الفصل الثاني: كلمة الله في الروح القدس

الفصل الثاني

كلمة الله في الروح القدس
3: 1- 4: 44

قسمنا هذه المرحلة الأولى إلى فصلين. تحدثنا في الأول عن طفولة يسوع حتى السنة الثانية عشرة التي فيها صار ابن الوصية. وفي عمر الثلاثين بدأت رسالة يسوع، ورسالة المكرّسين لله في شعبه.

1- موقع هذين الفصلين
حين نصل إلى ف 3، نحسّ أننا عدنا إلى لاهوت مطلع مرقس (1: 1- 13). فهو قد قدّم يوحنا المعمدان على أنه كلمة اسرائيل الاخيرة، وقد ترك يسوع يسبقه. يسوع الذي هو المسيح وابن الله الذي يحقّق إنتظار شعبه وانتظار البشر حين "يتعمّد بالروح القدس". رسم مرقس (1: 1) "بداية إنجيل يسوع". وتحدّث لوقا هو أيضاً عن بداية ليدلّ على بداية رسالة يسوع العلنية. فبعد أن كشف لنا الأصل الإلهي لـ"كلمة النعمة" التي حبل بها بقوة الروح القدس في حشا مريم العذراء، صوّر لنا ظهورها العلني وتأثيرها في العالم.
وأنهى لوقا التوازي بين يوحنا ويسوع في ف 3- 4. شدّد على أهمية السابق على أنه "النبي" في خط أشعيا، أكثر منه المعمّد الذي يمارس طقس تطهير. وإذ اختتم خبر يوحنا الذي سجنه هيرودس، قبل أن يبدأ خبر حياة يسوع العلنية، دلّ على انتقال من نقص إعلان الخلاص الإلهي إلى كمال مجيئه الفعلي من أجل جميع البشر. فمع عماد يسوع نجتاز خطاً يفصل بين زمنين: واحد يعمّد في الماء وآخر سيعمّد "في الروح القدس والنار" (3: 16؛ رج أع 1: 5؛ 11: 16). ننتقل من النبوءة إلى الملكوت (7: 28)، من "الشريعة والأنبياء" إلى "الإنجيل" (16: 16). لا يتنكّر يسوع لماضي اسرائيل، وهو رجاؤه، ولكنه يقيم انقطاعاً بالنسبة إليه. وهذا الإنقطاع يعني التتمة بما أعلن في الماضي ووُعد به.
لا ينطلق لوقا من تاريخ شعب الله وكتبه لينير الجديد الذي يقدّمه يسوع، بل من خبرة المسيحية التي تتأصّل في العنصرة. فانطلاقة يوحنا المعمدان من البرية إلى شاطئ الأردن، تذكّرنا بالخروج من مصر والدخول إلى أرض الموعد. ومجيء يسوع إلى الجليل، بعد حلول الروح القدس عليه، صورة مسبقة عن العبور إلى الأمم (جليل الأمم). فالمسحة التي نالها يسوع، تدلّ عند لوقا على فيض الروح الذي اكتشف قرّاؤه آنيّته، أكثر من خاتمة تاريخ عهد الله مع شعبه (كما في متّى).
وفي سلسلة النسب التي يقدّمها لوقا، نجد البشرية كلها وقد أخذها يسوع على عاتقه. عاد الإنجيلي لا إلى داود وابراهيم، بل إلى خلق الإنسان. والتجارب الثلاث لا تبدو تجلّياً يدلّ على إنتصار يسوع، تجاه الخبرة التعيسة التي عاشها العبرانيون في البرية (كما في متّى). إن لوقا يقرأ هذا الحدث التقليدي في دينامية أخرى وعلى ضوء آلام وقيامة ابن الله المتجسّد، مستلهماً الصلاة الربية التي هي صلاة الابناء. وأخيراً حين يفتتح لوقا رسالة يسوع بكرازته النبوية في الناصرة (بينما مت 13: 54- 58 ومر 6: 1- 6 يحدّدان رجوع يسوع "إلى وطنه" فيما بعد)، يدلّ على الأصالة الإلهية لإنجيل ملكوت الله (4: 43) كما أعلنه يسوع، كما يدلّ على شموليته المطلقة.
ولنرَ كيف يساعد الروح القدس "كلمة النعمة" على التعبير عن ذاتها في لغة البشر، بعد أن أتاحت لهم أن يلدوها ويخبروا عنها بطريقة نبوية.

2- التأليف والبنية
إن المواد التقليدية التي استند إليها لوقا لكي يؤلف ف 3- 4، تجد ما يوازيها في مرقس ومتّى. غير أدن مجمل الخبر يبدو عمل لوقا. فهو يرّتب المقطوعات بطريقة شخصية ويدخلها في إطار تدويني خاص به.
توقّف التقليد الازائي عند "مثلّث البدايات": كرازة يوحنا المعمدان (مر 1: 2- 8؛ مت 3: 1-12؛ لو 3: 3- 9، 15- 18). عماد يسوع (مر 1: 9- 11؛ مت 3: 13- 17؛ لو 3: 21- 22). تجارب يسوع (مر 1: 12-13؛ مت 4: 1- 11؛ لو 4: 1- 13). ويحدّثنا هذا التقليد عن دخول يسوع على المسرح: إعلان الملكوت (مر 1: 14- 15؛ مت 4: 12- 17؛ لو 4: 14- 15). نداء الرفاق الأولين (مر 1: 16- 20؛ مت 4: 17). نشاط يسوع في الجليل (مر 1: 21- 39؛ مت 4: 13- 16، 23- 24؛ لو 4: 31- 44). إن تدوين هذه المتتاليات يفترق بين إنجيلي وآخر، ويدلّ على أصالة كل منهم.
إذا عدنا إلى مثلّث البدايات، رأينا أن نصّ لوقا أطول النصوص. فهو يعيد كتابة المجموعة ويدخل فيها عناصر أصيلة: دعوة يوحنا ابن زكريا، يتحدّد موقعها في إطارها التاريخي (3: 1- 2). توجيهات عملية يقدّمها المعمدان (3: 10- 14). سجنه بيد هيرودس (3: 19- 20. هذا ما يجعله مر 1: 17- 18 ومت 14: 3- 4 في موضع آخر). سلسلة نسب يسوع (3: 23- 38) التي يجعلها متّى في بداية إنجيله (مت 1: 1- 16). وأخيراً الآية التي تختتم خبر التجارب (4: 13): "ولما أنجز إبليس جميع تجاربه، إنصرف عنه إلى الوقت المعين"، وقت الآلام.
حدّد لوقا المجموعة الأولى (31: 1- 20) في هذه المتتالية تحديداً دقيقاً وكرّسها ليوحنا النبي. وشدّد على الإطار التاريخي بتضمين يتحدّث عن التترارخس (رئيس الربع، ربع مملكة هيرودس الكبير) هيرودس وأخيه تجاه يوحنا (آ 1- 2 و19- 20). هذا الأسلوب الادبي، يجعلنا ندرك تاريخ الخلاص الذي يتداخل في تواريخ البشر: يتدخّل الله في هذا التاريخ، فيدعو نبيّه. ولكن العالم رفض الدعوة التي وجّهت إليه من أجل التوبة. وأسكت هيرودس كلمة الله حين جعل يوحنا في السجن. ومع هذا، فكل هذه التواريخ لها معنى يكشفه اعلان النبي: فنسل ابراهيم يصل إلى المسيح الآتي. فمن تعرّف إلى مجيئه تصرف بإلهامه.
ويشكل ما تبقى من النص (3: 21- 44) وحدة ثانية تتركّز على شخص يسوع ونشاطه، وذلك في توازٍ مع ما قيل عن يوحنا. أعاد الإنجيلي تأليف المعطيات التقليدية، فأبرز دور الروح القدس الذي ناله يسوع بعد المعمودية، كما ابرز ثلاث معارضات: عارض إبليس يسوع في شخصه (4: 1- 15)، وأهل الناصرة في تعليمه (4: 16- 30) والمتشيطنون والجموع في رسالته (4: 31- 44).
في مشهد المعمودية، لم يعد يُذكر يوحنا. أما يسوع فيبدو في وضعين: هو يعتمد، هو يصليّ وهكذا دلّ على انتمائه إلى الشعب (بالعماد) وعلى علاقته البنويّة بالآب (بالصلاة). وهكذا أعلن الإنجيلي وجهتين من شخصية يسوع، ستدلاّن على بنية انجيله. الوجهة الأولى تغطي 3: 21- 9: 17 (العماد مع كل الشعب: مع البشر ومن أجل البشر). تشدّد الأولى على التجمّع حول يسوع (من يأتي إلي، 6: 47). والثانية تبرز الصعود (السير) على خطى يسوع (من أراد أن يتبعني، 9: 23). بعد صلاة يسوع كان حلول الروح القدس. وبعد صلاة الإخوة حلّت العنصرة (أع 1: 14؛ 2: 1- 13؛ 4: 31).
إن رسمة حدث التجارب تختلف عما في متّى. فهي تقلب التجربتين الثانية والثالثة لتنهي المشهد في أورشليم وفي الهيكل (هما مهمّان في اللاهوت اللوقاوي). واستبق الكاتب الأمور فتحدّث عن عودة ابليس: وهو في الواقع سوف يتدخل خلال آلام يسوع (22: 3، 53). وهناك أقسام في الإناجيل كتبت حسب رسمة التجارب المثلّثة (كما في لوقا)، ولا سيّما مشهد الجزء بيسوع على الجلجلة (23: 35- 43).
يربط لوقا رباطاً وثيقاً بين تجارب يسوع وخطبته التدشينية في الناصرة (4: 16- 30) وأعمال احساناته في كفرناحوم (4: 31- 44). أما المواد التقليدية (بمعنى: المأخوذة من التقليد) فنجدها في مر 1: 14- 39 الذي قدّم يوماً نموذجياً ليسوع في الجليل وذلك بعد العماد ومحنة البرية. هذا الأسلوب المرقسي يبرز التعارض بين كلمة يسوع وما لها من سلطان (مر 1: 21- 45)، وموقف الكتبة والفريسيين تجاه هذه الكلمة (مر 2: 1- 3: 6). إستلهم لوقا هذا المواضيع ولكنه قدمها بطريقة مختلفة: فخطبة الناصرة ونشاط كفرناحوم يحرّكان معارضة الأوساط التي توجّه إليها يسوع، ويبدوان صدى لتجربة البرية.
وفي الوقت عينه تبرز الشمولية في الإنجيل الثالث، فقدرة الروح القدس تعمل في يسوع، في كلمته التي تعلّم وتشفي. والموضع الذي تقوم فيه هذه الكلمة هو المجمع حيث يلتئم اليهود في فلسطين كما في الشتات لسماع كلمة الله. ويتوقّف النّص عند موقعين جغرافيين: الناصرة موطن يسوع، ثم كفرناحوم، مدينة الحدود في الجليل التي تتحدّد في "البيت" وتنفتح على "سائر المدن" (4: 42). سنجد هذا الخط أيضاً في سفر الأعمال. وفي الوقت عينه يرتسم التمايز بين الأرض اليهودية والكون، وهو تمايز يدلّ على نظرة لوقا إلى تاريخ الخلاص الذي يصل إلى تواريخ البشر.
نلاحظ من جهة التدوين أن لوقا اقحم خبر زيارة يسوع إلى موطنه بين تجاربه في البرية ونشاطه في الجليل، في الموضع الذي فيه صوّر لوقا نداء الرفاق الأربعة الأولين (مر 1: 16- 20). من الواضح أن الإنجيلي أراد أن يقدّم هنا برنامج يسوع ويرسم الخطوط الكبرى لرسالته التي سيتابعها الرسل في سفر الأعمال، وهو يسير في الوقت عينه إلى ما سيكون إليه مصيره: طريق نحو الآب تمرّ عبر معارضة البشر وجدالاتهم.
وعلى مستوى الموضوع، نلاحظ أن المقطع عن نشاط يسوع في الناصرة وفي كفرناحوم يمتد حسب مواضيع التجارب الثلاث: إن قوة يسوع الحاضرة في "ابن يوسف"، قد أراد الناصريون أن يجتذبوها من أجل منفعتهم الخاصة (4: 16- 30. هكذا قال الشيطان ليسوع بأن يحوّل الحجر إلى خبز يشبع جوعه). إن سلطة "قدوس الله" تزجر الشيطان وتسكته (4: 16- 30: أراد أن يفرض نفسه على يسوع في التجارب، بل طلب منه السجود). إن امانة "المسيح" و"ابن الله" لرسالته خيبّت الإنتظار الشعبي (4: 38- 44. طلب منه الشيطان أن يرمي بنفسه عن جناح الهيكل فيراه الناس).
ويمكن أن نقدم ف 3- 4 في رسمة يظهر فيها التوازي كما فعلنا في ف 1- 2: تقابل بين دعوة يوحنا ودعوة يسوع. ظهورهما أمام معاصريهما. قبول ورفض لدى السامعين. فكما كان في فصليَ البداية، سيكون الأمر هنا هكذا: نقطة الثقل هي يسوع، والتوسّعات التي تعنيه بدت بارزة. وها نحن نقدّم هذه المعطيات المختلفة في اللوحة التالية.

أ- دعوة يوحنا (3: 1- 2) أأ- دعوة يسوع (3: 21- 22)
إطار تاريخي 7 اسماء
"كانت كلمة الله" "وإذ كان يصليّ اعتمد".
ب- هوية يوحنا (3: 2 ب) ب ب- هوية يسوع (3: 23- 38)
"يوحنا بن زكريا" "صوت من السماء: أنت ابني الحبيب"
"وبدأ يسوع وهو...
ابن يوسف... ابن الله.
ج- يوحنا في البرية (3: 2 ب) ج ج- يسوع في البرية (4: 1- 14).
"في البرية" "اقتيد إلى البرية"
الخبز والحجر
السلطة والمجد
تجربة الله. أورشليم
د- رسالة يوحنا (3: 3- 25) دد- رسالة يسوع (4: 15- 30).
* "وجاء إلى الأردن" (آ 3- 6) ** وجاء إلى الناصرة (آ 15- 20)
عماد التوبة
أشعيا النبي (40: 3- 5) أشعيا النبي (61: 1- 2)
* نداء إلى الجموع ** نداء إلى الجميع
من هو ابن ابراهيم (آ 7- 9)؟ اليوم تمّ هذا الكتاب (آ 21)
* "ماذا يجب علينا أن نعمل (آ 10- 14)؟ ** "أما هو ابن يوسف" (آ 22)؟
* انتظار الشعب: ** انتظار الجميع:
من هو المسيح (آ 15)؟ أشفية في موطنه
* "الاقوى يعمّد في ** لا يكرّم نبي
الروح القدس والنار" (آ 16- 18) في وطنه (آ 24- 27)
* سجن يوحنا ** رذل يسوع
بيد هيرودس (آ 19- 20) خارج المدينة
وانطلق (آ 28- 30).
هـ- رمز وهو يعمل الخير" (أع 10: 38)
"ونزل إلى كفرناحوم"
سلطة "قدوس الله"
مسيرة يسوع (31- 42)
كان يبشر في وعظه (آ 18) "ينبغي ان ابشرّ المدن
الاخرى (آ 43- 44)

يبرز هذا التقديم الخطوط الكبرى لكرستولوجية لوقا. ساعة ميلاد يسوع، أعلن الملاك البشرى للرعاة، فساعدهم على التعرّف إلى ابن مريم على أنه المخلّص والمسيح الرب (2: 11). وساعة التزم يسوع برسالته (والروح القدس عليه) (4: 8، 13)، سلّم سرّ هويته للقبول أو الرفض لدى البشر: إنه ابن يوسف وابن الله (3: 22- 23) يا قوة الروح القدس.
عبر ف 1- 4 بدا يوحنا بن زكريا السابق الحقيقي (رج أع 13- 24)، لأنه يشارك مسبقاً يسوع في مصيره: النبي، البرية، العماد، حماس الشعب، المعارضة، السجن. وكانت تعليم الأول صدى لتعليم الثاني: "كل جسد يرى خلاص الله" (3: 1). "مسحني لأبشّر المساكين" (4: 18).

3- تقديم النصّ
أ- يوحنا النبي (3: 1- 20)
"كانت كلمة الله إلى يوحنا بن زكريا في البرية" (3: 2). أعلن لوقا بهذه العبارة بُعد هذين الفصلين. إن "كلمة الله" توقظ دعوة يوحنا. وفيما بعد سيمّحى يوحنا ليترك الكلمة يتكلّم (4: 32، 36) فيقول "كلمات النعمة" (4: 22). بدا يوحنا "معمّداً"، بل نبياً وكارزاً. فإن أعلن "عماد توبة" (3: 3، رج أع 13: 24)، وإن ذكر لوقا بعض المرات "عماد يوحنا" (7: 29؛ 20: 4؛ أع 1: 22؛ 10: 37؛ 18: 25؛ 19: 3- 4)، فنحن لا نرى يوحنا يعمّد أبداً عند لوقا. كل ما نسمع هو كلماته القاطعة.
تفرّد لوقا فحدّد موقع الكلمة في الإطار السياسي والديني في عصره: موقع الامبراطورية الرومانية والمناطق المحتلّة أو الخاضعة للادارة الرومانية: اليهودية، الجليل... هذه هي الإشارة الوحيدة والدقيقة التي تتيح لنا أن نحدّد زمن حياة يسوع العلنية. في السنة الخامسة عشرة لطيباريوس (خلف أوغسطس الذي توفي في 19 آب سنة 14) التي توافق السنة 28 ب. م. كان بيلاطس حاكماً أو بالاحرى والياً على اليهودية (حسب مدوّنة أُكتشفت سنة 1961 في خرائب مسرح روماني في قيصرية البحرية في سنة 26- 36). أما التترارخس (رئيس الربع، قسمت مملكة هيرودس إلى أربعة أرباع، فصار كل من أبنائه رئيس الربع) هيرودس انتيباس، ابن هيرودس الكبير (1: 5)، فحكم الجليل والبيرية من سنة 4 ق. م إلى سنة 39 ب. م. وفيلبس، اخو هيرودس انتيباس، حكم مناطق الشمال. لا يذكر لوقا إلا المقاطعات الوثنية (مثل مقاطعة الامير لسانيوس) ليدلّ على المدى اليهودي واللايهودي لنشاط. يوحنا، ويعلن عن رسالة يسوع الشاملة.
وسمّى رئيس شعب الله في النهاية: إنه قيافا، الذي كان عظيم الكهنة من سنة 18 إلى سنة 36. وضمّ لوقا إليه حنان حميه (رج يو 18: 13- 24؛ أع 4: 61) الذي ظل عظيم الكهنة حتى سنة 15، ثم عُزل. غير أنه احتفظ بتأثير كبير على سير الأمور الدينية والإجتماعية. وإذ ذكر لوقا سبعة أسماء (7 هو رقم الكمال للقارىء اليهودي)، دلّ على التجذّر التاريخي لرسالة يوحنا ويسوع في العالم اليهودي والعالم الوثني، كما دلّ على الذين سيقاومون هذه الرسالة (3: 19؛ 22: 66؛ 23: 17).
إن دعوة يوحنا تذكّرنا بدعوة ارميا (ار 1: 5)، ومصيره كنبي سجين يذكّرنا أيضاً بنبي عناتوت (ار 37: 15). أما مسيرته النبوية فتجري على ضوء أش 40: 3- 5: "صوت صارخ في البرية: أعدوا طريق الرب" (3: 3- 6). ومسيرة يسوع تستضيء بكلمة أشعيا (ا 6: 1- 2؛ 58: 6 ب): "روح الرب علّي. ولهذا مسحني لأبشّر المساكين" (4: 18- 19). بين هذين القولين تمّ ما كان مستحيلاً. أعلن أش 61 ما اكتفى أش 40 بأن يعلنه: تحرير الأسرى وعودتهم. وأعلن ما أعلن في قدرة روح الرب.
إن قول أش 40: 3 الذي يرد في مت 3: 3 ومر 1: 3 (جمعه مع خر 23: 20؛ ملا 3: 1)، قد أورده لوقا كله فوصل إلى آ 5: "ويرى كل بشر خلاص الله" (2: 3). وهكذا دلّ على البعد الشامل للتعليم الذي لا ينحصر في الشعب اليهودي، بل يصل إلى أقاصي الأرض.
من المفيد أن نلاحظ كيف أن لوقا جعل يوحنا يترجم النظرة الاشعيائية لسامعيه. عند متّى، عارض المعمدان بين وجهة اسيانية (الاسيانيون شيعة أقاموا في مغاور قمران، قرب البحر الميت) من النمط الاسكاتولوجي، وآمال مسيحانية ذات الوان وطنية، أو ترتبط بشريعانية (تعلّق مفرط بالشريعة) الفريسيين والصادوقين. أما في لوقا، فيوحنا يدعو "الجموع" بشكل عام إلى توبة صادقة تدلّ عليها ثمار ملموسة. والحكم بالفأس والنار معروف في التقليد الاشعيائي: إنه زمن الغضب الذي لا يفلت منه أحد، حتى الذين يعتبرون نفوسهم أولاد ابراهيم. ولكن دينونة الله هي قبل كلّ شيء ما يبزر الإنسان: يستطيع أن يخرج من هذه الحجارة ابناء لابراهيم، أي اناساً يتوافق عملهم مع وعد يضمّ البشرية كلها (أع 3: 26).
ورأى سامعو النبي أن الكلام يتوجّه إليهم مباشرة. فسألوا، شأنهم شأن شهود العنصرة وخطبة بطرس الأولى: ماذا يجب أن نعمل؟ إن اهتمام لوقا واضح وهو أن التوبة الحقيقية تتطلّب تبديلاً في المواقف. وكلّهم مدعوّون إلى هذا التبديل بمن فيهم العشارون والجنود الأجانب.
في آ 15، حلّ محلّ الجموع التي تستمع إلى يوحنا، "شعب" مليء بالانتظار. وطرح السؤال حول تتمة وعد الله لشعبه في شخص المسيح. وفي آ 16، تتكثّف الموازاة بين يوحنا ويسوع في كلمة المعمدان النبوية: "أنا أعمّدكم بالماء. وسيأتي أقوى منّي من لا استحقّ أن أحل سيور حذائه. هو يعمّدكم بالروح القدس والنار". هذا القول يعبرّ عن التواصل بين يوحنا ويسوع على مستوى التقليد النبوي. ولكنه يدلّ في الوقت عينه على أن محطّة هامّة قد تمّ اجتيازها. تكرّر هذا القول ثلاث مرات في أعمال الرسل فأكّد على المرحلة الجديدة. مرة أولى استعاد يسوع هذا القول ليهيئ الرسل لحدث العنصرة واجتياح الروح (أع 1: 5). مرة ثانية ذكره بطرس أمام شيوخ كنيسة أورشليم الذين لاموه على حريته تجاه الشريعة. دخل إلى بيت ضابط غير مختون وأكل معه. أعلن له بطرس: "تذكّرت كلمات الرب يسوع. قال: يوحنا عمّد بالماء، أما أنتم فتعمَّدون في الروح القدس" (أع 11: 16). ومرة ثالثة في أفسس. أكّد بولس أمام اليوحناويين (تشيّعوا ليوحنا المعمدان) الذين ظلُّوا أمناء للمعمدان: "إن يوحنا قد عمّد بمعمودية توبة. وكان يطلب من الشعب أن يؤمنوا بالذي يأتي بعده، أي المسيح" (أع 19: 4). لم يعد التشديد هنا على الطقس، بل على التدبير الجديد. هل سيكون الروح القدس (الذي يتقّبله المؤمن) البرهان الملموس للنعمة التي وصلت إلى كل إنسان؟ إن تاريخ العهد قد دخل في مرحلة جديدة. فطوبى للذي يبقى على إيمانه ولا يشك (7: 23).
وينتهي خبر مسيرة يوحنا بإشارتين. الأولى توجز كرازته بكلمات أشعيا: تحريض، تعزية، انجيل وبشارة. إن يوحنا يبشّر شعب الله (كما بشَّر اشعيا الناجين من صهيون) ويعلن له ذاك "الذي يعمّد بالروح القدس". الثانية تدلّ على معارضة البشر للانبياء، كما في زمن إيليا: رفض الملك، أما الشعب فطلب التوبة والارتداد. وجاء سَجن يوحنا، فدلّ على سجن يسوع، كما سيدلّ موت يوحنا على موت المسيح.

ب- يسوع كلمة النعمة في الروح القدس (3: 21- 4: 44)
واختفى يوحنا المعمدان عن المسرح: ها هو في السجن. وهذا وضع طبيعي بالنسبة إلى الشاهد الذي تحوّل سريعاً إلى شهيد. لقد ربط لوقا مصير النبي بمصير يوحنا، ولكنه ميّز بوضوح كرازة.. يوحنا عن ظهور يسوع. فحين بدأ يسوع، دخل السابق في عالم الماضي.
ويتم الانتقال تحت نظر الروح القدس. هذا ما اعلنته كلمة يوحنا النبوية، ودلّ عليه دلالة واضحة خبر "المسحة" في الأردن: شدّد النصّ على حلول الروح بشكل ملموس على يسوع كجواب على صلاته. وكان الاختلاف جذرياً بين يوحنا ويسوع: الأول هو نبي وخادم الكلمة. الثاني هو كلمة نعمة الله في ملء الروح.
إن المجموعة الأدبية المكرّسة لدخوله يسوع على المسرح، تتضمن مجموعتين متداخلتين: فالمتتالية الأولى (عماد، سلسلة نسب، تجربة) تشدّد على هوية يسوع. والمتتالية الثانية (خطبة الناصرة، نشاط في كفرناحوم) تبرز وجه الرسالة. ويشكل خبر التجارب صلة الوصل بين هاتين المتتاليتين، لأنه يقدّم الآن ما يواجه ابن الله من تجارب وصعوبات

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM