تقديم

(الغلاف ص 4)

قبل قراءة الإنجيل، يُنشد الشمَّاس: "كونوا في السكوت". ولكنَّ المؤمنين ساكتون، فلماذا هذا النداء؟ لأنَّ هناك سكوتًا وسكوتًا. أمّا السكوت الذي تطلبه منَّا الكنيسة فهو الانفتاح على كلام الله: نسمع ونفهم، ننظر ونرى، ويكون قلبنا كلُّه استعدادًا لأن "نأكل" هذه الكلمة كما طلب من النبيّ حزقيال أن يفعل.

ونقدِّم هنا "سنة أولى" من الوعظ. في قسم أوَّل، زمن المجيء والميلاد. وفي قسم ثانٍ، زمن الصوم والآلام، من عرس قانا، إلى عرس آخر ثمَّ في العلِّيَّة، حيث دعانا الربُّ إلى وليمة لم تحصل مرَّة واحد، بل تحصل مرَّات مرَّات وسوف تحصل حتَّى نهاية العالم. عند ذاك يصبح الإيمان عيانًا، والرجاء امتلاكًا، والأسرار حقيقة تُدخلنا إلى من هو المحبَّة.


  

في الثمانينات، حين كنتُ بعدُ في الإكليريكيَّة البطريركيَّة في غزير، قدَّمت أربعة كتب تدرس نصوصًا من الأناجيل الأربعة، فتصلح لتأمُّل أو لإعداد عظة. ولمَّا انتقلت في التسعينات إلى دير الآباء البولسيِّين، جمعتُ بعض العظات في سلسلة "صفحات روحيَّة"، كتاب "ارفعوا الكسر"، ثمَّ "قراءات في إنجيل يوحنّا" وصدر أيضًا في سلسلة "القراءة الربِّيَّة" "فصلٌ من الرسالة" في جزئين، وفيه عظات الأحد كما في الرسائل البولسيَّة.

وها نحن بعد زمن طويل نطلق من "الصومعة" في كفرحباب، سلسلة جديدة عنوانها: "كونوا في السكوت". هو نداء يطلقه الشماس قبل قراءة الإنجيل في القدَّاس الإلهيّ. ولكن، لماذا هذا النداء والشعب صامت، واقف بكلِّ انتباه إكرامًا لكلام الربّ؟ لأنَّ الصمت المطلوب الآن غير "صموت عديدة". في محفل التعزية، هناك "صمت" يرافق الميت الذي صمت، بشريًّا، إلى الأبد. وهناك صمت احتفال رسميّ أُجبرنا على حضوره. قد نقول كلمة لجارنا أو نعطي ملاحظة. ولكنَّ التهذيب يفرض علينا الصمت، وخصوصًا إذا كان أحدٌ يتكلَّم ولو طال كلامه وافتقر معناه.

أمّا الصمت المطلوب هنا، فهو صمت الحياة، صمت الاستعداد للعمل، صمت إيليَّا حتَّى وصل إلى جبل حوريب. كلُّ ما كان فيه من خوف واضطراب وتعب، سقط شيئًا فشيئًا. تكلَّم الكتاب عن "نسيم عليل" يدلُّ على مجيء الربِّ وحضوره. بل عن "صمت عميق" فهمَ فيه النبيُّ رسالتَه. فما لبث على الجبل، بل عاد في الطريق التي أتى منها مع أكثر من مهمَّة، ومنها إعداد الخلف الذي سيكون إليشع. قوَّة جديدة أخذها إيليَّا من هذا الصمت أمام الله.

"كونوا في السكوت"، هذا هو السكوت المطلوب قبْل سماع الإنجيل: نفهم كلام الربِّ "كلمة كلمة"، ممَّا يعني قراءة متمهِّلة، فاهمة، بعد استعداد لها. نكتنه ما تركه لنا الربُّ من "إرث" رائع يكون النورَ في حياتنا. ونحن لا نسمع فقط "البشر"، بل نسمع كلام الله بالذات. لهذا اعتدنا في طقوسنا الشرقيَّة أن نحمل الإنجيل وندور به وسط الجماعة: هو يسوع يمرُّ بيننا كما كان يمرُّ وسط الجموع، في الجليل والسامرة واليهوديَّة. توقَّف السريان عامَّة والموارنة خاصَّة عن هذا "الزيَّاح" لأنَّ كنائسهم كانت صغيرة والمماشي ضيِّقة وملأى بالناس. أمّا اليوم والأمور تبدَّلت واتَّسعت الكنائس والبازيليكات والكاتدرائيَّات، يكون من المستحسن الرجوع إلى هذه العادة مع أناشيد مثل "كلمتك مصباح لخطاي" أو: "من كان من الله سمع كلام الله..." أو نشيد ثالث.

نقرأ الإنجيل والشعب واقفٌ. ثمَّ يستمع إلى العظة وهو جالس. فما قيل منذ ألفي سنة بالنسبة إلى الأناجيل خاصَّة والعهد الجديد عامَّة، يحتاج أن يفسَّر ويطبَّق على حياة الجماعة في القرن الحادي والعشرين. وهنيئًا للرعيَّة أو للمجموعة التي تدخل في عمق الله وتحمل الكلمة التي تغذِّيها خلال الأسبوع، فتكون لها "الزاد" مع القربان المقدَّس الذي تشارك فيه.

وها هي سلسلة "كونوا في السكوت" تقدِّم بعض العظات. قيلت أو كُتبَتْ في سنة من السنوات. هي لا تغطِّي جميع الآحاد في هذه السنة أو تلك، بل تكتفي بما حُفظ. أمّا هنا في الكتاب الأوَّل، فجاءت العظات متكاملة في زمن المجيء والصوم، ومتقطِّعة بعد القيامة وحتَّى زمن الصليب. أردنا أن نحافظ على طابع كلِّ سنة بسنة.

فإلى السنة الأولى من هذه السلسلة، ونرجو أن تتبعها سنوات، بنعمة الله ومحبَّة الكهنة خاصَّة والمؤمنين عامَّة.


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM