نحن بها، 2مثلَ الأمرِ الذي سَلَّمَ إلينا أولئك الذين كانوا رائينَ وخُدّامًا أخصّاءَ للكلمة، 3تراءى أيضًا لي لأنّي كنتُ قريبًا، أن أكتبَ باعتناء كلَّ شيء بِترتيبِه، أيُّها المجيدُ تِيوفيلا، 4لكي تَعرِفَ صِدقَ الكلماتِ التي تتلمذتَ لها.

5كان في أيّامِ هيرودسَ ملكِ اليهوديَّةِ كاهنٌ ما، وكان اسمُهُ زَكريّا من خِدمَةِ بيتِ أبيّا وامرأتُه من بناتِ هارون، كان اسمُها إليشبَع. 6وكان الاثنان صدِّيقينِ أمامَ الله، وسائرَينِ في كلِّ وصاياه وفي بِرِّ الربِّ بلا لوم. 7إنَّما ابنٌ ليسَ لهما، لأنَّ إليشبَعَ كانت عاقرًا، وإثناهما كانا مُتقدِّمَينِ في أيّامِهما. 8وحدث أنَّه حين كان كاهنًا بِترتيبِ خِدمتِهِ قُدّامَ الله، 9بعادةِ الكهنوت، بلغَهُ أنْ يَضعَ البخور فدخلَ إلى هيكلِ الربِّ، 10وجَمْعُ الشعبِ كلُّه مُصلِّيًا كان في الخارجِ في وقتِ البخور. 11فتراءى لزكريّا ملاكُ الربِّ القائمُ عن يَمينِ مذبحِ البخور. 12فاضطربَ زكريّا حين رآه، والخوفُ وقعَ علَيه. 13فقالَ له الملاك: “لا تَخافُ (أنت) يا زكريّا، لأنْ سُمعَتْ صلاتُك وامرأتُك إليشبَعُ تلِدُ لك ابنًا وتدعو اسمَه يوحنّا. 14ويكونُ لكَ فرحٌ وسرورٌ وكثيرون يَفرحون بمولدِه. 15لأنَّه يكونُ عظيمًا قدّامَ الربِّ، وخَمرًا ومُسكِرًا لا يَشرَب، وروحًا قدسًا يُملأ وهو بعدُ في حَشا أمِّه. 16وكثيرينَ من بني إسرائيلَ يُعيدُ إلى الربِّ إلهِهم. 17وهو يَذهبُ قدّامَهُ بروحِ إيليّا النبيّ وبقوَّته ليَرُدَّ قلْبَ الآباء إلى الأبناء، وأولئك اللامطيعينَ إلى مَعرفةِ الأبرار، ويُعدَّ للربِّ شعبًا كاملاً.”

18فقالَ زكريّا للملاك: “كيف أعرفُ هذا وأنا شيخٌ وامرأتي مُتقدِّمةٌ في أيّامِها؟” 19فأجابَ الملاكُ وقالَ له: “أنا، أنا جبرائيلُ القائمُ قدّامَ الله وأُرسلتُ لأتكلَّمَ معكَ وأبشِّرَكَ بهذه. 20مِنَ الآنَ تكونُ صامِتًا ولا تقدِرُ على التكلُّمِ حتّى اليومَ الذي فيه تكونُ هذه، لأنَّك ما آمنْتَ بكلماتي هذه التي تُتَمُّ في وقتِها.” 21أمّا الشعبُ فكان قائِمًا ومُنتظِرًا زكريّا، وكانوا مُنذهلينَ من تَأخُّرِه في الهيكل. 22ولمّا خرجَ زكريّا ما كان قادرًا أن يَتكلَّمَ معهم. ففهموا أنْ رؤيةً رأى في الهيكل، وهو إشارةً كان مُشيرًا لهم، وبقي حينَها أخرَس.

23ولمّا تمَّت أيّامُ خِدمتِه، ذهبَ إلى بيتِه. 24وكان من بعدِ الأيّام تلك، أنْ حبلَتْ إليشبعُ امرأتُه، وخافيةً نفسَها كانت أشهرًا خمسة، وقائلةً كانت: 25“هذه صنَعَ لي الربُّ في الأيّامِ التي نظرَ إليَّ ليأخذَ عاري من بينِ بَني البشر.”

*  *  *

ننتظر مَن؟

بعد أن دخلت الكنيسة في مسيرة التقديس والتجديد، بعد أن خلعت عنها الإنسان العتيق ولبست الإنسان الجديد، ها هي تدخل في عالم البشارات. الخبر الطيِّب لا يبدأ أوَّلاً مع يسوع، بل مع مَن هو السابق، يوحنّا المعمدان. هي بشرى أولى تهيِّئنا للبشرى العظمى. لقد بدأ وعد الله يتحقَّق، فما لنا سوى الانتظار.

جعل القدِّيس لوقا إنجيل الطفولة في درفتين تنفتحان ثمَّ تنغلقان. في الدرفة الأولى، نجد يوحنّا المعمدان الذي يبشِّر بمولده ملاكٌ من السماء. وفي الدرفة الثانية، نجد يسوع المسيح الذي يبشِّر به الملاك مريم العذراء. وتنغلق الدرفتان حين تلتقي الأمُّ العاقر والأمُّ البتول في مشهد الزيارة. ولكن شتَّان بين مَن هو النبيّ، ومن هو ابن الله بالذات.

 

بركة غير تامَّة

في أوَّل صفحة من صفحات إنجيل لوقا، نجد عائلة كهنوتيَّة. زكريَّا كاهن من خدمة آل أبيَّا، من الفرقة الثامنة بين الفرق الأربع والعشرين. وإليصابات زوجته هي أيضًا من بنات هارون. ومن خلال إليصابات سترتبط مريم العذراء بالكهنوت فتحمله إلى يسوع الذي كان من سلالة ملوكيَّة لجهة أبيه، ومن سلالة كهنوتيَّة لجهة أمِّه.

كان عمل الكاهن تقدمة الذبائح في الدرجة الأولى، وحُصرت فيه دون سواه. واللاويُّون أنفسهم تقدَّسوا منذ وقت طويل، وتطهَّروا ليرشُّوا الدم على المذبح. وكان عملهم أيضًا تذكير المؤمنين بعهد الله معهم: يحفظون وصايا الربّ، فيكون الربُّ إلههم ويكونون شعبه. وفي نهاية الخدمة، الكاهن هو الذي يبارك الجماعة ويُطلقها من الهيكل إلى الحياة العاديَّة. أمّا زكريَّا الذي قدَّم الذبيحة، شأنه شأن سائر الكهنة، فلم يبارك الشعب، لأنَّه أصيب بالخرس حين شاهد الملاك. ولكنَّ هذه البركة التي افُترضت في بداية الإنجيل، لن تتمَّ إلاَّ في النهاية: فقبل صعود يسوع إلى السماء، رفع يده وباركهم. وهكذا كان يسوع الكاهن الحقيقيّ الذي ينقل كهنوته إلى كنيسته، إلى المؤمنين بشكل عامّ، وإلى خدَّام المذبح بشكل خاصّ.

 

أين المرأة في الخلاص؟

اعتاد العهد القديم أن يذكر الرجل دون المرأة في مجال الحياة الدينيَّة. هو يكون تقيًّا، أمَّا المرأة فلا يمكن أن تكون تقيَّة. هو يحفظ الوصايا، أمّا هي فلا يُطلب منها أن تحفظ الوصايا، لأنَّها ضعيفة. وأخيرًا، هي لا تُدان كما يُدان الرجل. وإن خطئت خطأ كبيرًا، استحقَّت العقاب الذي قد يصل إلى الرجم. ولكنَّ نظرة يسوع، كما تعلَّمها لوقا من بولس، تقول: لا رجل ولا امرأة، بعد أن صار الجميع واحدًا في المسيح. هذه النظرة المسيحانيَّة تختلف كلَّ الاختلاف عن النظرة اليهوديَّة. فإليصابات بارَّة، شأنها شأن زكريَّا، أي أنَّها تبحث عن مشيئة الله وتعمل بها. عرف زكريَّا أنَّ ابنه يُسمَّى يوحنّا، وعرفت هي أيضًا، فتركت تقاليد تفرض تسمية الولد باسم أبيه، وسمعت إلهام الروح. وإليصابات سارت في هدي وصايا الله، شأنها شأن زوجها، فاستحقَّت بلا شكّ المديح الذي قاله يسوع لذاك الذي طلب الحياة فدعاه يسوع إلى حفظ الوصايا. وأخيرًا، كانت هذه المرأة بلا لوم. كانت تامَّة، كاملة، مثل نوح وإبراهيم وسائر الآباء، فاستحقَّت الخلاص بدءًا بانتقالها إلى عالم العهد الجديد حين وُلد ابنها الذي كان السابق للمسيح.

 

عقم خصب!

منذ البداية أعلن النصّ: لم يكن لهما ولد. كانت إليصابات عاقرًا. نلاحظ أوّلاً أنَّ زكريَّا وامرأته معًا في حالة العقم هذه، ولا سبيل إلى تجاوزها، لأنَّ الرجل أيضًا كبر في السنّ، كما امرأته. وكانوا يحسبون وضع المرأة في هذه الحال، نتيجة خطيئة. والمرأة التي لا ولد لها تعيش في العار، لأنَّ كلَّ أمٍّ كانت تنتظر أن يولد منها المسيح المنتظر. تلك هي نظرة البشر وحساباتهم.

أمّا نظرة الله فاختلفت. هذه العائلة ليست بنت الغضب، فالله نفسه افتقد الأب بظهور ملاك ووعده أجمل وعد. والولد الذي سيكون له يمتلئ بغيرة إيليّا، ويهيِّئ طريق الربّ. كما افتقد الأمّ أيضًا فحبلت بابن، وكتمت أمرها. وكما دخل زكريَّا في الصمت ليفتح قلبه على الآية، ويدخل في سرِّ الله، هكذا دخلت إليصابات في السرِّ حين كتمت أمرها. لم تخبر أحدًا، لأنَّ الأفراح العظيمة تُعاش أكثر ما تعاش في الصمت.

لم تعد العائلة عقيمة، بل خصبة. ولم يكن الخصب مادِّيًّا فحسب، بل كان روحيًّا أيضًا. لن يكون يوحنّا ولدًا كسائر الأولاد، بل هو صورة قريبة من يسوع، فنما مثله في القامة والحكمة، وكانت يد الربِّ معه.

 

أين إيمان زكريَّا من إيمان إبراهيم؟

ربط القدِّيس بولس بين شخص إبراهيم وسارة من جهة، وبين زكريَّا وإليصابات من جهة ثانية. في الحالتين، كان انتظار لولد يحمل الوعد. انتظر إبراهيم إسحق. وانتظرت إليصابات يوحنّا. والولادة في الحالتين، لم تكن نتيجة عمل بشريّ فقط، بل عطيَّة تدلُّ على مجَّانيَّة الله. تجاوب إبراهيم مع هذا النداء، فلم يشكَّ في وعد الله؛ ولكنَّ زكريَّا شكّ. فالإيمان لم يصل بعد إلى ملئه. وهو سيصل فينا، نحن الذين آمنَّا بذلك الذي أقام من بين الأموات ربَّنا يسوع المسيح، الذي أُسلم من أجل خطايانا، وقام ليحرِّرنا.

 

عيش الكلمة

العهد الجديد بداية ثانية للعهد القديم. وما قيل عن العائلة الأولى حيث الرجل والمرأة يكوِّنان معًا صورة الله، ولاسيَّما على مستوى الخصب، يُقال عن عائلة إبراهيم وسارة وانطلاقة الإيمان، كما يُقال عن زكريَّا وإليصابات في أوَّل بشارة من البشارات. في البدء، قال الربّ: "أنموا واكثروا". فلا يُعقل أن يكون العقم مسيطرًا، عند إبراهيم ولا عند زكريَّا. وإن كان من عقم موقَّت، فهو ليوجِّهنا إلى خصب خاصّ لا يدخل في منطق البشر، بل هو من عمل الله الذي وعد فكان صادقًا في وعده.


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM